أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-10-2017
8214
التاريخ: 26-10-2017
13806
التاريخ: 26-10-2017
5207
|
قال تعالى : {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } [الحاقة : 1 - 18].
{الحاقة} اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور وهي الصادقة الواجبة الصدق لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع صادقة الوجود {ما الحاقة} استفهام معناه التفخيم لحالها والتعظيم ولشأنها ثم زاد سبحانه في التهويل فقال {وما أدراك ما الحاقة} أي كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال قال الثوري يقال للمعلوم ما أدراك ولما ليس بمعلوم ما يدريك في جميع القرآن وإنما قال لمن يعلمها ما أدراك لأنه إنما يعلمها بالصفة.
ثم أخبر سبحانه عن المكذبين بها فقال {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} أي بيوم القيامة وإنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة إلا فقد كان يكفي أن يقول كذبت ثمود وعاد بها ثم أخبر سبحانه عن كيفية إهلاكهم فقال {فأما ثمود} وهم قوم صالح {فأهلكوا بالطاغية} أي أهلكوا بطغيانهم وكفرهم عن ابن عباس ومجاهد وقيل معناه أهلكوا بالصيحة الطاغية وهي التي جاوزت المقدار حتى أهلكتهم عن قتادة والجبائي وأبي مسلم وقال الزجاج أهلكوا بالرجفة الطاغية وقيل بالخصلة المتجاوزة لحال غيرها في الشدة التي أهلك الله بها أهل الفساد {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر} أي باردة عن ابن عباس وقتادة كأنه تصطك الأسنان بما يسمع من صوتها لشدة بردها وقيل الصرصر الشديدة العصوف المتجاوزة لحدها المعروف.
{عاتية} عتت على خزانها في شدة الهبوب روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال ما يخرج من الريح شيء إلا عليها خزان يعلمون قدرها وعددها وكيلها حتى كانت التي أرسلت على عاد فاندفق منها فهم لا يعلمون قدر غضب الله فلذلك سميت عاتية {سخرها عليهم} أي سلطها الله وأرسلها عليهم {سبع ليال وثمانية أيام} قال وهب وهي التي تسميها العرب أيام العجوز ذات برد ورياح شديدة وإنما نسبت هذه الأيام إلى العجوز لأن عجوزا دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب فانقطع العذاب في اليوم الثامن وقيل سميت أيام العجوز لأنها في عجز الشتاء ولها أسامي مشهورة قالوا لليوم الأول صن وللثاني صنبر والثالث وبر وللرابع مطفىء الجمر وللخامس مكفي الظعن وقيل للسادس الآمر وللسابع المؤتمر والثامن المعلل وقال في ذلك شاعرهم :
كسع الشتاء بسبعة غبر *** أيام شهلتنا مع الشهر(2)
فبأمر وأخيه مؤتمر *** ومعلل وبمطفيء الجمر
فإذا انقضت أيام شهلتنا *** بالصن والصنبر والوبر
ذهب الشتاء موليا هربا *** وأتتك وافدة من النجر(3)
{حسوما} أي ولاء متتابعة ليست لها فترة عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة كأنه تتابع عليهم الشر حتى استأصلهم وقيل دائمة عن الكلبي ومقاتل وقيل قاطعة قطعتهم قطعا حتى أهلكتهم عن الخليل وقيل مشائيم نكداء قليلة الخير حسمت الخير عن أهلها عن عطية {فترى القوم فيها} أي في تلك الأيام والليالي {صرعى} أي مصروعين {كأنهم أعجاز نخل خاوية} أي أصول نخل بالية نخرة عن قتادة وقيل خاوية فارغة خالية الأجواف عن السدي وقيل ساقطة مثل قوله أعجاز نخل منقعر {فهل ترى لهم من باقية} أي من نفس باقية وقيل من بقاء والباقية بمعنى المصدر مثل العافية والطاغية والمعنى هل ترى لهم من بقية أي لم يبق منهم أحد {وجاء فرعون ومن قبله} مر معناه {والمؤتفكات} أي وجاء أهل القرى المؤتفكات أي المنقلبات بأهلها عن قتادة وهي قرى قوم لوط يريد الأمم والجماعات الذين ائتفكوا {بالخاطئة} أي بخطيئتهم التي هي الشرك والكفر فالخاطئة مصدر كالخطأ والخطيئة وقيل معناه بالأفعال الخاطئة أي بالنفس الخاطئة {فعصوا رسول ربهم} فيما أمرهم به وقيل إن المراد بالرسول الرسالة كما في قول الشاعر :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم *** بسر ولا أرسلتهم برسول(4)
أي برسالة عن أبي مسلم والأول أظهر {فأخذهم} الله العقوبة {أخذة رابية} أي زائدة في الشدة عن ابن عباس وقيل نامية زائدة على عذاب الأمم وقيل عالية مذكورة خارجة عن العادة .
ثم بين سبحانه قصة نوح (عليه السلام) فقال {إنا لما طغى الماء} أي جاوز الحد المعروف حتى غرقت الأرض بمن عليها إلا من شاء الله نجاته {حملناكم في الجارية} أي حملنا آباءكم في السفينة عن ابن عباس وابن زيد {لنجعلها لكم تذكرة} أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلناها من إغراق قوم نوح ونجاة من حملناه عبرة لكم وموعظة تتذكرون بها نعم الله تعالى وتشكرونه عليها وتتفكرون فيها فتعرفون كمال قدرته وحكمته.
{وتعيها أذن واعية} أي وتحفظها أذن حافظة لما جاء من عند الله عن ابن عباس وقيل سامعة قائلة لما سمعت عن قتادة وقال الفراء لتحفظها كل أذن فتكون عظة لمن يأتي بعد وروى الطبري بإسناده عن مكحول أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اللهم اجعلها أذن علي ثم قال علي (عليه السلام) فما سمعت شيئا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فنسيته وروى بإسناده عن عكرمة عن بريدة الأسلمي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لعلي (عليه السلام) ((يا علي إن الله تعالى أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وتعي وحق على الله أن تعي)) فنزل {وتعيها أذن واعية} أخبرني فيما كتب بخطه إلي المفيد أبو الوفاء عبد الجبار عبد الله بن علي الرازي قال حدثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي والرئيس أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الكاتب والشيخ أبوعبد الله حسن بن أحمد بن حبيب الفارسي قالوا حدثنا أبوبكر محمد بن أحمد بن محمد المفيد الجرجاني قال سمعت أبا عمرو عثمان بن خطاب المعمر المعروف بأبي الدنيا الأشج قال سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول لما نزلت {وتعيها أذن واعية} قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ((سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا علي)).
{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} وهي النفخة الأولى عن عطا والنفخة الأخيرة عن مقاتل والكلبي {وحملت الأرض والجبال} أي رفعت من أماكنها {فدكتا دكة واحدة} أي كسرتا كسرة واحدة لا تثنى حتى يستوي ما عليها من شيء مثل الأديم الممدود وقيل ضرب بعضها ببعض حتى تفتت الجبال وسفتها الرياح وبقيت الأرض شيئا واحدا لا جبل فيها ولا رابية بل تكون قطعة مستوية وإنما قال دكتا لأنه جعل الأرض جملة واحدة والجبال دكة واحدة {فيومئذ وقعت الواقعة} أي قامت القيامة {وانشقت السماء} أي انفرج بعضها من بعض {فهي يومئذ واهية} أي شديدة الضعف بانتقاض بنيتها وقيل هو أن السماء تنشق بعد صلابتها فتصير بمنزلة الصوف في الوهي والضعف {والملك على أرجائها} أي على أطرافها ونواحيها عن الحسن وقتادة والملك اسم يقع على الواحد والجمع والسماء مكان الملائكة فإذا وهت صارت في نواحيها وقيل إن الملائكة يومئذ على جوانب السماء تنتظر ما يؤمر به في أهل النار من السوق إليها وفي أهل الجنة من التحية والتكرمة فيها.
{ويحمل عرش ربك فوقهم} يعني فوق الخلائق {يومئذ} يعني يوم القيامة {ثمانية} من الملائكة عن ابن زيد وروي ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم بأربعة آخرين فيكونون ثمانية وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى عن ابن عباس {يومئذ تعرضون} يعني يوم القيامة تعرضون معاشر المكلفين {لا تخفى منكم خافية} أي نفس خافية أو فعلة خافية وقيل الخافية مصدر أي خافية أحد وروي في الخبر عن ابن مسعود وقتادة أن الخلق يعرضون ثلاث عرضات ثنتان فيها معاذير وجدال والثالثة تطير الصحف في الأيدي فأخذ بيمينه وآخذ بشماله وليس يعرض الله الخلق ليعلم من حالهم ما لم يعلمه فإنه عز اسمه العالم لذاته يعلم جميع ما كان منهم ولكن ليظهر ذلك لخلقه.
______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، جج10 ، ص103- 109.
2-الابيات لابن الاحمر ، ونسبها بعض الى ابي شبل الاعرابي . والكسع : شدة المر ، يقال كسعه بكذا وكذا : اذا جعله تابعا له ، ومذهبا به . والشهلة : العجوز . والغبر : البقية.
3- النجر : الحر .
4- باح بسره : أظهره.
{الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} . المراد بالحاقة القيامة ، وسميت بذلك لأنها واجبة الوقوع ، أما الاستفهام عنها مع تكرار اللفظ فالقصد منه التخويف من شدائدها وأهوالها ، وانها فوق ما تسمعه الآذان ، وتراه العيون ، وتتصوره العقول . . ومن أجل هذا أعاد سبحانه الاستفهام فقال : {وما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ} . أي شيء أعلمك بها أيها الإنسان ؟ . وهل من أحد يحيط علما بكنهها حتى يخبرك عنه ؟ . . وكل ما نعرفه من أحوال القيامة ان للمتقين جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وللمجرمين {نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها} 36 فاطر .
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وعادٌ بِالْقارِعَةِ} . ثمود قوم صالح وعاد قوم هود ، والقارعة من أسماء القيامة مثل الحاقة {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} وهي صيحة العذاب ، وطغيانها كناية عن شاتها مثل طغى الماء وهاج البحر {وأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ} . باردة مهلكة بالغة العنف {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} . دامت هذه المدة دون انقطاع ولا فتور {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى} مطروحين على الأرض {كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} . وكل ميت هو جماد خاو مفزع ولوكان على ورد وحرير {فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} كلا ، ولا ناعية .
وتقدم الكلام عن عاد وثمود مفصلا انظر تفسير الآية 5 - 79 من سورة الأعراف ج 3 ص 346 وما بعدها والآية 0 - 68 من سورة هود ج 4 ص 237 والآية 23 - 159 ج 5 ص 507 .
{وجاءَ فِرْعَوْنُ ومَنْ قَبْلَهُ والْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً} . المراد بالمؤتفكات المنقلبات ، وهي قرى قوم لوط ، ويتلخص المعنى بأن فرعون وقومه وأمثالهم من الأولين ، ومنهم قوم لوط - كذبوا أنبياء اللَّه ورسله ، وفعلوا أفعالا خاطئة ، فأخذهم اللَّه لذنوبهم بعقوبة تجاوزت في هولها وشدتها حد التصور . وما أكثر السور والآيات التي تحدثت عن فرعون وقومه ، منها الآية 03 - 137 من سورة الأعراف ج 3 ص 370 . وأيضا سبق الكلام عن لوط وقومه أكثر من مرة ، من ذلك الآية 0 - 84 من سورة الأعراف ج 3 ص 352 .
{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} . حملناكم على حذف مضاف أي حملنا آباءكم المؤمنين في سفينة نوح . وأيضا تقدم الكلام عن نوح وسفينته مرات ، منها في الآية 9 - 64 من سورة الأعراف ج 3 ص 344 {لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً} .
الهاء تعود إلى قصة نوح وسفينته ، وكررها سبحانه في كتابه لتكون عظة وعبرة .
وأيضا ليعرف كل إنسان انه لولا سفينة نوح لما كان لأبناء آدم وحواء بعد الطوفان عين ولا أثر . . وقد أبعد أبو العلاء حين دعا على أمنا حواء بالعقم لأن الوجود من حيث هو نعمة كما قال أرسطو وتلاميذه .
{وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ} . جاء في أكثر التفاسير القديمة والحديثة ، ومنها تفسير الرازي والشيخ المراغي : ان رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لعلي بن أبي طالب : {اني دعوت اللَّه أن يجعلها اذنك يا علي} . قال الإمام : فما سمعت شيئا فنسيته ، وما كان لي أن انسى .
{فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ} . النفخ في الصور كناية عن الصيحة للخروج من القبور . قال تعالى : {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} - 42 ق . وعند تفسير الآية 68 من سورة الزمر ج 6 ص 432 ذكرنا آراء المفسرين في الصور وان النفخات ثلاث : نفخة الفزع ونفخة الموت ونفخة البعث والخروج {وحُمِلَتِ الأَرْضُ والْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً} . هذا كناية عن خراب الأرض وما عليها يوم القيامة ، قال تعالى : {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ والْجِبالُ وكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا} - 14 المزمل أي تلا من الرمل يذهب مع الرياح {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} . حين ينفخ في الصور وتدك الأرض والجبال تقوم القيامة ، ويعلم المكذبون انها حق لا ريب فيه {وانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ} . يصيب كواكب السماء من الخراب ما يصيب الأرض : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ والسَّماواتُ} - 48 إبراهيم أي وتبدل أيضا السماوات غير السماوات {والْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها} . المراد بالملك الملائكة لأن الألف واللام للجنس ، والهاء تعود إلى السماء ، والمعنى ان الملائكة بعد خراب الأرض والسماء ينتشرون هنا وهناك في أنحاء الفضاء .
حملة العرش :
{ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} . هل للَّه عرش يجلس عليه كالسلاطين والأمراء ؟ . قال أهل الظاهر الحرفيون : نعم له سمع وبصر ويد ورجل وغير ذلك من الأعضاء . . ونسب إلى أبي عامر القرشي القول بأن اللَّه مثلي ومثلك في هيئته وصورته ! . . وهذا مستحيل لأنه لوكان جسما لافتقر إلى مكان ، والخالق لا يفتقر إلى شيء ، واليه يفتقر كل شيء ، وأيضا يلزم على هذا أن يكون المكان قديما ، ولا قديم إلا اللَّه . . إلى آخر ما ذكره الفلاسفة وعلماء الكلام .
وقال آخرون : نحن لا نعلم العرش ، ولا كيف يحمل ، وما كلفنا اللَّه بمعرفة ذلك . . وهذا القول هو الأحوط على حد تعبير الفقهاء الأتقياء .
وعند ما تأملنا في معنى هذه الآية أوحى لنا السياق بأن المراد من العرش الملك والاستيلاء ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك عند تفسير الآية 54 من سورة الأعراف .
وان المراد بحملة العرش الكائنات المخلوقة والمملوكة للَّه ، ويشعر بذلك ما جاء في إحدى خطب نهج البلاغة : {ولولا إقرار السماوات للَّه بالربوبية وإذعانهن بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه} أي لولا تصرفه تعالى بالسماوات كيف يشاء لما كانت ملكا له ، فالتصرف المطلق دليل الملك ، كما ان الملك يستدعي هذا التصرف . .
وعليه يكون قوله تعالى : {ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} الخ أشبه بالجواب عن سؤال من يسأل : إذا زالت السماوات والأرض فإن معنى هذا ان ملك اللَّه قد زال ، ولم يبق من شيء يسيطر عليه ؟ .
فأجاب سبحانه : كلا . . ان هناك مخلوقا آخر غير السماوات والأرض ، وهو عبارة عن ثمانية أكوان ، وهي في أمان وسلام من أي خلل ، يتصرف بها سبحانه كيف يشاء بعد تدمير الأرض والسماء . . نقول هذا كفكرة استوحيناها من كلمة {يحمل} ، وهذه الفكرة - كما ترى - ممكنة في ذاتها ، ولكن مثلها لا يثبت إلا بالنص الصريح الذي يفيد القطع والجزم ، ولو كانت من باب الحلال والحرام لكان لظن الفقيه وجه وجيه إذا استند إلى ظاهر الكتاب أو السنة .
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} تعرض الخلائق على اللَّه يوم القيامة للحساب وتوفية كل عامل جزاء عمله ، وهو سبحانه أعلم بمن اهتدى ومن ضل عن سبيله .
_____________________
1- ، الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص401-405.
السورة تذكر الحاقة وهي القيامة وقد سمتها أيضا بالقارعة والواقعة.
وقد ساقت الكلام فيها في فصول ثلاثة: فصل تذكر فيه إجمالا الأمم الذين كذبوا بها فأخذهم الله أخذة رابية، وفصل تصف فيه الحاقة وانقسام الناس فيها إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال واختلاف حالهم بالسعادة والشقاء، وفصل تؤكد فيه صدق القرآن في إنبائه بها وأنه حق اليقين، والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة} المراد بالحاقة القيامة الكبرى سميت بها لثبوتها ثبوتا لا مرد له ولا ريب فيه، من حق الشيء بمعنى ثبت وتقرر تقررا واقعيا.
و{ما} في {ما الحاقة} استفهامية تفيد تفخيم أمرها، ولذلك بعينه وضع الظاهر موضع الضمير ولم يقل: ما هي، والجملة الاستفهامية خبر الحاقة.
فقوله: {الحاقة ما الحاقة} مسوق لتفخيم أمر القيامة يفيد تفخيم أمرها وإعظام حقيقتها إفادة بعد إفادة.
وقوله: {وما أدراك ما الحاقة} خطاب بنفي العلم بحقيقة اليوم وهذا التعبير كناية عن كمال أهمية الشيء وبلوغه الغاية في الفخامة ولعل هذا هو المراد مما نقل عن ابن عباس: أن ما في القرآن من قوله تعالى: {ما أدراك} فقد أدراه وما فيه من قوله: {ما يدريك} فقد طوى عنه، يعني أن {ما أدراك} كناية و{ما يدريك} تصريح.
قوله تعالى: {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} المراد بالقارعة القيامة وسميت بها لأنها تقرع وتدك السماوات والأرض بتبديلها والجبال بتسييرها والشمس بتكويرها والقمر بخسفها والكواكب بنثرها والأشياء كلها بقهرها على ما نطقت به الآيات، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: كذبت ثمود وعاد بها فوضع القارعة موضع الضمير لتأكيد تفخيم أمرها.
وهذه الآية وما يتلوها إلى تمام تسع آيات وإن كانت مسوقة للإشارة إلى إجمال قصص قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ومن قبله والمؤتفكات وإهلاكهم لكنها في الحقيقة بيان للحاقه ببعض أوصافها وهو أن الله أهلك أمما كثيرة بالتكذيب بها فهي في الحقيقة جواب للسؤال بما الاستفهامية كما أن قوله: {فإذا نفخ في الصور} إلخ، جواب آخر.
ومحصل المعنى: هي القارعة التي كذبت بها ثمود وعاد وفرعون ومن قبله والمؤتفكات وقوم نوح فأخذهم الله أخذة رابية وأهلكهم بعذاب الاستئصال.
قوله تعالى: {فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} بيان تفصيلي لأثر تكذيبهم بالقارعة، والمراد بالطاغية الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة على اختلاف ظاهر تعبير القرآن في سبب هلاكهم في قصتهم قال تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] ، وقال أيضا: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: 78] ، وقال أيضا: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ } [فصلت: 17].
وقيل: الطاغية مصدر كالطغيان والطغوى والمعنى: فأما ثمود فأهلكوا بسبب طغيانهم، ويؤيده قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } [الشمس : 11].
وأول الوجهين أنسب لسياق الآيات التالية حيث سيقت لبيان كيفية إهلاكهم من الإهلاك بالريح أو الأخذ الرابي أو طغيان الماء فليكن هلاك ثمود بالطاغية ناظرا إلى كيفية إهلاكهم.
قوله تعالى : {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية} الصرصر الريح الباردة الشديدة الهبوب، وعاتية من العتو بمعنى الطغيان والابتعاد من الطاعة والملاءمة.
قوله تعالى: {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} تسخيرها عليهم تسليطها عليهم، والحسوم جمع حاسم كشهود جمع شاهد من الحسم بمعنى تكرار الكي مرات متتالية، وهي صفة لسبع أي سبع ليال وثمانية أيام متتالية متتابعة وصرعى جمع صريع وأعجاز جمع عجز بالفتح فالضم آخر الشيء، وخاوية الخالية الجوف الملقاة والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} أي من نفس باقية، والجملة كناية عن استيعاب الهلاك لهم جميعا، وقيل: الباقية مصدر بمعنى البقاء وقد أريد به البقية وما قدمناه من المعنى أقرب.
قوله تعالى: {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة} المراد بفرعون فرعون موسى، وبمن قبله الأمم المتقدمة عليه زمانا من المكذبين، وبالمؤتفكات قرى قوم لوط والجماعة القاطنة بها، و{خاطئة} مصدر بمعنى الخطاء والمراد بالمجيء بالخاطئة إخطاء طريق العبودية، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: {فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} ضمير {عصوا} لفرعون ومن قبله والمؤتفكات، والمراد بالرسول جنسه، والرابية الزائدة من ربا يربو ربوة إذا زاد، والمراد بالأخذة الرابية العقوبة الشديدة وقيل: العقوبة الزائدة على سائر العقوبات وقيل: الخارقة للعادة.
قوله تعالى: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} إشارة إلى طوفان نوح والجارية السفينة، وعد المخاطبين محمولين في سفينة نوح والمحمول في الحقيقة أسلافهم لكون الجميع نوعا واحدا ينسب حال البعض منه إلى الكل والباقي ظاهر.
قوله تعالى: {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} تعليل لحملهم في السفينة فضمير {لنجعلها} للحمل باعتبار أنه فعله أي فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمرا تتذكرون به وعبرة تعتبرون بها وموعظة تتعظون بها.
وقوله: {وتعيها أذن واعية} الوعي جعل الشيء في الوعاء، والمراد بوعي الأذن لها تقريرها في النفس وحفظها فيها لترتب عليها فائدتها وهي التذكر والاتعاظ.
وفي الآية بجملتيها إشارة إلى الهداية الربوبية بكلا قسميها أعني الهداية بمعنى إراءة الطريق والهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.
توضيح ذلك أن من السنة الربوبية العامة الجارية في الكون هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله اللائق به بحسب وجوده الخاص بتجهيزه بما يسوقه نحو غايته كما يدل عليه قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] ، وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 2، 3] ، وقد تقدم توضيح ذلك في تفسير سورتي طه والأعلى وغيرهما.
والإنسان يشارك سائر الأنواع المادية في أن له استكمالا تكوينيا وسلوكا وجوديا نحو كماله الوجودي بالهداية الربوبية التي تسوقه نحو غايته المطلوبة ويختص من بينها بالاستكمال التشريعي فإن للنفس الإنسانية استكمالا من طريق أفعالها الاختيارية بما يلحقها من الأوصاف والنعوت وتتلبس به من الملكات والأحوال في الحياة الدنيا وهي غاية وجود الإنسان التي تعيش بها عيشة سعيدة مؤبدة.
وهذا هو السبب الداعي إلى تشريع السنة الدينية بإرسال الرسل وإنزال الكتب والهداية إليها { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، وقد تقدم تفصيله في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وغيره، وهذه هداية بمعنى إراءة الطريق وإعلام الصراط المستقيم الذي لا يسع الإنسان إلا أن يسلكه، قال تعالى: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] ، فإن لزم الصراط وسلكه حي بحياة طيبة سعيدة وإن تركه وأعرض عنه هلك بشقاء دائم وتمت عليه الحجة على أي حال، قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [الأنفال: 42].
إذا تقرر هذا تبين أن من سنة الربوبية هداية الناس إلى سعادة حياتهم بإراءة الطريق الموصل إليها، وإليها الإشارة بقوله: {لنجعلها لكم تذكرة} فإن التذكرة لا تستوجب التذكر ممن ذكر بها بل ربما أثرت وربما تخلفت.
ومن سنة الربوبية هداية الأشياء إلى كمالاتها بمعنى إنهائها وإيصالها إليها بتحريكها وسوقها نحوه، وإليها الإشارة بقوله: {وتعيها أذن واعية} فإن الوعي المذكور من مصاديق الاهتداء بالهداية الربوبية وإنما لم ينسب تعالى الوعي إلى نفسه كما نسب التذكرة إلى نفسه لأن المطلوب بالتذكرة إتمام الحجة وهومن الله وأما الوعي فإنه وإن كان منسوبا إليه كما أنه منسوب إلى الإنسان لكن السياق سياق الدعوة وبيان الأجر والمثوبة على إجابة الدعوة والأجر والمثوبة من آثار الوعي بما أنه فعل للإنسان منسوب إليه لا بما أنه منسوب إلى الله تعالى.
ويظهر من الآية الكريمة أن للحوادث الخارجية تأثيرا في أعمال الإنسان كما يظهر من مثل قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] أن لأعمال الإنسان تأثيرا في الحوادث الخارجية وقد تقدم بعض الكلام فيه.
ان هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرف الحاقة ببعض أشراطها ونبذة مما يقع فيها.
قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} قد تقدم أن النفخ في الصور كناية عن البعث والإحضار لفصل القضاء، وفي توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضي الأمر ونفوذ القدرة فلا وهن فيه حتى يحتاج إلى تكرار النفخة، والذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنها النفخة الثانية التي تحيي الموتى.
قوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} الدك أشد الدق وهو كسر الشيء وتبديله إلى أجزاء صغار، وحمل الأرض والجبال إحاطة القدرة بها، وتوصيف الدكة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتتهما بحيث لا يفتقر إلى دكة ثانية.
قوله تعالى: {فيومئذ وقعت الواقعة} أي قامت القيامة.
قوله تعالى: {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية} انشقاق الشيء انفصال شطر منه من شطر آخر، وواهية من الوهي بمعنى الضعف، وقيل: من الوهي بمعنى شق الأديم والثوب ونحوهما.
ويمكن أن تكون الآية أعني قوله: {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها} في معنى قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25].
قوله تعالى: {والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} قال الراغب: رجا البئر والسماء وغيرهما جانبها والجمع أرجاء قال تعالى: {والملك على أرجائها} انتهى، والملك - كما قيل - يطلق على الواحد والجمع والمراد به في الآية الجمع.
وقوله: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} ضمير {فوقهم} على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، وقيل: الضمير للخلائق.
وظاهر كلامه أن للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [غافر: 7] وقد وردت الروايات أنهم أربعة، وظاهر الآية أعني قوله: {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} أن الحملة يوم القيامة ثمانية وهل هم من الملائكة أومن غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك وإن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنهم من الملائكة.
ومن الممكن - كما تقدمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء وكون الملائكة على أرجائها وكون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة والسماء والعرش للإنسان يومئذ، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75].
قوله تعالى: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} الظاهر أن المراد به العرض على الله كما قال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } [الكهف: 48] ، والعرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله وهو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد وعمل إبرازا لا يخفى معه عقيدة خافية ولا فعلة خافية وذلك بتبدل الغيب شهادة والسر علنا قال: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق: 9] ، وقال: { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } [غافر: 16].
وقد تقدم في أبحاثنا السابقة أن ما عد في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، وكون الأمر له، وأن لا عاصم منه، وبروز الخلق له وعدم خفاء شيء منهم عليه وغير ذلك، كل ذلك دائمية الثبوت له تعالى، وإنما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهورا لا ستر عليه ولا مرية فيه.
فالمعنى: يومئذ يظهر أنكم في معرض على علم الله ويظهر كل فعلة خافية من أفعالكم.
_______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص345-351.
الطغاة والعذاب الأليم :
تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة ، يقول تعالى : الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة} (2) والمراد من الحاقة هو اليوم الذي سيتحقق حتما .
ذهب أغلب المفسرين إلى أن ( الحاقة ) اسم من أسماء يوم القيامة ، باعتباره
قطعي الوقوع ، كما هو بالنسبة ل ( الواقعة ) في سورة ( الواقعة ) ، وقد جاء في الآية ( 16 ) من هذه السورة الاسم نفسه ، وهذا يؤكد يقينية ذلك اليوم العظيم .
{ما الحاقة} : تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم ، كما يقال : إن فلانا إنسان ، يا له من إنسان ، ويقصد من هذا التعبير وصف إنسانيته دون تقييد حدها .
والتعبير ب {ما أدراك ما الحاقة} للتأكيد مرة أخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتى أن البارئ عز وجل يخاطب رسوله الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنك لا تعلم ما هو ذلك اليوم ؟ (3) .
وكما لا يمكن أن يدرك الجنين الذي في بطن امه المسائل المتعلقة بالدنيا ، فإن أبناء الدنيا كذلك ليس بمقدورهم إدراك الحوادث التي تكون في يوم القيامة .
ويحتمل أن المقصود من ( الحاقة ) هو الإشارة إلى العذاب الإلهي الذي يحل فجأة في هذه الدنيا بالمشركين والمجرمين والطغاة وأصحاب الهوى والمتمردين على الحق .
كما فسرت ( القارعة ) التي وردت في الآية اللاحقة بهذا المعنى – أيضا وبلحاظ أن هذا التفسير يتناسب بصورة أكثر مع ما جاء في الآيات اللاحقة التي تتحدث عن حلول العذاب الشديد بقوم عاد وثمود وفرعون وقوم لوط ، فقد ذهب بعض المفسرين إلى هذا الرأي أيضا .
وجاء في تفسير ( علي بن إبراهيم ) قوله : إن ( الحاقة هي الحذر من نزول العذاب ) وهو نظير ما جاء في الآية التالية : {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } [غافر: 45] (4)
ثم تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم القيامة ، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا ، حيث يضيف تعالى : {كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية} .
لقد كان ( قوم ثمود ) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام ، فبعث الله النبي صالح ( عليه السلام ) إليهم ، ودعاهم إلى الإيمان بالله . . . إلا أنهم لم يستجيبوا له ، بل حاربوه وتحدوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقا ، وفي هذه الحالة من التمرد الذي هم عليه ، سلط الله عليهم ( صاعقة مدمرة ) أنهت كل وجودهم في لحظات ، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة ، وتهاوت أجسادهم على الأرض .
والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أن القرآن الكريم يعبر عن عقاب هؤلاء الأقوام المتمردين ب ( العذاب الشديد ) ، وقد كان العذاب الشديد بصور متعددة حيث عبر عنه ب ( الطاغية ) كما جاء في الآية مورد البحث واخرى بال ( رجفة ) كما جاء في سورة الأعراف الآية ( 78 ) وثالثة كان بصورة ( صاعقة ) كما ورد في سورة فصلت الآية ( 13 ) ، ورابعة كان على شكل ( صيحة ) كما جاء في سورة هود الآية ( 67 ) .
وفي الحقيقة فإن جميع هذه التعابير ترجع إلى معنى واحد ، لأن الصاعقة دائما تكون مقرونة : بصوت عظيم ، ورجفة على النقطة التي تقع فيها ، وعذاب طاغ عظيم .
ثم تتطرق الآية اللاحقة لتحدثنا عن مصير ( قوم عاد ) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة ( في شبه جزيرة العرب أو اليمن ) وكانوا ذوي قامات طويلة ، وأجساد قوية ، ومدن عامرة ، وأراض خضراء خصبة ، وحدائق نضرة . .
وكان نبيهم ( هود ) ( عليه السلام ) يدعوهم إلى الهدى والإيمان بالله . . . إلا أنهم أصروا على
كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمردوا على الحق ، فانتقم الله منهم شر انتقام ، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلط عليهم عذابا شديدا مؤلما ، سنوضح شرحه في الآيات التالية .
يقول تعالى : {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية} .
" صرصر " على وزن ( دفتر ) تقال للرياح الباردة أو المقترنة بصوت وضوضاء ، أو المسمومة ، وقد ذكر المفسرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها ، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضا .
" عاتية " من مادة ( عتو ) على وزن ( علو ) بمعنى التمرد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر الله .
ثم تبين الآية التالية وصفا آخر لهذه الرياح المدمرة ، حيث يقول تعالى : {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما} .
" حسوما " من مادة ( حسم ) على وزن ( رسم ) بمعنى إزالة آثار شيء ما ، وقيل للسيف ( حسام ) على وزن ( غلام ) ، ويقال : ( حسم ) أحيانا لوضع الشيء الحار على الجرح للقضاء عليه من الأساس .
لقد حطمت وأفنت هذه الريح المدمرة في الليالي السبع والأيام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم ، والتي كانت تتميز بالأبهة والجمال ، واستأصلتهم من الجذور (5) .
ويصور لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى : {فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} .
إنه لتشبيه رائع يصور لنا ضخامة قامتهم التي اقتلعت من الجذور ، بالإضافة إلى خواء نفوسهم ، حيث أن العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى أخرى .
" خاوية " من مادة ( خواء ) على وزن ( حواء ) في الأصل بمعنى كون الشيء خاليا ، ويطلق هذا التعبير أيضا على البطون الجائعة ، والنجوم الخالية من المطر ( كما في اعتقاد عرب الجاهلية ) ، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب .
ويضيف في الآية التالية : {فهل ترى لهم من باقية} (6) .
نعم لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد ، بل حتى مدنهم العامرة ، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شيء يذكر أبدا .
لقد بحثنا قصة قوم عاد بصورة مفصلة في التفسير الأمثل ، تفسير الآيات ( 58- 60 ) من سورة هود .
وقوله تعالى : {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ( 9 ) فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ( 10 ) إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية ( 11 ) لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية }
أين الآذان الواعية ؟
بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرت بقومي عاد وثمود ، وتستمر هذه الآيات في التحدث عن الأقوام الأخرى كقوم ( نوح ) وقوم ( لوط ) لتكون درسا وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم . . يقول تعالى{ وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة} .
ال " خاطئة " بمعنى الخطأ و ( لكليهما معنى مصدري ) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب .
ال " المؤتفكات " جمع ( مؤتفكة ) من مادة ( ائتفاك ) بمعنى الانقلاب ، وهي هنا إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط ، حيث انقلبت بزلزلة عظيمة .
والمقصود ب {ومن قبله} هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون ، كقوم شعيب ، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم .
ثم يضيف تعالى : {فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} .
لقد خالف الفراعنة ( موسى وهارون ) ( عليهما السلام ) و واجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة . . وكذلك كان موقف أهل مدينة ( سدوم ) من لوط ( عليه السلام ) الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم . . وهكذا كان - أيضا - موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول . والتشكيك والإعراض والتحدي . .
إن كل مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمردين قد ابتلاهم الله بنوع من العذاب ، وأنزل عليه رجزا من السماء بما يستحقون ، فالفراعنة أغرقهم الله سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدرا لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم ، وقوم لوط سلط الله عليهم ( الزلزال ) الشديد ثم ( مطر من الحجارة ) مما أدى إلى موتهم وفنائهم من الوجود .
" رابية " و ( ربا ) من مادة واحدة ، وهي بمعنى الإضافة ، والمقصود بها هنا العذاب الصعب والشديد جدا .
لقد جاء شرح قصة قوم فرعون في الكثير من سور القرآن الكريم ، وجاءت بتفصيل أكثر في ما ورد من سورة الشعراء الآية ( 10 - 68 ) يراجع التفسير الأمثل ، وكذلك في سورة الأعراف من الآية ( 103 - 137 ) راجع التفسير الأمثل ، وكذلك في سورة طه من الآية ( 24 - 79 ) راجع التفسير الأمثل .
وجاءت قصة لوط أيضا في الكثير من السور القرآنية من جملتها ما ورد في سورة الحجر الآية ( 61 - 77 ) في التفسير الأمثل .
وأخيرا تعرض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حل بهم ، قال تعالى : {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} .
إن طغيان الماء كان بصورة غطى فيها السحاب ومن هنا جاء تعبير ( طغى ) حيث هطل مطر غزير جدا وكأنه السيل ينحدر من السماء ، وفاضت عيون الأرض ، والتقت مياههما بحيث أصبح كل شيء تحت الماء ( القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم . . . ) ولم تنج إلا مجموعة المؤمنين التي كانت مع نوح ( عليه السلام ) في سفينته .
جملة ( حملناكم ) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق ، وإلا ما كنا في عالم هذا الوجود (7) .
ثم يبين الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب ، حيث يقول تعالى : {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية} .
إننا لم نرد الانتقام منكم أبدا ، بل الهداية والخير والسعادة ، كنا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم .
" تعيها " من مادة ( وعى ) على وزن ( سعى ) يقول ( الراغب ) في المفردات ، و ( ابن منظور ) في لسان العرب : إنها في الأصل بمعنى الاحتفاظ بشئ معين في القلب ، ومن هنا قيل للإناء ( وعاء ) لأنه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه ، وقد ذكرت هذه الصفة ( الوعي ) للآذان في الآيات مورد البحث ، وذلك بلحاظ أنها تسمع الحقائق وتحتفظ بها .
والإنسان تارة يسمع كلاما إلا أنه كأن لم يسمعه ، وفي التعبير السائد : يسمع بإذن ويخرجه من الأخرى .
وتارة أخرى يسمع الكلام ويفكر فيه ويتأمله . ويجعل ما فيه خير في قلبه ، ويعتبر الإيجابي منه منارا يسير عليه في طريق حياته . . . وهذا ما يعبر عنه ب ( الوعي ) .
وقوله تعالى : {فإذا نفخ في الصور نفخة وحدة ( 13 ) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة وحدة ( 14 ) فيومئذ وقعت الواقعة ( 15 ) وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ( 16 ) والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمنية}
الصيحة العظيمة :
استمرارا لما تعرضت له الآيات الأولى من هذه السورة ، والتي كانت تتعلق بمسألة الحشر والقيامة ، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب بأسلوب محرك ومؤثر في النفوس كي تحيط الإنسان علما بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب .
يقول تعالى في البداية : {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} .
لقد بينا فيما سبق أن مما يستفاد من القرآن الكريم أن نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجئ عظيم ، وذلك ما عبر عنه ب ( نفخة الصور ) .
ولهذا السبب استعمل البوق في الماضي والحاضر للاستفادة منه في جمع وتهيئة الجيوش ، وكذلك في الإعلان عن موعد الاستراحة ، حيث يتم العزف بألحان مختلفة حسب طبيعة الموضوع . الذي يعلن عنه ، فالعزف للنوم والاستراحة يختلف عن عزف التجمع والتهيؤ للحركة والتدريب . . .
إن مسألة انتهاء هذا العالم ، وبداية العالم الجديد عالم الآخرة ، هي عند الله بسيطة وهينة في مقابل قدرته العظيمة ، فبأمر واحد وفي لحظة مفاجئة ينتهي ويفنى من في السماوات والأرضين ، وبأمر آخر يلبس سبحانه الجميع لباس الحياة ويستعدون للحساب ، وهذا هو مقصود الآية الكريمة .
لقد تحدثنا بصورة مفصلة حول خصوصيات ( الصور ) وكيفية ( النفخ ) فيه ، وعدد النفخات ، والفاصلة الزمنية بين كل نفخة ، وذلك في تفسير سورة ( الزمر ) الآية 68 من التفسير الأمثل ، لذا لا نرى ضرورة لتكرار ذلك .
والشيء الوحيد الذي نذكر به هنا هو ( نفخة الصور ) وكما أشرنا أعلاه فهي ( نفختان ) : ( نفخة الموت ) ، و ( نفخة الحياة الجديدة ) ، لكن هل المقصود في هذه الآية الكريمة هو ( النفخة الأولى ) أم ( الثانية ) ؟ فهذا ما لا يوجد فيه رأي موحد بين المفسرين ، لأن الآيات التي ستأتي لاحقا بعضها يتناسب مع نفخة الموت ، والآخر يتناسب مع نفخة الحياة والحشر ، إلا أن منطوق الآيات بشكل إجمالي في رأينا تتناسب أكثر مع النفخة الأولى التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا .
ثم يضيف تعالى : {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} .
" دك " كما يقول الراغب في المفردات ، وفي الأصل بمعنى ( الأرض المستوية ) ولأن الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتى تستوي ، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى " الدق الشديد " .
كما يستفاد من مصادر اللغة أن أصل معنى ( دك ) هو ( الدق والتخريب ) ولازم ذلك الاستواء ، لذا استعمل هذا المصطلح في هذا المعنى أيضا (8) .
وعلى كل حال فإن المقصود من هذه الكلمة - في الآية مورد البحث – هو الدق الشديد للجبال والأراضي اللا مستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها جميع التعرجات .
ثم يضيف تعالى : {فيومئذ وقعت الواقعة} .
في ذلك اليوم العظيم لا تتلاشى فيه الأرض والجبال فحسب ، بل يقع حدث عظيم آخر ، وذلك قوله تعالى : {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية} وذلك بيان لما تتعرض له ، الأجرام السماوية العظيمة من انفلاقات وتناثر وتلاشي ، حيث تضطرب هذه الأجرام الهائلة وتتحول فيها النظام إلى فوضى والتماسك إلى ضعف ، والاستحكام إلى خواء بشكل عجيب . وذلك من خلال حركات وتحولات مرعبة جدا ، كما يعبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى : {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37].
وبعبارة أخرى فإن الأرض والسماء الحاليتين تتدمران وتنتهيان ، ويحدث عالم جديد على أنقاض العالم السابق يكون أكمل وأتم وأعلى من عالمنا الدنيوي .
والملك على أرجائها .
" أرجاء " جمع ( رجا ) بمعنى جوانب وأطراف شيء معين ، و ( الملك ) هنا بالرغم من ذكرها بصيغة المفرد ، إلا أن المقصود بها هو الجنس والجمع .
إن ملائكة الرحمن - في الآية أعلاه - يصطفون على جوانب وأطراف السماوات ينتظرون تلقي أمر الواحد الأحد لإنجازه بمجرد الإشارة ، وكأنهم جنود جاهزون لما يؤمرون به .
ثم يقول تعالى : {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} .
إن حملة العرش بالرغم من أنهم لم يشخصوا بصورة صريحة في هذه الآية وهل هم من الملائكة أم من جنس آخر ؟ إلا أن ظاهر تعبير الآية الكريمة أنهم من الملائكة ، ومن غير المعلوم أن المقصود ب ( ثمانية ) هل هم ثمانية ملائكة ؟ أم ثمانية مجاميع من الملائكة ؟ سواء كانت هذه المجاميع صغيرة أو كبيرة .
جاء في الروايات الإسلامية أن حملة العرش في عالم الدنيا أربعة أشخاص أو أربع ( مجاميع ) إلا أنهم في يوم القيامة يكونون ضعف ذلك ، كما نقرأ ذلك في حديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( إنهم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية ) (9) .
أما ما يتعلق بحقيقة العرش ، وماهية الملائكة ، فذلك كما يلي :
المقصود ب ( العرش ) كما هو واضح ليس تختا مما يكون للسلاطين ، ولكنه - كما بينا سابقا في تفسير كلمة ( العرش ) - بأنها تعني ( مجموعة عالم الوجود ) حيث أنه عرش حكومة الله سبحانه ، ويدبر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه .
وجاء في رواية أخرى أن حملة العرش في يوم القيامة أربعة من الأولين ، وأربعة من الآخرين ، والأشخاص الأولون الأربعة هم : ( نوح ) و ( إبراهيم ) ، و ( موسى ) ، و ( عيسى ) ، أما الأشخاص الآخرون الأربعة فهم ( محمد ) و ( علي ) و ( الحسن ) ، و ( الحسين ) (10) .
وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأولين والآخرين ، والشفاعة - عادة - تكون لمن هم أهل لها ، وممن لهم لياقة لنيلها ، ومع ذلك فإنه يوضح المفهوم الواسع للعرش .
أما إذا كان حملة العرش ثمانية مجاميع ، فمن الطبيعي أن تتعهد المجاميع للقيام بهذه المهمة ، سواء كان هؤلاء من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء ، ومما تقدم نلاحظ أن قسما من تدبير نظام وشؤون ذلك اليوم هو من مهمة الملائكة وقسم من الأنبياء ، حيث أن الجميع جاهزون لتنفيذ أمر الله ، ويتحرك بإرادته تعالى .
هنالك آراء في أن الضمير في ( فوقهم ) هل يرجع إلى " البشر " ؟ أم إلى ( الملائكة ) ؟ وبما أن الحديث في الجملة السابقة كان حول الملائكة ، فإن الضمير يرجع إليهم حسب الظاهر ، وبهذه الصورة فإن الملائكة تحيط بالعالم من جميع جهاته ، ولهذا فإن المقصود ب ( من فوقهم ) هو ( العلو من حيث المقام ) .
وهنالك احتمال بأن حملة عرش الله هم أشخاص أعلى وأفضل من الملائكة ، وتماشيا مع هذا الاحتمال فإن ما جاء في الحديث السابق منسجم معه ، حيث ورد فيه أن حملة عرش الله هم ثمانية من الأنبياء والأولياء .
وبما أن الحوادث المتعلقة بيوم القيامة ليست واضحة لنا نحن سكنة هذا العالم المحدود ، لذا فليس بمقدورنا إذا إدراك المسائل المتعلقة بحملة العرش في ذلك اليوم . إن الذي نتحدث به عن هذه الأمور ما هو إلا شبح يتراءى لنا من بعيد في ظل الآيات الإلهية ، وإلا فلا تتم رؤية الحقيقة بدون معايشة الواقع (11) .
ومما يجدر ملاحظته أن في ( النفخة الأولى للصور ) يموت ويفنى جميع من في السماوات والأرض ، وبناء على هذا فإن مسألة بحث " حملة العرش " مرتبط " بالنفخة الثانية " ، حيث يتم إحياء الجميع ، وبالرغم من أنه لم يأت ذكر للنفخة الثانية في الآية أعلاه ، إلا أن ذلك يتضح من خلال القرائن ، والمطالب التي سترد في الآيات اللاحقة تتعلق بالنفخة الثانية أيضا (12) .
وقوله تعالى : {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} :
يا أهل المحشر : اقرؤا صحيفة أعمالي
قلنا في تفسير الآيات السابقة أن ( نفخ الصور ) يحدث مرتين .
الأولى : عندما يأمر تعالى بنهاية العالم وموت الأحياء وتلاشي الوجود .
والثانية : بحدوث العالم الجديد ، عالم الآخرة حيث البعث والنشور . . . ، وكما ذكرنا فإن بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الأولى ، ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية .
واستمرارا للحديث في هذا الصدد ، وخصوصيات العالم الجديد الذي سيكون عند النفخة الثانية ، تحدثنا هذه الآيات عن شيء من ذلك حيث يقول تعالى : {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} .
" تعرضون " من مادة ( عرض ) بمعنى عرض شيء معين ، بضاعة أو غيرها .
ومما لا شك فيه أن جميع ما في الوجود - بشرا وغيره - هو بين يدي الله سبحانه ، سواء في هذه الدنيا أو في عالم الآخرة ، إلا أن هذا الأمر يظهر ويتضح بصورة أشد في يوم القيامة ، كما في مسألة حاكمية الله المطلقة والدائمة على عالم الوجود ، حيث تتضح في يوم القيامة أكثر من أي وقت آخر .
إن جملة : {تخفى منكم خافية} يمكن أن تكون إشارة إلى أن الأسرار الخاصة بالإنسان وما يحاول إخفاءه يتحول في ذلك اليوم إلى حالة من الظهور والوضوح كما يقول تعالى : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق: 9] .
في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفية فحسب ، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيات الجميع فإنها هي الأخرى تبرز وتظهر ، وهذا أمر عظيم جدا ، بل إنه أعظم من انفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال - كما يقول البعض - حيث الفضيحة الكبرى للطالحين ، والعزة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له ، يوم يكون الإنسان عريانا ليس من حيث الجسم فقط ، بل أعماله وأسراره الخفية تكون على رؤوس الأشهاد ، نعم لا يبقى أمر مخفي من وجودنا وكياننا أجمع في ذلك اليوم العظيم .
ويمكن أن يكون المراد هو الإشارة للإحاطة العلمية لله تعالى بجميع المخلوقات ، ولكن التفسير الأول أنسب .
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص384-398.
2 - هناك وجهات نظر عدة في إعراب جملة ( الحاقة ، ما الحاقة ) ، إلا أن الأنسب في هذه الآراء هو أن يقال : إن ( الحاقة ) مبتدأ ، و ( ما ) الاستفهامية مبتدأ ثان و ( الحاقة ) الثانية خبر للمبتدأ الثاني ، وجملة ( ما الحاقة ) خبر للمبتدأ الأول .
3 - ذهب بعض المفسرين إلى أن جملة ( ما أدراك ) تتحدث عن المسائل المعلومة والمسلمة ، بينما جاءت ( وما يدريك )
في الموارد والمسائل المبهمة . مجمع البيان ج 10 ، ص 343 ، كما نقل بعض المفسرين هذا المعنى أيضا ومنهم القرطبي .
4 - تفسير ( علي بن إبراهيم ) ج 2 ، ص 383 ، [ ومما يجدر الانتباه إليه أن كلمة ( الحاقة ) و ( الحاق ) من مادة واحدة ] .
5 - " حسوما " جاءت هنا صفة ل ( سبع ليال وثمانية أيام ) ، كما اعتبرها البعض ( حالا ) لل ( ريح ) أو ( مفعولا به ) .
6 - ( باقية ) : صفة لموصوف مقدر ، وكانت في الأصل ( نفس باقية ) .
7 - ومن هنا قال البعض : إن للآية محذوف تقديره ( حملنا آباؤكم ) .
8 - " أقرب الموارد " ( مادة : دك ) .
9 - تفسير ( علي بن إبراهيم ) ج 2 ، ص 384 .
10 - مجمع البيان ، ج 10 ، ص 346 .
11 - تطرقنا مرارا في هذا التفسير إلى المعاني التي وردت حول ( العرش ) لغويا وقرآنيا ، ومن ضمن ما بحثناه حول هذه المسألة ما جاء في نهاية الآية 54 من سورة الأعراف .
12 - في الحقيقة أنه توجد آية محذوفة بتقدير " ثم نفخ فيه أخرى " .
|
|
للتخلص من الإمساك.. فاكهة واحدة لها مفعول سحري
|
|
|
|
|
العلماء ينجحون لأول مرة في إنشاء حبل شوكي بشري وظيفي في المختبر
|
|
|
|
|
قسم العلاقات العامّة ينظّم برنامجاً ثقافياً لوفد من أكاديمية العميد لرعاية المواهب
|
|
|