ثقبة يعود الى المناوأة :
وأهل عام ٧٥٢ فأهلت معه منازعات ثقبة فقد ترك اليمن فيما يبدو وعاد الى الحجاز يناجز اخاه عجلان ويناجزه لأننا نرى فيما ينقل الغازي عن ابن فهد في حوادث سنة ٧٥٢ أن ثقبة اتخذ مقامه في وادي فاطمة وأنه أحاط بقوته بعض المراكب القادمة من اليمن واستحصل واخوانه من اصحابها ضرائب جمركية عنيفة وأمرهم أن يبيعوا بضائعهم في وادي فاطمة ثم قال : وجاء أمر سلطان المماليك بمصر الى الفريقين المتنازعين بالسفر الى مصر فامتنع ثقبة وأراد عجلان أن يسافر ثم عدل فاعتذر بعدم استطاعته ترك البلاد وفيها ثقبة واخوانه.
ثم لا نلبث ان نجد ثقبة في رمضان في مصر ليتسلم مرسوما جديدا بالأمارة ويتلقى عروضا واعانات من رؤوساء المماليك ثم يفصل عائدا الى مكة فيناجز عجلان من جديد ثم يتريث حتى يقبل الركب المصري فيطلب منه العون عن فتح مكة فيمتنع ويغضب ثقبة لامتناعه ويهدده بمنع الركب من دخول مكة فتتفاقم المشاكل ويزداد الاضطراب ثم يعود الحال الى الصفاء. لأن امير الحج وفي صحبته قاضي مصر عز الدين بن جماعة يتوسطان في اصلاح الامر بين الاخوين وتوفيقهما على ان يحكما مكة بالاشتراك.
وقد ظل الحال على هذا مدة قصيرة ثم عاد الخلاف بين عجلان وثقبة فأجلى ثقبة عجلان ثم عاد عجلان فأجلى ثقبة (١).
ويبدو أن المماليك شعروا أن ثقبة يتجنى على أخيه وأنه لا بد من عمل حاسم مهما كلفهم ذلك فأسروا الى أمير الحج في عام ٧٥٤ أن يقبض على ثقبة بعد أن زودوه بقوة كافية من الجند فلما انتهى الركب إلى مكة علم أن ثقبة في وادي فاطمة فكتب أمير الحج يطلبه أن يوافيه الى الزاهر (٢) ليصلح بينه وبين أخيه فوافاه في نفر من أخصائه فاستقبله استقبالا طيبا وخلع عليه ثم فاجأه فقبض عليه ومن معه من النفر وكبله بالحديد وسافر من توه بهم إلى مصر حيث سجنوا في الجب.
وفي هذا يقول الغازي الذي ننقل عنه هذا الخبر بعد أن نقله من ابن فهد أنه لم يتفق مثل هذا فيما سبق ويقول أنه لم يتفق له ذلك الا لأن سكان البلاد من الاشراف والأهالي ضاقوا بمناوءات ثقبة وبشغبه الذي امتد لسنوات دون أن يظفر بطائل.
وأن غلاء الأسعار واضطراباها طول تلك المدة جعل الناس يترقبون للأمر نتيجة حاسمة ويؤيد ذلك ما يذكره الغازي عن ابن فهد نفسه في تتمة الحديث وهو يقول : وقد سر الناس ذلك. الى ان يقول وعاد جلب الغلال ورخصت الأسعار حتى بيع أردب القمح بعشرين درهما.
وظل ثقبة في سجنه بمصر ثم ما لبث أن اطلق ففر من مصر وعاد الى مناوأة أخيه فاقتتلا مرة ثم اصطلحا ثم عادا الى الاختلاف (٣).
وفي عام ٧٦٠ أرسل صاحب مصر يستدعي عجلان وثقبة اليه فرفضا ذلك فأصدر مرسومه بعزلهما وتولية أخيهما سند بن رميثة بالاشتراك مع ابن عمه محمد بن عطيفة.
عجلان وثقبة في السجن :
وكان محمد بن عطيفة يقيم في مصر فتوجه الى مكة في فرقة عسكرية من المماليك فيهم أربعة من الأمراء واستطاع محمد بن عطيفة أن يتولى الحكم ثم ما لبث أن وصل سند فشاركه فيه (4).
وهدأت الأمور في مكة على أثر ذلك وألغيت المكوس التي كان يتقاضاها عجلان وثقبة فرخصت الأسعار ونادى قائد العسكر في مكة بمنع حمل السلاح فعم الأمن في البلاد.
وهكذا ثبت أن عجلان وثقبة ومن والاهما من الأشراف يسيئون الى ادارة البلاد بتصرفاتهم القاسية وخلافاتهم وأن تأمين البلاد ورخاءها ـ مع كل أسف ـ رهين بإدارة عسكرية حازمة تقضي على بواعث الخلاف من اصولها.
واستطاع قائد العسكر أن يقبض على عجلان وثقبة ويصحبهما معه الى مصر ليعتقلا فيها.
ويبدو ان اعمال الخلاف السالفة بين عجلان وثقبة وما ترتب على ذلك من اضطرابات وفتن هيأ للمماليك الاتراك فرصة جديدة للتدخل في شؤون البلاد تدخلا عمليا لأن الفرقة العسكرية التي صحبت مجيء محمد بن عطيفة والتي استطاعت أن تقضي على أسباب الفتن ما لبثت أن أقامت في البلاد بحجة الاشراف على شؤون الامن فيها.
ويحدثنا الفاسي (5) ان هذه الفرقة عندما اعتزمت الرحيل الى مصر في عام ٧٦١ كان قد وصل الى مكة غيرها من عسكر الاتراك ليحلوا محل الفرقة القديمة.
واحلال فرقة جديدة في مكان فرقة قديمة تعطي دليلا على أن البلاد باتت من عام ٧٦٠ محتلة احتلالا عسكريا وانها أصبحت تابعة للمماليك تبعية مباشرة.
إلا أن أمر ذلك لم يدم طويلا لأن الأشراف ما لبثوا أن اشتبكوا معهم في عام ٧٦١ في غارة عظيمة انتهت باقصاء الفرقة وانهاء الاحتلال.
وذلك ان عسكريا من الترك سكن بيتا عند باب الصفا فطالبه بالأجرة صاحبه من الأشراف فرفض دفعها ولا بد أنه أبدى شيئا من العنجهية التي يبديها المحتلون في العادة فثار النزاع واشتد فضرب التركي الشريف فاشتد غضب الشريف فقتله فاجتمع الاتراك للثأر واجتمع الأشراف للدفاع فكانت الواقعة.
ووجد الأشراف خيلا للأتراك عند باب الصفا تنتظر أصحابها للسعي عليها فامتطوها ومضوا بها الى مستودع للترك بأجياد فاستولوا على ما فيه من سلاح وخيل ومضوا يحاصرون الاتراك حتى حصروهم وأوقعوا فيهم القتل فالتجؤوا بالمسجد الحرام وأغلقوا عليهم ابوابه، واستجار قائدهم ببعض نساء الاشراف.
ولحق بعض الاشراف بالمحصورين في المسجد ولم يقتحموه عليهم بل ظلوا يرمونهم بالنشاب ويطالبونهم بالتسليم حتى سلموا أنفسهم وقبلوا أن يغادروا مكة دون ان يتخلف منهم احد وان لا يصطحبوا من عتادهم شيئا وان يكتفوا بما خف حمله من اموالهم ، وقتل في هذه الموقعة جماعة من الأشراف كان منهم الشريف مغامس بن رميثة (6)
وبهذه الموقعة انتهى امد الاحتلال وعاد الأشراف اخوان عجلان الى حكمهم بعد أن نقلوا أسراهم من مماليك الاتراك الى ينبع واعلنوا بيعهم في الاسواق ولما بلغ الامر الملك الناصر الصالح في مصر أمر بتشديد السجن على عجلان في مصر وأن ينقل الى برج في الاسكندرية كما أمر بتجهيز حملة قوية لاستئصال الأشراف الا أن أمر الحملة لم يتم لأن المماليك كانوا قد ثاروا على مليكهم بعد ذلك بأيام فاعتقلوه في سجن القلعة وولوا مكانه المنصور محمد أبو المعالي ابن المظفر (7)
ورأى ابن المظفر أن يعالج أمر الاشراف في مكة بغير ما اختاره سلفه فأمر بأطلاق عجلان بن رميثة من البرج في الاسكندرية واتفق معه على ترحيله الى مكة مزودا بما يلزمه من عتاد وجيش ليستخلصها لنفسه من أخيه سند وابن عمه محمد وأن يحكمها بنفسه مستقلا بأمره لقاء الدعاء لهم فوق المنبر.
وقد رضي عجلان بعرضهم وارتحل من توه الى مكة فاستولى عليها وذلك في سنة ٧٦٢ بالاشتراك مع أخيه ثقبة الا أن أخاه ثقبة ما لبث أن توفي فاستقل عجلان بالحكم (8).
فرض المكوس:
ولم يكن عجلان بالأمير الجافي ولم تكن أحكامه من الشدة والقسوة في المكان الذي عرف به اخوانه ولكنه كان لا بد له من استعمال العنف مع مناوئيه في الحكم من اخوانه وبني عمه عطيفة كما أنه لا يستطيع فيما يظهر أن يستغني عن الغاء المكوس لأنها مورده الوحيد لهذا ما لبث أن اعاد المكوس الى ما كانت عليه بعد أن خفف بعضها وما لبث أن عاد الى عنفه مع مناوئيه.
ويورد الفاسي (9) بيان المكوس التي كانت مقررة في ذلك العهد على اساس النقد المسعودي في اليمن مما يدل على أن مكة كانت تتعامل به ذلك الحين وقد جاء فيه ان المقرر على حمل الجمل من الحنطة (10) هو مدان بكيل مكة وهي نظرية اقتصادية تعمل بها أكثر حكومات اليوم لتحد من واردات الخارج وتشجع الانتاج الداخلي.
يمضي الفاسي في بيان التعرفة الجمركية فيذكر أن المقرر على الحمل البصل هو ثلاثة دنانير مسعودية وهو مقرر فادح اذا قارنا ذلك برخص الأسعار في العالم في ذلك العهد ثم يذكر المقرر على السمن والعسل والخضروات وهو ما يوازي ٢٠% من أثمانها أما التمر فمقرره على السلة (11) الواحدة دينار مسعودي ولم يذكر لنا الفاسي ثمن السلة لذلك العهد لنستطيع تحقيق نسبة ما يؤخذ منها.
ثم يعلق الفاسي على هذا فيقول أن الناس كانوا يقاسون شدة من ذلك وقد بلغه أن بعضهم استورد شاة فلم تساو المقدار المقرر عليها ومنه نعلم أن هذه المقررات كانت فادحة بنسبة أثمانها في زمانها واذا استطعنا أن نعذر أصحاب الأمر يومها في فرض المكوس لتغطية النفقات الضرورية فاننا لا نستطيع أن نعذرهم في تقرير النسب المرهقة والذي أظنه أن نظرتهم الى المكوس كانت أوسع من أن تختصر على تغطية نفقات الدولة وأن لهم مطالب خاصة بهم لا تسعها الا المقررات الباهظة والواردات الضخمة.
على ان هذه الشكاوى من فداحة الضرائب لم تقف عند حد التذمر المحلي فقط فيما يظهر اذ لا بد أنها تعدت الى اوسع من ذلك حتى اتصلت بحاكم مصر شعبان بن حسين بن الناصر قلاوون المتولي عام ٧٦٤ فأراد أن يفعل شيئا مفيدا لسياسة بلاده فقرر أن يكلف خزانة مصر بعض الهبات لحكومة مكة فيربح ثواب ذلك عند الله والتاريخ ويوثق الصلة بينه وبينها وقد أمضى ذلك فعلا لأننا نجد الفاسي (12) يذكر في حوادث سنة ٧٦٦ أن سلطان مصر رسم لحكومة مكة ثمانية وستين ألف درهم من بيت المال وألف أردب قمح سنويا مقابل الغاء المكوس على الحاج في كل ما يحمل اليها من المتاجر عدا ما يصطحبه تجار الهند والعراق من البضائع وقد قبل عجلان صاحب مكة ذلك وطابت نفسه به.
ويلاحظ القارىء انهم لم يدرجوا حاج الهند والعراق في المعفين من الرسوم ولعله يدرك أن السبب في هذا كون العراق هو القطر المنافس بالنسبة لنفوذ المصريين في مكة ومن المظنون أنه كان ينافس بتجارته تجارة الاقطار الاخرى والمصريين منهم خاصة ولا استبعد أن الحكومة العراقية كانت تكلف خزينتها كثيرا في سبيل عرض السلع الخاصة بها في مكة بأقل من أثمانها كما كانت تفعل اليابان في عز مجدها من سنوات سلفت كما لا أستبعد أن الهنود كانوا يستعملون لترويج بضائع العراق بجانب بضائعهم.
وقد ظل الغاء المكوس بالنحو الذي أسلفنا جاريا في مكة يعمل به جميع الأمراء الى مدة طويلة.
وعلى الرغم مما كانت تحاوله مصر لتثبيت علاقاتها بمكة وما كانت تنفقه في سيل استمرار الدعوة لها على منبرها فان سياسة عجلان معها كانت أشبه ما تكون بسياسة اللاعبين على الحبال فقد كان يقبل هباتها ويدعو باسمها على المنبر ولكنه يخالف مقترحاتها في بعض ما يعن له وكأنه أراد ألا تثبت عليه تبعية.
كما كان يستثير عنادها احيانا فيدعو لغيرها معها وفي هذا يحدثنا الفاسي (13) في حوادث سنة ٧٧٢ أن عجلان أمر خطيب مكة ابا الفضل النويري أن يدعو للسلطان اويس بن حسن صاحب بغداد في منبر مكة. قال: وقد أهدى السلطان قناديل جميلة للكعبة وهدايا فخمة لأمير مكة عجلان وقد ظل الدعاء لصاحب بغداد مدة لا يدري الفاسي مقدارها.
وعلى العموم فقد كان عجلان من أمراء مكة القلائل الذين استطاعوا أن يثبتوا شخصيتهم في الحكم وأن ينهجوا في سياستهم نهجا خاصا له أثره الطيب في علاقته بمصر وغيرها.
وينقل لنا ابن خلدون في تاريخه ديوان العبر ان عجلان كان معروفا بالعدل بين الرعية متجافيا عن الظلم وأنه أبطل ما كان عليه قومه من التعرض للتجارة والمجاورين.
ويذكر ابن فهد (14) أن عجلان عندما تزوج أم السعد بنت القاضي شهاب الدين أمهرها سبعين ألف درهم ثم ما لبث أن طلبت اليه طلاقها لأنه يتوسع في بعض أموالها فطلقها.
وشب لعجلان ولد اسمه أحمد وقد أنس منه الطموح الذي شعر به في فتوته يوم استعجل الحكم في حياة ابيه فأراد أن يعالج طموحه دبلوماسيا فأشركه في الحكم وجعل له ربع المتحصل يصرفه في خاصة نفسه ولعله أراد بذلك أن يتركه يستعين بذلك المال في تهيئة الأبهة التي تشبع غريزته في الطموح ، فركن الولد الى هذا عدة سنوات كانت نهايتها عام ٧٧٤ ثم ما لبث أحمد أن انفرد بالحكم دون أبيه بعد أن اتفق مع أبيه على شروط منها : ألا يقطع اسمه من الخطبة والدعاء له على زمزم وغير ذلك وقد حلف لأبيه على المصحف العثماني (15) ووفى بما حلف وظل على ذلك الى أن توفي عجلان في عام ٧٧٧ فاستقل أحمد بالامر (16). ونحن نميل الى الرواية السابقة عن ابن ظهيرة.
________________
(١ و٣) افادة الانام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»
(٢) هو وادى فح ويقع فى ضاحية مكة
(4) خلاصة الكلام للسيد أحمد زيني دحلان ٣٣
(5) شفاء الغرام ٢ / ٢٤٨
(6) المصدر نفسه
(7 و8) خلاصة الكلام للسيد احمد زيني دحلان ٣٣
(9) شفاء الغرام ٢ / ٢٤٩
(10) الحمل بكسر الحاء هو وسق بعير ويقدر في الحنطة وامثالها بأردب أي ستين كيلة من كيل مكة اليوم
(11) السلة : بالفتح : كمية من تمر العجوة تزن ـ غالبا ـ قنطارا ونصف القنطار موعنة فى ماعون من سعف النخل أو نحوه ، فهى فى الحجاز كالقلة عند أهل هجر.
(12) شفاء الغرام ٢ ك ٢٤٩
(13) شفاء الغرام ٢ ك ٢٤٩
(14) اتحاف الورى لنجم الدين ابن فهد القرشى «مخطوط»
(15) هو المصحف الذى كتب فى عهد عثمان بن عفان ومنه يستدل على وجوده فى مكة لذلك العهد.
(16) افادة الانام للشيخ عبد الله غازى «مخطوط»
الاكثر قراءة في مكة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة