دعا الباحث الشيخ محمد موسى حيدر العاملي، إلى دراسة الجوانب المختلفة السياسية والاجتماعية الثقافية والدينية، للغيبة الصغرى للإمام المهديّ(عجّل الله فرجه الشريف)، دراسةً متكاملةً تتعرّض لكلّ أبعادها. جاء ذلك خلال إلقائه بحث افتتاح مؤتمر الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه الشريف) العلميّ الثاني، ضمن فعّاليات أسبوع الإمامة الدوليّ الذي تقيمه العتبة العبّاسية المقدّسة.
وأدناه مقتطفات من البحث: لا بدّ أن يكون الكلام في ختام أسبوع الإمامة عن الإمام الخاتم(عليه الصلاة والسلام)، وقد ارتأى الإخوة الأكارم القائمون على هذا المؤتمر المبارك، أن يتمحور الحديث حول التوقيعات الشريفة الصادرة من ناحيته المقدّسة في فترة الغيبة الصغرى، ومن المعلوم لنا جميعاً كما حدّثتنا به الرواياتُ المُستفِيضة وشهد بصدقها واقع الحال، أن الإمام الثاني عشر (عليه السلام) كانت له غيبتان صغرى وكبرى، وعلى حدّ تعبير شيخنا المفيد قصرى وطولى، وهذا التعبير يناسبه ما ورد في بعض الروايات أو في كثيرٍ من الروايات، من أنّ له غيبتين إحداهما أطول من الأخرى، وأيضاً قد يعبّر عن هاتين الغيبتين بالغيبة الجزئية والغيبة التامّة، لأنه أيضاً ورد في بعض الروايات كما تعلمون ومنها التوقيع الأخير الصادر من ناحيته المقدّسة إلى سفيره الرابع علي بن محمد السمري، أنه لا تُوصي إلى أحدٍ من بعدك فقد وقعت الغيبة التامّة، وما يُقابلها هو الغيبة الجزئية لأنّه بقطع النظر عن التسميات ما تتميّز به فترة ما بين ولادة الإمام المهديّ(عجّل الله تعالى فرجه الشريف) إلى عام 329 للهجرة سنة وفاة السفير الرابع، عمّا بعد هذه الفترة، وما تتميّز به هاتان الفترتان أمران أساسيان، الأمر الأوّل قصر مدّة أولاهما 69 سنة في قِبال طول المدّة الأخرى، التي استمرّت من سنة 329 إلى يومنا هذا، يعني ما يقرب من 1186 سنة تقريباً، فتتميّز هاتان الفترتان بقصر أولاهما، وهذا طبيعيّ من جهة أنّ أولاهما كانت تمهيداً لثانيتهما، وتهيئةً للواقع الشيعيّ لتقبُّل فكرة الإمام المنقطع عن شيعته ومواليه، حتّى لا يُصدم الواقع الشيعيّ بهذه الحقيقة بشكلٍ مُفاجئ ومُباشر، لذلك كانت هناك مرحلة قصيرة تميّزت مع قصرها بأنّه كان هنا نحو من الاتّصال بين الإمام وبين شيعته، فهو(عليه السلام) لم ينقطع عن شيعته انقطاعاً كلّياً إنّما كان يتّصل بهم ويتّصلون به عن طريق السفراء المنصوبين من قِبله، فكانت تخرج التوقيعات من ناحيته إلى شيعته عبر هؤلاء السفراء، إمّا ابتداءً أو جوابًا عمّا يسأل الشيعة عنه ممّا يهمّهم من أمر دينهم ودنياهم، وهاتان الميزتان الأساسيتان اللتان تتميّز بها هاتان الفترتان والحقبتان الزمنيتان، إحدى الميزتين هي قصر وطول المدّة، وهي ليست ذات صلة بمحور بحثنا الذي هو التوقيعات، وإن كان يجدر التنبيه إلى أن طول المدّة يوجب الغربلة والتمحيص، كما وردت الإشارة إلى ذلك في الآيات والروايات (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)، الاعتقاد بدايةً بإمامٍ غائب عن الأنظار لا يُمكن الاتّصال به أو رؤيته أو أخذ التعاليم بشكلٍ مباشرٍ منه، قد يكون سهلاً في بداية الأمر مع قصر المدّة ووجود سفراء يتّصلون به ويوصلون رسائله إلى شيعته، ولكن كلّما طال الأمد بطبيعة الحال تبدأ القافلة بالتعب، ويبدأ ضعاف النفوس وأصحاب العزيمة الواهية بالتشكيك ثمّ الارتداد عن القول بإمامته، كما ورد في الروايات حتّى يقول قائلهم: مات أو هلك. ولا يثبت على هذا الأمر إلّا أصحاب البصائر الصابرون، أصحاب العزيمة القويّة الذين ينجحون في هذا الامتحان الكبير، والذين يثبتون على القول بإمامته في زمن غيبته، والذين بشّرهم أمير المؤمنين(عليه السلام) في الروايات بأنهم معه في درجته بالجنة، الذي يهمّنا هو مسألة اتّصال الإمام الحجّة بشيعته في فترة غيبته الصغرى، عن طريق السفراء المنصوبين من قِبله، الذين كانت تخرج التوقيعات عن طريقهم إلى الشيعة، ولم يقتصر الأمر كما تعلمون على وجود السفراء الأربعة فحسب، بل كان هناك وكلاء منتشرون في أصقاع الأرض وفي أماكن تواجد الشيعة، وكان الشيعة يتّصلون بالسفراء من خلال الوكلاء الثقاة المعيّنين من قِبل الناحية المقدّسة، والسفراء كانوا يتّصلون بالإمام (عليه السلام)، هذه الحقبة تستحقّ منّا كشيعةٍ أن ندرسها بجوانبها المختلفة، الجانب السياسي في تلك الحقبة، الجانب الاجتماعي، الثقافي، الديني، تستحقّ أن نكتب عن حقبة الغيبة الصغرى دراسةً متكاملةً تتعرّض لكلّ أبعاد تلك الحقبة، لكن فيما يتعلّق بالتوقيعات التي هي محلّ بحثنا فالذي وصل إلينا ممّا وصلنا من توقيعاته (سلام الله عليه) يقرب المائة توقيع، هذه التوقيعات بالخصوص تحتاج منّا إلى دراسةٍ فقهية رصينة، لأنّ هذه التوقيعات في الحقيقة لا تختلف عن سائر الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، والتي يجب أن تُدرّس على ضوء أصول المذهب وقواعده والطريقة المتلقّاة عن الأئمّة(عليهم السلام)، والمعمول بها بين فقهائنا من أصحاب الأئمّة منذ زمن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) إلى يومنا هذا. عندما أقول أن هذه التوقيعات يجب أن تدرس دراسةً فقهيةً رصينة، لا أقصد بذلك أنه يجب أن ندرس البعد الفقهي في هذه التوقيعات فحسب، البعد الفقهي في هذه التوقيعات درَسَه علماؤنا وإن كان يتحمّل مزيداً من البحث، فباب الاجتهاد عندنا مفتوح ولا يُغلق أبداً، ولكن البعد الفقهي لهذه التوقيعات تعرّض له علماؤنا وفقهاؤنا في الأبواب الفقهية المختلفة، على سبيل المثال التوقيع الصادر من الناحية المقدّسة لإسحاق بن يعقوب، الذي يرويه الشيخ الكليني ويرويه الشيخ الصدوق، والشيخ الطوسي عبر الكليني عن إسحاق بن يعقوب، وفيه الفقرة المشهورة (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّة الله عليكم وأنا حجّة الله عليهم)، وأوسَعَ علماؤنا في كتبهم الفقهيّة هذه الفقرة من التوقيع بحثاً وسنداً ودلالةً، وهل يمكن أن يُستفاد منها مجرّد الإمضاء، السيرة القائمة على الرجوع إلى الفقهاء وأخذ الأحكام منهم؟ أم يُستفاد منها جعل ولاية القضاء وفضّ النزاع والخصومة للفقيه؟ أو يُستفاد منها أكثر من ذلك في ثبوت الولاية العامّة للفقيه فيما يرجع إلى الأمور العامّة وإدارة الشؤون وما نحو ذلك، أعني أن تدرس هذه التوقيعات دراسةً فقهيةً رصينةً، وليس دراسة البعد الفقهي في هذه التوقيعات، بل دراسة كلّ الأبعاد الموجودة في هذه التوقيعات سواء كانت أبعاداً عقائدية أو فقهية أو تاريخية أو أخلاقية أو غير ذلك من الأبعاد، تربوية، اجتماعية، فضائل، كرامات، مثالب، كلّ هذه الأبعاد تُدرس على ضوء الأسس والقواعد المعمول بها بين فقهائنا بدراسة فقهية، بحيث يدرسها الباحث بما هو فقيه، وهذا يُعطي هذه الأبحاث عند ذلك قيمةً علميةً من جهة وتميّزاً عن غيرها من الأبحاث من جهةٍ أخرى، كمثالٍ حيٍّ على ذلك ما قام به السيد محمد سعيد الحكيم (قدّس سرّه) لمّا تطرّق خارج إطار الفقه، ولكن تطرّق إلى العقيدة في كتابه (أصول العقيدة)، و(في رحاب العقيدة) إلى التاريخ، والسيرة في كتابه (فاجعة الطفّ)، وسيرة النبيّ الأعظم في كتابه (خاتم النبيّين)، ما يميّز هذه الكتب وما يجعل لها تميّزاً في المكتبة الشيعية أنّه كتبها فقيهٌ من منظورٍ فقهيّ وبلسان الفقهاء، وبفهمهم وتحليلهم وعلى أساس الضوابط التي يعمل بها الفقهاء. أحبّ أن أشير إلى أمرين على سبيل المثال في هذه التوقيعات، الأمر الأوّل هو ما يذكره البعض ممّن قد يتّخذ ذريعة للتشكيك بموثوقية هذه التوقيعات ككلّ. البعض قال أن كلّ هذه التوقيعات ليست موثوقة عند علمائنا، إذ يقولون أن المحمّدِينَ الثلاثة لم ينقلوا هذه التوقيعات في كتبهم الأربعة، مثل الكليني في (الكافي) والصدوق في (من لا يحضره الفقيه) والشيخ الطوسي في (التهذيبَين)، وبحسب قولهم إن هذا يشير إلى أن هذه التوقيعات لم تصل إلى هؤلاء الأركان بنحوٍ يوجب الوثوق بها والركون إليها، وإلّا كانوا أوردوا شيئاً منها في كتبهم الأربعة، التي هي أهمّ كتب الشيعة الحديثية وعليها مدار الاستنباط وإليها مرجعهم في الأصول والفروع، ولكن لا يخفى عليكم أن هذا التشكيك في غير محلّه. إن التوقيعات مئة توقيع تقريباً، ورغم أنه لم يورد المحمّدونَ الثلاثة شيئاً من هذه التوقيعات في كتبهم الأربعة، ولكن لا لعدم موثوقيّتها عندهم وعدم وصولها إليها بنحوٍ يركن إليه، مصادرنا الحديثية لا تنحصر بالكتب الأربعة، مثلاً (محاسن البرق) وهو أقدم عهداً من الكتب الأربعة هو من مصادرنا الحديثية المهمّة، ويظهر من كتب الفهارس أن (محاسن البرق) أضعاف ما وصل إلينا منه، فقد كان يضمّ مئة وعشرين كتاباً وما وصل إلينا منه ثلاثة عشراً كتاباً، ولعلّه كان بحجم الكافي الشريف مثلاً، ولكن وصل إلينا منه هذا المقدار وهو من المصادر الحديثية الشيعية. كتاب الصدوق غير (من لا يحضره الفقيه)، (العلل ومعاني الأخبار) و(عيون الأخبار) وغير ذلك من كتب ومصنّفات علمائنا الحديثية، كلّها مصادر للحديث، فمصادرنا الحديثية لا تنحصر بالكتب الأربعة حتّى نقول إذا كان الحديث لم يوجد في الكتب الأربعة فهذا غير صحيح وغير موثوق، ولا يمكن العمل به والركون إليه. ثانياً المحمّدون الثلاثة لم يوردوا هذه التوقيعات في كتبهم الأربعة ليس لعدم وثوقهم بها، بل لأنهم ألّفوا كتباً مخصوصةً بالغيبة وشؤون الغيبة، عندنا عنوان كتب الغيبة عند علمائنا منها كتاب (كمال الدين وإتمام النعمة) للشيخ الصدوق، وكتاب (الغيبة) لمحمد بن إبراهيم النعماني المعروف بابن أبي زينب صاحب كتاب الغيبة، وهو تلميذ الشيخ الكليني وراوي الكافي، كذلك (كمال الدين) للشيخ الصدوق يُعدّ من كتب الغيبة، وكتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي، أي أن علماءنا أفردوا لهذه التوقيعات في كتب الغيبة أبواباً مستقلّة. الشيخ الصدوق أورد من هذه التوقيعات (49) توقيعاً، والشيخ الطوسي أورد (43) توقيعاً منها اثنا عشر توقيعاً نقلها عن الشيخ الصدوق، وهناك توقيعاتٌ أُخَر نقلها علماء متأخّرون عن الشيخ الطوسي كالشيخ الطبرسي وغيره، قد نقلوها في كتبهم. الشيخ الكليني يتميّز بأنّه عاش كلّ حياته في زمن الغيبة الصغرى، إذ توفّي عام 329 وهو العام الذي توفّي فيه السفير الرابع، ووقعت الغيبة الكبرى والغيبة التامّة، فضلاً عن أنه عاش حياته في زمن الغيبة الصغرى، فقد عاش فترةً من حياته في بغداد وكان معاصراً للسفراء، وبالتالي لِمَ لَمْ يورد في الكافي شيئاً من هذه التوقيعات؟ بكلّ بساطة لأنّ الشيخ الكليني له كتاب لم يصل إلينا عنوانه (رسائل الأئمّة عليهم السلام) وهذه التوقيعات هي من جملة رسائل الأئمّة؛ لأنّ التوقيع لم يكن مختصّاً بفترة الغيبة الصغرى، وعملية المكاتبة والمراسلة بين الشيعة والإمام بدأت منذ زمن الإمام الكاظم(عليه السلام)، وما فرضته ظروف سجن الإمام من أن يكاتبه الشيعة ويكاتبهم، واستمرّت حتى زمن الهادي والعسكريّ إلى زمن الإمام المهدي(عجّل الله فرجه) في زمن الغيبة الصغرى، فلا بدّ أن الشيخ الكليني قد ذكر هذه التوقيعات في كتابه (رسائل الأئمّة) ولكن لم يصل إلينا من مؤلّفات الشيخ الكليني سوى كتاب الكافي الشريف، وكفى به كتاباً معتَمَدَ الفِرقةِ الناجية أصولاً وفروعاً وأجلّ كتبنا الحديثية. الأمر الآخر هو أنّ هناك نقطةً مهمّة يجب أن نلحظها فيما يرتبط بحقبة الغيبة الصغرى، وهي أن الإمام المهديّ(عجّل الله تعالى فرجه الشريف) سدّ باب السفارة بعد وفاة السفير الرابع بنحوٍ قاطع لا لبسَ فيه ولا شكّ فيه، الإمام (صلوات الله عليه) نعى إلى السمريّ نفسه قبل أيّام من وفاته وقال له: (إنّك ميتٌ ما بينك وبين ستّة أيّام، فأجمِعْ أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ من بعدِك، فقد وقعت الغيبة التامّة، وسيأتي من شيعتي مَن يدّعي الرؤية والمشاهدة، ألا فكلّ من ادّعى الرؤية والمشاهدة بعد ذلك فهو كاذبٌ مفترٍ)، وخرج هذا التوقيع من السمريّ إلى الشيعة، وتأكّدت هذه الحقيقة بين الشيعة بنحو أن الشيخ الطوسي يروي في كتابه (الغيبة) بسندٍ صحيح عن شيخ الطائفة في زمانه الشيخ المفيد، عن أبي الحسن علي بن بلال المهلبي وهو ثقة وكان شيخ الشيعة في البصرة، عن محمد بن جعفر بن قولويه صاحب كتاب (كامل الزيارات) المتوفّى سنة 368 للهجرة، الذي يقول في حقّه النجاشي: كلّ ما يوصف به الناس من جميلٍ وثقة وثّقه فهو فوقه، يقول: (عندنا أنّ من ادّعى الرؤية فهو مُنمِّسٌ كافرٌ ضالّ مضلّ).