تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
دور الانسان في الحركة التاريخية في القران الكريم
المؤلف: السيد محمد باقر الصدر
المصدر: المدرسة القرآنية
الجزء والصفحة: ص 139-156
3-06-2015
6525
أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وعلى الميامين من آله الطاهرين قلنا في ما سبق ان اكتشاف الابعاد الحقيقية لدور الدين في حركة التاريخ ، والمسيرة الاجتماعية للانسان ، تتوقف على تحديد وتقييم دور العنصرين او الركنين الثابتين في الصيغة ، وهما الانسان والطبيعة.
الآن نتحدث عن الانسان ، ودور الانسان في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم.
من الواضح على ضوء المفاهيم التي قرأناها سابقا أن الانسان أو المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ ، وأننا ذكرنا ان حركة التاريخ تتميز عن كل الحركات الاخرى بانها حركة غائية لا سببية فقط ، ليست مشدودة الى سببها ، الى ماضيها ، بل هي مشدودة الى الغاية ، لانها حركة هادفة لها علة غائية متطلعة الى المستقبل. فالمستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. والمستقبل معدوم فعلا وانما يحرك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثل فيه هذا المستقبل.
اذن ، الوجود الذهني هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ ، وهذا الوجود الذهني يجسد من ناحية جانبا فكريا وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف ، وايضا يمثل من جانب آخر الطاقة الارادة التي تحفز الانسان نحو هذا الهدف وتنشطه للتحرك نحو هذا الهدف. اذن هذا الوجود الذهني الذي يجسد المستقبل المحرك ، هذا الوجود الذهني يعبر بجانب منه عن الفكر وفي جانب آخر منه عن الارادة ، وبالامتزاج بين الفكر والارادة تتحقق فاعلية المستقبل ومحركيته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.
وهذان الامران الفكر والارادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للانسان ، ان المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان يتمثل في هذين الركنين الاساسيين وهما الفكر والارادة. اذن المحتوى الداخلي للانسان هو الذي يصنع هذه الغايات ، ويجسد هذه الاهداف من خلال مزجه بين فكرة وإرادة.
وبهذا صحّ القول بأن المحتوى الداخلي للانسان هو الاساس لحركة التاريخ ، والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات ومن انظمة ومن افكار وتفاصيل هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبط بهذه القاعدة ، بالمحتوى الداخلي للانسان مرتبط بهذه القاعدة ويكون تغيره وتطوره تابعا لتغير هذه القاعدة وتطورها ، فاذا تغير الاساس تغير البناء العلوي ، واذا بقي الاساس ثابتا ، بقي البناء العلوي ثابتا.
فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للانسان والبناء الفوقي والتاريخي للمجتمع ، هذه العلاقة علاقة تبعية ، علاقة سبب بسبب ، هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد : 11] . هذه الآية واضحة جدا في المفهوم الذي اعطيناه وهو ان المحتوى الداخلي للانسان ، هو القاعدة والاساس للبناء العلوي ، للحركة التاريخية ، لان الآية الكريمة تتحدث عن تغييرين : احدهما تغيير القوم {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ} يعني تغيير اوضاع القوم ، شئون القوم ، الأبنية العلوية للقوم ، ظواهر القوم ، هذه لا تتغير حتى يتغير ما بأنفسهم. اذن التغيير الاساس هو تغيير ما بنفس القوم والتغيير النابع المترتب على ذلك هو تغيير حالة القوم ، النوعية ، التاريخية ، الاجتماعية ومن الواضح ان المقصود من تغيير ما بالانفس ، تغيير ما بأنفس القوم ، بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقوم وكأمة وكشجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين ، متغيرا ، والا تغير الفرد الواحد او الفردين او الافراد الثلاثة لا يشكل الاساس لتغير ما بالقوم ، وانما يكون تغير ما بالقوم تابعا لتغير ما بأنفسهم كقوم ، كأمة ، كشجرة مباركة تؤتي اكلها كل حين.
فالمحتوى النفسي والداخلي للامة كأمة لا لهذا الفرد او لذلك الفرد هو الذي يعتبر أساسا وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.
والاسلام والقرآن الكريم يؤمن بأن العمليتين يجب ان تسيرا جنبا الى جنب ، عملية صنع الانسان لمحتواه الداخلي وبناء الانسان لنفسه ، لفكره ، لارادته ، لطموحاته ، هذا البناء الداخلي يجب ان يسير جنبا الى جنب مع البناء الخارجي ، مع بناء الابنية العلوية ولا يمكن ان يفترض انفكاك البناء الخارجي عن البناء الداخلي الا اذا بقي البناء الخارجي بناء مهزوزا متداعيا.
ولهذا سمى الاسلام عملية بناء المحتوى الداخلي اذا اتجهت اتجاها صالحا سمّاها «بالجهاد الاكبر». وسمى عملية البناء الخارجي اذا اتجهت اتجاها صالحا بعملية «الجهاد الاصغر» وربط الجهاد الاصغر بالجهاد الاكبر ، واعتبر ان الجهاد الاصغر اذا فصل عن الجهاد الاكبر فقد محتواه وفقد مضمونه ، وفقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية.
اذن هاتان العمليتان يجب ان تسيرا جنبا الى جنب. واذا انفكت احداهما عن الأخرى فقدت حقيقتها ومحتواها ، وسمى الاسلام العملية الأولى ، عملية بناء المحتوى الداخلي بالجهاد الأكبر تأكيدا على الصفة الأساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحا لهذه الحقيقة ، حقيقة ان المحتوى الداخلي للانسان هو الأساس ، ولهذا سمي بالجهاد الأكبر. فاذا بقي الجهاد الأصغر منفصلا عن الجهاد الأكبر ، حينئذ لا يحقق ذلك في الحقيقة أي مضمون تغييري صالح.
القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي قال سبحانه وتعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة : 204 ، 205] يريد ان يقول بان الانسان اذا لم ينفذ بعملية التغيير الى قلبه ، الى اعماق روحه ، اذا لم يبن نفسه بناء صالحا لا يمكنه ابدا ان يطرح الكلمات الصالحة ، الكلمات الصالحة انما يمكن ان تتحول الى بناء صالح في المجتمع اذا نبعت عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات ، والا فتبقى الكلمات مجرد الفاظ جوفاء دون ان يكون لها مضمون ومحتوى.
فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها ، للشعارات ابعادها ولعملية البناء الخارجي اهدافها ومسارها.
الى هنا عرفنا ان الاساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للانسان ، وهذا المحتوى الداخلي للانسان يشكل القاعدة. الآن نتساءل :
ما هو الأساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه؟ ما هي نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للانسان؟ وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للانسانية؟ المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للإنسانية هو المثل الاعلى.
عرفنا ان المحتوى الداخلي للانسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ ، يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الارادة بالتفكير. وهذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلى. فانها جميعا تنبثق عن وجهة نظر رئيسية الى مثل اعلى للانسان في حياته ، للجماعة البشرية في حياتها. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدد الغايات التفصيلية ، وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي ، فالغايات بنفسها محركات للتاريخ وهي بدورها نتاج لقاعدة اعمق منها في المحتوى الداخلي للانسان وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل تلك الغايات وتعود اليه كل تلك الاهداف.
فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحا وعاليا وممتدا تكون الغايات صالحة وممتدة ، وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدودا او منخفضا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة ايضا.
اذن المثل الاعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية ، وهذا المثل الاعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامة الى الحياة والكون ، يتحدد من قبل كل جماعة بشرية على اساس وجهة نظرها العامة نحو الحياة والكون ، على ضوء ذلك تحدد مثلها الاعلى.
ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الاعلى ومع وجهة نظرها الى الحياة والكون تحقق ارادتها للسير نحو هذا المثل ، وفي طريق هذا المثل.
اذن هذا المثل الاعلى هو في الحقيقة ايضا يتجسد من خلال رؤية فكرية ، ومن خلال طاقة روحية تزحف بالانسان في طريقه ، وكل جماعة اختارت مثلها الاعلى ، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق.
كما رأينا ان الحركة التاريخية تتميّز عن اي حركة أخرى في الكون بانها حركة غائية ، حركة هادفة ، كذلك تتميز وتتمايز الحركات التاريخية انفسها بعضها عن بعض بمثلها العليا. فلكل حركة تاريخية مثلها الاعلى ، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد الغايات والاهداف وهذه الاهداف والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الاعلى.
والقرآن الكريم والتعبير الديني يطلق على المثل الاعلى في جملة من الحالات اسم الإله ، باعتبار ان المثل الاعلى هو القائد الآمر المطاع الموجّه ، وهذه صفات يراها القرآن للإله ، ولهذا يعبر عن كل من يكون مثلا اعلى ، كل ما يحتل هذا المركز مركز المثل الاعلى يعبر عنه بالإله لانه هو الذي يصنع مسار التاريخ. حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الفرقان : 43] عبر حتى عن الهوى بانه إله حينما يتصاعد هذا الهوى تصاعدا مصطنعا فيصبح هو المثل الاعلى وهو الغاية القصوى لهذا الفرد او لذاك.
فالمثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي آلهة في الحقيقة لانها هي المعبودة حقا وهي الآمرة والناهية حقا وهي المحركة حقا ، فهي آلهة في المفهوم الديني والاجتماعي.
وهذه المثل العليا التي تتبناها الجماعات البشرية على ثلاثة اقسام :
القسم الأول : المثل الاعلى الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه ، ويكون منتزعا من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات ، أي ان الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا لم يستطع ان يرتفع على هذا الواقع وان يتجاوز هذا الواقع بل انتزع مثله الاعلى من هذا الواقع بحدوده ، بقيوده ، بشئونه.
وحينما يكون المثل الاعلى منتزعا عن واقع الجماعة بحدودها وقيودها وشئونها يصبح حالة تكرارية ، يصبح بتعبير آخر محاولة لتجميد هذا الواقع وحمله الى المستقبل ، بدلا عن التطلع الى المستقبل يكون في الحقيقة تجميدا لهذا الواقع وتحويلا لهذا الواقع من حالة نسبية ومن امر محدود الى امر مطلق لان الانسان يعترضه هدفا ومثلا اعلى وحينما يتحول هذا الواقع من امر محدود الى هدف مطلق ، الى حقيقة مطلقة لا يتصور الانسان شيئا وراءها ، حينما يتحول الى ذلك ، سوف تكون حركة التاريخ حركة تكرارية سوف يكون المستقبل تكرارا للواقع وحيث ان هذا الواقع هو نفسه كان تكرارا لحالة سابقة ، ولهذا سوف يكون المستقبل تكرارا للواقع وللماضي.
هذا النوع من الآلهة يعتمد على تجميد الواقع وتحويل ظروفه النسبية الى ظروف مطلقة ، لكي لا تستطيع الجماعة البشرية ان تتجاوز الواقع وان ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع.
تبني هذا النوع من المثل العليا له أحد سببين :
السبب الاول الالفة والعادة والخمول والضياع ، هذا سبب نفسي ، الألفة والخمول والضياع سبب نفسي اذا انتشرت هذه الحالة النفسية : حالة الخمول والركود والالفة والضياع في قوم ، في مجتمع حينئذ يتجمد ذلك المجتمع ، لانه سوف يصنع إلهه من واقعه ، سوف يحول هذا الواقع النسبي المحدود الذي يعيشه الى حقيقة مطلقة ، الى مثل اعلى الى هدف لا يرى وراءه شيئا.
وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تحدثت عن المجتمعات التي واجهت الانبياء حينما جاء الأنبياء الى تلك المجتمعات بمثل عليا حقيقة ترتفع عن الواقع وتريد ان تحرك هذا الواقع وتنتزعه من حدوده النسبية الى وضع آخر ، واجه هؤلاء الانبياء مجتمعات سادتها حالة الالفة والعادة والتميع فكان هذا المجتمع يرد على دعوة الانبياء ويقول باننا وجدنا آباءنا على هذه السنة ، وجدنا آباءنا على هذه الطريقة ونحن متمسكون بمثلهم الاعلى ، سيطرة الواقع على اذهانهم وتغلغل الحس في طموحاتهم بلغ الى درجة تحول هذا الإنسان من خلالها الى انسان حسي لا الى انسان مفكر ، الى انسان يكون ابن يومه دائما ، ابن واقعه دائما لا أبا يومه ولا أبا واقعه ، ولهذا لا يستطيع ان يرتفع على هذا الواقع.
استمعوا الى القرآن الكريم وهو يقول : {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة : 170]
{قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة : 104] . {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس : 78] ، {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود : 62] ، {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } [إبراهيم : 10] { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف : 22] في كل هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم السبب الاول لتبني المجتمع هذا المثل الاعلى المنخفض.
هؤلاء بحكم الالفة والعادة وبحكم التميّع والفراغ وجدوا سنة قائمة ، وجدوا وضعا قائما فلم يسمحوا لانفسهم بأن يتجاوزوه ، جسدوه كمثل اعلى وعارضوا به دعوات الانبياء على مر التاريخ ، هذا هو السبب الاول لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض.
والسبب الثاني لتبني هذا المثل الاعلى المنخفض هو التسلط الفرعوني على مرّ التاريخ ، الفراعنة على مر التاريخ حينما يحتلون مراكزهم يجدون في أي تطلع الى المستقبل ، وفي أي تجاوز للواقع الذي سيطروا عليه ، يجدون في ذلك زعزعة لوجودهم وهزّا لمراكزهم.
من هنا من مصلحة فرعون على مرّ التاريخ ان يغمض عيون الناس على هذا الواقع ، ان يحول الواقع الذي يعيشه مع الناس الى مطلق ، الى إله ، الى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه ، يحاول ان يحبس وان يضع كل الامة في اطار نظرته هو ، في اطار وجوده هو لكي لا يمكن لهذه الامة ان تفتش عن مثل اعلى ينقلها من الحاضر الى المستقبل من واقعه الى طموح آخر اكبر من هذا الواقع. هنا السبب اجتماعي لا نفسي ، السبب خارجي لا داخلي.
وهذا ايضا ما عرضه القرآن الكريم {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص : 38] { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر : 29] هنا فرعون يقول ما أريكم الا ما ارى يريد ان يضع الناس الذين يعبدونه كلهم في اطار رؤيته في اطار نظرته ، يحول هذه النظرة وهذا الواقع ، الى مطلق لا يمكن تجاوزه هنا الذي يجعل المجتمع يتبنى مثلا اعلى مستمدا من الواقع هو التسلط الفرعوني الذي يرى في تجاوز هذا المثل الأعلى خطرا عليه وعلى وجوده.
قال اللّه سبحانه وتعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون : 45 - 47] نحن غير مستعدين ان نؤمن بهذا المثل الاعلى الذي جاء به موسى لأنه سوف يزعزع عبادة قوم موسى وهارون لهم. اذن هذا التجميد ضمن اطار الواقع الذي تعيشه الجماعة أي جماعة بشرية ينشأ من حرص أولئك الذين تسلطوا على هذه الجماعة على أن يضمنوا وجودهم ويضمنوا الواقع الذي هم فيه وهم بناته هذا هو السبب الثاني الذي عرضه القرآن الكريم. والقرآن الكريم يسمي هذا النوع من القوى التي تحاول ان تحول هذا الواقع المحدود الى مطلق وتحصر الجماعة البشرية في أطار هذا المحدود ، يسمي هذا بالطاغوت. قال سبحانه وتعالى : {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } [الزمر : 17 ، 18]. لاحظوا ذكر صفة اساسية مميزة لمن اجتنب عبادة الطاغوت.
ما هي الصفة الأساسية المميزة التي ذكرها القرآن لمن اجتنب عبادة الطاغوت ؟ قال { فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر : 17 ، 18] .
يعني لم يجعلوا هناك قيدا على ذهنهم ، لم يجعلوا اطارا محدودا لا يمكنهم ان يتجاوزوه ، جعلوا الحقيقة مدار همّهم جعلوا الحقيقة هدفهم ولهذا يستمعون القول فيتبعون أحسنه يعني هم في حالة طموح ، في حالة تطلع وموضوعية في حالة تسمح لهم بان يجدوا الحقيقة. بينما لو كانوا يعبدون الطاغوت ، حينئذ سوف يكونون في اطار هذا الواقع الذي يريده الطاغوت ، سوف لن يستطيعوا أن يستمعوا الى القول فيتبعون أحسنه ، وانما يتبعون فقط ما يراد لهم ان يتبعوه. هذا هو السبب الثاني لا تباع وتبني هذه المثل.
اذن خلاصة ما مرّ بنا حتى الآن : أن التاريخ يتحرك من خلال البناء الداخلي للانسان ، الذي يصنع للانسان غاياته هذه الغايات تبنى على أساس المثل الاعلى الذي تنبثق عنه تلك الغايات. لكل مجتمع مثل أعلى ولكل مثل أعلى مسار ومسيرة ، وهذا المثل الاعلى هو الذي يحدد في تلك المسيرة معالم الطريق وهذا المثل الاعلى على ثلاثة أقسام حتى الآن استعرضنا القسم الأول من المثل العليا وهو المثل الاعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع ويكون منتزعا عن الواقع الذي تعيشه الجماعة وهذا مثل أعلى تكراري ، وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الاعلى حركة تكرارية ، أخذ الحاضر لكي يكون هو المستقبل وقلنا بان تبني هذا النوع من المثل الاعلى يقود الى أحد سببين بحسب تصورات القرآن الكريم :
السبب الأول سبب نفسي وهو الألفة والعادة والضياع .
والسبب الآخر سبب خارجي وهو تسلط الفراعنة والطواغيت على مرّ التاريخ .