ايقونة تاريخ اليوم : الاربعاء ١٧ شوال ١٤٤٦هـ المصادف ۱٦ نيسان۲۰۲٥م
بحوث ودراسات

الحفاظ على الأمن والسلم في العراق في ضوء رؤية المرجعية الدينية العليا (الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي أنموذجاً)

المقدمة
تقود المرجعية الدينية العليا منذ قرون طويلة طائفة الشيعة الامامية، وترشد أتباعها في شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، ويستمدون من أفكارها ورؤاها طريقة التعامل مع أزماتهم السياسية الداخلية والغزوات الأجنبية، وكان في مقدمة أولئك المراجع العظام الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي، الذي يُعدّ نصيراً قوياً لأحرار العراق في مرحلة حساسة ودقيقة من تاريخ وطنهم، وعاملاً رئيساً في نهوض الحركة الوطنية المناوئة للغزو البريطاني الغاشم، لا سيما بعد أن أصبح المرجع الأعلى آنذاك.
استهلت الدراسة في مدخلها يبحث (الأسس الفكرية الحاكمة لتوجهات المرجعية والمنطلقات الفقهية التي تستند إليها في بناء نظرياتها وتوجهاتها العامة ومواقفها تجاه الأحداث المختلفة. ثم حاولت في محور آخر والمعنون (المنهج السلمي لمرجعية الشيخ الشيرازي في المرحلة الأولى من الاحتلال البريطاني) أن تركز على فكرة أن المرجع الحائري الشيرازي لم يقتصر عمله على مقاومة المحتل البريطاني والإفتاء بجواز محاربته فحسب، بل سعى نحو الهدف الاستراتيجي الأسمى وهو التمهيد لدولة مستقلة ذات سيادة للعراق الجديد، مبنية على أسس متينة. وكان ذلك يجري بحسب رؤية الشيخ الحائري في مسار سياسة التدرّج في المواجهة وهاجسه في الحفاظ على الأمن والسلم.
وعالج البحث في مبحثه الأخير الموسوم (المنهج السلمي لمرجعية الشيخ الشيرازي في المرحلة الثانية من الاحتلال البريطاني الركائز الصحيحة التي وضعها الشيرازي للمواجهة ضد البريطانيين وبحث ما اعتمد عليه من أسلوب التمهيد والتدرّج لمواجهة المحتل ومن ثم إخراجه، بدءاً من تبادل الرسائل مع ممثليه وإرسال

61
المبعوثين وإجراء المفاوضات من موضع المقتدر ؛ كل هذا من أجل ضمان الأمن والسلم وحقن الدماء قدر الإمكان.
كما تعرض البحث لفتوى الشيخ الحائري ودوره في إدارة مناطق الثورة وتنظيمها. وعلى الرغم من أن هذه الفتوى كانت هي الانطلاقة الأولى للثورة العراقية الكبرى عام ۱۹۲۰، إلا إنها عُرفت أيضاً بـ (الفتوى الدفاعية)، لأنها لم تصرح بالجهاد المباشر واستخدام القوة، بل دعت أيضاً إلى جانب ذلك إلى محاولة أخذ الحقوق بالسياسة والمطالبة السلمية.
اعتمدت الدراسة على مجموعة متنوعة من المصادر، تقف في مقدمتها الرسائل والأطروحات الجامعية (الماجستير والدكتوراه) وعدد من الدراسات الحديثة والمعاصرة التي لها صلة وثيقة بالموضوع.

مدخل: الأسس الفكرية الحاكمة لتوجهات المرجعية في الأزمات
تمثل المرجعية الدينية العليا القيادة المثلى للشيعة الإمامية في شؤونهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة ويمتلك المراجع الكبار عبر العصور المتعاقبة رؤى وأفكاراً حول مختلف القضايا الحياتية التي تتعلق بأتباعهم ومقلديهم، ومنها طريقة التعامل مع الحكام والطغاة والأزمات السياسية الداخلية والغزوات الأجنبية، وكذلك ما يخص (الجهاد) بآدابه وإشكالياته كافة، وبحث نصوصه باستفاضة في مصادر التشريع الإسلامي، وربطه مع مصالح الدولة الإسلامية والعقيدة ومع رد العدوان على المجتمع المسلم(۱).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) للتفاصيل عن أبواب الجهاد وأحكامه وأقسامه لدى الشيعة ينظر: محمد بن الحسن الحر العاملي ت: ١١٠٤هـ)، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم، ١٤١٤هـ، الجزء 15 كتاب الجهاد)، ص ٢٤-٢٨.

63
وليس كل الكفار سواء، فهناك (الكافر المحارب) الذي يجب قتاله والكافر المعاهد الذي يجب احترام العهود والمواثيق معه ولم تكن مجاهدة العدو منهما تعني دائماً الحرب أو الدعوة إلى النزاع المسلح، ولا يُشترط استعمال القتال في كل أحوال الجهاد، بل يعني أيضاً ممارسة الضغوط المتنوعة والسعي بالتي هي أحسن، بجميع الطرق الممكنة والواقعية، لتحصيل المطالب بالشكل الذي ينسجم مع روح القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة(١).
فعلى سبيل المثال لا الحصر، فسّر علماؤنا الأعلام قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا هُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قَوَّةٍ وَمِن رَبَاطِ الْخَيْلِ تَرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ)(۲)، بأنّ الله عزّ وجل أراد تفادي الحرب لا ،وقوعها، وأن إعداد القوة المشار إليه في الآية الكريمة الغرض منه ليس إشعال القتال بل إرهاب العدو الموجود أو العدو المحتمل أو الذين تمادوا في أذى المسلمين وإخافتهم على نحو التأكيد(۳).
وفي حالة اندلاع القتال فإنّ الإسلام فرض آداباً عامة تحفظ النظام حتى مع العدو المحارب، فمثلاً طلب استخدام الوسائل السلمية كافة معه لتجنب الصدام ذلك العدو، وإنذاره إنذاراً صريحاً وعدم مبادرته بالقتال، وإذا كانت هناك مع معاهدة سلام معه فيجب إعلامه بإلغائها، ولا يجوز قتله قبل إبلاغه لأنّ ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، دار الكتاب العربي، ۲۰۰۹، ۲۲۸/۰) أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (ت۳۲۹هـ) أصول الكافي، تحقيق: علي أكبر غفاري، دار الكتب الإسلامية، الطبعة ٤، ١٣٦٥هـ، (١٢/٥).
(۲) سورة الأنفال: الآية ٦٠ .
(۳) مرتضى مطهري، نظام الحكم في الإسلام مطبعة ،هاشميون ،قم، ١٣٨٠هـ، ص ٤٢٢.

63
يُعدّ (خيانة)، ولا يجوز الغدر بتاتاً، وأنّ حرمة القتال قبل الدعوة السلمية موضع اتفاق بين فقهائنا(١).
وقد استنبط علماؤنا من وصايا الرسول الأكرم بخصوص عدم قطع الأشجار ورمي النار وتسليط المياه أحكاماً شرعية كثيرة، أكدت على وجوب عدم تخريب البنى التحتية عند الحرب ولا تدمير المؤسسات الحكومية ولا المساس بأي جهة تقدم خدمات عامة للناس(۲)؛ بل ذهبوا إلى وجوب حقن الدماء في كل الأحوال، ومن ضمنهم (الكفار) والمعتدون إذا طلبوا الإجارة، استناداً إلى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَةً ذُلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ )(۳)، فإذا استجار أحد منهم بالإمام أو نائبه فيجب إعطاؤه الأمان وإيصاله إلى مأمنه أو وطنه (٤).
إذاً فالاستقامة مع الأعداء لدى أعلام الأمة هي من التقوى والصفات الأخلاقية العالية التي من المفترض أن يتصف بها المؤمنون، انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿فمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمَّ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾(٥). وأكد فقهاء الشيعة وجوب أن الجهاد لا سيما في حالة الدفاع بالتنظيم والاستعداد اللازم، سواء أكان هناك دولة وجيش وسلطة قائمة للمسلمين أم لا، ولا يجوز أن يكون فوضوياً شخصياً. فعلى الناس في كلتا الحالتين أخذ إذن الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) محمد حسين الطباطبائي، المصدر السابق، (١١٤/١٠).
(۲) محمد بن يعقوب الكليني، المصدر السابق، (٢٩/٥).
(۳) سورة التوبة: الآية: ٦.
(٤) محمد كاظم حسين الفتلاوي ومروان علي حسين أمين الجهاد في الفكر الإسلامي، مجلة كلية التربية للبنات العلوم الإنسانية جامعة الكوفة، العدد ۱۹ السنة ١٠، ص ٤٧١ .
(٥) سورة التوبة: الآية: ٧ .

64
المعصوم أو نائبه من العلماء في زمن الغيبة، ويجب على الناس طاعتهم، ومن خالفهم فقد خالف إمامهم، فإذا لم يوجد الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء، فإنّ الأمر يتحول الى عُدول المؤمنين، فيما يسمى بـ أمراء الجهاد. وهذا ما أفتى به الفقهاء الشيعة السابقون للشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي (۱)، مثل الشيخ جعفر الكبير الشهير بكاشف الغطاء (ت) (۱۸۱۳)، أو المعاصرون له مثل الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي (ت) (۱۸۹٤) والشيخ علي ضياء الدين العراقي (ت ١٩٢٤)(٢).
وإنما أعطى الشرع الشريف دوراً أساسياً للفقيه في قيادة المجتمع في حالة الجهاد الدفاعي المنظم، فله صلاحية إدارة شؤون الحرب، وترتيب الصفوف وتوزيع الوظائف وغيرها (۳).


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) محمد تقي بن الميرزا محمد علي الحائري الشيرازي، فقيهاً عالماً، وأستاذاً متفوقاً، ولد في مدينة شيراز جنوب ایران عام ١٨٤٠ . هاجر الى سامراء، وتتلمذ على يد مرجعها الأكبر ومجددها الأبرز الميرزا محمد حسن الشيرازي فبرع بالفقه والأصول والفلسفة والعرفان حتى بلغ درجة الاجتهاد، وأصبح من المراجع العليا للشيعة الإمامية، وعُدّ من العلماء المصلحين والحكماء القياديين. ناصر الوطنيين الأحرار في الدولتين العثمانية والقاجارية، ودعم الحركتين الدستوريتين فيهما ١٩٠٥-١٩٠٦، وأفتى بوجوب محاربة الغزو البريطاني للعراق وأسهم في حركة الجهاد العراقية الإسلامية الشهيرة ١٩١٤ - ١٩١٥. ولم يلبث حتى أصبح من أقوى العوامل الرئيسة في نهوض الحركة المناوئة للاحتلال البريطاني، وفي دعم المقاومة العراقية ضدهم، لا سيما بعد أن انتقل الى الكاظمية وكربلاء حتى وفاته في ۱۷ آب ۱۹۲۰م. للمزيد ينظر: علاء عباس نعمة محمد تقي الشيرازي الحائري ودوره السياسي في مرحلة الاحتلال البريطاني للعراق رسالة ماجستير كلية التربية جامعة بابل، ٢٠٠٥م.
(۲) هاجر دوير حاشوش الإرهاب بين الإطار الغربي والإستعمال القرآني دراسة في الفقه الامامي، مجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية جامعة الكوفة، العدد ،۲۳، السنة ،۱۲، ۲۰۱۸، ص ١٥٣- 154.
(۳) للتفاصيل ينظر: باقر زامل الساعدي الجهاد الدفاعي في الفقه الإمامي، مطبعة كوثر، ۲۰۱۲.

65

وفي مطلق الأحوال يذهب فقهاؤنا إلى أن الحرب في الإسلام لا تنطلق من حالة ذاتية عنصرية أو ،عرقية ولا لأسباب مادية استغلالية، وإنما من قاعدة الشعور بالمسؤولية الإنسانية تجاه الناس والدين والأوطان، ووسيلة لتعميم الرحمة الإلهية المجسدة بالإسلام الحنيف(۱).
ويقتضي الجهاد الدفاعي انضباطاً وتقيداً عالياً بالأوامر والنواهي، والانتظام في الخطة العامة التي يتحرك وفقها ولا مجال فيه للعمل الفردي، نظراً لما يمكن أن يترتب عليه من إحداث خلل في طبيعة المعركة ونتائجها. فمع وجود القيادة أن تتحرك القاعدة تحت نظره وسمعه وبموجب توجيهاته، وإلّا عنه العلمائية ينتج لعمّت الفوضى وانفلت حبل الأمور. من هنا، فليس صحيحاً أن يصبح أي جهاد مشروعاً ، لأن معنى ذلك الإخلال في النظام العام وإرباك الخطة وتكتيكاتها اللازمة ويتحول الجهاد الى هرج ومرج(2).
وفي مقابل (الجهاد) ظهرت لدينا ،نظريةٌ يُمكن أن نطلق عليها (حفظ النظام) التي ترمز من وجهة نظر المرجعية الدينية العليا، إلى توجيه الأمة وإرشادها إلى المحافظة على المصلحة العليا للإسلام من قبيل حقن دماء الناس جميعاً، ورفع الظلم وتحقيق العدل والمساواة وضمان حقوق الأقليات، مع الحفاظ على الهوية الدينية للأغلبية المسلمة، انطلاقاً من أن الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط توجب عليه التصدي للأمور العامة التي يتوقف عليها حفظ النظام، أي أن تسيّر شؤون الفرد وفق المعايير العقلائية والشرعية(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) محمد حسين فضل الله كتاب الجهاد دراسة فقهية استدلالية فقهية حول موضوعات الجهاد ومسائله ،بیروت، دار الملاك، الطبعة الثانية، ۱۹۹۸، ص٢٤٨.
(۲) المصدر نفسه، ص ٢٥٤-٢٥٥.
(۳) حيدر محمد علي السهلاني الفقه السياسي لمرجعية النجف المعاصرة الدولة أنموذجاً، النجف،۲۰۱۳.

66
ووفق ذلك فقد التزم علماء الحوزة العلمية الشيعية في العراق منهج السلم طيلة قرون خلت قبل الحائري الشيرازي وكان تعاملهم مع السلطان يقوم على أساس الحفاظ على أمن المسلمين وأموالهم ودمائهم وتفضيل مصلحة الإسلام العليا على جميع المصالح الفرعية بعيداً عن المذهبية والمناطقية والشخصية. فحينما اندلعت ما يُعرف بـ(انتفاضة التبغ في إيران ۱۸۹۱-۱۸۹۲ ضد القمع القاجاري وانحيازه للسياسة البريطانية الناهبة لثروات إيران كانت سمتها الغالبة السلمية، تطبيقاً لفتوى المرجع الديني الأعلى مقره سامراء في العراق) الميرزا محمد حسن الشيرازي(١).
ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من الاختلاف المذهبي مع الدولة العثمانية الحاكمة للعراق (۱٥٣٤ - ۱۹۱۷)، إلا أنّ هذا لم يحل دون أن يقوم العلماء بواجبهم الشرعي والأخلاقي تجاه العثمانيين، وتقديم أشكال الدعم والمساندة كافة للذود عن أرض المسلمين (٢). وقد جرت مع تلك الدولة علاقات عامة وتواصل طبيعي باعتبارها دولة مسلمة تقف على قدم المساواة مع الدولة القاجارية (۱۹۲۵-۱۷۹٦) المتطابقة مع الشيعة الامامية من حيث المذهب. فدخل العلماء على سبيل المثال في وساطات مهمة لإيقاف نزف الدماء بين القوات العثمانية وبعض المناطق الثائرة أو مع القبائل العربية المنتفضة(۳).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) للاطلاع على تفاصيل الانتفاضة المذكورة وقيادة العلماء لها ينظر: خضير مظلوم فرحان البديري، إيران في ظل انتفاضة التبغ والتنباك ۱۸۹۱ - ۱۸۹۲، دراسة في السياسة الداخلية، النجف الأشرف، دار الضياء، ۲۰۰۹.
(۲) كاظم المظفر، ثورة العراق التحررية عام ۱۹۲۰م، مطبعة الآداب ، النجف الأشرف، ۱۹۷۲، ص ۷۰.
(۳) علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث دار ومكتبة دجلة والفرات، بغداد، ۲۰۰۹ ، الجزء ١ القسم ١ ، ص ٢٥٤ .

67
وحينما تعرضت ليبيا إلى احتلال إيطالي غاشم عام ۱۹۱۱م أسهمت ردود أفعالهم بروح المسؤولية والوعي وأفتوا بالجهاد لتطهير أرض الإسلام من رجس الغزاة(1).
ووقف علماء مرجعيتنا الرشيدة في العراق موقفاً محايداً تجاه الصراع السياسي والعسكري بين الدولتين العثمانية والقاجارية باعتبار أن لكل منهما مصالحها ومطامعها التوسعية في المنطقة، عانى العراق كثيراً من ويلاتها. وكانت نظرة المرجعية إلى ذلك الصراع على أنه استنزاف لقوى المسلمين الأخوة، وفتنة لا مبرر لها، وحاولوا مراراً التدخل لإخمادها والتوسط لإطفاء نيرانها بهدف حقن الدماء وحفظ حالة الود بين المسلمين(۲).
أولا: المنهج السلمي لمرجعية الشيخ الشيرازي في المرحلة الأولى من الاحتلال البريطاني
اتبعت مرجعية الشيخ الشيرازي منهجاً سلمياً في التعامل مع الأحداث الجارية في العراق إبّان المرحلة الأولى من الاحتلال البريطاني، ولم يظهر الحسن الثوري واضحاً لديها في تعاملها مع الأجانب أياً كان انتماؤهم. فقد ركزت جهودها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) مقدام عبد الحسن باقر الفياض تاريخ النجف السياسي، ١٩٤١ - ١٩٥٨، بيروت، دار الأضواء، ٢٠٠٤ ، ص؛ محمد علي كمال الدين النجف الاشرف في ربع قرن منذ سنة ١٩٠٨، تحقيق وتعليق کامل سلمان الجبوري ،بيروت، دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع ۲۰۰۵م، ص ١٤٨-٤١٤٩ كامل سلمان الجبوري، السيد محمد كاظم اليزدي سيرته وأضواء على مرجعيته، قم، انتشارات ذوي القربى، ٢٠٠٦ ، ص ١٩٦.
(۲) وليد عبد الحميد فرج الله الأسدي، مدرسة النجف الأشرف وأبعادها العلمية والفكرية في العهد العثماني، النجف الأشرف، ۲۰۱۲، ص۳۳۰.

68
بادئ ذي بدء على رص صفوف العراقيين وتنظيمهم للدفاع عن أرضهم وتهيئة الأرضية المشتركة لمقاومة الغزو الأجنبي بالتعاون مع القوى المتواجدة آنذاك، حتى لو كان العثمانيين أنفسهم. وكشاهد على تلك الحقيقة، نرى أن مرجعيته رفضت تأييد انتفاضة النجف الأشرف ضد الإدارة العثمانية في المدينة وطردها للحامية العسكرية والموظفين الحكوميين وإعلان خروجها عن الحكم العثماني ١٩١٥ - ١٩١٦ ، الأمر الذي تكرر في الحلة وكربلاء أيضاً(۱) .
ونستشعر ذلك الموقف في رسالة معبرة بعثها إلى السيد محمد كاظم اليزدي (المرجع الديني آنذاك في النجف الأشرف توفي عام ۱۹۱۹)(۲) مؤرخة في ١٦ كانون الأول ۱۹۱٦ ، حول الأحداث الأخيرة جاء في نصها: (فغير خفي عليكم سوء أثر التشاويش في النجف من بعض الجهال وقبح نتيجتها ووخامة عاقبتها ومنافاتها لمراعاة حرمة المشهد المعظم واقتضائها لسوء الجوار لأمير المؤمنين عليه السلام وأنتم أبصر بذلك وأعرف له وإني مطمئن بدوام اهتمامكم بهذا الأمر من كل وجه ومواظبتكم على النصح والوعظ والزجر ... الأحقر محمد تقي الشيرازي)(٣).


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) ناهدة حسين الأسدي، النجف الأشرف في العهد العثماني الأخير والاحتلال البريطاني (١٢٤٧ - ١٣٣٦هـ / ۱۸۳۱-۱۹۱۷)، (بيروت، الدار العربية للموسوعات ، ٢٠١٦)، ص ١١٦-٢١ .
(٢) للتفاصيل عن سيرته ودوره العلمي ومواقفه السياسية ينظر: كامل سلمان الجبوري، السيد محمد كاظم اليزدي سيرته واضواء على مرجعيته ومواقفه ووثائقه السياسية حقائق ووثائق ومذكرات من تاريخ العراق السياسي لم ينشر بعضها من قبل، الكوفة، ٢٠٠٦.
(۳) علي الوردي, المصدر السابق، الجزء, ص۱۹۰؛ محمد رضا الشبيبي, شذرات من مذكرات الشبيبي, مجلة البلاغ النجف، العدد ٦, السنة ٤ ، ١٩٧٣، ص ١٨.

69
وعلى الرغم من تشابك الأحداث وتداخلها إلا إنّ موقف مرجعية الشيرازي بقى أقرب ما يكون إلى العقلانية ،والحياد ورأى أنّ ما جرى في النجف ضد العثمانيين حركةً لا تخدم الموقف العسكري في التصدي للزحف البريطاني، وأن الظرف يستدعي تجاوز إساءة العثمانيين والتحلي بالصبر والوعي السياسي العالي(١).
كما إن من أدبه العالي والتزامه بالأعراف العريقة للحوزات العلمية يبدو لم يرتض لنفسه تجاوز مقام المرجعية الدينية العليا المتجسدة في شخص السيد اليزدي ، ولا أن يتدخل في الأمر بشكل مباشر، لذلك مارس دوره في حل الأزمة سلمياً بمخاطبة الأخير بنبرة ودية.
وتكرر مشهد المنهج السلمي الذي اتبعه الميرزا الشيرازي بعد ذلك بحوالي سنتين، حينما أعلنت النجف الأشرف في آذار ۱۹۱۸ انتفاضتها العارمة ضد الاحتلال البريطاني وقام عدد من شبابها بعملية ثورية، قتلوا على إثرها بعض رجال الجيش البريطاني في مقدمتهم القائد مارشال فردّ البريطانيون بقوة حينما ضربوا حصاراً قاسياً على المدينة ، استمر أكثر من أربعين يوماً، انتهى بالقضاء على الانتفاضة وإلقاء القبض على منفذيها وإصدار أحكام الإعدام والنفي بحق المئات من أبناء النجف(٢).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) إخلاص لفته حريز الكعبي، موقف الحوزة العلمية في النجف الأشرف من التطورات السياسية في العراق ١٩١٤ - ۱۹۲٤م، رسالة ماجستير كلية التربية جامعة المستنصرية، ٢٠٠٥، المصدر السابق، ص ٦٩ - ٧٠ .
(۲) للتفاصيل حول أسباب انتفاضة النجف وأحداثها ونتائجها والتعرف على القائمين بها وأعداد المحكومين وأسمائهم، ينظر: عبد الرزاق الحسني، ثورة النجف بعد مقتل حاكمها الكابتن مارشال، الطبعة ٤ ، (صيدا، مطبعة ،العرفان (۱۹۸۲)، ص ٢٦-٨٢.

70
وبعكس حركة الجهاد ضد الاحتلال البريطاني، لم تحظ الانتفاضة المذكورة بدعم مرجعية الشيخ محمد تقي الشيرازي. فعلى الرغم من الظروف الصعبة التي مرّت بها المدينة أثناء الحصار فإنه لم يؤيدها ومن المرجح أن اندلاع الثورة من قبل شخصيات اجتماعية وليست من قبل المرجعية الدينية، التي يفترض أخذ رأيها قبل أي تحرك قد جعل العلماء يتحفظون على مساندة الانتفاضة(١).
ومن المهم القول إنّ المرجعية لم تنكر الحدث الثوري، لكنها اعتقدت أن التوقيت لم يكن دقيقاً، لأن نتائجه ستكون سلبية، لا سيما أن الوضع العسكري والسياسي لا يسمح لهم باتخاذ موقف عملي مُجدٍ، حتى ولو أصدروا فتوى للجهاد، وسيصبح الداعم للحدث في غير وقته المناسب، كمن يعمل لإفشاله(۲).
لذلك انحصر موقف الشيرازي في محاولة تهدئة الأوضاع، والخروج بحل سلمي يحفظ كرامة أهل المدينة ويحقن دماءهم، وقد أرسل عدد من العلماء والمجتهدون، ومنهم الشيرزاي برقيات إلى القائد العام للقوات البريطانية للتوسط بإصدار أمر بإعادة الماء الى الأهالي؛ كي لا يتأذى الأبرياء منهم، كما أثمرت مساعيه بنقض حكم الإعدام بحق اثنين من الظالعين في الانتفاضة ممن ينتمون للحوزة العلمية، وتخفيفه الى النفي ثم الى الإقامة الجبرية في الأحواز(۳).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) صلاح عبد الرزاق، المرجعية والاحتلال الأجنبي دراسة في فتاوى السيد كاظم اليزدي ضد الغزو البريطاني ۱۹۱٤ ، (النجف، مطبعة البينة ، (۲۰۰۸)، ص ٢٣٥-٢٣٦.
(۲) عبد الزهرة تركي فريح الفتلاوي المشخاب أصالة وعطاء الوثائق التركية والبريطانية والعراقية، (النجف (۱۹۹۷)، ص ۲۸۹-۲۹۰
(۳) وهما الشيخ محمد جواد الجزائري والسيد محمد علي بحر العلوم ينظر حسن الأسدي، ثورة النجف على الإنكليز أو الشرارة الأولى لثورة العشرين بغداد، دار الحرية ،۱۹۷، ص۳۳۳؛ منذر جواد مرزة، مختصر تاريخ النجف الأشرف ومن أسماء رجالها وشعرائها، (النجف، ۲۰۱۲)، ص ٥٣

71

كان الهدف من تحرك الشيرازي بحكمة وتعقل وعدم مناوأة الاحتلال علانية في البداية والتعاطي مع ضباطه بإيجابية، هو أن يفسح المجال لحل الكثير من الإشكاليات التي تتعلق بالمجتمع من ذلك على سبيل المثال توسطه لإطلاق سراح الشيخ محمد جواد الجزائري (۱۸۸۲-۱۹۰۷) أحد رجال الحوزة الدينية النجفية والحركة الوطنية في العراق، والملقى عليه القبض في سجون قوات الاحتلال والمنوي ترحيله منفياً إلى الهند (۱) ، فأرسل رسالة إلى نائب الحاكم الملكي العام في بغداد السير آرنولد ويلسون (۱۹۱۸-۱۹۲۰)Arnold T. Wilson ۱۳ آيار ۱۹۱۸ طلب فيها العفو عن الجزائري كونه من العلماء الأعلام وله منزلة رفيعة في المجتمع، وإن ذلك يوجب الامتنان والشكر لبريطانيا من النجفيين عامة والعلماء على نحو الخصوص.
واستمر الشيرازي في مسعاه وعاد ثانيةً إلى مراسلة الحاكم المدني مرة أخرى في ۹ حزيران ۱۹۱۸، طالباً مراعاة الشيخ محمد الجزائري وإعطاء الأوامر بالرفق بالاحترام التي لا تقلل من اعتباره مؤكداً أن لدى العلماء مكانة سامية عند الاعتقال يجب حفظها، وسيكون مراجع الدين والمجتهدون وما دونهم ممتنين للحاكم البريطاني عند الأخذ برجائهم. وقد أثمرت مساعيه مع المرجع شيخ الشريعة الأصفهاني ت (۱۹۲۰) وأمير الأحواز الشيخ خزعل الكعبي (ت ١٩٣٦) عن تبديل الحكم من النفي إلى الإقامة مؤقتاً في ضيافة الأمير الكعبي في عاصمته المحمرة(٢).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رواء صباح كناوي الجنابي، شيخ الشريعة الأصفهاني 1850 - ۱۹۲۰ دراسة تأريخيه، رسالة ماجستير، كلية التربية للبنات جامعة الكوفة، ۲۰۱۱، ص115 .
(۱) عبد الرزاق الحسني، ثورة النجف...، ص ۸۰
(۲) محمد جواد جاسم الجزائري، الشيخ محمد جواد الجزائري ۱۸۸۲ - ۱۹۰۷ ودوره الوطني والسياسي، بيروت، العارف للمطبوعات، ۲۰۱۹، ص ٦٠-٦٣ .

72
ثانياً: المنهج السلمي لمرجعية الشيخ الشيرازي في المرحلة الثانية من الاحتلال البريطاني
استمرت مرجعية الشيخ الشيرازي في توجيهها الشعب العراقي بالنضال السلمي لنيل حقوقه السياسية المشروعة، مع التصعيد التدريجي في عملية المواجهة. فقد كان رحمه الله يكلّف ممثليه من رجال الدين بعقد اللقاءات مع الضباط البريطانيين الذين يتولون حكم البلدات والمدن المختلفة أو إجراء المفاوضات مع ما يُسمى ب الحكام السياسيين) لتبليغهم مطالب الشعب العراقي ومدى شغفهم بتحقيق استقلال بلادهم وفرض سيادته(۱).
وفي الوقت الذي أدرك فيه الميرزا الشيرازي أن العامل المقرر والحاسم في مصائر أقطار المنطقة كان وما زال هو إرادة شعوبها ومقدار تضحيتها من أجل قضاياها الوطنية، إلا أنه لم يغب عن باله أهمية الاستفادة من العامل الدولي. لذلك رغب في نقل رغبة العراقيين في الاستقلال الى خارج المحيط المحلي، وبعث رسالة مشتركة مع علماء آخرين إلى الرئيس الأمريكي ودرو ولسن Woodrow Wilson )۱۹۱۳ - ۱۹۲۱) عشية انعقاد مؤتمر باريس للسلام في كانون الثاني ۱۹۱۹ يطلبون إليه تأييد حقوق العراقيين بتشكيل دولة عربية مستقلة يرأسها ملك مسلم يُقيّد بمجلس وطني ودستور(۲)، مما يدل على وعي المرجعية بتفاعلات السياسة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) فريق المزهر الفرعون الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة ۱۹۲۰ ،ونتائجها، الطبعة ٢، (بغداد، مطبعة النجاح، (1995) ص١١٤ - ١١٥.
(۲) منذر جواد ،مرزة المصدر السابق، ص ۷۱۷۰؛ كامل سلمان الجبوري؛ محمد تقي الشيرازي القائد الاعلى للثورة العراقية الكبرى ۱۹۲۰ سيرته ومواقفه ووثائقه السياسية، (مطبعة برهان، قم، (٢٠٠٦)، ص ١٥١؛ باسم فارس الغانمي من تاريخ لواء الديوانية بطن العراق والفرات الأوسط دراسة تأريخية - إنثروبولوجية ۱۷۳۷ – ۱۹۳۷م، جامعة الكوفة، ۲۰۱۱، ص ۱۰۷- ۱۰۸.

73
الخارجية وفاعلية الحراك السياسي، والنية في إثارة الدول الأخرى بالاتصال بمصادر القرار في العالم مع علمها بتناقضات الدول الكبرى وتجاذباتها وتظاهرها بحرصها على حق الأمم في تقرير مصيرها بنفسها.
ثم تحوّل اهتمام المرجعية الدينية نحو الحجاز، حين قرر عدد من الشيوخ العشائريين والزعماء الوطنيين في تموز ۱۹۱۹ الاتصال بالشريف حسين بن علي ملك الحجاز (۱۹۱۷ - ۱۹۲۴) الذي بدأت خلافاته مع بريطانيا تطفو على السطح، خصوصاً مع تنكرها لوعودها له بالمساعدة في إنشاء دولة توحد العرب تحت رئاسته(۱).
وقد تم كتابة عدد من العرائض، يُطلب فيها الدعم الإعلامي والسياسي للحركة الوطنية العراقية، وأن يكون أحد أنجاله ملكاً على العراق. ومن اللافت أن الحائري الشيرازي أمر أن توزّع نسخ منها على مناطق مختلفة من العراق كالشطرة جنوباً ولواء الدليم شمالاً لإطلاعهم عليها وأخذ آرائهم حولها(۲) ثم أُرسلت بيد المبعوث المؤتمن الشيخ محمد رضا الشبيبي (١٨٨٩-١٩٦٥)(٣).
ومن الملاحظ أن الشيخ محمد تقي الشيرازي لم يوقع على إحدى تلك العرائض، ربما لأنه كان راغباً في أن يتولى أحد العراقيين ذلك المنصب، لكنه احترم رأي الأغلبية ولم يظهر معارضته علناً، وترك الباب مفتوحاً للاختيار من قبل الآخرين.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) للتفاصيل عن علاقة بريطانيا بالشريف حسين بن علي ينظر: سليمان موسى، الحركة العربية مسيرة المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة ۱۹۰۸ - ١٩٢٤، (دار النهار، بيروت، ۱۹۷۷).
(۲) عبد الله فهد النفيسي دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث ذات السلاسل، الكويت، ۱۹۹۰، ص۱۲۳.
(۳) علي عبد شناوه، الشبيبي في شبابه السياسي محمد رضا الشبيبي ودوره الفكري والسياسي حتى العام ۱۹۳۲ ، دار كوفان للنشر 1995، ص ۱۱۰ .

74
وربما كانت هناك احتمالات أخرى غير واضحة إلى اليوم (۱).
وقد أرسل الشريف حسين تلك العرائض إلى ولده الأمير فيصل (١٨٨٣- ۱۹۳۳) الذي كان يحضر مؤتمر الصلح المذكور، وطلب الدفاع عن حقوق العراقيين، كما كتب جواباً على خطابات العراقيين بشكل عام، وخص الشيرازي برسالة مستقلة(٢).
ولم تنقطع المراسلات بين الطرفين بهدف التنسيق والعمل المشترك، واستمرت حتى عشية الثورة العراقية ففي ٢٦ ايار ۱۹۲۰ وصلت رسالة من الشيرازي، ناشد فيها أشراف الحجاز بضرورة إيصال صوت العراقيين ومطالبهم في الحرية والاستقلال الى المحافل الدولية، وتضمنت التأكيد على أن النضال الوحدوي العربي له الأولوية بين المهام الأخرى، وأن الوحدة بين العرب سوف تعيد للأمة الإسلامية قوتها ودورها الحضاري وعطاءها المتجدد، وقال: « لا زلنا نسمع أنباء تفانيكم العظيم في سبيل إحياء الجامعة العربية التي هي عنوان المجد الإسلامي ...» (۳).
كما وقف الإمام الشيرازي الحائري بقوة أمام ضغوط القوى الوطنية والجماهيرية الهادفة إلى إقناعه بضرورة قيام الثورة ومواجهة البريطانيين عسكرياً. فحينما أكد له عدد من الشيوخ والزعماء الموفدين من قبل مناطقهم في ٤ ايار ۱۹۲۰ قدرة العشائر على محاربة البريطانيين، لم يتسرّع، بل وجّه إليهم أسئلةً أراد من خلالها معرفة جلية الحركة ويختبر مقدرتهم وعزمهم وتصميمهم وما اتفقوا عليه وما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) علاء عباس نعمة المصدر السابق، ص ٥٥-٥٦
(۲) علي الوردي، المصدر السابق، الجزء 5، القسم ۱، ص۱۲۳.
(۳) وميض جمال عمر نظمي، ثورة ۱۹۲۰، الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق، الطبعة ،۲ بيروت 1985، ص ٣٥١ - ٣٥٢.

75
الاستعدادات اللازمة التي تمكنهم من تحقيق ما يصبون إليه(١). وبعد مناقشات مطولة ردّ عليهم بنبرة القائد المحنّك الحريص على جنده وكل فرد من شعبه، قائلاً: (إن الحمل لثقيل وأخشى ألا تكون للعشائر قابلية المحاربة ضد الجيوش المحتلة). ومع استمرار النقاش أبدى مخاوفه من انفلات الأمور وانتشار الفوضى وعدم قدرة الزعماء على ضبط الأمن في حال اعلان الثورة مما يؤدي إلى ضياع الجهود هباء منثوراً ، بقوله: (أخشى أن يختل النظام ويُفقد الأمن فتكون البلاد في فوضى وأنتم تعلمون إن حفظ الامن أهم من الثورة بل أوجب منها) (۲).
ونجد في كلماته الأخيرة تعبيراً سياسياً في غاية الدقة، يشدد فيه على فكرة أن لا قيمة لأي عمل ثوري دون التخطيط الصحيح وحفظ أمن الناس وسلامة أرواحهم، وترفّعه عن أية دوافع شخصية بل أن يكون حب الوطن هو المعيار والهدف الأول.
فتعهد الحضور بأنهم قادرون على القيام بالواجب على أكمل وجه وحفظ النظام في مناطقهم وأن القتال لا بد منه فقال الشيرازي أمام إصرارهم: (إذا كانت هذه نياتكم وهذه تعهداتكم فالله في عونكم، لكنه لم يُفتِ بشيء، وترك الباب مفتوحاً للحل الدبلوماسي، حرصاً على عدم المغامرة بدماء العراقيين)(۳).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) سلمان هادي ،الطعمة كربلاء في ثورة العشرين بيسان للنشر والتوزيع بيروت، ۲۰۰۰، ص ۱۷.
(۲) ينظر: عبد الله الفياض الثورة العراقية الكبرى سنة ۱۹۲۰ ، الطبعة ۲ ، بغداد، مطبعة دار السلام ۱۹۷۰)، ص ۲۷۹؛ رواء صباح كناوي الجنابي، المصدر السابق، ص ١٤٤-١٤٥؛ علي الوردي، المصدر السابق، الجزء ٥، ص ۱۲۸.
(۳) حسين مخيف عبد الحسين الشريفي، المشخاب دراسة تاريخية ۱۹۱۸ - ۱۹۳۹م، كلية الآداب، جامعة الكوفة ماجستير ۲۰۰۸م، ص ۷۸؛ ناجح عبد الحسين عبد علوان الرماحي، الشيخ عبد الواحد الحاج سكر ودوره السياسي في تاريخ العراق المعاصر، رسالة ماجستير، كلية الآداب، =

76
ولما أدركت مرجعية الشيخ الشيرازي الحائري عدم إمكانية الوصول مع البريطانيين إلى حلٍ يتناسب مع ما كان يبتغيه الشعب من دون ضغوط مباشرة، أيدت المظاهرات السلمية التي اندلعت في بغداد، برسالة وجهها الحائري إلى عموم العراقيين دعاهم فيها إلى مساندة حركة بغداد السلمية والمطالبة بحقوقهم وأن ترسل كل مدينة وفداً للمطالبة بحقها أسوة بأهالي بغداد. ولقد استخدم نفوذه الديني لتأجيج المقاومة ضد المحتلين على أن تُحفظ مسألة الأمن ووحدة الأمة، وأكد على احترام حقوق الطوائف جميعاً وأبناء الأقليات، ونجح في ذلك حيث توحدت جهود العراقيين من أجل مصلحة البلاد(۱).
فقد رأت المرجعية الرشيدة بثاقب بصيرتها ضرورة أن تستوعب النهضة المباركة الانتماءات العراقية كافة من الطوائف والديانات وعدم السماح للدعايات المغرضة أن تجد طريقها للنيل منها. فقد أرسلت إلى معتمدها في بغداد الحاج جعفر أبو التمن (۱۸۸۱ - ١٩٤٥) رسالة مهمة جاء فيها: (إن حركتكم الاسلامية في بغداد أفعمت قلوبنا غبطة... وينبغي عليكم أيضاً المحافظة على حقوق المسيحيين واليهود لئلا تعطوا العدو حجة حول سوء معاملتكم للأقليات)(٢).
وقد جاء في كتاب الإمام الشيرازي المهم للغاية والمؤرخ في ۲۷ ايار ۱۹۲۰ إلى الرؤساء والزعماء والأشراف والمواطنين العراقيين كافة ما نصه: (أما بعد فإن إخوانكم في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وغيرها من أنحاء العراق، قد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= جامعة الكوفة، ٢٠٠٤ ، ص ٦٣؛ عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، الطبعة ٤ ، بيروت، ۱۹۷۸ ، ص ۸۸ ؛ حسن حسن الاسدي المصدر السابق، ص ۳۸۲.
(۱) باسم فارس الغانمي المصدر السابق، ص ٤٩-٥١
(۲) عدي حاتم عبد الزهرة المفرجي، النجف الأشرف وحركة التيار الاصلاحي ۱۹۰۸-۱۹۳۲، بيروت، دار القارئ ٢٠٠٥، ص ١٢٤.

77
اتفقوا فيما بينهم على الاجتماع والقيام بمظاهرات سلمية. وقد قامت جماعة كبيرة بتلك المظاهرات مع المحافظة على الأمن طالبين حقوقهم المشروعة المنتجة لاستقلال العراق إن شاء الله بحكومة إسلامية، وذلك أن يرسل كل قطر وناحية إلى عاصمة العراق (بغداد) وفداً للمطالبة بحقه... فالواجب عليكم، بل على جميع المسلمين الاتفاق مع إخوانكم في هذا المبدأ الشريف. وإياكم والإخلال بالأمن والتخالف والتشاجر بعضكم مع بعض فإن ذلك مُضرّ بمقاصدكم ومضيع الحقوقكم التي صار الآن أوان حصولها بأيديكم. وأوصيكم بالمحافظة على جميع الملل والنحل التي في بلادكم في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، ولا تنالوا أحداً منهم بسوء أبداً. وفقكم الله لما يرضيه ...)(١).
وفضلاً عن هذه النظرة الشاملة المليئة بالحب والحنو والروح الانسانية العالية، فقد التزمت مرجعية الشيخ الشيرازي بسياسة ضبط النفس والحفاظ على الأمن في أصعب الأوقات وأحرجها، لا سيما عند قيام قوات الاحتلال البريطاني بمحاصرة كربلاء والتهديد باقتحامها إذا لم يتم تسليم المطلوبين لديها، وفي مقدمتهم الشيخ محمد رضا نجل الشيرازي وساعده الأيمن، وعدد من الوجهاء والناشطين الذين رفض مقابلتهم الحاكم السياسي للواء الشامية والنجف الأشرف الرائد نوربري M.Norbary، وأنهى بذلك إمكانية التفاوض للوصول إلى حل سلمي يحقق تطلعات الشعب في الاستقلال، لكنهم رغم ذلك وجهوا الجماهير نحو التظاهر السلمي وليس الثورة المسلحة، فأثاروا حفيظة الاحتلال وأعوانه (۲).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) محسن أبو طبيخ المبادئ والرجال بوادر الانهيار السياسي في العراق تحقيق جميل محسن أبو طبيخ، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ۲۰۰۳م)، ص ۱۲۲.
(۲) عبد الرزاق الحسني تاريخ العراق السياسي, ه, بيروت دار الكتب, ۱۹۸۲، (٥٢/١) عبد الرزاق الوهاب, كربلاء في التاريخ بغداد، مطبعة الشعب، ١٩٣٥، (١٠٢/٣).

78
عند ذاك اتخذ الشيرازي خطوة تصعيدية جديدة، بأن بعث رسالة شديدة اللهجة مخاطباً حاكم الحلة العسكري والمسؤول عن عمليات كربلاء بتاريخ ٢٢ حزيران ۱۹۲۰م، جاء فيها: (إلى حاكم سياسي الحلة الميجر بولي هداه الله قرأنا كتابكم وتعجبنا من مضمونه حيث إن جلب العساكر لمقابلة الأشخاص المطالبين بحقوقهم المشروعة الضرورية لحياتهم... وفي الليلة الماضية أردت مقابلتكم لرفع الشك في نفسكم ولكنكم امتنعتم عن ذلك... وأدعوكم عجالة لأبلغكم أن توسلكم بالقوة في قبال مطالب البلاد مخالف للعدل وإذا امتنعتم عن المجيئ في هذه المرة ايضاً فستصبح وصيتي للأمة بخصوص مراعاة السلم ملغاة في ذاتها واترك الامة وشأنها, وبهذه الصورة تقع مسؤولية نتائج السوء عليك وعلى أصحابك. وفي الختام لي الأمل أن تؤثر فيك هذه النصيحة كي لا يقع ما يفسد النظام والأمن ولكي لا تكونوا سبباً لإراقة دماء الأبرياء) (۱).
وعلى الرغم من لهجة الشيرازي الحادة هذه المرة، لكننا نجد دليلاً لا يقبل النقض أن المرجع الأعلى كان ما يزال يوصي أمته بالتزام حفظ الطابع السلمي في تحركها وتعاملها مع المحتل، يظهر ذلك جلياً من قوله السابق: (فستصبح وصيتي للأمة بخصوص مراعاة السلم ملغاة في ذاتها واترك الامة وشأنها.
وحينما تردد المطلوبون عن التسليم خوفاً من السجن أو النفي، أمرهم الميرزا الشيرازي بالذهاب حتى لو أدى ذلك الى شنقهم، دفعاً للضرر عن المدينة المقدسة ومنعاً للمحتلين عن تدنيسها، فأجابوا أمره وساروا إلى الحاكم البريطاني الرائد ،بولي، الذي اعتقلهم ونقلهم إلى الحلة ومنها إلى البصرة، ومن هناك إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية الكبرى، الطبعة ٤ ، (بيروت (۱۹۷۸) ، ص ١٦٩؛ باسم فارس الغانمي، المصدر السابق، ص۱۰۷.

79
معسكرات الاعتقال في جزيرة هنجام جنوب الخليج العربي(١). ولما علم الجميع بالأمر انهالت الرسائل والبرقيات على آية الله الحائري بالتأييد والتسليم المشورته والاستعداد للانتقام لكنه كان سامياً في موقفه فقد قال أمام جمع من العلماء والزعماء بأن كل العراقيين أولاده يهمه ،أمرهم، وأن الأهم من ولده هو أن يحصل العراقيين على غايتهم في الاستقلال والسيادة الوطنية وشجعهم في الاستمرار بمطالبتهم السلمية، محتفظين بالأمن وبحقوقهم المشروعة معاً(۲).
وكان النهج السلمي للشيرازي محل إشادة وثناء من العلماء الآخرين، مثل شيخ الشريعة الأصفهاني الركن الثاني المهم في المرجعية والذي كتب رسالة إلى القيادة البريطانية يؤنبهم فيها على إضاعتهم فرصة المفاوضات والمرونة التي اتبعها الحائري الشيرازي منذ بداية الأزمة قائلاً: (إنّ أهل العراق سالكون سبيل السلم والهدوء والسكون، ويطالبون بما يريدون من حقوقهم حسب مواعيدكم من أول الأمر ... وكان طلبهم على وجه معقول مشروع خالياً من القلاقل والمشاغبات،... مؤكداً كل ذلك بما برز قولاً، وكتب تكراراً ومراراً آية الله الشيرازي دامت بركاته... إلّا إنه بلغنا خبر عجيب كان يصعب علينا تصديقه حتى تحقق من القبض على نجل آية الله الشيرازي)(۳).
ومن جانب آخر لم يُفتِ الشيرازي بشيء حتى بعد اندلاع الثورة في الرميثة وبقاء عشائرها تقاتل الجيش المحتل وحدها نحو أسبوعين دون أن تسرع إلى نجدتها أو التخفيف عنها أي من عشائر الفرات الأوسط، مما كان مثار ألم شديد لديه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) محمد علي كمال الدين المصدر السابق ص ٩٩-١٠٠؛ إخلاص لفته حريز الكعبي، المصدر السابق، ص۱۲۸-۱۳۰.
(۲) سلمان هادي الطعمة المصدر السابق، ص ٢٤.
(۳) عبد الرزاق الحسني الثورة العراقية، ص ۱۰۹ - ۱۱۰ .

80
لا سيما عندما بلغه كثرة عدد الشهداء المنقولين إلى النجف الأشرف وأخذ يعلن تذمره من تقاعس العشائر الأخرى، لكنه تصرف بوصفه قائداً محنّكاً ومرجعاً للجميع، وقام بمساع شخصية للوصول إلى حل سلمي للأزمة، لعلمه بعدم تكافؤ القوى بين الطرفين وقرر إرسال وفد من ثقاته يترأسه الميرزا (أحمد نجل المرجع الديني الراحل الشيخ محمد كاظم الخراساني الملقب بأبي الأحرار) والسيد (محمد علي هبة الدين الشهرستاني، لمقابلة نائب الحاكم الملكي العام في بغداد السير آرنولد ویلسون مخولين وفق حدود معينة للتفاوض من أجل إيقاف القتال فقابلت السلطة البريطانية تلك الشروط بالرفض، ولم تسمح لهم بالالتقاء بنائب الحاكم، وبذلك كسبت وقتاً ثميناً لتعزيز موقفها العسكري(١).
وعليه فلم يكن لسياسة التدرّج التي اتبعتها مرجعية الشيرازي إلا أن تصل إلى نهايتها، حينما لم تُحدِ الحلول السلمية نفعاً، وفشلت كل الجهود السابقة في إقناع السلطات البريطانية بتغيير موقفها تجاه مطاليب العراقيين، وأدركت المرجعية أن مرحلة الكفاح السلمي آن لها أن تنتهي بعد أن أوغل البريطانيون في سياسة التنكيل. لهذا فقد قررت اعلان الثورة المسلحة ضد سلطة الاحتلال البريطاني، فأصدر الميرزا الشيرازي فتواه التاريخية التي جاء في نصها: (مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم من ضمن مطالبهم رعاية السلم والأمن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية اذا امتنع الإنكليز عن قبول مطاليبهم)(٢).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى...، ص ۱۲۰ ؛ فريق المزهر الفرعون، الحقائق الناصعة في الثورة العراقية سنة ۱۹۲۰ ، مطبعة النجاح بغداد، ١٩٥٢، ص ١١٤-١١٥ .
(۲) حسين مخيف عبد الحسين الشريفي، المصدر السابق، ص ۸۰؛ ناجح عبد الحسين عبد علوان الرماحي، المصدر السابق، ص ٦٢-٦٣؛ عبد الله الفياض، المصدر السابق، ص ٢٧٤؛ عبد الرزاق الحسني، ثورة النجف...، ص۳۸۳.

81
وعلى الرغم من أن هذه الفتوى كانت هي الإنطلاقة الأولى للثورة العراقية الكبرى عام ١٩٢٠م(۱)، إلا إنها عُرفت أيضاً بـ (الفتوى الدفاعية)، لأنها لم تصرح بالجهاد المباشر واستخدام القوة، بل يُفهم من منطوقها أن حمل السلاح إنما يأتي بعد محاولة أخذ الحقوق بالسياسة والمطالبة السلمية، أي أن النص الأول الدفاع مع الحرص على تحقيق الأمن والسلم (۲).
ويمكن ملاحظة أن الفتوى الدفاعية لم تخرج عن إطارها الديني، ومثل تلك الفتاوى تنقسم إلى قسمين الأول : فتاوى دفاعية سلمية، توجب معارضة جميع أنواع التسلط الخارجي المضرّ بمصلحة المسلمين العامة، كالتسلط الاقتصادي بكل ألوانه مثل الاحتكار النفطي ومنافسة البضائع الأجنبية للمنتج المحلي. والثاني: فتاوى ،دفاعية فاعليتها دفع الاعتداء الأجنبي عن بلاد المسلمين ومنع الكافرين من فرض ولايتهم على المسلمين(۳).
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن المرجعية دعت في أثناء القتال إلى حفظ النظام وضرورة استتباب الأمن واجتناب العبث بمؤسسات الدولة، وعدم تقديم أبنيتها إلا اذا كانت معقلاً لجيش الاحتلال كما أوصت بتنظيم الشؤون الداخلية، والابتعاد عن الفوضى والانحلال الذي كان من المتوقع حدوثه في تلك الظروف. بل إنّ الشيرازي ارتقى بروح الانضباط والعقلانية إلى سامية، لدرجة أنه روح عندما رأى سقوط المدن المحيطة بكربلاء بأيدي الثوار ودارت الدائرة على الحاكم السياسي للمدينة وحرسه البريطانيين وأسقط ما بأيديهم، أمر في ٢٥ تموز ۱۹۲۰
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) للاطلاع أكثر على تفاصيل الثورة ينظر : عبد الله الفياض، المصدر السابق.
(۲) رشيد الخيون، ۱۰۰ عام على الإسلام السياسي بالعراق الجزء ١ الشيعة (مركز المسبار للدراسات، دبي، ۲۰۱۱)، ص60.
(۳) هاجر دوير حاشوش المصدر السابق، ص ١٦٤ .

82
بالحفاظ على حياتهم وطردهم خارج كربلاء دون المساس بحياتهم(١). وبهذا عمل الشيرازي بالحكم الشرعى القاضي بإعطاء الأمان لمن طلبه من المشركين وتوصيلهم إلى مأمنهم بسلام.
لاحظ المرجع الديني الأعلى تركيزاً غير مبرر من قبل بعض قادة الثورة على قضية قبض البريطانيين على ولده الشيخ محمد رضا، وإنهم يريدون الثأر لابن مرجعهم، فاحتج الأخير على ذلك، ورأى فيه تغاضياً مرفوضاً عن القضية المركزية
(استقلال) (العراق) وإفشالاً لحملة الجهاد وتطرفاً يفضي إلى التلاعب بنتائجه. وذلك يتضح جلياً في كتابه إلى أحد الزعماء، حمل تعبيرات ذات مغزى عميق: (إنّ ابني ومن معه، أبعدوا في سبيل القضية العراقية، فلا ينسيكم إبعادهم قضيتكم وتشتغلوا بطلب عودتهم عن المطالبة بحقوقكم، ولا تجعلوا القبض عليهم سبباً لحمل السلاح، فتلهيكم القضايا الشخصية عن المطالب العامة، وإياكم أن تجردوا سيفاً، ولو رأيتموني بيد الإنكليز، إلا أن يسوق الإنكليز جيشاً لمحاربتكم بسبب إصراركم على المطالبة بحكم المغصوب، فهناك يجب الدفاع، ولا تذكروا في دفاعكم إلّا القضية العراقية والاستقلال الناجز التام)(٢).
كما شكل الميرزا الشيرازي في أواخر تموز ۱۹۲۰م ثلاثة مجالس لإدارة مناطق الثورة وتنظيمها هي المجلس العلمي، المجلس الحربي، المجلس الملي أو المحلي ويمكن وصفه بـ (الإدارة المدنية للبلاد)، تتمثل وظيفته في تعيين الموظفين والشرطة وتأمين الطرق وجباية الرسوم والضرائب وتوزيع النفقات والعناية بالصحة العامة وحسم الدعاوى وتأمين الطرق. كما وجّه الشيرازي أتباعه للتوسط في حل نزاعات العشائر وإصلاح ذات بينها ودعوتهم إلى الاتحاد والاتفاق وبقي حتى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) علاء عباس نعمة، ص 198 – 110 .
(۲) علي الوردي، المصدر السابق، الجزء ٥ ص ٢٣٦.

83
وفاته في ۱۷ آب ۱۹۲۰ حريصاً على متابعة شؤون الأمن وعدم السماح بانفلاتھا(۱).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) اخلاص لفته حريز الكعبي، المصدر السابق، ص ١٤٣؛ علي الوردي، المصدر السابق، الجزء، القسم ٢ ، ص ٣١٥-٣١٦.

84


الخاتمة:
تحولت مرجعية الشيخ الحائري الشيرازي من خلال مكانتها الروحية والتفاف الوطنيين حولها وتنظيمها المحكم للعملية السياسية والثورية للعراقيين كافة، إلى عنصر بارز في الساحة العراقية في التاريخ المعاصر ، لكونها أعلت شأن الوطن وجعلت من بنائه عامل الرجاء والأمل، الأمر الذي يستحق الإشادة واستحضار الحالة تاريخياً.
ويبدو أن جهود الشيخ الحائري الشيرازي قد أثمرت نضجاً وحدوياً ووعياً وطنياً تجاوز ما كان متوقعاً، فقد راهن المحتل البريطاني وأعوانه على تفجر الانفعالات الطائفية بين العراقيين وانفلات الأمور واندلاع الفتن، بحيث يسهل له السيطرة عليهم والتحكم بمصائرهم، لكن ما أظهره الشعب العراقي من تلاحم وتماسك مع حدوث مؤامرات ضخمة على وحدته ووعي المرجعية الدينية ووعي سائر النخب الطرفين قد فوت الفرصة على الأعداء.
لقد حاول الحائري أن يُوجد حالة من التفاهم بين السنة والشيعة ليتجاوزوا خلافاتهم التاريخية ويتعاونوا الحاضرهم ومستقبلهم، وأن يكونوا نموذجاً من التعايش السلمي تشيع فيه ثقافة احترام الآخر وسد كل الثغرات التي من شأنها أن تعكّر صفو المحبة والسلام ،معه والثورة العراقية الكبرى لعام ۱۹۲۰ لطرد الاستعمار البريطاني من أكبر شواهد الوحدة الإسلامية والوئام الوطني في العراق التي سعى إليها الشيخ الحائري وسارت عليها باقي المرجعيات الدينية اللاحقة.
ولم يحصر الشيرازي مقاومة الاحتلال البريطاني في تلك المرحلة بالعمل العسكري بل ركز على الحوار والتهدئة مما جعله أكثر مرونة وانفتاحاً في المرحلة الأولى من الحكم البريطاني، إدراكاً منه للتحديات الخطيرة المحيطة بالبلاد، وأن أحداً لم يكن

85
قادراً على تحدي جيش الغزاة المدجج بأحدث الأسلحة والمعدات، فاتجه المتعاطي معه ولو مؤقتاً، تنويعاً منه في الأساليب وتغييراً للأدوات كل بحسب ما تقتضيه احداث كل مرحلة.
وعلى الرغم من ان فتوى الشيرازي المعروفة كانت هي الانطلاقة الأولى للثورة العراقية الكبرى عام 1920، إلا إنها عرفت أيضاً بـ (الفتوى الدفاعية)، لأنها لم تصرح بالجهاد المباشر واستخدام القوة، بل دعت ايضاً إلى جانب ذلك إلى محاولة أخذ الحقوق بالسياسة والمطالبة السليمة. بل يفهم من منطوقها ان حمل السلاح إنما يأتي بعد محاولة اخذ الحقوق بالسياسة والمطالبة السلمية. ومن الجدير بالذكر أيضاً ان المرجعية دعت في أثناء القتال إلى حفظ النظام وضرورة استتباب الامن، واجتناب العبث بمؤسسات الدولة، وعدم تهديم أبنيتها، إلا إذا كانت معقلاً لجيش الاحتلال.
لذلك فإن المرجعية المعاصرة المتجسدة في السيد علي السيستاني (دام عزه) قد أسست مشروعها تجاه الاحتلال الأمريكي على مرتكزين هما: كم واسع من الفهم والاستيعاب للتراكم التاريخي المعرفي للفقه الشيعي من جهة، ووعي الظروف الحالية المحيطة، بما يحفظ للعراق سيادته وهيبته، ويمنع إراقة الدماء من جهة أخرى.
التاريخية أظهرت ان المرجعية الدينية الرش يدة هي المؤسسة التي تحظى أكثر من غيرها بثقة المجتمع العراقي فيها. وإن الاستجابة الشعبية الفورية لفتوى الجهاد الكفائي عام 2014 لها خلفية تاريخية أبعد من المرحلة الحالية، لأن روح الانتصار لتلك المؤسسة تمثل جزءاً من الهوية العراقية وركناً وثيقاً من بنيتها الشخصية ، وسمة بارزة من سمات الحالة الإيمانية والوعي الوطني المتقدم.


فتوى الدفاع الكفائي


النص الكامل لخطبة صلاة الجمعة بتاريخ (14شعبان 1435هـ)

ما ورد في خطبة الجمعة لممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في (14/ شعبان /1435هـ) الموافق ( 13/6/2014م ) قال الشيخ الكربلائي في خطبة صلاة الجمعة الثانية من الصحن الحسيني الشريف ما يأتي :
إن العراق وشعبه يواجه تحدياً كبيراً وخطراً عظيماً وإن الارهابيين لا يهدفون إلى السيطرة على بعض المحافظات كنينوى وصلاح الدين فقط بل صرحوا بأنهم يستهدفون جميع المحافظات ولا سيما بغداد وكربلاء المقدسة والنجف الأشرف ، فهم يستهدفون كل العراقيين وفي جميع مناطقهم ، ومن هنا فإن مسؤولية التصدي لهم ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفةٍ دون أخرى أو بطرفٍ دون آخر.
وأكد الكربلائي : إن التحدي وإن كان كبيراً إلاّ أن الشعب العراقي الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام وتحمّل المسؤولية الوطنية والشرعية في الظروف الصعبة أكبر من هذه التحديات والمخاطر . المزيد