الثورة والتمرد
المؤلف:
محمد الصالح السليمان
المصدر:
الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث
الجزء والصفحة:
ص83-85
23-03-2015
2073
يظهر الدافع إلى الثورة في قصيدة العقّاد ((ترجمة شيطان)) فقد أراد الشاعر أن يحقّق التغيير المنشود لكنّ العقّاد لم يسفر عن تجربته بوضوح، فقد لجأ إلى الرمز متّخذاً من صورة الشيطان-بما عرف عنه من روح الثورة والتمرّد-يكشف بها عن كنه الروح الثائرة في أعماقه، ولكن على أيّ شيء تثور روح العقّاد؟ وما الذي دفعها إلى الثورة؟
إنّها تثور على القيم الإنسانيّة التي عصفت برونقها رياح الحرب العالمية الأولى وجعلت بنيانها هشّاً في نفسه الشاعريّة، فكانت الحرب العالمية سبباً خفيّاً أولاً في تجربته ثم شخصيّة العقّاد وطابعها، ((فثمة مصدران هامّان وفاعلان يميّزان هذه الشخصيّة أوّلهما: التمرّد: وهو الانتصاف إلى الكيان الفردي، وكان ملمحاً من ملامح العقّاد في مواقفه ونظراته وأسلوب حياته، وهو يعتقد أنّه إذا لم يفعل ذلك، أي لم يتمرّد، فلن يكون نفسه بمعنى أنّه سيفقد ملامح وجهه وسيفقد إنسانيّته أو تقدّمه.... والثاني: الذاتية العارمة التي قد تصل به أحياناً إلى أن يجعل الأنا محكّاً للكون)) (1).
إذاً فالعقّاد سئم الحياة وواقع الإنسان فأراد له التغيير ولكنّه لم يستطع أن يواجه الواقع مباشرة فاتخذ من الشيطان وسيلة للتعبير عن آرائه، فيقول:
سَخرَ الشَّيطانُ مِن قِسمته ... ومن الأرضِ وما فَوقَ السَّماءْ
ومَضى يَهجِسُ في مِحنتِهِ ... ((ألِهذا تُستذَلُّ الكِبريَاءْ)) (2)
كما يظهر النزق الثوري الذي يطبع نفسيّة العقّاد حين يجعل الشيطان يأنف من إغواء البشر لأنّه في عصر ما عاد يميّز فيه الخير من الشرّ فيقول:
أنِفَ الشَّيطانُ من فِتنتِهِ ... أُمَماً يأنَفُ من إهلاكِها
ورَأى الفَاجرَ من زُمرَتِهِ ... كعفيفِ الذّيل من نُسّاكِها(3)
ولا يبارح هذا النزق روح الشيطان الذي أنزلته الرحمة الإلهيّة مكاناً عند مصبّ السلسبيل في جنّة النعيم، لأنَ النزق طبع وجبلّة فيه، وفي اعتراض على قدر الله وفي سخرية يقف الشيطان متحدّياً ربّه، فيقول:
هكذَا مُلكُكَ يَا ربَّ القَضاءْ ... دَوْلَةً تَحمي على الطَّرفِ النَّظرْ
حَظٌ مَن يَدنُو من السّترِ الشّقاءْ ... وسَعيدٌ مَن لَها عَمّا استَتَرْ
فَاغْنِ بالرَّاضِينَ عن أقدارِهَا ... إنّهم نِعمَ عِتادُ المَالِكينْ
واجعلِ الفِردَوسَ من أقطَارِهَا ... حينَ يَرضُونَ ومَا هُم ساخِطينْ(4)
وتقود روح الثورة الشيطان إلى رفض الخلود والجنّة، ويؤثر عليهما أن يكون حجراً صلداً كي لا يخضع أو يطيع، يقول:
أَنا لا تَخطُرُ لي في أَمَلي ... لا تَكُنْ تَوبَةُ نَفْسي أَمَلكْ
وادْعُ في خَلقِكَ يَسجُدْ مَن رَجا ... خُلدَكَ الأَعلى فَما نَحنُ سُجودْ
لنكونَنَّ إِذا صَحَّ الحجَا ... حَجَراً صَلْداً ولا هَذا الوُجودْ(5)
*
وقد دفعت روح الثورة الشاعر محمد حسن فقّي ليتحدّى قدره بكلّ ما لديه من عنجهيّة وكبرياء وتحدٍّ، حتّى إنّه لا يأبه بجحيم ولا تغني عن نفسه جنّة وحور عين، ليقول في مطلع قصيدته:
اسبقِينِي إلى الجَحيمِ فإِنّي ... سَأوافِيكِ في غَدِي للجَحيمِ
واطلُبِي مِنْ سُراتِهِ أَنْ يكونُوا ... عندَ أبوابِهِ قُبيلَ قُدومِي
أخْبريهمْ أنَّ الزّعيمَ سَيأتِيـ ... ـكُمْ فهُبُوا إلى لقاءِ الزّعيمِ
قَد شَكَتْ ثُمَّ مِن مباذِلِهِ الأر ... ضُ فماذا عَنْ هَواهُ الذّميمِ
ثمّ قَالَ شَيطانُهُ وهْو يُطريـ ... ـهِ لأَنتَ الرَّجيمُ مَولى الرّجيمِ(6)
ثمّ تتحوّل هذه الروح الثوريّة إلى نقمة وتذمّر نحو النفس التي أغرت الشاعر وساقته إلى مهاوي الرذيلة ورسمت ملامح طريقه إلى الجحيم، فيقول:
إِيهِ لا تَغضَبِي فَما أنتِ إلاّ ... صَخرةٌ حَطَّمَتْ حَديدَ القُرومِ
حيّةٌ تَنفُثُ السُّمومَ ولكنّي ... م ... تجرَّعْتُ كلَّ هذي السُّمومِ
أَنَا لَولاكِ لَم أكُنْ عَارِمَ الصَّبـ ... ـوةِ أعْنُوا لخَمرتِي ونَديمي(7)
غير أنّ الفقي سرعان ما يخفّف من حدّة الثوريّة لتنتهي قصيدته نهاية تفقدها شيئاً من الجمالية التي اكتسبتها في بدايتها، وقد وجد الشاعر في العقيدة الإسلامية ما يحقّق توازنه النفسي-رغم محاولة إبليس إغواءه-على الاستمرار بتمرّده وثوريته.
وهكذا تبدو الرغبة العارمة في التغيير والتمرّد على نوازع النفس وأهوائها هي الدوافع التي حدت بالعقّاد والفقّي إلى الرحيل بعيداً عن الواقع وإن بدت الجرأة في الثورة أقوى عند الفقّي في بداية قصيدته ((جحيم النفس)) منها عند العقّاد، وقد تمايزت الرحلتان في التعويض النفسي إذا تجلّى لدى العقّاد في الفنّ رمزاً للفتنة والحياة في حين وجدها الفقّي في العقيدة الدينيّة والإيمان الخالص بالله.
هذه أبرز الدوافع الوجدانية التي دفعت بهؤلاء الشعراء للرحيل عن واقعهم الإنساني، متجاوزين ما فيه ومستخفّين بقيوده الماديّة ومتشبّثين بعالم الروح إلى حيث تتحقّق طموحاتهم وأحلامهم، وقد صدر بعض هؤلاء الشعراء في تجربته عن رؤية ووعي بأدوات هذه الرؤية وبعضهم الآخر عبّر عنه لا شعوره فباح بمكنون النفس وشواغل الفكر، فكان أن طغت على سطح الوعي أحلام الحريّة، واضطرابات القلق والحيرة والتمزّق التي تكدّر صفو الحياة، وقد دفع القهر والخوف ببعضهم إلى اقتحام لجّة الموت وبثّ فيه روح الأمل لمواجهة هذا الإحساس، وقد جعل بعضهم الرحلة إشباعاً نفسيّاً يعوّض فيه نفسه عمّا تلاقيه من اضطهاد وقهر.
وهكذا غدت الرحلة الخياليّة وسيلة هرب للشاعر من واقعه الإنساني المضني وملاذاً يعوّض ما فاته في دنيا الناس يستطيع من خلاله البوح بما لا يمكنه البوح به في الواقع وتحقيق ما لا يمكن تحقيقه أيضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العشماوي، محمد زكي، أعلام الأدب واتجاهاتهم الفنية، دار المعرفة الجامعية، ط1، 1995، ص: 80.
(2)العقاد، عباس محمود، الديوان، ص: 276.
(3)المصدر نفسه، ص: 277.
(4)المصدر نفسه، ص: 283.
(5)المصدر نفسه، ص: 286.
(6) فقي، محمد حسن، الديوان، مج1، ص222.
(7) المصدر نفسه، ص: 222-223.
الاكثر قراءة في العصر الحديث
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة