أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2017
292
التاريخ: 31-10-2017
526
|
قال تعالى : {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَو يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى } [المعارج: 1 - 18].
{سأل سائل بعذاب واقع} قيل إن هذا السائل هو الذي قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية وهو النضر بن الحارث بن كلدة فيكون المعنى دعا داع على نفسه بعذاب واقع مستعجلا له وهو واقع بهم لا محالة عن مجاهد وقيل سأل المشركون فقالوا لمن هذا العذاب الذي تذكر يا محمد فجاء جوابه بأنه {للكافرين ليس له دافع} عن الحسن وقيل معناه دعا داع بعذاب على الكافرين وذلك الداعي هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الجبائي وتكون الباء في بعذاب مزيدة على التوكيد كما في قوله وهزي إليك بجذع النخلة والتقدير سأل سائل عذابا واقعا وقيل هي بمعنى عن وعليه تأويل قول الحسن لأنهم سألوا عن العذاب لمن هو وقيل الباء للتعدي أي بإنزال عذاب وعليه تأويل قول مجاهد وقيل إن معنى سأل سائل على قراءة من قرأ بالألف من سال يسيل سيلا والتقدير سال سيل سائل بعذاب واقع وقيل سائل اسم واد في جهنم سمي به لأنه يسيل بالعذاب عن ابن زيد.
وأخبرنا السيد أبو الحمد قال حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال حدثنا أبوعبد الله الشيرازي قال حدثنا أبوبكر الجرجاني قال حدثنا أبو أحمد البصري قال حدثنا محمد بن سهل قال حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار قال حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عليا (عليه السلام) يوم غدير خم وقال من كنت مولاه فعلي مولاه طار ذلك في البلاد فقدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) النعمان بن الحرث الفهري فقال أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من عند الله فقال والله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله فولى النعمان بن الحرث وهو يقول اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله وأنزل الله تعالى {سأل سائل بعذاب واقع}.
وقوله {ليس له دافع} {من الله ذي المعارج} أي ليس لعذاب الله دافع من الله وقيل معناه بعذاب للكافرين واقع من الله أي وقوعه من الله وذي المعارج صفة الله سبحانه وقيل فيه وجوه {أحدها} أن معناه ذي الفواضل العالية والدرجات التي يعطيها للأنبياء والأولياء في الجنة لأنه يعطيهم المنازل الرفيعة والدرجات العلية وهو معنى قول قتادة والجبائي {وثانيها} أنها معارج السماء أي مواضع عروج الملائكة عن ابن عباس ومجاهد وقال الكلبي معناه ذي السماوات لأن الملائكة تعرج فيها {وثالثها} أنه بمعنى ذي الملائكة أي مالك الملائكة التي تعرج إلى السماء ومنه ليلة المعراج لأنه عرج بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى السماء فيها.
{تعرج الملائكة والروح} أي تصعد الملائكة ويصعد الروح أيضا معهم وهو جبرائيل خصه بالذكر من بين الملائكة تشريفا له {إليه} أي إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سواه فيه حكم جعل سبحانه عروجهم إلى ذلك الموضع عروجا إليه كقول إبراهيم (عليه السلام) إني ذاهب إلى ربي إلى الموضع الذي وعدني ربي {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} اختلف في معناه فقيل تعرج الملائكة إلى الموضع الذي يأمرهم الله به في يوم كان مقداره من عروج غيرهم خمسين ألف سنة وذلك من أسفل الأرضين إلى فوق السماوات السبع وقوله في سورة السجدة في يوم كان مقداره ألف سنة هو لما بين السماء الدنيا والأرض في الصعود والنزول خمسمائة سنة في الصعود وخمسمائة سنة في النزول عن مجاهد والمراد أن الآدميين لو احتاجوا إلى قطع هذا المقدار الذي قطعته الملائكة في يوم واحد لقطعوه في هذه المدة وقيل أنه يعني يوم القيامة وأنه يفعل فيه من الأمور ويقضي فيه من الأحكام بين العباد ما لو فعل في الدنيا لكان مقداره خمسين ألف سنة عن الجبائي وهو معنى قول قتادة وعكرمة وروى أبوسعيد الخدري قال قيل يا رسول الله ما أطول هذا اليوم فقال والذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال لو ولي الحساب غير الله لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا والله سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة وعنه أيضا قال لا ينتصف ذلك اليوم حتى يقبل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقيل معناه أن أول نزول الملائكة في الدنيا وأمره ونهيه وقضائه بين الخلائق إلى آخر عروجهم إلى السماء وهو القيامة هذه المدة فيكون مقدار الدنيا خمسين ألف سنة لا يدري كم مضى وكم بقي وإنما يعلمه الله عز وجل وقال الزجاج يجوز أن يكون قوله {في يوم} من صلة واقع فيكون المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وذلك العذاب يقع يوم القيامة.
{فاصبر} يا محمد على تكذيبهم إياك {صبرا جميلا} لا جزع فيه ولا شكوى على ما تقاسيه {إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} أخبر سبحانه أنه يعلم مجيء يوم القيامة وحلول العقاب بالكفار قريبا ويظنه الكفار بعيدا لأنهم لا يعتقدون صحته وكل ما هو آت فهو قريب دان فالرؤية الأولى بمعنى الظن والثانية بمعنى العلم ثم أخبر سبحانه أنه متى يقع العذاب بهم فقال {يوم تكون السماء كالمهل} أي كدردي الزيت(2) عن ابن عباس وقيل كعكر القطران عن عطاء وقيل مثل الفضة إذا أذيبت عن الحسن وقيل مثل الصفر المذاب عن أبي مسلم {وتكون الجبال كالعهن} أي كالصوف المصبوغ وقيل كالصوف المنفوش عن مقاتل وقيل كالصوف الأحمر عن الحسن يعني إنها تلين بعد الشدة وتتفرق بعد الاجتماع قال الحسن إنها أولا تصير كئيبا مهيلا ثم تصير عهنا منفوشا ثم هباء منثورا.
{ولا يسأل حميم حميما} لشغل كل إنسان بنفسه عن غيره عن مجاهد وقيل لا يسأل حميم حميما أن يتحمل عنه من أوزاره ليأسه منه ذلك في الآخرة عن الحسن وقال الأخفش الحميم من يخصه الرجل مودة وشفقة من قريب الرحم وبعيدة والحامة الخاصة وقيل معناه أنه لا يحتاج إلى سؤاله لأنه يكون لكل علامة يعرف بها فعلامة الكافرين سواد الوجوه وزرقة العيون وعلامة المؤمنين نضارة اللون وبياض الوجوه .
ولما وصف سبحانه القيامة وأخبر أن الحميم فيه لا يسأل حميمه لشغله بنفسه قال {يبصرونهم} أي يعرف الكفار بعضهم بعضا ساعة ثم لا يتعارفون ويفر بعضهم من بعض عن ابن عباس وقتادة وقيل يعرفهم المؤمنون عن مجاهد أي يبصر المؤمن أعداءه على حالهم من العذاب فيشمت بهم ويسر وقيل يعرف أتباع الضلالة رؤساءهم وقيل إن الضمير يعود إلى الملائكة وقد تقدم ذكرهم أي يعرفهم الملائكة ويجعلون بصراء بهم فيسوقون فريقا إلى الجنة وفريقا إلى النار {يود المجرم} أي يتمنى العاصي {لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه} يتمنى سلامته من العذاب النازل به بإسلام كل كريم عليه من أولاده الذين هم أعز الناس عليه {وصاحبته} أي زوجته التي كانت سكنا له وربما آثرها على أبويه {وأخيه} الذي كان ناصرا له ومعينا {وفصيلته} أي وعشيرته {التي تؤويه} في الشدائد وتضمه ويأوي إليها في النسب.
{ومن في الأرض جميعا} أي وبجميع الخلائق يقول يود لو يفتدي بجميع هذه الأشياء {ثم ينجيه} ذلك الفداء {كلا} لا ينجيه ذلك قال الزجاج كلا ردع وتنبيه أي لا يرجع أحد من هؤلاء فارتدعوا {إنها لظى} يعني أن نار جهنم أو القصة لظى نزاعة للشوى وسميت لظى لأنها تتلظى أي تشتعل وتلتهب على أهلها وقيل لظى اسم من أسماء جهنم وقيل هي الدركة الثانية منها وهي {نزاعة للشوى} تنزع الأطراف فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته عن مقاتل وقيل تنزع الجلد وأم الرأس عن ابن عباس وقيل تنزع الجلد واللحم عن العظم عن الضحاك وقال الكلبي يعني تأكل الدماغ كله ثم يعود كما كان وقال أبو صالح الشوى لحم الساق وقال سعيد بن جبير العصب والعقب وقال أبو العالية محاسن الوجه {تدعو من أدبر وتولى} يعني النار تدعو إلى نفسها من أدبر عن الإيمان وتولى عن طاعة الله ورسوله عن قتادة والمعنى أنه لا يفوت هذه النار كافر فكأنها تدعوه فيجيبها كرها وقيل إن الله تعالى ينطق النار حتى تدعوهم إليها وقيل معناه تدعو زبانية النار من أدبر وتولى عن الحق فجعل ذلك سبحانه دعاء من النار عن الجبائي وقيل تدعو أي تعذب رواه المبرد عن الخليل قال يقال دعاك الله أي عذبك {وجمع} المال {فأوعى} أي أمسكه في الوعاء فلم ينفقه في طاعة الله فلم يؤد زكاة ولم يصل رحما وقيل جمعه من باطل ومنعه عن الحق .
________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص118-124.
2- دردي الزيت : ما يبقى راسبا في اسفله من الكدر . والعكر – محركة – بمعنى الدردي من كل شيء.
{سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ} . قلنا فيما سبق : ان المشركين أعرضوا عن دعوة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) لأسباب أولا : انها حرب على مكاسبهم وأرباحهم . ثانيا : ان اللَّه لا يبعث بزعمهم بشرا رسولا ، وان كان ولا بد فيختاره من الأغنياء لا من الفقراء أمثال محمد بن عبد اللَّه . ثالثا : ان محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) يدعو إلى التوحيد ، وهم يؤمنون بتعدد الآلهة . رابعا : انه يخوّفهم من البعث والعذاب بعد الموت ، وهذا ما ينكرونه أشد الإنكار : {أَإِذا مِتْنا وكُنَّا تُراباً وعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} . وإذا أكّد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ذلك وأصر عليه قالوا : متى هذا الوعد ؟ وفي بعض الأحيان يستعجلون العذاب ساخرين {وإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُو الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَو ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} - 32 الأنفال .
ومن أجل هذا قال كثير من المفسرين : ان قوله تعالى : {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} . هو إشارة إلى ما طلبوا من تعجيل العذاب ، وان اللَّه سبحانه قد أجابهم عن هذا الطلب بقوله : {لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ} أي ان العذاب نازل بالجاحدين لا محالة سواء أطلبوا التعجيل أم التأجيل .
الشيطان والبحث عن الغيب :
{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ} صفة للَّه تعالى ، والمراد به الرفعة والعلو، ومثله الآية 15 من سورة غافر : {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ} . {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . المراد بالروح جبريل ، وخصه سبحانه بالذكر مع انه من جملة الملائكة لعلو شأنه ، وضمير إليه يعود إلى ما هو معلوم عند اللَّه والملائكة ، والخمسون ألف سنة كناية عن طول المدة .
وذكر الأستاذ أحمد أمين العراقي هذه الآية في كتابه {التكامل في الإسلام} واستخرج منها ان الملائكة يسيرون بسرعة تفوق سرعة الصوت ، ذلك بأن سعة الكون لا حد لها ولا نهاية ، ويكفي دليلا على هذه الحقيقة ان بعض النجوم قد أرسلت ضوءها إلى الأرض منذ ملايين السنين ، ولم يصل بعد إليها مع العلم بأن الضوء يقطع 300000 ك م في الثانية . وعليه يستحيل ان يقطع الملائكة المسافات الشاسعة الواسعة إلا إذا كان سيرهم أسرع من سير الضوء أضعافا مضاعفة .
وقلنا عند تفسير قوله تعالى : {ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} - 17 الحاقة : ان هذا الموضوع وما إليه لا يثبت إلا بالنص الصريح الذي يفيد القطع والجزم ، ولا يقبل التأويل بحال ، وانه لوكان من باب الحلال والحرام لكان لظن الفقيه وجه إذا استند إلى ظاهر الكتاب أو السنة . وقال بعض الصوفية :
ليس المراد بخمسين ألف سنة السنوات التي نعرفها ، بل المراد الأطوار والأدوار .
وقال صوفي آخر : ان أيام اللَّه هي كما يشاء ، فإن شاء جعلها ألفا ، وان شاء جعلها آلافا وملايين .
وهذا غيب في غيب ، ونحن غير مسؤولين عن علمه أمام اللَّه ، وما كلفنا بالبحث عن كنهه إلا الشيطان . . قال الإمام علي (عليه السلام) : (وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنّة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) والأئمة أثره فكل علمه إلى اللَّه سبحانه ، فإن ذلك منتهى حق اللَّه عليك ، واعلم ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب - الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين) .
{فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ونَراهُ قَرِيباً} . حذر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) المشركين من يوم العذاب ، فتعجلوه ساخرين . . فقال سبحانه لنبيه الكريم : إذا استخفوا بيوم العذاب وسخروا منه فاصبر أنت يا محمد على هزئهم واستخفافهم صبرا لا جزع فيه ولا شكوى ، ولا تستبطئ النصر عليهم ، وإذا تحيلوا يوم العذاب أباطيل وأساطير فهو عند اللَّه آت لا ريب فيه ، وكل آت قريب . . ثم وصف سبحانه اليوم الذي به يوعدون ومنه يسخرون ، وصفه بقوله : {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ} . تذوب الأجرام السماوية ، وتصبح تماما كالزيت العكر ، ومثله قوله تعالى : {وإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} - 2 التكوير . {وتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ} يخالها الرائي صوفا قد فرّق ونفش ، ومثله : {وبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا} 5 الواقعة أي فتتت .
{ولا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} لأن كل إنسان في شغل شاغل بنفسه عن غيره ، والسعيد في ذلك اليوم من ادّخر له الصالحات {يُبَصَّرُونَهُمْ} بتشديد الصاد وفتحها من بصرته الشيء إذا أوضحته له ، و واو الجماعة تعود إلى {حميم} المرفوع بالنظر إلى معناه وان كان اللفظ مفردا ، و{هم} تعود إلى {حميما} المنصوب باعتبار إرادة الجمع منه أيضا ، والمعنى لا أحد يسأل أحدا يوم القيامة حتى ولوكان من الأصدقاء والأقارب مع ان بعضهم يعرف بعضا في ذلك ، ولكنه يفر منه لما به من الكرب والبلاء .
{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَو يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وصاحِبَتِهِ وأَخِيهِ وفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ومَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ} . وتومئ {ثم} إلى البعد أي هيهات
هيهات أن ينجيه ذلك ، والمراد بالصاحبة الزوجة ، وبالفصيلة العشيرة ، والمعنى واضح ويتلخص بأن أسير جهنم يود لو يفادى من الهول بجميع أهل الأرض حتى الزوجة والأبناء الذين كان بالأمس يفتديهم بنفسه ، ويرتكب من أجلهم المخاطر والأهوال . . وهذا أبلغ تصوير لأسف المجرم على ما فات ، ولهفته على الخلاص والنجاة .
{كلا} أيها المجرمون . . لا تمنيات في هذا اليوم ، ولا شيء لكم فيه إلا جهنم أنتم لها واردون {إِنَّها لَظى} وما أدراك ما لظى ؟ {نَزَّاعَةً لِلشَّوى} . تنتزع الأعضاء من أماكنها وتشويها ، ثم تعاد كما كانت ، وتنتزع مرة أخرى وتعاد .
وهكذا إلى ما لا نهاية : {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} - 36 فاطر {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وتَوَلَّى} في الدنيا عن دعوة الهدى والحق ، والمراد بدعوة النار له ان هاربها لا مفر له منها ولا ملجأ {وجَمَعَ فَأَوْعى} من الوعاء لا من الوعي أي كنز المال في وعاء ونحوه ، والآية تهديد ووعيد لمن جمع المال وحرص عليه ، ولم ينفقه في طاعة اللَّه ، والجمع بين كانز المال ومن كذّب دعوة الحق يشعر بأنهما سواء عند اللَّه في يوم الحساب والجزاء .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص413-416.
الذي يعطيه سياق السورة أنها تصف يوم القيامة بما أعد فيه من أليم العذاب للكافرين.
تبتدىء السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذابا من الله للكافرين فتشير إلى أنه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثم تصف اليوم الذي يقع فيه والعذاب الذي أعد لهم فيه وتستثني المؤمنين الذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحق والعمل الصالح.
وهذا السياق يشبه سياق السور المكية غير أن المنقول عن بعضهم أن قوله: {والذين في أموالهم حق معلوم} مدني والاعتبار يؤيده لأن ظاهره الزكاة وقد شرعت بالمدينة بعد الهجرة، وكون هذه الآية مدنية يستتبع كون الآيات الحافة بها الواقعة تحت الاستثناء وهي أربع عشرة آية قوله: إلا المصلين - إلى قوله - في جنات مكرمون مدنية لما في سياقها من الاتحاد واستلزام البعض للبعض.
ومدنية هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه وهو على الأقل ثلاث آيات قوله: إن الإنسان خلق هلوعا - إلى قوله - منوعا.
على أن قوله: {فما للذين كفروا قبلك مهطعين} متفرع على ما قبله تفرعا ظاهرا وهوما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضا مدنية.
ومن جهة أخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافين حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اليمين وعن الشمال عزين وهم الرادون لبعض ما أنزل الله من الحكم وخاصة قوله: {أ يطمع كل امرىء منهم} إلخ، وقوله: {على أن نبدل خيرا منهم} إلخ على ما سيجيء، وموطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكة، ولا ضير في التعبير عن هؤلاء بالذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة وغيرها.
على أنهم رووا أن السورة نزلت في قول القائل: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وقد تقدم في تفسير الآية أن سياقها والتي بعدها سياق مدني لا مكي.
لكن المروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد بالحق المعلوم في الآية حق يسميه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.
ولا عبرة بما نسب إلى اتفاق المفسرين أن السورة مكية على أن الخلاف ظاهر وكذا ما نسب إلى ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الحاقة.
قوله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} السؤال بمعنى الطلب والدعاء، ولذا عدي بالباء كما في قوله: {يدعون فيها بكل فاكهة آمنين{: الدخان: 55 وقيل: الفعل مضمن معنى الاهتمام والاعتناء ولذا عدي بالباء، وقيل: الباء زائدة للتأكيد، ومآل الوجوه واحد وهو طلب العذاب من الله كفرا وعتوا.
وقيل: الباء بمعنى عن كما في قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] ، وفيه أن كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع.
على أن سياق الآيات التالية وخاصة قوله: {فاصبر صبرا جميلا} لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار والاستخبار.
فالآية تحكي سؤال العذاب وطلبه عن بعض من كفر طغيانا وكفرا، وقد وصف العذاب المسئول من الأوصاف بما يدل على إجابة الدعاء بنوع من التهكم والتحقير وهو قوله: {واقع} وقوله: {ليس له دافع}.
والمعنى سأل سائل من الكفار عذابا للكافرين من الله سيصيبهم ويقع عليهم لا محالة ولا دافع له أي أنه واقع عليهم سأل أولم يسأل ففيه جواب تحقيري وإجابة لمسئوله تهكما.
قوله تعالى: {للكافرين ليس له دافع} للكافرين متعلق بعذاب وصفة له، وكذا قوله: {ليس له دافع} وقد مرت الإشارة إلى معنى الآية.
قوله تعالى: {من الله ذي المعارج} الجار والمجرور متعلق بقوله: {دافع} أي ليس له دافع من جانب الله ومن المعلوم أنه لو اندفع لم يندفع إلا من جانب الله سبحانه، ومن المحتمل أن يتعلق بقوله: {بعذاب}.
والمعارج جمع معرج وفسروه بالمصاعد وهي الدرجات وهي مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسره قوله بعد: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم} إلخ فله سبحانه معارج الملكوت ومقاماتها المترتبة علوا وشرفا التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من الله وليست بمقامات وهمية اعتبارية.
وقيل: المراد بالمعارج الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق والعمل الصالح قال تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10] ، وقال: { وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [الحج: 37].
وقيل: المراد به مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان والعمل الصالح قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163] وقال: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال: 4] وقال: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15].
والحق أن مآل الوجهين إلى الوجه الأول، والدرجات المذكورة حقيقية ليست بالوهمية الاعتبارية.
قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.
والمراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنه بحيث لو وقع في الدنيا وانطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا والمراد بعروج الملائكة والروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإن يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط وتقطع الأسباب وارتفاع الروابط بينها وبين مسبباتها والملائكة وسائط موكلة على أمور العالم وحوادث الكون فإذا تقطعت الأسباب عن مسبباتها وزيل الله بينهم ورجع الكل إلى الله عز اسمه رجعوا إليه وعرجوا معارجهم فحفوا من حول عرش ربهم وصفوا قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] ، وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38].
والظاهر أن المراد بالروح الروح الذي هومن أمره تعالى كما قال: { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] وهو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [النحل: 2].
فلا يعبأ بما قيل: إن المراد بالروح جبرئيل وإن أطلق عليه الروح الأمين وروح القدس في قوله: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ } [الشعراء: 193، 194] وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102] فإن المقيد غير المطلق.
قوله تعالى: {فاصبر صبرا جميلا} لما كان سؤال السائل للعذاب عن تعنت واستكبار وهو مما يشق تحمله أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر ووصفه بالجميل - والجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع والشكوى، وعلله بأن اليوم بما فيه من العذاب قريب.
قوله تعالى: {إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} ضميرا {يرونه} و{نراه} للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع ويؤيد الأول قوله فيما بعد: {يوم تكون السماء كالمهل} إلخ.
والمراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازية ورؤيتهم ذلك بعيدا ظنهم أنه بعيد من الإمكان فإن سؤال العذاب من الله سبحانه استكبارا عن دينه وردا لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد وإن تفوه به السائل، ورؤيته تعالى ذلك قريبا علمه بتحققه وكل ما هو آت قريب.
وفي الآيتين تعليل أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر الجميل فإن تحمل الأذى والصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أن الفرج قريب وتذكر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنتهم واستكبارهم في سؤالهم العذاب صبرا جميلا لا يشوبه جزع وشكوى فأنا نعلم أن العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، وعلمنا لا يتخلف عن الواقع بل هو نفس الواقع.
قوله تعالى: {يوم تكون السماء كالمهل} المهل المذاب من المعدنيات كالنحاس والذهب وغيرهما، وقيل: دردي الزيت، وقيل: عكر القطران.
والظرف متعلق بقوله: {واقع} على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: {وتكون الجبال كالعهن} العهن مطلق الصوف، ولعل المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } [القارعة: 5].
وقيل: هو الصوف الأحمر، وقيل: المصبوغ ألوانا لأن الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود.
قوله تعالى: {ولا يسأل حميم حميما} الحميم القريب الذي تهتم بأمره وتشفق عليه.
إشارة إلى شدة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتى أن الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.
قوله تعالى: {يبصرونهم} الضميران للأحماء المعلوم من السياق والتبصير الإراءة والإيضاح أي يرى ويوضح الأحماء للأحماء فلا يسئلونهم عن حالهم اشتغالا بأنفسهم.
والجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: لا يسأل حميم حميما سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فأجيب: يبصرونهم ويمكن أن يكون {يبصرونهم} صفة {حميما{.
ومن رديء التفسير قول بعضهم: إن معنى قوله: {يبصرونهم} يبصر الملائكة الكفار، وما قيل: إن المعنى يبصر المؤمنون أعداءهم من الكفار وما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، وما قيل: إن المعنى يبصر اتباع الضلالة رؤساءهم.
وهي جميعا وجوه لا دليل عليها.
قوله تعالى: {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه} قال في المجمع،: المودة مشتركة بين التمني وبين المحبة يقال: وددت الشيء أي تمنيته ووددته أي أحببته أود فيهما جميعا.
انتهى، ويمكن أن يكون استعماله بمعنى التمني من باب التضمين.
وقال: والافتداء الضرر عن الشيء ببدل منه انتهى، وقال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة.
انتهى، وذكر بعضهم أن الفصيلة عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.
وسياق هذه الآيات سياق الإضراب والترقي بالنسبة إلى قوله: {ولا يسأل حميم حميما} فيفيد أن المجرم يبلغ به شدة العذاب إلى أن يتمنى أن يفتدي من العذاب بأحب أقاربه وأكرمهم عليه بنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته وجميع من في الأرض ثم ينجيه الافتداء فيود ذلك فضلا عن عدم سؤاله عن حال حميمه.
والمعنى {يود} ويتمنى {المجرم} وهو المتلبس بالأجرام أعم من الكافر {لو يفتدي من عذاب يومئذ} وهذا هو الذي يتمناه، والجملة قائمة مقام مفعول يود.
{ببنيه} الذين هم أحب الناس عنده {وصاحبته} التي كانت سكنا له وكان يحبها وربما قدمها على أبويه {وأخيه} الذي كان شقيقه وناصره {وفصيلته} من عشيرته الأقربين {التي تؤويه} وتضمه إليها {ومن في الأرض جميعا} من أولي العقل {ثم ينجيه} هذا الافتداء.
قوله تعالى: {كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى} كلا للردع، وضمير {أنها} لجهنم أو للنار وسميت لظى لكونها تتلظى وتشتعل، والنزاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، والشوى الأطراف كاليد والرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، وإيعاء المال إمساكه في وعاء.
فقوله: {كلا} ردع لتمنيه النجاة من العذاب بالافتداء وقد علل الردع بقوله: {أنها لظى} إلخ ومحصله أن جهنم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنها تطلب المجرمين لتعذبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائنا ما كان.
فقوله: {إنها لظى} أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها ولا تخمد، وقوله: {نزاعة للشوى} أي صفتها إحراق الأطراف واقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذبه.
وقوله: {تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى} أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهية إلى الإيمان بالله وأعرض عن عبادته تعالى وجمع المال فأمسكه في وعائه ولم ينفق منه للسائل والمحروم.
وهذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي وذكر الصلاة والإنفاق فيه.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص5-10.
العذاب العاجل:
من هنا تبدأ سورة المعارج حيث تقول: {سأل سائل بعذاب واقع} ، هذا السائل كما قلنا في سبب النزول هو النعمان بن الحارث أو النضر بن الحارث وكان هذا بمجرّد تعيين الإمام علي(عليه السلام) خليفة ووليّاً في (غدير خم) وانتشار هذا الخبر في البلاد، حيث رجع مغتاظاً إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هل هذا منك أم من عند اللّه؟ فأجابه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مصرّحاً: «من عند اللّه»، فإزداد غيظة وقال: اللّهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه اللّه بحجارة من السماء فقتله.(2)
هناك تفسير آخر أعم من هذا التّفسير وأعم منه، وهو أنّ سائل سأله لمن هذا العذاب الذي تتحدث عنه؟ فيأتي الجواب في الآية الاُخرى: {للكافرين ليس له دافع}.
وحسب تفسير ثالث يكون هذا السائل هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والذي دعا على الكافرين بالعذاب فنزل.
ولكن مع أنّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة للآية فإنّه منطبق تماماً على روايات سبب النزول.
ثمّ يضيف بأنّ هذا العذاب خاص بالكفار ولا يستطيع أحد دفعه عنهم: {للكافرين ليس له دافع}.(3)
وتصف الآية الاُخرى من ينزل العذاب منه، وهو اللّه ذي المعارج فتقول الآية: {من اللّه ذي المعارج}، أي صاحب السماء التي يعرج إليها الملائكة.
«المعرج» جمع «معرج» بمعنى المصعد أو المكان الذي منه يصعدون، إذ أنّ اللّه جعل للملائكة مقامات مختلفة يتوجهون بها إلى قربه بالتدريج، وقد وصف اللّه تعالى بذي المعارج.
نعم، الملائكة المأمورون بتعذيب الكفّار والمجرمين، والذين هبطوا على إبراهيم(عليه السلام)، وأخبروه بأنّهم قد أُمروا بإبادة قوم لوط، وفعلوا ذلك إذ قلبوا بلاد أُولئك القوم الفاسقين رأساً على عقب.
وهم الذين أُمروا كذلك بتعذيب المجرمين الباقين.
وقيل المراد بـ (المعارج) الفضائل والمواهب الإلهية، وقيل المراد بها (الملائكة)، ولكن المعنى الأوّل هو أنسب، وهو ملائم للمفهوم اللّغوي.
وقوله تعالى : {تَعْرُجُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة(4) فَاصْبِرْ صَبْرَاً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدَاً(6) وَنَرَاهُ قَرِيباً}:
يوم مقداره خمسين ألف سنة:
بعد إيراد قصّة العذاب الدنيوي الذي أصاب من طلب العذاب تبحث الآيات أمر المعاد والعذاب الأُخروي للمجرمين في ذلك اليوم.
في البداية يقول تعالى: (تعرج الملائكة والرّوح إليه ـ أي إلى اللّه ـ في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المشهور أنّ المراد من عروج الملائكة هو العروج الروحي، وليس العروج الجسمي، يعني أنّهم يسرعون في التقرب إلى المقام الإلهي وهم مهيّئون لإستلام الأوامر في ذلك اليوم الذي يراد به يوم القيامة، وكما قلنا سابقاً في تفسير الآية (17) من سورة الحاقة من أنّ المراد من الآية {والملك على أرجائها} هو اليوم الذي يجتمعون فيه في السماء ينتظرون لتنفيذ ما يأمرون(4).
والمراد بالرّوح هو (الرّوح الأمين) وهو أكبر الملائكة، وهذا ما اُشير إليه أيضاً في سورة القدر حيث يقول تعالى: {تنزل الملائكة والرّوح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر} ومن الطبيعي أنّ الرّوح لها معان مختلفة بحسب تتناسب مع القرائن الموجودة، فمن الممكن أن يعطي في كلّ موضوع معنى خاص، والرّوح يراد به روح الإنسان، وكذا يراد منه القرآن، وبمعنى روح القدس، وبمعنى ملك الوحي، كلّ ذلك من معاني الرّوح، وهذا ما يشار إليه في بقية آيات القران.
وأمّا المراد بكون (خمسين ألف سنة) هو ذلك اليوم الذي بحيث لو وقع في الدينا كان مقداره خمسين ألف سنة من سني الدينا، وهذا لا ينافي ما جاء في الآية (5) من سورة السجدة من إنّ ذلك يوم مقداره ألف سنة، ولأجل ذلك ذكر في الرّوايات أنّ ليوم القيامة خمسين موقفاً، وكلّ موقف منه يطول بمقدار ألف سنة.(5)
واحتمل البعض أيضاً أنّ هذا العدد (خمسين ألف سنة) للكثرة لا العدد، أي أنّ ذلك اليوم طويل جدّاً.
على أيّ حال فقد كان هذا ما يخصّ المجرمين والظلمة والكفار، ولهذا روي في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه سأل سائل من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآية عن طول ذلك اليوم؟ فقال: «والذي نفس محمّد بيده إنّه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدينا»(6).
ثمّ يخاطب اللّه تعالى رسوله الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الأُخرى ويقول: {فاصبر صبراً جميلاً}.
المراد بـ (الصبر الجميل) هو ما ليس فيه شائبة الجزع والتأوه والشكوى، وفي غير هذا الحال لا يكون جميلاً.(7)
ثمّ يضيف: {إنّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً} إنّهم لا يصدقون بوجود مثل ذلك اليوم الذي يحاسب فيه جميع الخلائق حتى أصغر حديث وعمل لهم، وذلك في اليوم مقداره خمسون ألف سنة، ولكنّهم في الواقع ما عرفوا اللّه وفي قلوبهم ريب بقدرة اللّه.
إنّهم يقولون: كيف يمكن جمع العظام البالية والتراب المتناثر في كل حدب وصوب ثمّ يردّ إلى الحياة؟ {وقد ذكر القرآن كلامهم هذا في كثير من آياته} ثمّ كيف يمكن أن يكون اليوم بمقدار خمسين ألف سنة.
الطريف أنّ العلم الحاضر يقول: إنّ مقدار كلّ يوم في أي من الأجرام السماوية يختلف عن بعضها الآخر، لأنّ دوران الجرم السماوي حول نفسه مرّة واحدة تابع إلى فترة زمنية معينة، ولهذا فإنّ اليوم فِي القمر بمقدرا اسبوعين على ما هو في الأرض، حتى أنّهم يقولون: يمكن أن تقل سرعة الحركة الوضعية للأرض وذلك بمرور الزمن ويصبح اليوم الواحد فيها كالشهر أو كالسنة أو مئات السنين، ونحن لا نقول، إنّ الزمان في يوم القيامة كذلك ، بل نقول إن اليوم الذي يبلغ مقداره خمسين ألف سنة، ليس عجيباً في مقاييس عالم الدنيا.
وقوله تعالى : {يَوْمَ تَكُونُ الَّسمَآءُ كَالْمُهْلِ(8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ(9) وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً(10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الُْمجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذ بِبَنِيهِ(11) وَصحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُؤِيهِ (13) وَمَنْ فِى الأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ يُنجِيهِ (14)كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى(15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى(16) تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)وَجَمَعَ فَأَوْعَى}
وتضيف هذا الآيات على البحوث السابقة حول القيامة إيضاحات أكثر، حيث يقول اللّه تعالى: {يوم تكون السماء كالمهل}(8)، {وتكون الجبال كالعهن}.
«المهل»: على وزن (قفل) وهو المذاب من المعدن كالنحاس والذهب وغيرهما، ويراد له أحياناً دردي الزيت المتخلف من زيت الزيتون، وهذا هو ما يناسب المعنى الأوّل، وإن لم يكن هناك اختلاف في مقام التشبيه.
«العهن»: مطلق الصوف المصبوغ ألوناً.
نعم، في مثل ذلك اليوم تتلاشى السموات وتذوب، تتدكدك الجبال ثمّ تتناثر في الهواء كالصوف في مهب الرّيح، وبما أنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فإنّها شبهت بالصوف المصبوغ بالألوان، ثمّ يتحقق عالم جديد وحياة جديدة للبشرية بعد كلّ هذا الخراب.
وعندما يحلّ يوم القيامة في ذلك العالم الجديد فسيكون فيه الحساب عسيراً ومرعباً بحيث ينشغل كل بنفسه، ولا يفكر بالآخر حتى لو كان من خلّص اصدقائه وأحبائه: {ولا يسأل حميم حميماً}(9).
الكلّ مشغول بنفسه، ويفكر بخلاص نفسه يقول في سورة عبس (37): {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 37] (10).
ولا يعني ذلك أنّ الأصدقاء والأقرباء ينكر بعضهم بعضاً، بل إنّهم يعرفونهم ويقول تعالى: (يبصرونهم)(11)، غاية الأمر هو أنّ هول الموقف ووحشته لا يمكنه من التفكر بغيره.
وإكمالاً للحديث وتوضيحاً لذلك الموقف الموحش، يضيف تعالى: {يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه}.
وليس ببنيه فحسب بل، يودّ أن يفتدي العذاب بزوجته وأخيه أيضاً (وصاحبته وأخيه).
(وفصيلته التي تؤيه) أي عشيرته واقرباءه الذين كان يأوي إليهم في الدنيا: {ومن في الأرض جميعاً ثمّ ينجيه}.
نعم، إنّ عذاب اللّه شديد في ذلك اليوم المهول الى حدّ يودّ الأنسان فيه أن يفدي أعزّته وهم أربع مجاميع: «الأولاد، الزوجات، الإخون، عشيرته الأقربون الناصرون له» فيضحي بهم لخلاص نفسه، وليس فقط اُولئك بل إنّه مستعد للإفتداء بمن في الأرض جميعاً لينجي نفسه!
«يود»: من (الود) على وزن (حبّ) أي يحب ويتمنى، ويقول الراغب: يمكن استعمال أحد المعنيان (بل الإثنان معاً).
«يفتدي»: من (الفداء) أي حفظ النفس من المصائب والمشاكل بوسيلة تسديد أو دفع شيء ما.
«الفصيلة»: هي العشيرة والعائلة التي انفصل وتولّد منها الإنسان.
«تؤيه»:من (الإيواء) من الشدائد واللجوء إليها ويأوي إليها في النسب.
وقال بعض المفسّرين بأنّ (ثمّ) في (ثمّ ينجيه) تدل على أنّهم يعملون أنّ هذا الإفتداء لا ينفع شيئاً، وأنّه محال (لأنّ ثمّ تأتي عادة في المسافة والبعد).
ولكنّه يجيب على كلّ هذه الأماني والآمال في قوله: (كلاّ) أي لا تقبل الفدية والإفتداء.
(إنّها لظى) نار ملتهبة تحرق كلّ من بجانبها وفي مسيرها.
(نزاعة للشوى) تقلع اليد والقدم وجلد الوجه.
«لظى»: تعني لهيب النّار الخالص، وهي اسم من أسماء جهنم أيضاً، يمكن الأخذ بالمعنيين الآية.
«نزاعة»: أي أنّها تقتلع وتفصل بالتوالي و«شوى»: الأطراف كاليد والأرجل، وتأتي أحياناً بمعنى الشواء، ولكن المراد هنا هو المعنى الأوّل، لأنّه عندما تتصل النّار المحرقة وليبها بشيء فإنّها تحرق وتفصل أوّلاً الأطراف والجوانب وفروع ذلك.
ويرى بعض من المفسّرين أنّ الشوى هو جلد البدن، والبعض يقول أنّه اُم الرأس، والبعض الآخر: يفسّره بلحم الساق، وقد أجمع الجميع على المعنى الأوّل الذي قلناه، والعجيب أنّه مع هذا الحال فليس في الأمر موت!
ثمّ يشير إلى من يكون فريسة لمثل هذه النّار، فيقول: {تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى}.
وبهذا فإنّ هذه النّار المحرقة تدعو اُولئك المجرمين إلى نفسها سواء بلسان حالها وجاذبيتها الخاصّة المودعة فيها تجاه المجرمين، أو بلسان مقالها الذي أعطاها اللّه إيّاها: إنّها تدعو اُولئك المتصفين: بهاتين الصفتين الإعراض عن الإيمان وعدم طاعة اللّه ورسوله، ومن جهة اُخرى يفكرون دائماً بجمع الأموال من الحرام والحلال وادخارها من دون أن يلتفتوا إلى حقوق البائسين والمحرومين، أو أنّهم يجهلون فلسفة المال الذي يعتبر من النعم الإلهية.
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص423-433.
2 ـ الباء في (بعذاب واقع) حسب هذا التفسير باء زائدة للتأكيد وفي نظر البعض تعني (عن)، وهذا ممّا يطابق التّفسير الثّاني (يجب الألتفات إلى أنّ السؤال إذا كان بصيغة الطلب يتعدى بمفعولين وإذا كان بمعنى الإستفسار يكون مفعوله الثّاني مع (عن).
3 ـ (واقع) صفة للعذاب و(للكافرين) صفة ثانية و(ليس له دافع) صفة ثالثة وقد احتمل أن
(الكافرين) له علاقة بـ (العذاب) وإذا كانت (اللام) تعني (على) فإنّها ستتعلق بـ (واقع).
4 ـ وردت تفاسير اُخرى لعروج الملائكة لا يمكن الإعتماد على أيّ منها ومن ذلك: المراد من الزمان هي الفترة التي بدأت الملائكة بالصعود والنزول منذ بداية الدنيا إلى نهايتها تكون مقدار خمسين ألف سنة، وهذا هو عمر الحياة ولكن الآيات التي تليها تدلّ على أنّ الحديث يخصّ يوم القيامة ولا يخصّ الدّينا (فتدبّر).
5 ـ نقل هذا الحديث في أمالي الشّيخ بإسناده إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) وهو مطابق لما نقله الحويزي في كتابه نور الثقلين، ج5، ص413.
6 ـ مجمع البيان، ج10، ص353، والقرطبي، ج10، ص6761.
7 ـ بسطنا الكلام في معنى الصبر الجميل في التفسير الأمل، ج7 (من الطبعة العربية) في قصّة النّبي يعقوب ويوسف(عليهما السلام).
8 ـ لـ (يوم) احتمالات متعددة في الإعراب، ولكن الأفضل أن يكون بدلاً من (قريباً) في الآية السابقة أو متعلقاً بفعل محذوف مثل (اذكر).
9 ـ «الحميم»: تقدم أنه في الأصل يعني الماء المغلي والمحرق ثمّ اُطلق كذلك على الأصدقاء المخلصين والحقيقيين.
10 ـ وردت تفاسير اُخرى، منها: لا يسأل أحد عن أحوال الآخر لأنّ أحوالهم ظاهرة في وجوههم، وإذا كانت ظاهرة فلا مبرر للسؤال، ولا يمكن أحد تحمل المسؤولية، مسؤولية أعماله عن الآخرين ولكن التّفسير الأوّل هو الأصح.
11 ـ مع أنّ «حميم» قد جاء في المرحلتين بصورة المفرد، فقد جاء في «يبصرونهم» ضمير بصورة الجمع لأنّ له معنىً جنسي.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن مشروع الحزام الأخضر البدء بالمرحلة الثانية لتأهيل واحة الإمام الحسين (عليه السلام)
|
|
|