نهاية الحكم المصري في مكة
المؤلف:
احمد السباعي
المصدر:
تاريخ مكة دراسات في السياسة والعلم والاجتماع
الجزء والصفحة:
ج2، ص 590 - 594
2-12-2020
2192
النواحي العامة في مكة في عهد محمد علي باشا
الناحية السياسية:
لسنا في حاجة الى ان نعيد ما ذكرناه في فصلنا السابق من ان محمدا عليا ما كاد يرتفع صوته في غمار الفتن بين قواد الاتراك في مصر حتى اختار بعض القواد والاعيان من الاهالي لينادوا بولايته على مصر وليكتبوا الى دار السلطنة العثمانية بذلك فيوافيهم التأييد.
كذلك لسنا في صدد حملة محمد علي باشا على الحجاز لمحاربة السعوديين فيها بعد ان ذكرنا في الفصل السابق ان العثمانيين عندما شعروا بقوته في مصر وهالتهم انتصارات السعوديين في مكة أرادت ان تدفع القوتين الى الحرب لتستفيد من نتائجها وتوفر على جيوشها عناء المشقة.
كذلك لا نريد ان نقول ان محمدا عليا ما كان ينتصر في حملته على السعوديين بعد الذي كابده من اهوال وفتن حتى ظفر من العثمانيين بحق الاشراف على حكومة مكة ومنح ابراهيم بن محمد علي باشا لقب امارة مكه الفخري.
ولكن الذي نريد ان نقوله ان مكة ظلت على اثر الفتح المصري محكومة حكما ثنائيا قوامه هيمنة مصر تحت التبعية العثمانية على امارة مكة ابتداء من العام ١٢٢٨ بعد ان تولى امارتها بتعيين من مصر اصحاب حكمها السابقون من الاشراف وتولى امر الدفاع فيها حامية من مصر بقيادة رئيس لها منحوه رتبة المحافظ في مكة الى جانب قيادة الدفاع.
ولقد ظل هذا الحكم الثنائي ساري المفعول في مكة نحو عشرين سنة بدأت باستقرار جيوش محمد علي في مكة بعد انسحاب السعوديين عام ١٢٢٨ وانتهت بتنازل السلطان له عن مصر وسوريا والحجاز في عام ١٢٤٨ بموجب معاهدة «كوتاهية» (١) وبذلك ألحقت مكة بمصر نهائيا وظلت تابعة لها الى سنة ١٢٥٦ أي نحو سبع سنوات ثم اعيدت الى العثمانيين مرة اخرى.
ولتبعية مكة لمصر اسباب استطيع تلخيصها فيما يأتي :
عندما تم فتح الحجاز تاقت نفس محمد علي الى فتح سوريا وطرد المشاغبين لعثمانيا منها وطمع في توسيع رقعة ملكه بما يفتح ففاوض العثمانيين في ذلك فأبوا عليه فسكت ، ثم ما لبث ان اختلف مع والي عكا فاغتنم الفرصة وجرد حملته على سوريا في جيش عظيم فافتتح يافا وعكا ثم فتح دمشق فغضب السلطان محمود في تركيا مما حدث واصدر امره بعزل محمد علي باشا من مصر وندب جيشا لقتاله واخراج جيوشه من سوريا فلم تنجح جيوش الخليفة في مهمتها واستطاع محمد علي باشا ان يهزمها ويزحف خلفها في شمال سوريا حتى استولى على أطنة وطرطوس وهدد الاستانة.
عندئذ شعرت الحكومات في اوروبا ان الامر بات في خطر ولعلها ادركت ان نجاح محمد علي في امتلاك تركيا بعد الذي امتلكه في اسيا وافريقيا يعد تكتلا يضر مصالحها لهذا اعانت على ايقافه عند حدود تركيا وتوسطت في اصلاح الامر بينه وبين عثمانيا ، فكانت معاهدة «كوتاهية» المشهورة في عام ١٢٤٨ ه ١٨٣٣ م وبموجبها تنازل السلطان محمود عن مصر والحجاز وكريت لمحمد علي باشا وعن سوريا وأطنة لابنه ابراهيم باشا وبذلك انقسمت البلاد الاسلامية الى قيادتين او ثلاث فامن الاوروبيون تكتلها كما ربحوا الجميل لدى الخليفة برد العادية عن حدود بلاده.
وظل الامر على هذا نحو سبع سنوات استقل فيها محمد علي بامر مصر والحجاز وكريت ثم ما لبثت بعض الدول في اوروبا ان ادركت ان وجود عثمانيا «العجوز» في سوريا اضمن لمصالحها من ضمها الى حكومة فتية في عنفوان شبابها فاستأنفت حملتها مع السلطان عبد المجيد الذي خلف أباه محمودا وعقدت معه حلفا رباعيا ضم عثمانيا وانكلترا وروسيا وبروسيا فكانت معاهدة لندن في ١٥ يوليو سنة ١٨٤١ م وبمقتضاها جرد محمد علي من حكمه في غير مصر ومنح الحكم له ولذريته في مصر وحدها كما منح ابنه ابراهيم باشا حكم سوريا مدة حياته فقط.
وابلغت الدولة العثمانية محمدا عليا ذلك رسميا فأبى القبول فجرد العثمانيون جيشا لقتاله وساعدهم الانكليز والروس ففتحوا سواحل سوريا ثم انتهوا الى الاسكندرية فجرى الصلح بينه وبينهم وقد اكتفى الاخير في هذا الصلح بحكم مصر وحدها له ولذريته وذلك في سنة ١٢٥٦ ه ـ ١٨٤١ م.
ونصت معاهدة الصلح فيما نصت على الا يتجاوز الجيش المصري ١٨ ألفا وان تضرب النقود بمصر باسم السلطان العثماني (2).
وبذلك عادت مكة الى حظيرة الحكم العثماني ورأينا ان محمدا عليا باشا يرسل أمير مكة محمد بن عون المقيم عنده في مصر كما اسلفنا ليتولى تنظيم ترحيل الجيوش المصرية من الحجاز ويتسلم مقاليد حكمه فيها تابعا للعثمانيين ومع هذا بقيت بعض المناطق في شمال الحجاز من الوجه الى العقبة تابعة لحكم مصر انتظارا للبت في امرها وقد ظلت كذلك الى ان احتل الانكليز مصر في عام ١٨٨٢ عندئذ اسرع والي مكة بسلخ قضاء الوجه من الادارة المصرية وفرض سلطانه عليها.
وأراد العثمانيون تحصين بعض القلاع القائمة الى الغرب من العقبة فاعترض الانكليز على ذلك ولما اصر العثمانيون انذرهم الانكليز بالحرب فكانت مأساة لها اثرها القوي في اعراض العثمانيين عن الانكليز وتقربهم الى الالمان كما كانت لها نتائجها في التهام الانكليز تلك المنطقة الاستراتيجية التي ظلت تهيمن عليها مدة طويلة.
الحالة العلمية :
لعله لم يطرأ على الناحية العلمية في مكة ما يستحق الذكر في عهد محمد علي باشا لقصر المدة التي قضاها حكمه فيها.
والواقع انه قضى نحو ثماني سنوات في مكة محاربا ثم أشرف على حكم الحجاز تحت تبعية العثمانيين نحو عشرين سنة ولما استقل بالامر فيها لم يطل امد ذلك الى اكثر من سبع سنوات وهي مدة في رأينا لم تكن كافية لان يتأثر بها الحجاز في ناحيته العلمية تأثرا ذا بال.
اضف الى هذا ان محمدا عليا باشا كان عهده في مصر فجرا جديدا لم تشرق شمسه بعد وان شمسه عندما اشرقت كان الحجاز قد اعيد الى حظيرة العثمانيين ، لهذا نستطيع القول بان الناحية العلمية في هذا العهد ظلت على حالها في العهد العثماني الاول.
الحالة العمرانية :
اقتضت الرتيبات الادارية التي اجراها محمد علي باشا في الحجاز تأسيس بعض المرافق العامة فيها فاسس التكية المصرية في عام ١٢٣٨ لاطعام الفقراء من اهل الحرم والمجاورين وهي حسنة لها اسلوبها الخاص كما كنا نتمنى لو انفقت في غير هذا السبيل الذي يغري بالكسل ويشجع فقراء الآفاق الذين لا تستفيد منهم البلاد على ارتيادها طمعا في العيش في ظل التكية.
وبنى محمد علي باشا الدار التي كانت تعرف ببيت باناجه امام باب علي وجعلها مقرا لمحافظة مكة كما بنى لآل عون دارا للامارة في الغزة (3).
الحالة الاجتماعية :
ومن الغريب ان الاهالي في مكة والمدينة وجدة نأثروا بكثير من عوائد المصريين ونقلت الى لغتهم بعض الالفاظ التي لا تزال باقية الى اليوم بعض آثارها وان كانت في غير وضوح.
ولعل اثرها في سكان الوجه وبلاد الشمال من الحجاز اوضح منها في غيرها.
والذي الاحظه ان كثيرا من تقاليد الطبقات البلدية القديمة في مصر كان يقابلها الى عهد غير بعيد تقاليد مماثلة في طبقة ما يسمونه في مكة والمدينة وجدة «أولاد الحارة» وان كثيرا من ألاعيب الأطفال في هذه المدن تتشابه مع مثيلاتها في مصر ولكني لا استطيع الحكم حكما صحيحا فيما اذا كانت هذه المدن تأثرت في ذلك بمصر في هذا العهد ام ان تلك العادات تحدرت الى البلدين من ظروف متشابهة قديمة ممعنة في القدم ، مثال ذلك المداحي ونسميها «البارجو» وهي لعبة تشترك فيها مصر والحجاز اليوم وقد مر بنا ان الجاهليين كانوا يلعبونها في القرارة بمكة وانها لذلك سميت قرارة المداحي ولا ندري ما اذا كان قدامى المصريين يلعبونها قبل الحجاز ام لا.
__________________
(١) مدينة في الاناضول ، فيها تمت معاهدة تنازل السلطان العثماني لمحمد علي عن مصر وسورية والحجاز.
(2) كتاب ابراهيم باشا تأليف بيركربتيس ترجمة محمد بدران ص ٢٧٨ وما قبلها
(3) دخلت التكية وبيت باناجه في توسعة المسجد الحرام كما دخلت دار الامارة في توسعة شارع الملك سعود.
الاكثر قراءة في مكة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة