علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
طرائق توثيق الرواة / الطريقة السادسة / نص أحد الثقات المتأخّرين
المؤلف: الشيخ محمد طالب يحيى آل الفقيه
المصدر: سدرة الكمال في علم الرجال
الجزء والصفحة: ص 52 ـ 68
3/11/2022
1725
قد يقال: إن لم يعتمد المتقدمون في توثيقاتهم أو أنّ في المسألة إشكالاً، فعدم اعتماد توثيقات المتأخرين من باب أولى، وعليه فلا داعي لهذا البحث لأنه فرع ثبوت سابقه - أي توثيقات المتقدمين ـ.
لكنّه قد يقال: إنّ الاعتماد على إخبار أرباب الكتب المعدة لهذا الفن ليس سوى قرينة من القرائن المصحّحة للسند، وليست هي المعتمد والعلة التامة للعمل بالخبر، فإخبار أهل الفن والخبرة من المتأخرين يشكل قرينة قوية على توثيق المخبر عنه، فإذا أضيفت إليه بعض قرائن أخرى قد يحدث اطمئناناً لدى الفقيه بتصحيح المصحّح، وهذا المسلك اعتمده غير واحد من الأصوليين المتأخرين إضافة إلى مشهور المتقدمين وهو ما يعرف بمسلك الاطمئنان
وقد عُلم أنّ طريقة المتأخرين لا تصلح للتوثيق أو التضعيف بحد ذاتها، وإنّما هي جزء علة للتوثيق في كثير من الأحيان.
أي: لا ينافي ما ذكرنا كلام من قال بعدم حجية توثيقات المتأخرين كتوثيقات ابن طاووس وتلميذَيه العلّامة وابن داود، فإنّ مراده فيما لو انفرد توثيق المتأخّر ولم يكن معه أي قرينة أخرى ترجح مقالته، فإنّها بنفسها لا تكفي لتكون حجة فيما لو وثّق أحدهم أحداً.
وقد تبين لك أن توثيقات أو تضعيفات المتقدمين أو المتأخرين إنما تشكل قرينة من القرائن التي بها تثبت حجية الخبر الموثق للراوي أو المضعّف، فلو أضيف إليه قرائن حدسية أخرى فقد شكّل بمجموعها اطمئناناً بوثاقة الراوي أو تضعيفه، وهذا يعني أنّه لا يحتاج التوثيق أو التضعيف الصريح إلى معاشرة المخبر للمخبر عنه وأن يكون إخباره حسياً، بل المدار هو الوصول لدرجة الاطمئنان بوثاقة الراوي بأيّ شكل من الأشكال، وذلك لحجية الاطمئنان العقلائية، فإن التزمنا بهذا الطريق للتصحيح يمكننا اعتماد توثيقات المتأخرين حينئذ، ويكون لها قيمة احتمالية معتداً بها في إثبات مدلولاتها، وتحتاج حينئذ إلى قرائن أخرى للاطمئنان ككونه من مشايخ الكليني أو الصدوق وعمل الأصحاب بأخباره، ورواية الأجلاء - خاصة أصحاب الإجماع - عنه وكثرة روايته وغيرها من القرائن التي بمجموعها تشكّل قرينة على مدح الراوي بل حسن حاله ووثاقته.
مسلك حجيّة التوثيق لإفادته الاطمئنان:
اختلفت كلمات الأصوليين حول منشأ حجية خبر الرجاليين أمثال الشيخ والنجاشي وغيرهما فذهب بعضهم إلى أنّها من باب حجية الاطمئنان، فإنّ إخبارات أمثال الشيخ بحق الرواة يلزم منها عادة الاطمئنان النوعي، وهو كافي في الحجية وذلك لقيام السيرة العقلائية القطعية على العمل به، والمقررة من المعصومين (عليهم السلام) سكوتا، بل وعملهم (عليهم السلام) كان قائماً على ذلك، ما نقطع معه بحجية الاطمئنان، وبالتالي حجية توثيقات الشيخ والنجاشي ومن تأخر عنهما كتوثيقات العلّامة وابن داود وغيرهم.
وهذا ما تبنّاه العلّامة المامقاني (رحمه الله) بل نقل الشيخ آصف المحسني عن بعضهم أن توثيقات الشيخ والنجاشي تفيد العلم والقطع بوثاقة الراوي.
ويمكن أن يؤيد هذا القول بأن التوثيقات لما كانت مبنية على كتب ازداد عددها عن عشرين كتاباً مذكوراً في كتابَي الشيخ والنجاشي، بل قيل: إنّها بلغت أكثر من مائة كتاب ونيّف من أيامهما إلى أيام الحسن بن محبوب كما ذكره آغا بزرك الطهراني (رحمه الله) في مصفى المقال، ولقرب عهد القدماء من زمن الرواة، بل وشهرة كثير من الرواة، وكون القرائن إلى ما قبل اجتياح الترك بغداد عام ٤٤٨ه محققة حفت بهم، ولاعتمادهم مشافهة على الثقات من مشايخهم وغيرها من القرائن، فإنّ كل ذلك يوجب الاطمئنان النوعي بصحة ما أفادوه من وثاقة أو ضعف مذكور بحق الرواة.
هذا ولكن قد يرد على ما ذكر النقاش التالي:
أولاً: أنّ الاطمئنان ضرب من ضروب الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، فإنّ مقتضى نهي الآيات المباركة عن العمل بالظنون وإطلاقها يشمل الاطمئنان، وهذا ما نقله الشيخ آصف محسني عن السيد الحكيم (رحمه الله) فإنّه قال: ((فمناقشة جملة من الأكابر منهم سيدنا الحكيم (رحمه الله) في حجية الاطمئنان في غير محله)) إلا أنّه أتبعه بقوله: ((بل في مستمسكه ما يدل على موافقته للمختار ورجوعه عما ذكره في عدم حجية الاطمئنان)) (1).
لكنّك خبير أنّ الاطمئنان خارج تخصّصاً عن نهي الآيات المباركات بنظر العقلاء إذ أنّهم يرونه علماً عرفيا، واحتمال الخلاف المتبقي ينزل عرفاً منزلة العدم، ولذا لا يرى العقلاء الآيات الناهية ناهية عن الاطمئنان كما هو واضح، بل يقال إنها الطريقة المنحصرة لدى العقلاء منذ قديم الزمان وإلى يومنا هذا للعمل بالإخبارات في شؤونهم الحياتية، إذ لا تعبّد بمعاملاتهم العادية من الشارع المقدس لهم بالعمل بخبر الثقة، فالبيع والشراء والزواج والطلاق وغيرها من المعاملات إنما هي قائمة على اطمئنانهم بمؤدى إخبارهم لكون المخبر ثقة، بداهة عدم اعتمادهم على إخبار الثقات مع قيام القرائن على الخلاف - كما ذهب إليه بعض الأصوليين - وذلك بخلاف اعتمادهم على أخبار الضعاف من الرجال مع قيام القرينة على صحة أخبارهم، وهذا واضح للعيان ويؤيده الوجدان.
ثانياً: أنّ ادعاء تحقق الاطمئنان بقول الرجاليين القدماء فضلاً عن المتأخرين دعوى دون إثباتها خرط القتاد، إذ مع ما تقدم من إشكالات حول صحة توثيقات الرجاليين من الإرسال وعدم العلم بمسلك أمثال ابن فضال وسعد بن عبد الله الأشعري وابن عقدة وغيرهم من الرجاليين، بل تضارب أقوال الرجاليين بحق الراوي الواحد، أو كون الراوي مذكوراً عند الشيخ خاصة أو النجاشي خاصة دون قرائن محفوفة به وكثرة خطئهم، كيف يطمئن الفقيه بصحة التوثيقات، ولذا نرى بعضهم كصاحب المعالم في المنتقى يستنكر إفادتها الظن فضلاً عن الاطمئنان فقال (رحمه الله): ((ولكن نمنع كون تزكية الواحد بمجردها مفيدة للظن، كيف وقد علم وقوع الخطأ فيها بكثرة...)) ومع هذا كله كيف يقال بأن تعديلهم أو جرحهم يوجب اطمئناناً! لهذا لم نرَ سوى البعض ممّن أحسن الظن كثيراً بالسلف الصالح قد ذهب إلى حجية قول الرجاليين لإيجابه الاطمئنان كالعلامة المامقاني في تنقيح المقال
لا يقال بأن مشهور القدماء – إنّ لم يكن جميعهم — ذهبوا إلى حجية ا لأخبار للاطمئنان بصدورها، وفيما نحن فيه من هذا القبيل.
لأنّه يقال في جوابه: إنّ حجية الخبر للاطمئنان بصدوره أمر ممكن بل واقع خارجاً إذ ليس السند سوى قرينة من قرائن الصدور وليس علة تامة للعلم بالصدور، وذلك بخلاف من ادعى الاطمئنان بالوثاقة من إخبار الشيخ مثلاً إذ إخبار أمثال الشيخ أو النجاشي هو العلة التامة حينئذ للقول بالوثاقة كما هو المدعى، وإثبات الإطمئنان بمثل هذا بغاية الصعوبة والإشكال كما ذكرنا، وعليه لا يكون ادعاء الاطمئنان بالأول من قبيل الثاني.
ونهاية نقول إن آمنّا بأنّ حجية التوثيقات من باب حجية الاطمئنان فإنّ كلمات المتأخرين لا تختلف عن كلمات المتقدمين حينئذ، إلا من جهة أن كلمات القدماء أسرع في إيجاد الاطمئنان لدى الفقيه من كلمات المتأخرين.
هذا غاية ما يمكن أن يقال حول حجية قول الرجاليين لإيجابها الاطمئنان، وقد تبيّن أنّ إثبات ذلك بغاية الصعوبة، اللهمّ إلّا على نحو الموجبة الجزئية والتي لا تنفع في المقام.
مسلك حجية التوثيق من باب الشهادة:
ذهب بعض الأصوليين كالشهيد الثاني وولده الشيخ حسن وحفيده صاحب المدارك وغيرهم بأن حجية توثيقات القدماء من باب الشهادة، أي: أن الشيخ يشهد بأن زرارة بن أعين ثقة حينما قال بحقه إنه ثقة وكذا النجاشي يشهد بوثاقته وهكذا، وكلما وثق شخص آخر أو ضعفه فإنه يشهد أنه كذلك، ولما كانت الشهادة حجة على المشهود عليه كان إخبار الشيخ أو النجاشي وغيرهما حجة في حق المشهود عليه، ولازمه لزوم شهادة شاهدين لإثبات وثاقة الراوي، فلو وثقه الشيخ خاصة لم يكن كافياً.
قال الشيخ حسن (رحمه الله) في المنتقى: ((الفائدة الثانية: الأقرب عندي عدم الاكتفاء في تزكية الراوي بشهادة العدل الواحد، وهو قول جماعة من الأصوليين ومختار المحقق أي القاسم بن سعيد، والمشهور بين أصحابنا المتأخرين الاكتفاء بها...)) ولازم القول إنّه من باب الشهادة أن تؤخذ شروط الشاهد والشهادة في البين كالعدالة والتعدد والحسية في النقل، فإن تم الأمر فبها ونعمت، ومع الخدشة بأحدها يسقط التوثيق.
هذا ولكن صاحب المنتقى (رحمه الله) أراد شيئاً آخر من القول بالشهادة، لا الشهادة المعهودة حتى ينتقض عليها طرداً وعكساً وأنّ شروط الشاهد والشهادة غير محققة إنّما (رحمه الله) أراد بذلك عدم صحة الاعتماد على كلمات الشيخ بانفراد ولا النجاشي بانفراد لكثرة الخطأ والاشتباه، ولهذا كان لابد من التعدد في التوثيق حتى يمكننا العمل بأقوالهم وهذا واضح لمن راجع كلماته (رحمه لله) في الفائدة الثانية، وليس المراد من الشهادة معرفة موثّقي أصحاب الباقر والصادق (عليهما السلام) وأنّ توثيقهم لهم كان حسيّا متعدداً صادراً من عدول المؤمنين لتتم بذلك شروط الشهادة كما توهم ذلك بعض المتأخرين، وبذلك توهن أكثر الإيرادات التي أوردت عليه والتي اعتمدت بأغلبها على ظنهم ذاك.
قال (رحمه الله) في المنتقى: ((...لا سيما بعد الاطلاع على ما وقع للمتأخرين من الأوهام في باب التزكية. وشهادتهم بالثقة لأقوام حالهم مجهولة، أو ضعفهم مترجم لقلة التأمل وخفة المراجعة، حيث اعتمدوا في التأليف طريقة الإكثار وهي مباينة في الغالب لتدقيق النظر وتحرير الاعتبار، ولولا خشية الإطالة لأوردت من ذلك الغرائب... )) ألا ترى أنه يعزو كلامه في الذهاب إلى الشهادة لكثرة الأخطاء التي وقعوا بها، والحال أنّ هذا لا يكون على نحو الغالب بعد تعدّد التوثيق من أمثال الشيخ والنجاشي معاً، فالمدار على هذا هو العمل لإصابة الواقع في الراوي مهما أمكن بعد عدم إمكان الاعتماد في الراوي على المعدل الواحد بعد كثرة الاشتباهات التي لا تخفى على المتتبع.
فإن قيل: التعدد في الجرح والتعديل من الشيخ أو النجاشي أو غيرهما لا ينفع وذلك لاعتمادهم على الناقل الواحد في الطبقة التي سبقت، فإن الأمر يرجع إلى الشاهد الواحد وهو ينافي صحة التوثيق على القول بالشهادة.
قلنا: إنّ اعتماد الشيخ مثلاً على عشرات الكتب التي كانت بين يديه والتي نقل عنها بشهادة الفهرست، والنقل عن المشايخ والأكابر وشياع البعض يخرجهم من تزكية الواحد إلى التعدد في التزكية، فقد ذكر آغا بزرك الطهراني (رحمه الله) أنّ الكتب الرجالية التي وصلته - وذكر أسماءها - من زمن الشيخ إلى زمن الحسن بن محبوب بلغت أكثر من مائة كتاب ونيّف فضلاً عمّا لم يصل، وعليه فلا يمكن ادعاء الانفراد في التوثيقات قبل زمن الشيخ، وما يصحّح الاعتماد على أمثال الشيخ أو النجاشي بعد ذلك هو التعدد في النقل، وعليه يكون أصحاب الرأي هذا قد حققوا شرطية التعدد في التوثيقات في الطبقات كلها، اللهم إلا في الموثق الأول.
وما يصلح للدلالة على صحة ما اختاروه قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. فإنّ التعليل يشمل بإطلاقه خبر الفاسق والعادل وذلك للجهالة الناشئة من قول الواحد؛ لأنّ غاية ما يفيده هو الظن فضلاً عن العلم، ومعه تبقى الجهالة محققة، وهذا بخلاف التعدد في القول من العادلين فإن احتمال الإصابة أقوى وكشفها عن الواقع أشد، ومعه تنتفي الجهالة.
فإن قيل: البينة فيما نحن فيه لا تفيد علماً بما هي هي، والكلام في التعدد بما هو بغض النظر عن القرائن المحيطة به، فادعاء نفي الجهالة لا يعدو كونه ادعاء.
قلنا: إنّ حجية البينة خارجة بالتخصيص عمّا نهيَ العمل عنه من الظنون الرجاليّة وعليه يصح العمل بإخبار العدلين كما بينت ذلك النصوص.
هذا غاية ما يمكن الاستدلال به للقول بحجية أقوال المعدّلين وأنّها من باب الشهادة.
لكن أورد عليه الآتي:
أولاً: أنّ الشيخ أو النجاشي كثيراً ما يعتمدون على إخبار الواحد كالحسن بن علي بن فضال أو ابن عقدة أو سعد بن عبد الله الأشعري وقد ذكروا في الفهارس طريقهم إلى الكتاب ولم يذكروا طريقاً آخر لتوثيق الراوي إلا من طريق الواحد، ومعه كيف يقال إنّ ما قبل الشيخ أو النجاشي كانت التوثيقات متعددة، نعم إنّ علمنا تعدد الطرق للتوثيق فبها، وإلا فالأصل العدم، خاصة أنّ الشيخ صرّح في العدّة أنّ الطائفة تعتمد من تثق بقوله على نحو الإنفراد لا على نحو التعدد، وهذا هو مسلكه ومسلك من تقدّمه من الفقهاء كما صرّح بذلك، وعليه كيف يقال بأنّ التوثيقات من باب الشهادة مع أنّ لازمها وجوب التعدّد في النقل والمعلوم عدمه.
ثانياً: أنّ الشيخ (رحمه الله) اعتمد كتاب الكشي بل هذّبه وعرف بعدها باختيار الرجال في حين أنا نرى النجاشي قد أعرض عن كثير منه وقال: «فيه أغلاط كثيرة» ما يعني الاختلاف في الطرق المؤدية إلى العمل بأقوال الرواة المتقدمين، وعليه فأين الحسية المطلوبة في الشهادة أو القريبة منها مع إعمال النظر لكل منهما في الكتب التي وصلت إليه.
ثالثاً: مع عدم علمنا بمسلك أمثال ابن عقدة والبرقي وسعد في التوثيق والتضعيف كيف يقال إنّ توثيقاتهم شهادة مع العلم بأنّ شروط الشهادة غير محققة والتي منها لزوم الحس بالمعاشرة في نهاية المطاف أي: ولو بالواسطة، وهذا ما لا نعلمه.
رابعاً: أنّ الصدوق صرّح أكثر من مرّة أنّه يعتمد أقوال شيخه ابن الوليد في التوثيق أو التضعيف وهو رجل واحد فأين التعدد المطلوب بالشهادة التي اشترطها القائلون بالشهادة؟!
خامساً: أنّ تعارض أقوال الشيخ والنجاشي في كثير من الموارد يصعب معه القول بأنّ كل طريق اعتمد على الحس والتعدد.
سادساً: أنّا لم نرَ أحداً من القدماء قد صرّح بأن توثيق أرباب الكتب الرجالية للرواة كان من باب الشهادة كابن أبي عقيل وابن الجنيد وابن بابويه الأب والابن والمفيد والمرتضى والشيخ وغيرهم فإنّهم لم يذكروا في كلماتهم أنّهم اعتمدوا الرواة لحصول الشهادة بوثاقتهم، بل هذا القول غريب عن مسلكهم في التعادل والتراجيح، إذ أنهم كانوا يقيمون الكتب ويعتمدونها بما أن أربابها من المشايخ أو اعتمدها المشايخ (2) لا أكثر.
سابعاً: إنّ من شروط الشهادة كون الشاهد عادلاً، أي: إمامياً وذلك لعدمها مع عدمه، ومن المعلوم أنّ ابن فضال أو بن عقدة وغيرهما لم يكونوا عدولاً.
وعليه يعلم أنّ الالتزام بهذه المقالة لا يوصل إلى شيء محصل بداهة عدم إحرازنا التعدد في التوثيق فيمن قبل الشيخ والنجاشي، بل لم تكن هذه هي الطريقة المعهودة لديهم لما سمعت من كلمات الشيخ في العدة والصدوق في الفقيه وغيرها من الكلمات، فالالتزام العملي بهذه المقالة لا يمكن تحصيله إلا في بعض الموارد، ما يلزم منه سقوط العمل بأغلب الأخبار لانسداد الطريق في البقية، وهذا ما لا يمكن الالتزام به، والله الهادي سواء السبيل.
مسلك حجية التوثيق لوثاقة المخبر:
ذهب مشهور المتأخرين إلى حجية توثيقات المتقدمين لكونهم ثقات قد أمرنا باتباعهم لحجية أقوالهم المدلول عليها بأدلة حجية خبر الثقة، فإنّ الشيخ أو النجاشي وغيرهما لمّا كانوا ثقات وجب العمل بأخبارهم لذلك.
وقد قيل: إنّ هذا يتناقض مع القول بعدم حجية أقوالهم في الموضوعات بخلاف الأحكام، وتوثيق زيد أو عمرو إنّما هو موضوع، وقد نهينا عن العمل بأخبار الثقات في الموضوعات.
إضافة إلى ذلك يقال: إنّ دائرة حجية خبر الثقة لا تشمل ما نحن فيه، وذلك لأن إعمال توثيقاته إنما هو فيما لو كان الإخبار عن حس لا عن حدس أو مشكوك الحسية، وما نحن فيه لا أقل من أنّه مشكوك الحسيّة في كثير منها لعدم علمنا بالطرق التي سلكها الموثقون ما قبل الشيخ والنجاشي، خاصة مع علمنا بأنّ المسالك للتوثيق كانت متعددة كالمنقول عن الشيخ في الخلاف بأن شهادة المسلم مع عدم ظهور فسقه مقبولة ويكون بذلك عدلاً وهو ما يعرف بأصالة العدالة في المسلم، بل قد ادعى صاحب الفصول الإجماع على هذه الطريقة عند القدماء، أو كالمنقول عن البرقي بأن الثقة لا يروي إلا عن ثقة، فمع العلم بأن هذين المسلكين كانا محل عمل واعتبار كيف يقال بحجية التوثيق المنتفية معه الحسية والتي يتوقف عليها حجية الأخبار.
قد يقال بجريان أصالة الحس، لذا يرجع إليها في موارد الشك.
لكنّه يقال: إنّما تجري أصالة الحس مع الشك المحض لا مع القرائن المتزايدة الدالة على العدم، إذ أنّ الأصالة هذه عقلائية وليست تعبّدية قد نص الشارع على اتباعها، فإذا كان الأمر كذلك فلا تشملها أدلة الحجية لعدم كونها عقلائية.
وعليه يقال: لمّا كانت دائرة حجية أخبار الثقات عقلائية، فإنّا لا نرى العقلاء مع كل هذه الشكوك والظنون يعملون بأخبار الثقة في التوثيقات الرجالية كما هو واضح للعيان وبيّن بالوجدان.
مسلك حجية التوثيق لكونه من أهل الخبرة:
قيل: إنّ بعض الأصحاب ذهب إلى حجية قول أهل الجرح والتعديل لكونهم من أهل الخبرة في مجالهم، فكما أنّ العقلاء يرجعون في أمورهم الحياتية إلى أهل الخبرة فيما يريدونه، فكذلك يرجع العقلاء بما هم عقلاء إلى أهل الخبرة في مثل هذه الموضوعات أيضا، فإنّهم لا يفرّقون بين موضوع كتحديد الثمن وبين موضوع آخر كوثاقة زيد، إلا أنّ القائل بهذا القول مجهول قائله.
لكنّه يقال: إنّ النقاش صغروي قبل أن يكون كبروياً، إذ من أين لنا أن نعلم أنّ مَن تقدم ابن عقدة أو البرقي أو ابن فضال أو سعد بن عبد الله الأشعري كان من أهل الخبرة في فنّه مع أنّه لم يصل إلينا جميع من اعتمدوهم في التوثيقات والتضعيفات، إذ أنّه على القول هذا لا بد من إحراز كونه من أهل الخبرة، وهذا الإحراز مفقود لبعد الزمن وعدم وصول ما يشير إلى ذلك.
أمّا كبروياً فإنّ القول هذا معتمد على القول بحجية الظنون فإن بانت حجيتها من الشارع المقدس وقد تعبدنا بذلك فبها ونعمت، وإلا فلا، ولمّا لم تصل الأدلة الدالة على حجية قولهم في أمثال ما نحن فيه لم يمكن بعدها الالتزام بحجية أقوالهم.
وبعبارة أوضح: إنّ حجية قول أهل الخبرة موقوفة على الدليل؛ لأنّ غاية ما يفيده قوله هو الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، ولمّا لم يصل إلينا انتفت حجيته.
مسلك حجية الظنون الرجالية:
وهو ما يظهر من صاحب الفصول (رحمه الله) إذ قال: ((فالمختار عندي جواز التعويل في تعديل الراوي أو إثبات تحرّزه عن الكذب على قول العدل الواحد، بل على مطلق الظن سواء استند إلى تزكية العدل أو إلى سائر الأمارات الاجتهادية لنا أنّه قد ثبت ممّا حققنا سابقاً أنّ التعويل في أخبار الآحاد على الأخبار الموثوق بصدقها وصحة صدورها، ولا ريب أنّ الظن بعدالة الراوي وتحرزه عن الكذب ممّا يفيد الوثوق بصدق الرواية، فيجب التعويل عليه.
وأيضاً لا خفاء في أنّ التمييز بين الرجال مع اشتراكهم بين الثقة وغيره كثيراً ما يتعذر إلا بإكمال الظنون والأمارات كملاحظة الطبقة والبلد وكثرة المصاحبة وما أشبه ذلك، وقد جرت طريقتهم في ذلك على مراعاة هذه الظنون..)).
وقد تبيّن لك من كلامه (رحمه الله) أنّه يُرجع العمل بالظنون الرجاليّة إلى الأصحاب أيضاً وإن أنكروا عليه علميا، إضافة إلى تبنّيه صحة العمل بمطلق الظنون الرجالية وإن كانت مستفادة من القرائن وذلك كالخبر الضعيف الدال على وثاقة راو، فإنّه مفيد للظن وهو كافٍ في التوثيق.
ويُفهم منه أيضاً أنّ صحة العمل بالظنون الرجالية ليست من جهة الإنسداد في معرفة الرواة توثيقاً أو تضعيفاً، وإنّما هي لحجية الظن في باب التعديل والتجريح الرجالي.
ولنا في الجواب عليه الآتي:
أولاً: أنّ الظن بعدالة الراوي وتحرزه عن الكذب لا يفيد الاطمئنان والوثوق بصدق الرواية، بل غايته إفادته الظن بالصدور، إذ الطريق الظنّي يلزم منه الظن بصدق الرواية عادة.
نعم لو حف الخبر – بالإضافة إلى ظن الصدق - بقرائن أخرى فإنّه كثيراً ما يفيد اطمئنانا بالصدور.
ثانياً: أنّ القول بصحة العمل بالظن مع النهي عنه عموماً يحتاج إلى دليل كما في الظنون المعتبرة، وفيما نحن فيه لم يكفي ما ذكر لتصحيح العمل بالتوثيقات الرجالية لإخراجها من الظن المنهي عنه إلى الظن المعتبر.
وعليه فالاعتماد على مسلكه بإطلاقه لا يمكن المصير إليه.
والحق يقال: إنّ التوثيقات إنّما تفيد الظن المحض في أغلب ضروبه، وإن كان المخبر عدلاً كالنجاشي والشيخ، فإنّ اعتماد المعدّلين على أمثال ابن عقدة والبرقي وابن فضال وهم بدورهم يعتمدون على غيرهم لا يفيد الاطمئنان وبالتالي تصحيح العمل بتوثيقاتهم وذلك للجهل بطرق التوثيق التي اعتمدوها في أقوالهم من حجية خبر الثقة أو الموثوق به أو مجرد كونه مسلماً أو كونه ثقة والثقة لا يروي عن غير الثقة - كما قال البرقي - أو لأنّه من أهل الخبرة أو للقرائن التي ترجح وثاقة الرجل، فإنّ كل هذه الاحتمالات واردة ومحتملة في طرق توثيقاتهم، ومعها لا يستفاد أكثر من الظن.
هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الإرسال في التوثيقات يمنع من العمل بأخبار الموثقين وذلك لجهالة الطريق إلى الكتب التي اعتمدتها الطبقة المتقدمة على الشيخ والنجاشي، فإنّ ما وصلنا من الطرق هو المذكور في كتب الشيخ والنجاشي إلى ابن عقدة والبرقي وابن فضال وغيرهم، لكنّه لم تصلنا الطرق من هؤلاء إلى من تقدّمهم، فإذا كانت جهالة الطريق تضر في الكتب الروائية ففي كتب التعادل والتراجيح أولى، إذ القرائن المحفوفة بالأخبار غالباً ما تكون محققة كعمل الأصحاب، بخلاف توثيق الرواة وتضعيفهم، فإنّ كل هذا يمنع من العمل بأخبارهم لمجرد كون المعدّل ثقة، إذ أنّ من شروط صحة العمل بإخبار المعدّل الثقة أن يبتني توثيقه على الحس بمعاشرته، أو أن يكون مرجع التوثيق إلى الإخبار عن حسي كأن يسأل عنه في بلده فيقال عنه: إنّا لا نعلم منه إلا خيراً، وإلا فمجرد التوثيق غير كافي في البناء على الحسية مع كثرة الطرق التي اتبعت في التوثيقات، ومعها كيف يقال بأن توثيقاتهم تفيد الاطمئنان دائماً!
وقد تلخص ممّا ذكرنا أنّ التوثيقات المذكورة في كتب أمثال الشيخ والنجاشي إنّما هي ظنية محضة لا تخضع لشروط حجية خبر الثقة.
فإذا بان لك ذلك يقال: إنّ القول بحجية التوثيقات للاطمئنان قد ظهر ضعفه، إذ غاية ما يفيده كلام الشيخ هو الظن العادي غير المتاخم للعلم أصلاً.
وبذلك يتبيّن أيضاً ضعف القول بحجية التوثيقات بذريعة أنّ أهلها من أصحاب الخبرة في فنهم، إذ الكلام صغروي فيما نحن فيه قبل أن يكون كبروياً، إذ من أين لنا أن ندرك أنّ أصحاب الطبقة الأولى كانوا من أهل الخبرة في فنّهم، إضافة إلى ذلك فإنّ التوثيق يحتاج إلى حس لا إلى خبرة، فهو ليس من قبيل الأمور التخمينية كخرص النخل ومعرفة حجم الصبرة ونوعها أو كتخمين قيمة الدار، وإن أبيت إلا أنّه من هذا القبيل، فإنّ ذلك يزيد في الطين بلّة، إذ غايته إفادة الظن لا أكثر أو أن نحتاج معه إلى شخص آخر وهذا ما لم يفعله حتى الشيخ أو النجاشي.
أمّا القول بحجية التوثيق للشهادة فهذا ما نعلم ببطلانه إذ لم يصرح به أحد من الأولين، بل صرّح النجاشي في كثير من توثيقاته بأنّ المضعّف واحد أو الموثّق واحد كما لو قال «قاله ابن فضال» أو «وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب».
وأمّا القول بحجية الظنون الرجالية مطلقاً وإن كان قريباً إلى الواقع؛ لأنّ نتيجة التوثيقات هي الظن خاصة، لكن لا يمكن الالتزام به مطلقاً؛ وذلك لعدم الدليل على حجيته في كل ضروبه كما لو دلت بعض القرائن المفيدة للظن على وثاقة راوٍ كالخبر الضعيف، أو توثيق المتأخرين أو التوثيقات الحدسية المبنيّة على الاجتهاد والنظر، وغيرها من القرائن فإنّ ذلك كله لا يصحّح العمل بتلك التوثيقات، ولذا نقول: لا ينبغي الخلط بين الظنون المستفادة من توثيقات الشيخ أو النجاشي وبين التوثيقات هذه فإنّ بينهما بوناً واسعاً.
مسلك التعبد والتقرير:
والحق يُقال: إنّ التوثيق إن أفاد علماً أو اطمئناناً - كما في المشاهير من الرواة - كان حجة لذلك، ومع عدمهم لا يبقى إلا الظن الرجالي المعتمد على الإرسال أو جهالة المسلك، ولمّا كانت توثيقات الشيخ والنجاشي والكشي كافية عملاً لتصحيح الرواة أو تضعيفهم دون الحاجة إلى الرجوع إلى بقية الظنون الرجالية الأخرى، كان الرجوع إليهم حجة لإثبات وثاقة أو ضعف الرجال للتعبد، وهذا تحديد لدائرة حجية مسلك الانسداد.
وبعبارة أخرى: لمّا انسد باب العلم في بيان حال كثير من الرواة والعلمي لعدم وضوح الأدلة كان لا بد من الرجوع إلى الظنون الرجالية، وحيث كانت الظنون على ضروب متغايرة كان أصحّها وأقربها إلى الواقع هو العمل بخصوص توثيقات المتقدمين دون غيرها من الظنون، وما يدل على حجية ما ذكرنا هو كون هذه الطريقة من العمل موجودة في زمن المعصومين (عليهم السلام) ولم ينكر عليها مع كثرة الإشكالات الواردة عليها خاصة مع بعد الزمن ما بين أصحاب العسكري وأصحاب الباقر (عليهما السلام)، فإنّ هذه الطريقة لم يكن لها منازع، وليس ذلك إلا تصحيحاً لعمل الأصحاب الذي أقره المعصوم (عليه السلام) بالسكوت، لذا نرى الشيخ والنجاشي وغيرهما يعتمدون كتب من تقدمهم بلا نكير، بل لم تطرح هذه الإشكالات كلها في كلماتهم ولا في كلام من عاصرهم أو تقدمهم، وليس ذلك إلا لما ذكرنا، وهذا شكل من أشكال دليل الانسداد الصغير، ويمكن أن يعبر عنه بمسلك التعبد والتقرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحوث في علم الرجال، ص 42.
(2) قال المحقّق البحرانيّ (رحمه الله) في المقدّمة الثانية في الجواب على صاحب المعالم: ((وأنت خبير بما بين مصنّفي تلك الكتب وبين رواة الأخبار من المدة والأزمنة المتطاولة، فكيف اطّلعوا على أحوالهم الموجب للشهادة بالعدالة والفسق، والاطلاع على ذلك - بنقل ناقل أو شهرة أو قرينة حال أو نحو ذلك كما هو معتمد مصنّفي تلك الكتب في الواقع - لا يسمى شهادة...)). الحدائق الناضرة، ج 1، ص22.