1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

الحياة الاسرية

الزوج و الزوجة

الآباء والأمهات

الأبناء

مقبلون على الزواج

مشاكل و حلول

الطفولة

المراهقة والشباب

المرأة حقوق وواجبات

المجتمع و قضاياه

البيئة

آداب عامة

الوطن والسياسة

النظام المالي والانتاج

التنمية البشرية

التربية والتعليم

التربية الروحية والدينية

التربية الصحية والبدنية

التربية العلمية والفكرية والثقافية

التربية النفسية والعاطفية

مفاهيم ونظم تربوية

معلومات عامة

الاسرة و المجتمع : المراهقة والشباب :

الشباب ومشكلة الإلحاد

المؤلف:  حسين أحمد الخشن

المصدر:  مع الشباب في همومهم وتطلعاتهم

الجزء والصفحة:  ص73ــ92

19-4-2022

2629

تبرز بين الفينة والأخرى في أوساط الشباب الجامعي وغيره، أصوات تنادي بالإلحاد واتخاذه مذهباً في الحياة، واعتماده أساساً في بناء تصور فلسفي حول الكون والوجود. ومؤخراً راج الحديث عن تنامي هذه الحالة بين الشباب المسلم في العديد من البلدان الإسلامية، الأمر الذي يفرض علينا أن ندرس هذه الظاهرة، ونتعرف على أسبابها ودوافعها، ومنطلقاتها العلمية أو السياسية أو غير ذلك، فهل من جديد في القضية؟ وهل ثمة أفكار أو نظريات علمية تقدم تفسيراً مادياً يقينياً للكون، بحيث لا يحتاج معه إلى فرضية وجود الخالق؟

1ـ الإلحاد قديماً وحديثاً

الإلحاد مذهب فلسفي يقوم في بعض اتجاهاته على فكرة أساسية وهي فكرة إنكار وجود الخالق، وأن المادة أزلية ولا خالق لها، أو قل: المادة هي الخالق والمخلوق. وفكرة الإلحاد ليست بالجديدة، فقد عرفها الإنسان منذ القدم وإن بنسب متفاوتة، فقد عرف عن بعض الناس إنكارهم لحقيقة وجود الخالق، وسُمي هؤلاء بأسماء شتى كالملاحدة أو الزنادقة أو غير ذلك، لكنهم ظلوا حالة شاذة ولم تشكل تحدياً كبيراً أمام الإلهيين (المؤمنون بالإله)، ولهذا نجد أن الأنبياء عليهم السلام لم يبذلوا جهداً في مواجهة الإلحاد بالقدر الذي واجهوا فيه ظاهرة الشرك، كما نلاحظ ذلك بجلاء في نصوص القرآن الكريم. وإذا كان الإلحاد لم يرقَ في الزمن القديم إلى مستوى الظاهرة التي تستقطب شرائح واسعة من بني الإنسان، نجد أنه في العصر الحاضر انتشر إلى حد معين، وأصبح له منابره الإعلامية، وقد قدم الفكر الشيوعي سابقاً (في زمن الاتحاد السوفياتي) تنظيراً فكرياً للإلحاد ونمت هذه الظاهرة في ظلاله ورعاها وبشر بها، كما أنها اتخذت من نظرية (دارون) المعروفة في أصل الأنواع وما عُرِف بنظرية التطور متكئاً لها. واليوم تطل المسألة من الزاوية عينها، ومن زاوية بعض الفرضيات العلمية الحديثة.

2ـ وقفات منهجية على طريق المواجهة

وعلينا هنا، ونحن ندرس هذه الظاهرة دراسة نقدية، أن نعتمد منهجية علمية ترتكز على أسس يقينية، بعيداً عن الظنون والأوهام، ويحكمها المنهج المنطقي العقلي المستند إلى الحجة والذي لا يقتصر على مجرد الكلام الوعظي الخطابي، فضلاً عن أن يكتفي بتوجيه كلمات التكفير والحكم بالارتداد، وما إلى ذلك لمن يتهمهم بالإلحاد. والمنهجية العلمية المشار إليها تحتم علينا أن نسجل عدة وقفات تشكل أسساً موضوعية ليس في مواجهة الإلحاد فحسب، بل وفي تقديم منهج يحكم علاقة العلم بالدين، وأرجو أن لا يتوقع مني القارئ مناقشة علمية تخصصية رداً على الشبهات التي يطرحها بعض علماء الفيزياء أو الأحياء، لأن هذا خارج عن تخصصي، بيد أني سأحاول أن أضع الأسس والضوابط العامة التي لا بد من الانطلاق منها لمناقشة أفكار الملحدين وغيرهم، وإليك أهم هذه الأسس:

أ ـ النفي يحتاج إلى دليل

والأساس المنهجي الأول الذي علينا أن ننطلق منه، هو أن النفي ـ كما الإثبات ـ يحتاج إلى دليل. وكل تصور فكري لا يعضده الدليل ولا تنصره الحجة، فهو مجرد دعاوی واهية، يقول البوصيري:

والدعـاوى مـا لـم تُقيموا عليها           بينـات أبنـاؤها أدعيـاء(1)

وعلى ضوء هذا، فإننا نسأل: هل يملك الملحدون دليلاً على نفي وجود الله؟

وبعبارة أخرى: هل هناك ملحد بالفعل يمكنه أن يقيم البرهان على إلحاده؟ والجواب بالنفي، فليس ثمة دليل على نفي وجود الله تعالى، ومعلوم أن المعطيات الاحتمالية أو الظنية لا تسوغ بناء رؤية فلسفية، والشك لا يبرر النفي القاطع، وعدم الدليل ليس دليل العدم.

وإننا نسأل: هل استنفد العلم كل طاقاته وإمكاناته وأفرغ الإنسان كل وسعه في سبيل التعرف على الخالق ومع ذلك لم يهتد إليه، وكانت النتيجة سلبية؟! لا أعتقد أن ثمة جهداً جاداً بذله الملحدون قبل أن يتسرعوا في تبني فكرة عدم وجود الخالق، ولا أعتقد ـ أيضاً ـ أن كل الأفكار والنظريات العلمية تسمح بنفي وجود الخالق، ولهذا فلا وجود للملحد حقيقة(٢)، لأن غاية ما يمكن للملحد أن يقوله: لم يثبت عندي وجود الخالق، وأما أن يقول: عندي دليل على عدم وجود الخالق فهذا مجرد ادعاء يطالب صاحبه بالدليل.

وقد يقولنّ قائل من الملحدين: لسنا نحن مَن يطالب بإقامة الدليل على وجود الإله، وإنما المطالب بذلك هو المؤمن بوجود الإله، ونحن يكفينا الشك في وجوده وعدم تمامية الدليل على ذلك، ولسنا بحاجة إلى إقامة الدليل على النفي. والجواب: إن المعتقدين بوجود الله تعالى يعترفون بأن عليهم إقامة الدليل على وجود الله، وهم يؤكدون أنهم لم ينطلقوا في عقيدتهم من فراغ ولا بنوا اعتقادهم على الأوهام، وإنما أقاموا الحجج والبراهين العقلية والعلمية اليقينية

التي تثبت وجود الله تعالى، وتبطل سائر الفرضيات التي تنفي وجوده عز وجل أو تشكك في ذلك، ولكن هل يعترف الملحدون بأنهم لا يمتلكون دليلاً على نفي وجود الله، وإنما هي مجرد شكوك قد يسهل على الطرف الآخر دحضها وتبديدها؟

ب ـ بين الفرضيات والحقائق

والأساس المنهجي الثاني الذي لا بد من اعتماده في المقام، هو عدم الخلط بين الفرضيات العلمية والحقائق العلمية. فالافتراضات العلمية بحكم أنها غير يقينية وفي معرض الخطأ لا يمكن أن تشكل أساساً لبناء رؤية فلسفية إزاء الكون والوجود، فرؤية كهذه تحتاج إلى أدلة وبراهين يقينية، وما يطرح عن إمكانية تفسير الكون تفسيراً يستغني - عن نظرية الخالق المنظم هو ـ  في أحسن التقادير ـ مجرد افتراضات علمية ولم ترق إلى مستوى اليقين والحقيقة. وكيف ترقى إلى مستوى اليقين، والحال أن المعطيات العلمية نفسها في تغير وتبدل دائم، لدرجة حَدَث بالبعض لوصف عصرنا أنه عصر اللّايقين؟! وعليه فإن الفرضيات العلمية الحديثة في علمي الأحياء والفيزياء المتصلة بقضية مبدأ الخلق وعلته الأولى لا ترقى إلى مستوى الحقيقة العلمية التي لا يرقى إليها الشك، وإنما هي مجرد فرضية علمية، فلا تصلح مستنداً لرفض فكرة الخالق أو إبطال المعتقدات الدينية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الفرضيات العلمية تلقى رواجاً وانتشاراً أكبر من حجمها العلمي، بحيث إن رواجها المذكور يجعلها في مصاف الحقائق العلمية في الذهن العام، الأمر الذي يمنع من نقاشها حتى داخل الوسط العلمي نفسه، مع كون الوسط المذكور معترفاً بأنها ليست سوى فرضية محتملة! وهذا ما عليه الحال في نظرية التطور الدارونية كما يعترف بذلك بعض أهل الخبرة(3).

وربما يقال: لم يدع أحد أن الفرضيات العلمية تصلح مستنداً لتكوين رؤية فلسفية تنفي وجود الله تعالى، لكنها ـ حتى مع كونها فرضية ـ تصلح لزعزعة الإيمان الديني، إذ يكفي احتمال وجود تفسير آخر ـ غير وجود الخالق ـ لمسألة بداية الخلق لنفي يقينية الرؤية الدينية.

والجواب عن ذلك:

أولاً: إن الكثير من الملحدين قد حسموا مسألة نفي الخالق، وتحدثوا عن موته، أو عن خرافة الإيمان به، أو عن عدم الحاجة لإتعاب النفس وتعكير المزاج في البحث عن فكرة وجوده. وعليه، فمن يقر ويعترف أنه ليس بأيدينا سوى افتراضات احتمالية قد تصلح لتقديم تفسير آخر لعلة الخلق غير التفسير الديني السائد، لا بد أن يوافقنا الرأي أن هذا الصنف من الملحدين النافين وجود الله تعالى لا يسيرون على هدي علمي أو عقلي.

ثانياً: إن الاحتمال الآخر لتفسير عملية الخلق والذي يدعي أصحابه الاستغناء عن وجود الله تعالى هو احتمال مطروح بدواً وبصرف النظر عن هذه الفرضيات، وكل من يبحث عن وجود الله تعالى فهو ـ حكماً ـ مقر بوجود هذا الاحتمال في ذهنه، وهذا هو ما دفعه للبحث والتفكير. فما يستفاد من الفرضيات العلمية المشار إليها، ليس بالشيء الجديد، وإن كان قد يؤكد الاحتمال المذكور ويزيده قوة. وما يقدمه الإلهيون لدحض هذا الاحتمال، يظل قائماً ومحكماً وصالحاً لنفي الاحتمال المستفاد من تلك الفرضيات العلمية. فالدليل العقلي القطعي على وجود الله تعالى يصلح لنفيه، كما أن الفرصة متاحة للإفادة من المعطيات العلمية نفسها والتي تشهد لفكرة وجود الخالق، وذلك في سبيل نفي هذا الاحتمال، وإيصاله إلى درجة من الضعف بحيث لا يعتني به الذهن البشري، اعتماداً على مبدأ حساب الاحتمال، فإن الاكتشافات العلمية في كل هذا الكون الفسيح بسمائه وأرضه تنطق بحقيقة واحدة لا لبس فيها وهي وجود نظام دقيق وبديع حاكم على كل هذا الكون من الذرة وإلى المجرة، وبديهي أن النظام لا ينطلق من الفراغ ولا ينبعث من الفوضى والعبثية، وإنما هو كاشف عن وجود منظم بصير وحكيم وعليم.

ج ـ الإيمان والعقل

والأساس الثالث الذي علينا التذكير به، هو ثابتة أن العقل هو أهم مصدر للمعرفة البشرية. وليس من الصحيح أمام هذه الظاهرة (ظاهرة الإلحاد) وفي مواجهتها، الإحساس بالذعر الذي قد يدفعنا إلى التشكيك بمسلّماتنا وقواعدنا المعرفية المبرهنة والتي تبني الإيمان على أساس العقل، ولا ترى منافاة بين العلم والدين، بل وتعتبر أن العلم يؤكد الإيمان ولا ينفيه، فنعود نتيجة الذعر المشار إليه إلى الترويج لخطاب ديني يرى أن الإيمان هو فوق العقل، فهذا هو دأب المهزوم. بكلمة أخرى: ليس من المنطقي أن ندخل إلى الحوار النقدي مع الإلحاد الجديد بذهنية المرعوب والخائف، بحيث يتملكنا شعور بالانهزام النفسي أمام التهويل بسطوة العلم ومنجزاته، وكأن العلم حاكم بنفي وجود الله تعالى ما يدفعنا تحت وطأة ذلك إلى التخلي عن قناعتنا وأسسنا المعرفية!

إن مسألة وجود الله تعالى بالنسبة إلينا ليست بهذه الهشاشة بحيث تهتز ويهتز معها إيماننا لمجرد فرضية علمية حديثة، حتى لو طرحها كبار علماء الطبيعة. ولا يعني هذا أبداً أن نستخف بما يطرح من فرضيات علمية، فالفرضية هي أساس الحراك العلمي والمنطلق لفك الرموز، والاستخفاف بها أو التعامي عنها خطأ كبير، وهو لا يعالج المشكلة ولا يقنع المتأثرين بها، هذا ناهيك عن خطأ وعدم جدوى التسرع في إطلاق أحكام التكفير والارتداد بحق الذين تأثروا بهذه الأفكار، ولم يجدوا إجابات مقنعة عليها، إننا نرفض لغة التخوين والتهويل، بيد أن هذا لا يعني أن نقدم نتائج العلم باعتبارها مقدسات لا تخضع للنقاش، فهذا ما لا يقوله العلم نفسه، بل إنه ينافي حركية العلم نفسها، وكونه في تطور دائم. باختصار: العلم التجريبي ليس إلهاً يعبد إنما هو طريق من طرق المعرفة البشرية، وثمة طرق أخرى للمعرفة لا يستغني عنها الفكر البشري ويحتاج العلم نفسه إليها، ومن أهمها طريق العقل. ومرجعية العقل هذه والتي بنينا إيماننا بالله تعالى على ضوئها هي مرجعية يقينية ولا تهتز، وهي تستقي من حقائق العلم، وتستنير بهدي الفطرة والوجدان.

د ـ العلم بالعلم

والأساس الرابع الذي تفرضه المنهجية العلمية السليمة، هو أن تكون المحاججةُ مع من يستندون إلى الفرضيات العلمية للتشكيك في وجود الله تعالى معتمدةً على أساس العلم نفسه(4)، ولكي تكون المحاججة كذلك، فهذا يفرض علينا وعي الفرضيات العلمية المذكورة وأخذها من مصادرها، لتنطلق الدراسة النقدية بعد استيعاب تلك الأفكار العلمية المطروحة، لتتم مجابهتها باللغة العلمية نفسها. إن استيعاب منطق الخصم ولغته المعرفية شرط أساسي في نجاح عملية الحوار أو النقد، وإن ذلك سيجعل الجميع يقرأون في كتاب واحد ويتكلمون لغة واحدة، فلا يكون الاعتراض منصباً على جانب معين، بينما الجواب يتجه إلى مكان آخر، فضلاً عن أن يتم الرد على نظريات أو افتراضات علمية بطريقة وعظية أو جدالية، فالكلام العلمي (المعتمد على نظريات أو فرضيات علمية) يُرَدُّ عليه بطريقة علمية وبراهين عقلية، ومن هنا فإن الاستعانة بالعلماء المؤمنين بالله تعالى من أهل الخبرة والاختصاص في العلوم التجريبية أمر في غاية الأهمية، وربما يكون هؤلاء هم الأقدر على رد الشبهات العلمية وتفنيد بعض الأفكار المشككة في وجود الله تعالى والمستندة إلى بعض الفرضيات العلمية، هذه الفرضيات التي يتم توظيف نتائجها لخدمة رؤية فلسفية معينة، مع أن نتائج العلم يفترض أن تكون حيادية ولا يصح استغلالها وتوظيفها الفلسفي، فذلك ليس من شأن العلم في شيء.

هـ ـ بين ثوابت الدين ونظرياته

والأساس المنهجي الخامس الذي يلزمنا الأخذ به هو أنه كما فرقنا بين الحقائق العلمية والفرضيات العلمية، فلا بد أيضاً أن نفرق بين حقائق الدين ونظرياته، يقينياته وظنياته، فالحقائق الدينية القطعيات والبديهيات التي لا تخضع للاجتهاد، بينما النظريات هي القضايا الاجتهادية التي يمكن تغيير الرأي فيها على ضوء المعطيات الجديدة، ومنها المعطيات العلمية. وجدير بالذكر أن حقائق الدين وبديهياته قليلة للغاية بالقياس إلى القضايا الاجتهادية، وبتقدير لأحد مراجع الدين المعاصرين(5)، فإن نسبة الضروريات إلى الاجتهاديات في الدين - عقيدة وشريعة ـ تبلغ ما نسبته التقريبية 6٪ فقط(6)، أي أن 94% من قضايا الدين ومفاهيمه وأحكامه هي أمور نظرية تخضع للاجتهاد، بينما الثابت والضروري منها هو 6%.

ثم إذا كان للعلم حقائقه ونظرياته، وللدين ـ أيضاً ـ حقائقه ونظرياته، فالتنافي المفترض بين العلم والدين يمكن أن يكون بين حقائق هذا وحقائق ذاك، أو بين نظريات هذا ونظريات ذاك، أو حقائق ذا ونظريات ذاك، وبالعكس، فصور المسألة على هذا أربع:

1ـ التنافي بين حقائق العلم وحقائق الدين، وهذا باعتقادنا لم يحصل ولن يحصل، وليذكر لنا أحد نموذجاً واحداً على هذا النوع من المنافاة.

2ـ التنافي بين حقائق العلم ونظريات الدين، وهذا امر ممكن(7)، ولا مفر في هذه الصورة من ترجيح الحقيقة العلمية القطعية على النظرية الظنية، الأمر الذي يفرض إعادة النظر في فهمنا للنص الديني وتفسيره بما لا يتنافى مع حقائق العلم.

3ـ التنافي بين نظريات العلم وحقائق الدين، وهذا لو فرض وقوعه وهو غير مستحيل، فلا مفر حينها من التمسك بالحقيقة الدينية، لأنه تمسك بالحجة القطعية. ومعلوم أنه لا ترفع اليد عما هو قطعي لحساب ما هو ظني. أجل، الكلام كل الكلام في حصول القطع بمسألة دينية مع وجود نظرية علمية على خلافها.

4ـ التنافي بين النظريات العلمية والنظريات الدينية، والأمر هنا يدعو إلى التروي وعدم التسرع برفض النظرية الدينية، أو التسرع برفض النظرية العلمية، فلنُبقِ الأمر في دائرة الإمكان الديني والعلمي، دون أن نضع عراقيل في وجه حركة العلم، أو نَسِمَ الدين بالتخلف، أجل قد يُشكِلُ الأخذ بنظرية دينية منافية لنظرية علمية، حتى لو كانت النظرية الدينية تتصل بحكم شرعي، إذ لا يمكن الوثوق بمستند حكم شرعي يكون على خلاف نظرية علمية، ولا سيما إذا كانت ترقى في رسوخها إلى مستوى يلامس حد اليقين.

وفي ضوء هذا، تمكن الإشارة ـ مثلاً ـ إلى أن نظرية التطور الدارونية - بصرف النظر عن قيمتها العلمية وما إذا كانت ترقى إلى مستوى اليقين أم لا ـ لا يبدو أنها تنافي ضرورة دينية، فإن دفعية خلق الكائنات ليست من أصول الدين ولا من ضرورياته وقطعياته، وإنما هي ـ أعني دفعية الخلق ـ هي نتاج فهم اجتهادي لنصوص الدين، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام إعادة قراءة النصوص الدينية في هذا المجال أو تأويلها(8)، بل إن النص القرآني يتحدث عن الخلق التدريجي للكون، فهو يصرح بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ويعتبر ذلك مدعاة للتفكر والتدبر والتذكر، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59](9)، إن ذلك يفرض علينا الابتعاد عن إعطاء قراءة نهائية للنص الديني، وإبقاءه مفتوحاً على كافة القراءات المستجدة، فضلاً أن ذلك يحتم علينا عدم التسرع في إصدار أحكام تكفيرية بحق المؤمنين بهذه النظرية العلمية أو تلك، أو تكفير ورفض النظرية نفسها.

وربما يعترض البعض قائلاً: إنه حتى لو وضعنا قواعد تعالج مشكلة التنافي بين التعاليم الدينية وبين معطيات العلم الحديث فهذا لا يعني صدقية الدين، لأن كثرة التنافي بين الدين والعلم هي حد ذاتها تشكل حجة للملحد، إذ لو كان الدين صواباً ومن عند الله كما يزعم المؤمنون بنظرية الخالق لما حصل أي تناف، بين الوحي والعلم، ويضيف المعترض: إن القضايا العلمية ثابتة بالتجربة والاستقراء، بينما التعاليم الدينية تستند إلى النقل وادعاء الوحي، ولذا كان من الطبيعي تقديم العلم على الدين!.

ونقول في الجواب:

أولاً: إن دعوى التنافي بين الوحي والعلم هي ـ في أصلها فضلاً عن كثرتها ـ دعوى غير مسلمة، وما يبدو من تناف على هذا الصعيد إنما هو بين فهم النص الديني وبين معطيات العلم الحديث، ومعلوم أن النص الديني لا سيما القرآني منه هو في بعض جوانبه حمال أوجه، ما يجعله قابلاً للتفسيرات المختلفة، وقد ينتشر أو يسود فهم معين له ويكون هذا الفهم معارضاً لبعض المعطيات العلمية، مع أن هذا الفهم ليس مقدساً ولا يشكل حجة علينا، بل إن فتح باب الاجتهاد يعني الاعتراف حكماً بمشروعية القراءة الجديدة لهذا النص، وهذه القراءة لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار تطور وعي الإنسان وتطور معرفته وثقافته والتي يشكل العلم الحديث أحد مصادرها، ما يعني أن التطور العلمي يساهم في فتح النص القرآني على آفاق جديدة وقراءات جديدة، وهو ما يفرض علينا أخذ التطور العلمي والثقافي بنظر الاعتبار أثناء قراءة النص ومحاولة استنطاقه.

أجل، لا يمكننا أن ننكر وجود حالات تناف صارخة بين العلم وبين بعض الموروث الديني، الذي لم تثبت صحته واعتباره، بل ربما كان مندرجاً في دائرة الموضوعات(10).

ثانياً: إن ابتناء القضايا العلمية على التجربة والاستقراء لا يجنبها الخطأ ولا يحفظها من الزلل، فقد تتغير المعطيات العلمية من زمن لآخر ويتبين خطأها، وكثيراً ما يبدل العلماء التجريبيون آراءهم ويكتشفون خطأ النظريات السابقة، وفي المقابل فإن ابتناء المفاهيم الدينية على أساس الوحي لا يعد نقصاً ولا عيباً فيها، فإن الوحي المستند في حجيته إلى العقل يمثل حجة ساطعة على الإنسان، ولا يسوغ لأحد إنكاره جملة وتفصيلاً لمجرد بعض التشويش أو عدم قدرته على الجمع بين معطيات النص الدينية ومعطيات العلم.

3 ـ أسباب الإلحاد ودوافعه

والدراسة الموضوعية تقودنا إلى أن وراء ظاهرة الإلحاد ـ بصرف النظر عن بعض الافتراضات العلمية الحديثة - جملة من الدوافع أو العوامل المؤثرة في انطلاقتها والمساعدة على انتشارها:

أ ـ الألفة بالمحسوس

ربما كان الدافع الرئيس الذي يخلق في النفس البشرية ميلاً نحو الإلحاد، أو يعزز النزعة المادية هو أنس الإنسان بالمحسوس وألفته بالمرئي والملموس، بينما الله سبحانه موجود فوق المادة لا يُرى ولا يُلمس ولا يُمس. فألفة الإنسان بالمادة وقوانينها تدفعه لا شعورياً إلى استبعاد فكرة الرب الذي لا تدركه الأبصار ولا الحواس، وقد أشار الله تعالى إلى دور هذه النزعة المادية في الدفع نحو الشرك والإلحاد، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}[الفرقان: 21]، وقال سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا  أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا}[الإسراء: 90 ـ 92]، وهكذا فقد قال قوم موسى (عليه السلام) له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}[البقرة: 55].

ولكن لا يخفى أن ربط وجود الأشياء بالإدراك الحسي لها، هو ربط ساذج وتخيل هو أقرب إلى الوهم، فما كل موجود يمكن إدراكه بالحس، وبالتالي فليس من المنطقي في شيء نفي كل ما لا يخضع للحس والتجربة، إن عقولنا بمعناها المجرد هي أئمة الأفكار والقلوب والحواس(11)، ومع ذلك فهي ـ أعني العقول ـ لا تُدرَكُ بالحس المباشر ولا تخضع للتجارب.

ب ـ الغرور العلمي

وإننا نلحظ في دراسة بعض النماذج التي يتبنى أصحابها الإلحاد، أنها تنطلق من حالة (غرور علمي)، أو (سطحية علمية)، تدفع بعض الأغرار إلى التسرع في إطلاق الأحكام ونفي وجود الله تعالى، قبل التأمل التام والتدبر الكافي، ودراسة المسألة بشكل معمق من جميع جوانبها؛ ولذا تكثر هذه الادعاءات عند بعض الشباب الذين لم تختمر بنيتهم المعرفية بشكل كامل. إن التواضع العلمي يحتم على الإنسان التروي والتمهل قبل أن يبت بمسألة بهذه الأهمية ـ أعني مسألة وجود الله تعالى ـ لمجرد افتراض لم يرق إلى مستوى النظرية العلمية، فضلاً عن أن يمثل حقيقة علمية. ومن هنا، فإن التجربة العلمية والخبرة المعمقة تعطي الإنسان درساً بليغاً في ضرورة التواضع العلمي والتروي قبل المبادرة إلى إطلاق أحكام متسرعة أو بناء تصورات (علمية) على أسس وادعاءات فارغة.

د ـ ملاءمة هوى النفس

والإلحاد يلائم هوى النفس التي يستهويها التهرب من التكاليف والالتزامات، والتخفف من المسؤوليات التي يرتبها الإيمان بالله، فما دام لا يوجد إله ولا حساب، فما الضير في أن يندفع الشخص إلى ممارسة اللهو الحرام وينغمس في الشهوات، ويطلق العنان لغرائزه دون رادع من شرع أو خوف من حساب الله. إنّ الإيمان بوجود الله سيشكل ضابطاً ورادعاً، وكذا الإيمان بيوم القيامة يفترض أن يخلق وازعاً رقابياً يدفع الإنسان إلى تحمل مسؤولياته، ويفرض عليه نظاماً أخلاقياً واجتماعياً من نوع خاص. وأما من لا يريد أن يعيش حياته بمسؤولية وانضباط، فلا ضير عنده أن يتنكر لوجود الله تعالى، أو لوجود يوم القيامة، كما قال الله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}[القيامة: 5 ـ 6].

وهكذا فإن هوى النفس يعد دافعاً من دوافع الشرك بالله تعالى؛ لأن التوحيد، لا سيما التوحيد في العبادة والطاعة يرتب على الإنسان مسؤوليات تدفعه إلى التخلي عن العادات والتقاليد اللاتوحيدية التي ورثها عن الآباء والأجداد، ولهذا فقد يندفع صاحب الهوى، وفراراً من الالتزام بمقتضيات العبادة والطاعة إلى القول بوجود إله آخر لم يأمره بذلك، ولم يكلفه بهذه التكاليف الشاقة!

هـ الاحتجاج على الواقع الديني

وقد يكون تبني بعض الأشخاص للإلحاد هو مجرد ردة فعل ساخطة على بعض الرؤى الدينية المتزمتة، أو هو صرخة احتجاج في وجه بعض الممارسات اللاإنسانية التي تقوم بها بعض الجماعات الدينية. وقد لاحظنا من خلال التجربة، أن بعض الشباب المسلم الذي يعيش حالة ضياع ونفور من الدين عندما تتحدث معه محاولاً رفع شبهاته وتبديد هواجسه فإنك سوف تكتشف من خلال الحديث، أن أساس المشكلة عنده ليست في عدم قبوله للدين أو في رفضه للإيمان بالله تعالى، وإنما هي في نفوره من هذه النسخة المشوهة والفظيعة التي يراد تقديمها عن الإسلام، لدرجة أن بعض الشباب المسلم أصبح لديه يأس من إمكانية التغيير، ولذا تراه يخجل من انتمائه الديني.

كما أن ثمة فجوة كبيرة بين شريحة لا بأس بها (ولعلها الأكبر) من (رجال الدين) وبين الجيل الشاب، بحيث إن الكثير من (رجال الدين) بعيدون كل البعد عن هموم الشباب وهواجسهم، ولا يتفهمون قلقهم، ولا يستمعون إلى أسئلتهم، ولا يمتلكون الأسلوب الصحيح لمخاطبتهم والوصول إلى قلوبهم أو عقولهم، ولا يقتحمون منتديات الشباب ونواديهم وأماكن تجمعهم، بل يتعالون ويترفعون عن ذلك وينتظرون أن يأتيهم الشباب في بيوتهم ومساجدهم، معتبرین أنه لا يليق بهم ولا يناسبهم كـ (رجال دين) أن يطرقوا أبواب الآخرين! مع أن الكثير من هذه الاعتبارات و(الشأنيات) لا أساس لها، بل هي مجرد أوهام وخيالات، فعالم الدين الذي يقتحم نوادي الشباب الرياضية والثقافية وأماكن تجمعهم للاستماع إلى همومهم وهواجسهم ويسعى إلى محاورتهم والإجابة عن أسئلتهم لن يضيره ذلك بشيء، ولن يوجب هتك حرمته، بل ربما نظر إليه الناس بعين الإكبار والاحترام على شجاعته وجرأته. إن من واجب علماء الدين وحماته أن ينزلوا من بروجهم العاجية إلى أرض الواقع ليعيشوا مع الناس وبينهم ويدخلوا الأسواق ويمشوا في الطرقات، ويقتربوا أكثر فأكثر من هموم الفقراء وأوجاعهم.

وفي المقابل، فإن على الشباب المسلم أن يكون يقظاً بصيراً فلا يغتر بالمظاهر والألقاب والشكليات التي يحوط بها البعض من دعاة العلم وتجار الدين نفسه، فلا يرضى (هذا البعض) أن يذكر اسمه على المنابر أو غيرها إلا إذا سبقته وجرته الألقاب التبجيلية، من قبيل: (صاحب السماحة والفضيلة، آية الله، العلامة، المجتهد..) مع أنه لا يمتلك من حقيقة تلك الألقاب شيئاً، ما يذكرنا بموقف الشاعر الحسن بن رشيق الذي رفض دخول الأندلس في زمن تقهقرها برغم إلحاح صديقه ابن شرف عليه بذلك، ولكنه أصر على الرفض وأنشأ في بيان حال تلك الديار المقسمة وحال ملوكها الذين لا يشبهون الملوك سوى قافلة من بالألقاب قائلاً:

مما يزهدنـي فـي أرض أندلس             أسماء مقتـدر فيها ومعتضد 

ألقـاب مملكـة فـي غير موضعها          كالهـر يحكي انتفاخاً صولة الأسـد(12)

إن على الشاب أن يفتش ويبحث عن العلماء الربانيين الذين يروون غليله الروحي، ويشبعون نهمه المعرفي، وهؤلاء العلماء موجودون على الدوام، فالأرض لا تخلو من حجة صالحة.

وإننا نوجه دعوة إلى كل شاب مسلم حريص على مستقبل الرسالة الإسلامية بأن يبذل ـ قدر المستطاع ـ جهده في الدرس الديني المركز، لا ليمتهن مهمة (رجل الدين)، فربما كان له تخصص علمي اخر أو وظيفة أخرى، وإنما ليتسنى لجيل الشباب امتلاك ثقافة دينية ذات بعد منهجي أصيل، بما يؤهله لفهم الإسلام ونصوصه، ويمكنه من حملة والدفاع عنه أو نقله إلى فضاء أوسع، بالاستناد إلى لغة العصر التي يفهمها الشباب جيداً، فإن الدرس الديني ليس حكراً على جماعة معينة، وليس في الإسلام طبقة كهنوتية تحتكر فهم النص وشرحه.

4- هل الله خلقنا ام نحن خلقناه؟

في ضوء هذه الأسس المنهجية المتقدمة يلزمنا دراسة ظاهرة الالحاد ومراجعة كل ما يتشبث به المنظرون لها. ويقيني أنهم لا يملكون سوى شبهات قابلة للرد والتفنيد. وإذا كان المقام لا يسع للتوسّع أكثر في متابعة كل الشبهات، ولا سيما ما يطرح من فرضيات علمية مؤيدة للفكر الإلحادي، هذه الفرضيات التي - مع أنها لا تزلزل اليقين بوجود الله تعالى ـ هي بحاجة ماسة إلى دراسة علمية متخصصة، نأمل أن يقوم بها بعض أهل الخبرة من العلماء المؤمنين بوجود الله، بصرف النظر عن دينهم. ولكننا نكتفي في هذه العجالة رداً على ما يطرحه ويردده بعض الملحدين، حول تسخيف فكرة الإيمان بالله تعالى، حيث يُقال لنا: ألا زلتم تبحثون عن وجود الله وتضيعون أوقاتكم في هذه المتاهات، فإن مسألة الخالق قد غدت فكرة قديمة عفا عليها الزمن، أو يقال: إن (الله) هو مجرد فكرة ذهنية ابتكرها (بعض العباقرة لإقناع الجماهير بأن في السماء قوة أزلية أبدية ترى كل شيء، وتسمع كل شيء وتهيمن بحكمتها على كل شيء)(13). إننا نكتفي في الرد على أصحاب هذه الكلمات والدعاوى بالقول: إن وجود الله ـ لو أنصفتم - هو أمر بديهي، بل من أبده البديهيات، وتقضي به الفطرة الصافية والعقل السليم، وإن براهين وجوده هي أكثر من أن تحصى.

وأصدقكم القول: إني لا أفهم ولا أتخيل كيف يمكن لعقل منصف وموضوعي أن يتقبل فكرة أن كوناً بهذه العظمة والدقة، وبهذا النظم والإبداع المنقطع النظير، وبهذا الجمال الساحر يوجد بلا خالق ولا منظم أو ينبعث من العدم واللاشيء!!

ولعل هذا هو السبب في أننا لا نزال نرى الغالبية الساحقة من بني الإنسان تتبنى القول بوجود الله، بالرغم من تقدم الحياة والتطور العلمي وسيطرة الإنسان على الطبيعة، وسيادة القانون في كثير من دول العالم. إن غالب الأفكار تبلى وتصبح جزءاً من الماضي والتاريخ إلا فكرة وجود الخالق، فإنها حافظ إلى يومنا هذا على حضورها وفاعليتها لدى مختلف الشرائح الاجتماعية وعلى اختلاف مستوياتها الفكرية، الأمر الذي يؤشر ليس على فطرية الاعتقاد بوجود الله تعالى وحسب بل وبداهة ذلك، بما يحتم على كل عاقل أن يدرس هذه الفكرة ويلاحظ ما يساق لها من أدلة وبراهين.

ثم كيف نفسر ظهور هذا الاعتقاد والميل الفطري عند الأحداث، وربما الأطفال في سن التمييز، حيث نلاحظ أنهم يتوجهون إلى الآخرين بالسؤال عن بدء الخلق، وكيف وجد الانسان وكيف خلقت السماوات والأرض ومن الذي نظمها ورتبها، واذا قيل لهم: ان كل ذلك وجد هكذا من دون موجد ولا خالق ولا منظم فان فطرتهم وعقلهم القاضيين بأن وراء كل مسبب سببا يدفعانهم الى الاستغراب والتعجب. ان هذا ان دل على شيء فإنما يدل على فطرية هذا الميل وانه مغروس في الوجدان الإنساني.

وكيف لنا أيضاً أن نفسّر ظهور هذا الميل عند بني الإنسان عامة في الصعاب والشدائد؟ فالقضايا الفطرية قد تغيب وتحتجب عنا بسبب الانغماس والانهماك في مشاغل الحياة وهمومها، ولكن سرعان ما تستيقظ وتصحو، وغالباً ما يصحو هذا الإحساس بوجود إله ذي قوة قادرة عندما نواجه بعض الصعاب التي يفقد فيها المرء الأمل بقدرته وإمكاناته الذاتية، أو بقدرة غيره على إنقاذه مما هو فيه، قال تعالى:{ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

هذا ولكن ربما يفسّر البعض ظهور هذه الأسئلة عند الأحداث والفتية، بأن هذا لا علاقة له بالفطرة، بل إن مرده إلى التربية التي غرست هذا المفهوم في الأذهان، وأن ظهوره لدى الإنسان في الشدائد والصعاب مرده إلى ما يقال من أن الغريق يحاول التمسك بالقشة أملاً في النجاة وخوفاً من احتمال المؤاخذة والمساءلة.

إلا أن هذين التفسيرين غير مقنعين، أما إرجاع الخوف عند الشدائد والصعاب إلى الأمل وخوف المساءلة، فإنها حتى لو كانت صحيحة فهي لا تنافي ما نقوله.

وأما إرجاع الميل المذكور لدى الأطفال إلى التربية حصراً، فهو تفسير مرفوض، وليس مقنعاً، لأن انتشار الإيمان بالله تعالى عند معظم بني الإنسان منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا لا نعتقد أنه أمر يسهل تفسيره بالتربية فقط، لأننا نجد ظهور هذا الميل عند أشخاص لم يعمل أحد على تربيتهم على الدين والمعتقدات الإيمانية.

ثم إذا كان هذا الأمر، وهو الإيمان بالخالق، ليس فطرياً وإنما منشأه التربية، فإننا نسأل: لٌمَ لم تستطع التربية المعاكسة إقناع ملايين الناس بالإلحاد، أن الفكر الإلحادي الذي كان مهيمناً في الاتحاد السوفياتي ـ مثلاً ـ عمل على التبشير بالإلحاد والدعوة إليه في المدارس والجامعات، مستخدماً كل وسائل الثقافة والتوجيه لمدة سبعين عاماً تقريباً، وسعى إلى تسخيف الدين ومنع التبشير به، ومع ذلك كله لم يستطع أن يجذر الإلحاد أو يزيل الإيمان من النفوس، ولذا فإنه وبمجرد انهيار النظام المذكور وجدنا أن ملايين الناس عادت إلى فطرة الإيمان بالله تعالى!

ولك أن تسأل أيضاً: إنه إذا كانت التربية هي التي غرست فكرة الإيمان بالله في أذهان الأجيال اللاحقة، فمن غرس هذا المفهوم عند أبناء الجيل الأول من بني الإنسان؟ إننا لا نجد توجيهاً مقبولاً لذلك سوى فطرية الإيمان.

ربما يقال: إن الجهل هو الذي دفع الإنسان الأول ونتيجة خوفه من بعض الظواهر الطبيعية التي لم يجد لها تفسيراً علمياً إلى ربطها بقوة غيبية أسماها الإله، متوهماً أن بعض هذه الظواهر كالمطر أو الشمس أو الأنهار أو الكواكب كائنات حية ولها شعور، وهي عندما تغضب فإنها تنتقم وترسل غضبها وتعبر عن سخطها من خلال الزلازل والفيضانات، أو عبر الكسوف أو الخسوف، أو غيرها من الكوارث الطبيعية، لذا حاول اتقاءها بتقديم القرابين إليها، أو عبادتها، أو ما إلى ذلك، هكذا انطلقت فكرة وجود الخالق وهكذا انتشرت وتطورت.

إلا أن هذا التفسير أيضاً لا يمتلك قوة إقناع، ولا حجة إثبات، لأن مفاده أن الإيمان بالخالق والإله فكرة انطلقت من حالة الجهل بالطبيعة وعدم القدرة على تفسير بعض ظواهرها المخيفة، وهذا معناه أن الإنسان عندما استطاع أن يفسّر الطبيعة ويفهم ظواهرها ويعثر على تفسير علمي لأسرارها لم يعد بحاجة إلى مثل هذا الإيمان أو الاعتقاد. مع أن الأمر بالعكس كما نلاحظ، فإن الإيمان بالله يزداد قوة وحضوراً كلما ازداد فهم الإنسان للطبيعة، وتكشفت له أسرارها المذهلة وخباياها العجيبة ونظامها الدقيق، حيث يزداد العالم والعاقل يقيناً أكثر من ذي قبل بأن مثل هذه الطبيعة على ما عليه من الدقة والتنظيم والروعة، ما كانت لتوجد عبثاً ولا أن تبتدع نفسها بنفسها.

وختاماً يمكننا القول: إن الإنسان إذا تجرد من الهوى والعناد وغيرها من المؤثرات اللامنطقية ونظر إلى الأمور نظرة ثاقبة، فإن ذلك سيقوده إلى الله تعالى، وإلى الاعتراف بأن وجوده تعالى ليس مما يحتاج إلى براهين وأدلة يقيمها غيره عليه، فهو أشد وضوحاً من غيره، فكيف يكون غيره هو المظهر له، وكما جاء في الدعاء المنسوب للإمام الحسين (عليه السلام): "كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك، عميت عين لا تراك، ولا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً"(14). ولكن ربما يخفى الشيء لشدة نوره وظهوره، وكما قال السبزواري في المنظومة:

يا من هـو اختفـى لـفـرط نوره        الظاهـر الباطن في ظهـوره(15)  

__________________________

(1) الإصابة لابن حجر، ج1 ص74.

(2) كما كان يقول سماحة السيد فضل الله (رضوان الله عليه).

(3) لاحظ بعض كلماتهم في كتاب: أفي الله شك؟ ص 236.

(4) قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [ال عمران: 66].

(5) انظر: كتاب: «النظرة الخاطفة في الاجتهاد» للمرجع المعاصر الشيخ إسحاق الفياض ص۱۱.

(6) وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من القضايا التي يخالها البعض من مسلمات الدين وضرورياته هي ليست كذلك، ولمزيد من التبصر حول هذا الأمر يراجع ما ذكرناه في كتابنا: (أصول الاجتهاد الكلامي) ص116 وما بعدها.

(7) ذكرنا بعض النماذج لذلك في كتاب (أصول الاجتهاد الكلامي) في مبحثين، وهما مبحث شروط حجية الخبر في المجال العقدي، ومبحث العلاقة بين العلم والدين. فراجع.

(8) يقول الشهيد مطهري((.. وعلى فرض صحة نظرية التطور، وفرض تنافيها مع بعض ظواهر القرآن الكريم في نشأة الإنسان، ألا يمكن تفسير القرآن بنحو لا يجعله يصطدم مع هذه النظرية أم أن التعارض بينهما مستحكم؟! أليست الظواهر القرآنية قابلة للتوجيه والتأويل؟ إننا إذا جعلنا القرآن الكريم محور كلامنا، فسوف نجد أنه يبين قصة آدم كنموذج، ولا يوظف كيفية خلقة آدم لإثبات العقيدة الإلهية، وإنما يركز عليها لبيان المقام المعنوي للإنسان، وبيان سلسلة من المسائل الأخلاقية. وبالتالي من الممكن جداً أن يؤمن الإنسان بالله والقرآن، وفي نفس الوقت يؤول قصة آدم بتأويل معين. فلدينا اليوم أفراد يؤمنون بالله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) والقرآن، ويفسرون خلقة آدم في القرآن بتفسير ينسجم تماماً مع العلوم الحديثة، وعلى أي حال، فليس من الإنصاف أن تجعل هذه النظرية ذريعة لإنكار القرآن والدين، فضلاً عن الجحود بالله)) انظر: الدوافع نحو المادية ص71، وانظر أيضاً: كتاب: الله خالق الكون ص613.

(9) راجع حول ذلك: سورة السجدة آية 4 وسورة يوسف الآية 3.

(10) انظر للتوسع حول هذه النقطة وبعض النماذج ذات الصلة: كتاب (أصول الاجتهاد الكلامي) ص 364.

(11) من أجمل وأروع ما روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في هذا المجال قوله: "العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء"، انظر: (كنز الفوائد) للكراجكي ص 88، وعنه: بحار الأنوار ج 1 ص 96.

(12) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي ج 1 ص 155، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي ج19 ص38، ونسب بعضهم البيتين المذكورين أعلاه إلى محمد بن عمار المهري الأندلسي.

(13) انظر: الدين، تأليف: محمد عبد الله دراز، نقلاً عن بعض من أسماهم السوفسطائية ص81.

(14) (بحار الأنوار) ج 64 ص142.

(15) هذا البيت هو مما استهل به السبزواري منظومته الفلسفية الشهيرة، انظر: شرح غرر الفرائد ـ قسم الأمور العامة والجوهر والعرض، تحقيق: مهدي محقق، انتشارات جامعة طهران، 1369 هـ، ص3. 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي