x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

تطور الخطابة

المؤلف:  شوقي ضيف

المصدر:  تاريخ الادب العربي - العصر الاسلامي

الجزء والصفحة:  ص:106-114

8-6-2021

4476

 

تطور الخطابة

كان ظهور الإسلام إيذانا بتطور واسع في الخطابة، إذ اتخذها الرسول صلي الله عليه وسلم أداة للدعوة الى الدين الحنيف طوال مقامه بمكة قبل الهجرة حيث ظل ثلاثة عشر عاما يعرض على قومه من قريش وكل من يلقاه في الأسواق آيات القرآن الكريم، وهو في أثناء ذلك بخطب في الناس داعيا الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، محاولا بكل طاقته أن يوقظ ضميرهم بما يصور لهم من قوة الكائن الاعلى مدبر الكون ومنظمه، الذي لم يخلقهم عبثا، وإنما خلقهم ليعبدوه حق عبادته، وليستشعروا كل ما يمكن من الكمالات الروحية والاجتماعية والإنسانية، حتي تتم لهم السعادة في الدنيا والآخرة.

وهاجر الرسول صلوات الله عليه الى المدينة، فاتصلت خطابته، واتسعت جنباتها، بما أخذ يشرع للمسلمين ويرسم لهم من حدود دولتهم ونظم حياتهم التي ينبغي أن تقوم على الإخاء والمساواة والتعاون في سبيل الحق والخير، وهو في تضاعيف ذلك يأخذهم بآداب رفيعة من السلوك السامي، مبينا لهم معاني الإسلام الروحية التي تقوم على معرفة الله الواحد الأحد والصلة به، كما تقوم على معرفة العمل الصالح وأن وراء هذه الحياة حياة أخري يحاسب فيها الإنسان على ما قدمت يداه ولو كان مثقال ذرة. وما يزال يعرض أوامر الدين ونواهيه، واضعا الحلول لكثير من المشاكل الدنيوية، كمشكلة الرقيق ومشكلة توزيع الثروة ومشكلة العلاقات بين الرجل والمرأة، وغير ذلك من مشاكل حلت بما يحقق سعادة الجنس البشري وهناءته.

106

 

 

107

وعلي هذا النحو كانت خطابة الرسول عليه السلام متممة للذكر الحكيم، ومن ثم كانت فرضا مكتوبا في صلاة الجمع والأعياد ثم مواسم الحج، وتحتفظ كتب الحديث بما اتخذه فيها من سنن وتقاليد (1) ثبتت الى اليوم. وبينما كانت تسبق الخطابة الصلاة في الجمع كانت الصلاة تسبقها في الأعياد، وهي تتوزع على خطبتين يقف فيهما الخطيب على منبر أو نثز من الأرض، وقد اعتمد على قوس أو سيف أو عصا، ويقبل على الناس مسلما. وتبدأ الخطبة الاولى في الجمع بحمد الله تعالي وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله، ويؤثر عن الرسول أنه كان يقول في فاتحة هذه الخطبة: «الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» (2). وعادة يتلو الخطيب في الخطبة الاولى لصلاة الجمعة بعض آي القرآن الكريم، حتي يستلهمها في موعظته. وإذا انتهي منها جلس، ثم يقوم للخطبة الثانية، وفيها يكثر من الدعاء، ويقال إنه كان آخر دعاء أبي بكر في الخطبة الثانية:

«اللهم اجعل خير زماني آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم لقائك» وكان آخر دعاء عمر: «اللهم لا تدعني في غمرة، ولا تأخذني في غرة، ولا تجعلني مع الغافلين» (3). ولا تفتتح خطبتا العيدين بالحمد لله إنما تفتتح بالتكبير، فيكبر الخطيب في أولاهما سبع تكبيرات وفي ثانيتهما خمس تكبيرات.

وطبيعي أن تقضي هذه الخطابة على كل لون قديم من الخطابة الجاهلية لا يتفق وروح الإسلام، ولا نقصد سجع الكهان الذي كان يرتبط بدينهم الوثني فحسب، بل نقصد أيضا خطابة المنافرات، فقد نهي الإسلام عن التكاثر بالآباء والأنساب والأحساب، وإن ظلت لذلك بقية في حياة الرسول صلي الله عليه وسلم حين كانت تفد عليه وفود العرب، على نحو ما نعرف عن وفد تميم وقيام خطيبهم عطارد بن حاجب بن زرارة بين يديه مفاخرا بقومه،

 

108

وقد ندب له الرسول ثابت بن قيس بن الشماس، فرد عليه مستوحيا هدي الإسلام، ولم يلبثوا أن استجابوا لله ولرسوله (4).

ونمضي في عصر الخلفاء الراشدين، فتكثر بجانب خطب الجمع والأعياد المواقف التي تجلت فيها براعة هؤلاء؟ ؟ ؟ ، كموقف أبي بكر حين انتقل الرسول الى الرفيق الاعلى وموقفه يوم السقيفة، فقد درأ في الموقفين جميعا الشعث الذي كاد يودي بالجماعة، وكذلك موقفه حين ارتد كثير من العرب وامتنعوا عن أداء الزكاة. وكم من خطيب وقف حينذاك يحض قومه على الثورة أو يحثهم على الطاعة. ولا بد أن نلاحظ أن انتشار الإسلام في الجزيرة أعد منذ أول الأمر الى أن تتكاثر خطب الجمع والأعياد، إذ كانت كما قدمنا فرضا مكتوبا على المسلمين في كل مكان يحلونه من الجزيزة.

ثم تكون الفتوح، ويخطب أبو بكر في الجيوش الغازية يحض على الجهاد ونشر الدين الحنيف في أطباق الأرض. وترتفع أصوات القواد بالخطابة في كل قطر حاثين الجنود على الصبر في القتال حتي الاستشهاد طلبا لما عند الله من الثواب. ويخيل الى الإنسان كأنما ملك كل منهم من قلوب جنوده ببيانه وبلاغته مالا تملكه الدنيا بحذافيرها. ولا نغلو إذا قلنا إن بلدا من بلدان الفرس في العراق وإيران وبلدان الروم في الشام ومصر لم يفتح إلا بعد أن فتحته خطبة أحد هؤلاء القواد، كخطبة المغيرة بن شعبة في القادسية (5) وخالد بن الوليد في اليرموك (6)، وعتبة بن غزوان في فتح الأبلة، ونحن نكتفي بقطعة من خطبة عتبة إذ يقول (7):

«أما بعد فإن الدنيا قد تولت حذاء (8) مدبرة، وقد آذنت أهلها بصرم، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإناء يصطبها (9) صاحبها، ألا وإنكم منقولون منها الى دار لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضركم».

ويتولي عمر، فيكثر من الخطابة لا في الجمع والأعياد ومواسم الحج فحسب بل مع كل حادث، ومع كل خبر يأتيه بفتح. وقد سار على هدي أبي بكر

 

109

في استشارة أصحابه في كل مهم، وكل ما يجد من تشريع، وخاصة في معاملة الأمم المفتوحة. وكان هذا بدوره عاملا من عوامل نمو الخطابة في العصر.

إذ كان الحكم ديمقراطيا، وكان من حق كل شخص أن يخطب مصورا وجهة نظره. وفسح عمر لخطابة الوفود في مجالسه، تستميح لأقوامها وتذكر حاجتها، واشتهر الأحنف بن قيس سيد تميم وأحد قواد الفتوح بغير خطبة ألقاها بين يديه (10).

ولم تقف الخطابة الدينية في هذا العصر عند الجزيرة. فقد أخذت تحل مع المسمين في كل بلد فتحوها، وكان هذا بدون شك عاملا من عوامل نموها، إذ تكاثر من يرددونها ومن يحسنون حوكها وصياغتها مستلهمين القرآن الكريم وخطابة الرسول فيما يعظون الناس به من مواعظ حسنة، على نحو ما أثر عن عبد الله بن مسعود في إحدي مواعظه، وفيها يقول لأهل الكوفة (11):

«أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العري كلمة التقوي، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة محمد صلي الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وخير الأمور عزائمها، ما قل وكفي خير مما كثر وألهي. . . خير الغني غني النفس. الخمر جماع الآثام. . . أعظم الخطايا اللسان الكذوب.

سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية. . . مكتوب في ديوان المحسنين من عفا عفي عنه. السعيد من وعظ بغيره. . . أحسن الهدي هدي الأنبياء».

وفي هذين الاتجاهين الكبيرين من المواعظ والحض على الجهاد مضت الخطابة طوال عصر عمر والسنوات الاولى من خلافة عثمان، حتي إذا أشعل الثوار عليه في الكوفة ومصر نار الفتنة أخذت الخطابة فيها مكانها، إذ وقف أمثال الاشتر النخعي في الكوفة ومحمد بن أبي بكر في مصر يؤلبون الناس عليه. وتتوالي الحوادث، ويقتل عثمان، ويتولي على بن أبي طالب مقاليد الخلافة، وتجتمع السيدة عائشة وطلحة والزبير، ويقررون الخروج عليه. ويقصدون البصرة، ويستجيب أهلها لهم. فيضطر على الى أن يتبعهم، وينزل الكوفة، وتكون موقعة الجمل

 

110

المشهورة، وفيها ينتصر علي، وتتم له بيعة أهل العراق.

وقبيل هذه الموقعة وفي أثنائها تكثر الخطب بين أنصار على وخصومه، فهؤلاء يدعون الى طاعته وأولئك يدعون الى منابذته، وفي تاريخ الطبري من هذه الخطب كثرة وافرة، وممن يذكرهم بين من ثبطوا الناس عنه أبو موسي الأشعري (12)، أما من استنفروا الناس له فكثيرون، وعلي رأسهم الأشعث ابن قيس والأشتر النخعي وزيد بن صوحان وأخوه سيحان.

وانتدب على أهل العراق لقتال معاوية وأهل الشام، فخرجوا معه الى صفين على حدود الفرات حيث التقوا بمعاوية وجنوده، وفي هذه الأثناء تتكاثر الخطب كثرة مفرطة وخاصة في صفوف على وأصحابه، وكان هو نفسه خطيبا مفوها. وكان بجيشه غير خطيب من أمثال من ذكرناهم آنفا وأمثال عمار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة وعدي بن حاتم الطائي وعمرو بن الحمق وشبث بن ربعي. وقبل اندلاع الحرب كان يتبادل على ومعاوية الوفود، وكان يخطب غير واحد بين أيديهما، وعبثا تحاول الوفود لم الشعث، ويقضي الأمر، وتنشب الحرب ويخطب معاوية محرضا أصحابه. ومن رءوس خطبائه حينئذ عمرو بن العاص.

وتستعر المعركة وترجح كفة على وجيشه رجحانا واضحا، فيلجأ معاوية وأهل الشام الى الخديعة، إذ يرفعون المصاحف على أسنة رماحهم، مطالبين بالاحتكام الى كتاب الله على يد محكمين يستهدون بآيه. ويغمد القراء في جيش على سيوفهم، ويتبعهم الناس، ويمانعهم علي، فيهددونه بأن يصبح مصيره مصير عثمان، وينزل على إرادتهم، ويختار أبو موسي الأشعري عن أهل العراق وعمرو بن العاص عن أهل الشام. وفي أثناء رجوع على بجيوشه الى الكوفة، يتبين كثير من جنده أنهم قد خدعوا، ويتلومون عليا لأنه قبل التحكيم، ويعظم الخلاف والشجار بين أصحابه، ويخطب فيهم. ويتكاثر الخطباء بين محبذ للتحكيم ومنفر منه، ويخرج عليه فريق كبير من جيشه وينزلون معسكرا خاصا بهم في حر وراء بالقرب من الكوفة، فيسمون لذلك بالحرورية، أما الاسم الشامل الذي جمعهم فهو الخوارج.

 

111

ويحاول على وعبد الله بن العباس أن يرداهم الى سواء السبيل، فتقوم بينهما وبينهم مناظرات في مسألة التحكيم يكون عمادها الجدل المستمد من نصوص القرآن والحديث، وبذلك يعرف هذا العصر المناظرة الشفوية، بل إنها لتتفجر تفجرا. ونحن نورد طرفا من مناظرة ابن عباس لهم مما احتفظ به الطبري، وهو يجري على هذه الصورة (13):

«راجعهم ابن عباس، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: {{إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}} (14) فكيف بأمة محمد صلي الله عليه وسلم؟ . فقالت الخوارج: قلنا أما ما جعل حكمه الى الناس وأمر بالنظر فيه والإصلاح له فهو إليهم كما أمر به، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني بمائة جلدة وفي السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس: فإن الله عز وجل يقول: {{يحكم به ذوا عدل منكم»} (15). فقالوا له: أو تجعل الحكم في الصيد والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ ! . وقالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدل عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا فإن كان عدلا فلسنا بعدول ونحن أهل حربه، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضي الله عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا (16) وقبل ذلك ما دعوناهم الى كتاب الله عز وجل فأبوه. ثم كتبتم بينكم وبينه كتابا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة (17). وقد قطع عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية».

ولما لم يسمع الخوارج ولم يطيعوا اضطر على الى حربهم، وفتك بهم فتكا ذريعا في موقعة النهروان. وكانوا يظهرون استبسالا شديدا، يدفعهم الى ذلك

 

112

خطباؤهم من أمثال قائدهم عبد الله بن وهب الراسبي. وحرقوص بن زهير السعدي والمستورد بن علفة، ومن يرجع الى خطبهم يجدها تتقد حماسة وحمية من مثل قول ابن وهب في بعض خطبه (18):

«أما بعد فو الله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون الى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا-التي الرضا بها والركون إليها والإيثار إياها عناء وتبار (19) - آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق وإن من (20) وضر، فإنه من يمن ويضر في هذه الدنيا فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله عز وجل والخلود في جناته».

وينتهي التحكيم بمهزلة خلع علي، وتمتد يد آثمة من أيدي الخوارج إليه في الظلام، فتطعنه طعنة نجلاء، ويسلم الحسن ابنه الأمر راضيا الى معاوية، ويبايعه المسلمون كافة.

وأكبر الظن أنه قد اتضح من كل ما قدمنا كيف نمت الخطابة في هذا العصر نموا واسعا، بتأثير الإسلام من جهة وتكاثر الأحداث وتتابعها من جهة ثانية. وليس هذا كل ما يلاحظ فيها، فقد دارت حول معاني القرآن الكريم وخطابة الرسول وأحاديثه؛ وهي معان جديدة لم يكن للعربية بها عهد، معاني هذا الدين الحنيف الذي بعث لغتنا ونشرها بعثا جديدا، والذي مرنها وذللها لكي تؤدي الرسالة النبوية وكل ما تحمل من مواعظ وتعاليم. وقد أخذ كل خطيب يحمل قبسا من هذه التعاليم والمواعظ يستضئ به في كل ما يخاطب به الناس ابتغاء التأثير عليهم وبلوغ ما يريد من أداء الخطبة الدينية الخالصة في أيام الجمع والأعياد ومواسم الحج وأختها التي تدعو الى الجهاد والحض على قتال الأعداء. ولعله من أجل ذلك أصبح التحميد سنة في كل خطبة، حتي الخطبة السياسية، وكانوا يسمون كل خطبة تخلو منه بتراء، كما كانوا يسمون كل خطبة تخلو من اقتباس آي القرآن الكريم والصلاة على الرسول شوهاء (21).

 

113

وهناك أخبار كثيرة تدل على أن الخطباء كانوا يزورون كلامهم ويعدونه على أنفسهم إعدادا طويلا، ثم يلقونه على الناس، حتي لقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب (22). وكان الخطيب يستشهد أحيانا ببعض الأمثال، أو ببعض أبيات من الشعر تؤكد المعني الذي يريد أن يصبه في نفوس سامعيه صبا، على نحو ما نجد في خطبة لأبي بكر في الأنصار (23).

وإذا كنا قد لاحظنا في الجزء الأول من هذا التأريخ للأدب العربي غلبة السجع على خطباء الجاهلية فإننا نلاحظ في هذا العصر أنه كاد ينحسر تماما عن الخطابة، إلا بقايا ظلت في خطابة الوفود حين كانت تقدم على الخلفاء.

يقول الجاحظ: «كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فتكون في تلك الخطب أسجاع كثيرة» (24)، وبقية أخري استظهرها بعض المتنبئة في حروب الردة مثل مسيلمة الكذاب متنبئ اليمامة، ويقول الجاحظ إنه «عدا على القرآن فسلبه وأخذ بعضه وتعاطي أن يقارنه» (25). ومما يروي له-إن صح- قوله (26):

«سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذا طمع، ولا زال أمره في كل ما سر نفسه يجتمع، رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشة خلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار».

ونستطيع أن نقول إن السجع في خطابة هذا العصر كان شيئا عارضا، إذ كان الرسول صلي الله عليه وسلم لا يسجع في خطابته، وكان ينفر منه حين يلهج به أحد محدثيه (27)، كراهية للتشبه بالكهان في سجعهم، وسار على هديه الخلفاء الراشدون وغيرهم من جلة الصحابة، يدل على ذلك ما يروي من أن عمر بن الخطاب سأل صحارا العبدي حين قدم عليه من غزو مكران الفارسية عن شأنها وشأن العرب هناك، فأجابه: «أرض سهلها جبل، وماؤها وشل (28)

 

114

وثمرها دقل (29)، وعدوها بطل، وخيرها قليل وشرها طويل، والكثير بها قليل.

إن كثر الجند بها جاعوا، وإن قلوا بها ضاعوا». وقد أنكر عمر عليه هذا السجع فقال له: أسجاع أنت أم مخبر (30). وكان الخلفاء بعد عمر ينكرون السجع على محديثهم. وأمامنا خطب القوم، وهي تخلو خلوا تاما من السجع إلا ما جاء عفوا في الحين البعيد بعد الحين. ولكنهم إذا كانوا قد أهملوا السجع فإنهم لم يهملوا جزالة اللفظ ورصانته، بل لقد كان هم كل خطيب أن يحسن قوله وأن يصوغه صياغة رائعة.

وأخري تلاحظ على الخطابة في هذا العصر بالقياس الى الخطابة الجاهلية، فإن الخطابة الأخيرة لم تكن ذات موضوع محدد، ومن ثم كانت تأخذ شكل أقوال متناثرة لا رابط بينها، أما في هذا العصر فقد أصبح للخطابة موضوع واضح يجول فيه الخطيب ويصول، إذ يحدث الناس واعظا، أو يعرض عليهم حدثا محددا من أحداث الإسلام، بحيث نستطيع أن نقول إن الخطبة أصبحت ذات موضوع، تلم بأطرافه وتفاصيله. وبذلك كله نهضت الخطابة ونهض معها النثر نهضة واسعة، فقد أخذ الخطباء يوسعون طاقته بما يحملونه من معاني الإسلام وما يبسطون في هذه المعاني ويولدون ويفرعون. ونحن نقف قليلا عند خطابة الرسول وخطابة خلفائه الراشدين لتتضح صور التطور التي وسعت جنبات النثر وزادت في معانيه ومادته بأداة البيان الكاملة وأسباب البلاغة الوافرة.

 

 

_________

(1) انظر في صلاة الجمع والعيدين كتب الحديث مثل صحيح البخاري ومسلم.

(2) عيون الأخبار 2/ 231.

(3) انظر العقد الفريد 3/ 222.

(4) تاريخ الطبري 2/ 378.

(5) الطبري 3/ 37.

(6) الطبري 2/ 592.

(7) البيان والتبيين 2/ 57.

(8) حذاء: سريعة الإدبار.

(9) يصطبها: يشربها. والصبابة. بقية الماء.

(10) انظر البيان والتبيين 2/ 144.

(11) البيان والتبيين 2/ 56.

(12) الطبري 3/ 501.

(13) الطبري 4/ 47.

(14) الآية في الصلح بين الزوجين وتمامها: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما).

(15) الآية في حكم قاتل الصيد وهو محرم، وتمامها: «يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم).

(16) يشير الخوارج الى قوله تعالي: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء الى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل).

(17) الاستفاضة: الموادعة.

(17) الطبري 4/ 54.

(18) تبار: هلاك.

(19) من: قطع وهجر.

(21) البيان والتبيين 2/ 6.

(22) الطبري 2/ 456 وقارن بكلمة لعثمان ابن عفان في البيان والتبيين 1/ 345 وعيون الأخبار 2/ 235.

(23) زهر الآداب 1/ 32

(24) البيان والتبيين 1/ 290.

(25) الحيوان 4/ 89.

(26) الطبري 2/ 498.

(27) صحيح مسلم (طبع الآستانة) 5/ 111 وموطا مالك (طبع حجر بالقاهرة) 2/ 192.

(28) وشل: قليل.

(29) دقل: ردئ. والبيان والتبيين 1/ 285.

(30) انظر في هذا الخبر الطبري 3/ 257

 

 شعار المرجع الالكتروني للمعلوماتية




البريد الألكتروني :
info@almerja.com
الدعم الفني :
9647733339172+