حيدرعاشور
سيَدي، كلما انطفأت شمعةٌ نما بيننا صمتٌ، وجفَّ فينا ماءُ الكلام. نقرأ التاريخ على شواهدهم، ونرى في السماءِ عليلاً يتلوّى من ألمٍ كان جسداً يتنفس هواء أبيه وكان وجهه القدسي معرقاً بألف وجع. نهض الدمُ من أمامهِ، وبدأت الإمامة يبني بها نفوس الضائعين في بحر الوهم. كلُّ شبرٍ سار به تضيئها السماوات الغنية بالضوء.. لا شيء يشهدُ ما شهدْ كان الضوء كل الضوء حوله يولجُ ليل الحزنِ بقافلة الغبشِ المحروق، قافلة العشق والعروج الإلهي، يجيء المعزون، فيسكت الحادي:
- اخفضوا الصوتَ أنه ذو الثفنات، نجم الهدى وسيد الساجدين. تمدُّ يد مرادَهم- ويعدّون بعد شقَّ الصدورِ بقية أضلاعهم. ويزكون صمتهم بالبكاء.
سيَدي، أيُّ دمٍ باركتهُ خطى الباغين وأي مصيبة استيقظ عليها الموالون في ليلة الخامس والعشرين من محرم، ليلة موت الالف ومئات السنين.. أنها ذكرى الاجل، أنها اللحظة اذ تتجمع الأرواح تحت ظل قبتك، ولا شيء في النفوس والصدور سوى اسمك، ينداح على تراب مرقدك، ويمتد الى عبر فيوض نورك الى ركن سجادك الى رمل البقيع الذي حوت جسد سيدها بظلم نواصبها.. فينقلب جدثه الى ثورة؛ دمهُ حارسٌ وقبرهُ فضاءٌ بحجم العالم، وخطبه ومواعظه بدأت من لحظة صعوده الاعواد وهي تتسامى كالأنجم الزاهرات، تصرخ تطوف الأكوان تضاهي العجائب السبعَ.. مثل البئر الذي ينبع زيتاً يضيء الصلوات الواجبة فتضاءل أمامها الجبابرة وقساة القلوب. وكل مكان وطئتها قدّمهُ، تحولت الى عتباتٍ مقدسةٍ، كي يهّيئ الجنة لمواليه. وظل قبره يبوح للملايين مثل غيمة تمطر ملحها مدراراً في سلالة البقاء، تفيض من انهارها صحيفة الساجدين قانون ما من تمسك به لن يضل بعده. يا لهذا السجاد العظيم المكمل لثورة عاشورائك.
سيَدي، هذه الليلة يفخرَ الموتُ بأنه يطوفُ حول زين عابديك- وهو يعاصر الازمان في المنهج والعقيدة الخالدة، كالطفِ ودمائهِ الزاكية. هل تكفي الكلمات وفاءً له، والروحُ تجهشُ، والجزع يذوب كلُّ نفسٍ بالصدور، وهو كنجم الهدّى يلمع في الديجُورْ، ونحن البائسين نتمنى قبساً من ضيائهُ.
سيَدي، أثبت أن شباك جدثك الذي تلمسته الأيادي في عاشوراء قطعت الطريق على وباء الموت والظلام والأوهام، وكربلاؤك كانت ولا تزال أرض السلام والأمان في كل الأشياء التي لا تموت، ونحن في زمن الميّتينْ. لولا صوتك الصادح في جيل المتعبينْ ما تطهّرتْ النفوس. أنت ثورة دائمة تطهرُ مواليك بدمائك. وسيظل سجادك العابد جبل الائمة وراهبا لمنازل العارفين....