الحياة الاسرية
الزوج و الزوجة
الآباء والأمهات
الأبناء
مقبلون على الزواج
مشاكل و حلول
الطفولة
المراهقة والشباب
المرأة حقوق وواجبات
المجتمع و قضاياه
البيئة
آداب عامة
الوطن والسياسة
النظام المالي والانتاج
التنمية البشرية
التربية والتعليم
التربية الروحية والدينية
التربية الصحية والبدنية
التربية العلمية والفكرية والثقافية
التربية النفسية والعاطفية
مفاهيم ونظم تربوية
معلومات عامة
الحريص لا يشبع حتى بجميع نعم الحياة
المؤلف: مجتبى اللّاري
المصدر: المشاكل النفسية والأخلاقية في المجتمع المعاصر
الجزء والصفحة: ص151 ـ 154
2-8-2022
1788
إن الحرص حالة نفسية تدفع بصاحبها إلى التجسس عن الثروة والمنافع المادية، بحيث تصبح الأمور المالية لديه كقطب يدور عليه رحى أفكاره ومساعيه.
إن هذا الميل المادي المشؤوم ينشأ من قوة الشهود، وهو يعد من عوامل شقاء الإنسان وبؤسه، فهو يبعثه على أن يتوهم لنفسه سعادة خيالية تجذب انتباهه فهو يتقيد لذلك بحب المال حتى ينسى كل شيء في سبيله بل حتى يضحي في سبيله بالفضائل الأخلاقية والقواعد الإنسانية. وهو في كل ذلك يتعمق في روحه إحساس الحاجة أكثر فأكثر.
يقول الدكتور شوبنهاور: (أنه لمن العسير أن نحدد الميول التي يرتبط الحصول عليها بصرف الأموال الطائلة، فإن قناعة الأفراد ليس على حد سواء، وليس لهوى الناس ميزان ثابت، فإنهم مختلفون في حرصهم في الحياة عليها، فبعضهم يرضى ويفرح بمال قليل يؤمن له وسائل الحياة الضرورية، في حين نرى أن هناك أناساً لهم الأموال الكثيرة الطائلة الزائدة عن حوائجهم وهم مع ذلك يشكون الشقاء والتعاسة، إذ لم تقض حوائجهم وميولهم -على الأصح - كما يشتهون. إذن فلكل شخص حدود خاصة في ميوله ومناه، وإذا اطمأن إلى قضاء آماله إلى حدودها المحدودة له فسوف يشعر بالرضى والفرح، ولكنه إذا شاهد في سبيل وصوله إلى آماله عقبات يئس وتألم. إن الثروة الطائلة للأغنياء لا تخدع الفقراء في حين لا يرضى ولا يقنع الغني بما له من مال وثروة ابداً فهو يحاول الوصول إلى مال آخر دائماً. إن مثل الأموال كمثل ماء مالح كلما شرب الإنسان منه أكثر أحس بالعطش في نفسه أكثر فأكثر).
نعم إن الحريص لا يشبع حتى بنعم جميع العالم، كما ان النار لا تشبع من الوقود مهما أوتيت منه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق: 30].
إن الحرص إذا استولى على أمة بدل حياتها الاجتماعية إلى معترك نزاع وصراع وتنازع عوضاً عن العدل والأمان والثبات والاستقرار، وحدث اصطدام شديد بين مصالح أفرادها، ومن البديهي أنه لا يمكن حينئذ إشاعة الأخلاق والمعنويات بينهم.
ويجب الانتباه إلى حقيقة هنا وهي أن هناك بين عبادة المال وحب التقدم - حتى المادي - في الحياة فرقا اساسياً، ولهذا فإنه يجب أن يفصل بين هذين الأمرين بخط يفصل بين حساب كل واحد منهما عن الآخر، إذ أنه لا مانع في مسير المجتمعات البشرية يمنع الإنسان عن التقدم والاطراد بل ينبغي له أن يتقدم في ظل مدركاته الفطرية واستعداداته الذاتية كالبرق لا يمنعه مانع.
إن مساعي الطامعين الحريصين تولد للمجتمع سلسلة من التعاسة والخيبة فإنهم من دون أن يتبعوا أصول العدل يريدون أن يؤمنوا لأنفسهم ما يحتاجون إليه ولو كان ذلك بإيجاد الفقر المهلك للآخرين، ولهذا فهم يقبضون على جميع منابع الثروة كي يحصلوا على نفع أكثر فأكثر، وهم بذلك يشكلون أقوى العوامل في إيجاد الأزمات الاقتصادية الشديدة والفقر العام العالمي.
إن الناس يزعمون أن الثروة منبع لكثير من الأعمال فهم يولونها الاهتمام الأكبر، في حين أن الفقراء هم الذين عملوا أكبر الأعمال وأعظمها في تاريخ العالم، فإن أكثر الرجال الكبار من المصنفين واصحاب الاختراع قد قاموا من بين الفقراء.
إن توسع الثروة مضر بالنسبة إلى كثير من الناس. فإنها ستلوثهم بالرذائل التي تلازم الثروة، إن بعض الشباب إذا حصل على الثروة من طريق الإرث تضعف فيه الهمة ويعدم السعي ويفقد الفعالية اللازمة، فإنه لا يجد دافعاً له إلى السعي والعمل، وبإمكان هذه الثروة أن تجره إلى سبل المعاصي فيصرف عمره في اللهو واللعب معرضاً عن العلم والأدب.
زار أحد المعارف يوماً ابيكتتوس الفيلسوف اليوناني الشهير، وحيث لم يكن الثاني يثق بصدق نية تلك الشخصية الثرية استقبله استقبالا عادياً بارداً، ثم قال له أنك لم تأتني لتتعرف على القواعد والأصول العلمية عندي بل اتيتني لتنتقصني على حالتي المالية، أليس هكذا؟ فقال الرجل أنا إن أردت أن أسلك ما سلكت من طلب العلوم كما تقول أصبحت مثلك فقيراً لا أملك ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً ولا خدماً ولا احشاماً فأجابه الفيلسوف: وأنا لا أريد أن أملك ما أنت تملك من هذه الأمور، فإنك أنت - مع ما بي من الفقر الظاهر- أفقر مني والفرق بيني وبينك أني لا احتاج إلى نعم وخدم يحمونني ويدافعون عني وأنت على عكس ذلك تحتاج إليها، إذن فأنا أغنى منك أنا لا أبالي أن يكون (قيصر) يفكر في خيراً أو شراً، ولذلك فلست بصدد مداهنته أو التملق والالتماس منه. أنا عندي عوض الذهب والفضة غنى النفس واستقلال العقل وحرية الفكر، وأنت تفكر في أواني الذهب والفضة والخزف إن افكاري عندي دولة واسعة الأرجاء أصرف فيها عمري بكل فرح وسرور، وأنت تصرف عمرك بالبطالة والقلق والاضطراب. إن جميع ما تملكه عندي قليل، وما أملكه أنا هو الكثير، إذ أنك لا تقضي جميع حوائجك وآمالك ومناك وشهواتك، وأما أنا فتقضى لي جميع حوائجي وأبلغ بعقلي جميع آمالي وأدرك مناي)، اجل اعتمد العلم ولا تعتمد على الذهب والفضة، فإنما يعتمد عليها الجاهل.
ولا شك أن الفرح والترح قد اقتسم كل واحد منهما الحياة فأخذ كل منهما لنفسه قسماً منها، فكل من يأتي إلى هذا الوجود يكون له بحسب حاله نصيب منهما سواء كان غنياً او فقيراً. ولكن نستطيع ان نقول ان الثروة التي تتجاوز حدود حاجات الإنسان لا تؤثر في سعادته. فقد قال سقراط الحكيم: (هناك بعض الناس لا مال لهم ولا جواهر ولا ملابس فاخرة ولا قصور، ومع ذلك يعيشون الحياة أسعد وأهنأ من الأثرياء بألف مرة.
إن الحريص عبد ذليل خاضع فقير مسكين مستكين للدنيا وأموالها، قد قيد رقبته بسلسلة من ثرائها واستسلم لأفكاره غير الناضجة فيها فهو يتصور أن هذه الثروة الطائلة التي تشبع ذريته من بعده ليست إلا ذخيرة احتياطية ليومه الاسود ولكنه لا يقف على خطئه في فكرته هذه إلا حينما تدنو ساعة الأجل فتدق له أجراس الخطر وتعلن له نهاية دقائق عمره وثوانيها: (دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني).
وحينذاك ينظر إلى ذخائره التي صرف في سبيل الحصول عليها عمراً بالمشقة والألم، ينظر إليها باليأس والخيبة، ثم يحمل حسراته هذه وآماله وآلامه وأحلامه معه إلى قبره نادماً على ما فرط وأفرط، ولات حين مندم ولا ينفعه الندم.