الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
شعراء الزهد
المؤلف: شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي
الجزء والصفحة: ص:370-373
5-7-2021
2938
شعراء الزهد
تتردد في القرآن الكريم دائما الدعوة الى الزهد في الحياة الدنيا ومتاعها الزائل، وهي دعوة تحمل في تضاعيفها الحث على التقوي والعمل الصالح، فالمسلم الحق من عاش للآخرة، ورفض عرض الدنيا، فلم يأخذ منه إلا بحظ محدود، حظ يقيم أوده، ويعده للكفاح في سبيل الله، ومن ثم كان زهد
370
الإسلام لا يعني الانقطاع تماما عن الدنيا كزهد الرهبانية، بل هو زهد معتدل، زهد فيه قوة ودعوة الى العمل والكسب، يقول جل وعز: {{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}} وهو نصيب ينبغي أن لا يصرف المسلم عن الآخرة ونعيمها الخالد.
وزاهد الأمة الأول محمد صلي الله عليه وسلم، ويروي أن رجلا جاءه فقال:
يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس (1)». وقد اندفع وراءه كثير من الصحابة يحيون حياة زاهدة متقشفة، وعلي رأسهم أهل الصفة، وهم نفر من فقراء المسلمين اتخذوا صفة (2) المسجد منزلا لهم، وعاشوا على صدقات الرسول والمثرين يعبدون الله حق عبادته مرتلين آي الذكر الحكيم. وكان وراءهم كثيرون أخلصوا أنفسهم لتقوي الله حق تقواه، وعلي رأسهم أبو بكر وعلي وعمر وعبد الله ابن عمر وأبو الدرداء وأبو ذر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وكان يقطع النهار صائما والليل قائما يصلي لربه. وفي ابن سعد وغيره صور كثيرة من هذه المجاهدات والرياضات للنفس (3).
وجاء عصر الفتوح وجاءت معه الغنائم الوفيرة، فاقتني العرب الضياع وشيدوا القصور، وهم في ذلك لا ينسون تعاليم الإسلام، بل إننا نجد بينهم في كل مصر كثيرين يعيشون للحياة التقية الصالحة، وسرعان ما تكونت في كل بلد أقاموا فيه جماعات القراء الأتقياء، بالإضافة الى من كان منهم يعيش في مكة والمدينة، وأخذ كثير منهم يعيش حياته للنسك والعبادة. وأكبر إقليم نلتقي فيه بهؤلاء النساك والقراء إقليم العراق، وربما كان لكثرة الحروب فيه أثر في ذلك، وكأن قوما انصرفوا عن الفتن، خشية على أنفسهم من التورط في الإثم، الى النسك والعبادة، كما انصرف الى ذلك كثيرون ممن لم يستطيعوا الانتصار على الأمويين، فتركوهم ودنياهم، ومضوا يتعبدون، وكان الخوارج في
371
جملتهم جماعة كبيرة من الأتقياء، ضلت في اجتهادها وما زعمته من كفر الأمويين وجمهور المسلمين، ولكنها لم تضل يوما في تقواها.
لذلك كله عمت في العراق موجة واسعة من التقوي والزهد في الدنيا ونعيمها المادي زهدا كثيرا ما تطرفوا فيه، إذ أخذت تدخل في ثنايا هذا الزهد تأثيرات مسيحية وغير مسيحية، بحكم ما دخل في الإسلام من الموالي والشعوب الأجنبية. على أن المصدر الأساسي لهذا الزهد كان الإسلام نفسه وما دعا إليه من رفض الدنيا والابتهال الى الله وانتظار ما عنده من النعيم الحق.
وسرعان ما وجدنا طائفة كبيرة من الوعاظ، تعيش حياتها تعظ الناس وتدعوهم الى أن يجعلوا العبادة والنسك قرة أعينهم، وهي لذلك ماتني تحدثهم -مستلهمة القرآن الكريم-عن قدرة الله في خلقه السموات والأرض، وعن الموت وما ينتظرهم من الحساب يوم القيامة. والحسن البصري أشهر هؤلاء الوعاظ وهو في وعظه دائما يذكر الموت، ويذكر النار حتي لكأنه يشاهدها بين عينيه، ويحض حضا قويا على الزهد في الدنيا وحطامها. وكان هو وغيره من الوعاظ لا يزالون يستشهدون في وعظهم بأشعار لبيد والنابغة الجعدي وغيرهما تلك التي تدعو الى خشية الله وتقواه، بل ربما استشهدوا بأبيات لبعض الجاهليين، وخاصة تلك التي تصور فناء الدول أو تدعو الى خلق فاضل.
وطبيعي أن تترك مواعظهم أثرا عميقا في نفوس الشعراء الذين كانوا يختلفون الى مجالسهم، وقد مر بنا في غير هذا الموضع مدي تأثير الإسلام ومثاليته الروحية في الشعراء، كما مرت بنا في مواضع مختلفة من هذا الكتاب أشعار زاهدة لنفر منهم. ولعل من الطريف أننا نجد بعض الرجاز مثل أبي النجم العجلي والعجاج يبدءون أراجيزهم بالحمد لله والثناء عليه، وكثيرا ما تتحول الأرجوزة عند ثانيهما الى موعظة خالصة. وتلقانا عند بعض الشعراء أدعية وابتهالات لله من مثل قول ذي الرمة يناجي ربه قبل موته (4):
يا رب قد أشرفت نفسي وقد علمت … علما يقينا لقد أحصيت آثاري
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت … وفارج الكرب زحزحني عن النار
372
وتريد الآن أن نقف عند نفر منهم تمثلوا في أشعارهم فكرة رفض الحياة داعين للتفرغ الى العبادات وإلي الأخلاق الرفيعة التي يدعو إليها الإسلام.
وأول من نقف عنده عروة بن أذينة فقيه المدينة الذي رويت له-كما أسلفنا-مقطوعات في الغزل العفيف، وله أبيات تصور مبدأ مهما شاع بين الزهاد في هذا العصر، وهو مبدأ التوكل على الله والثقة في أنه لا يترك أحدا بدون رزق يكفيه، وبلغ من مبالغة بعضهم في هذا المبدأ أن رأوا في السعي والكد نقصا في التوكل والثقة بربهم. ولا شك في أن هذا المبدأ يفضي الى طمأنينة نفسية قوية، كما يفضي الى طرح الدنيا طرحا تاما، وفي تقريره يقول عروة:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي … أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعي له فيعنيني تطلبه … ولو قعدت أتاني لا يعنيني
خيمي كريم ونفسي لا تحدثني … إن الإله بلا رزق يخليني
وممن اشتهروا بكثرة أشعارهم في الزهد عبد الله بن عبد الأعلي، ويظهر أنه كان يستمد في زهده من منابع بعيدة عن الإسلام، إذ نري من كتبوا عنه يتهمونه في دينه، ويقولون إنه كان سيئ العقيدة (5)، وهو في أشعاره يقف كثيرا عند فكرة الفناء من مثل قوله:
يا ويح هذي الأرض ما تصنع … أكل حي فوقها تصرع
تزرعهم حتي إذا ما أتوا … عادت لهم تحصد ما تزرع
من كان حين تصيب الشمس جبهته … أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقي بشاشته … فسوف يسكن يوما راغما جدثا (6)
وفي تضاعيف هذا الشعر الزاهد تلقانا دعوة الى مكارم الأخلاق يستضئ أصحابها بما جاء في الذكر الحكيم من مثالية خلقية نبيلة، وأكثر من لهجوا بهذه
373
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في هذا الحديث رقم 31 في الأربعين النووية والبيان والتبيين 3/ 166.
(2) الصفة: موضع مظلل من المسجد.
(3) انظر في ذلك كتابنا التطور والتجديد في الشعر الأموي ص 60 وما بعدها.
(4) ديوان ذي الرمة (طبعة كمبريدج) ص 667.
(5) لسان الميزان 3/ 305 والمبرد ص 294 وما بعدها وانظر أمالي القالي 2/ 323.
(6) الجدث: القبر.