المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17751 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
نظرية البقع الشمسية Sun Spots
2024-11-24
المراقبة
2024-11-24
المشارطة
2024-11-24
الحديث المرسل والمنقطع والمعضل.
2024-11-24
اتّصال السند.
2024-11-24
ما يجب توفّره في الراوي للحكم بصحّة السند (خلاصة).
2024-11-24



تفسير آية (116-122) من سورة النساء  
  
11440   07:25 مساءً   التاريخ: 22-2-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف النون / سورة النساء /

   قال تعالى  : {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء  : 116-122].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)  :

 

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء : 116] قد مر تفسيره فيما تقدم  . وقوله {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} أي : ذهب عن طريق الحق والغرض المطلوب ، وهو النعيم المقيم في الجنة ذهابا بعيدا ، لأن الذهاب عن نعيم الجنة ، يكون على مراتب ، أبعدها الشرك بالله .

لما ذكر في الآية المتقدمة أهل الشرك وضلالهم ، ذكر في هذه الآية حالهم وفعالهم ، فقال : { إِنْ يَدْعُونَ } أي : ما يدعون هؤلاء المشركون ، وما يعبدون {مِنْ دُونِهِ} أي : من دون الله {إِلَّا إِنَاثًا} : فيه أقوال أحدها : إلا أوثانا ، وكانوا يسمون الأوثان باسم الإناث ، اللات ، والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، وإساف ، ونائلة ، عن أبي مالك ، والسدي ، ومجاهد ، وابن زيد ، وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره قال : " كان في كل واحدة منهن شيطانة أنثى ، تتراءى للسدنة (2) ، وتكلمهم " ، وذلك من صنع إبليس ، وهو الشيطان الذي ذكره الله فقال : {لَعَنَهُ اللَّهُ} قالوا : واللات كان اسما لصخرة ، والعزى كان اسما لشجرة ، إلا أنهم نقلوهما إلى الوثن ، وجعلوهما علما عليهما . وقيل : العزى : تأنيث الأعز . واللات : تأنيث لفظ الله . وقال الحسن : كان لكل حي من العرب وثن ، يسمونه باسم الأنثى .

وثانيها : إن المعنى : إلا مواتا ، عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، فعلى هذا يكون تقديره : ما يعبدون من دون الله إلا جمادا ومواتا لا تعقل ، ولا تنطق ، ولا تضر ، ولا تنفع ، فدل ذلك على غاية جهلهم وضلالهم ، وسماها إناثا ، لاعتقاد مشركي العرب الأنوثة في كل ما اتضعت منزلته ، ولأن الإناث من كل جنس أرذله .

وقال الزجاج : " لأن الموات يخبر عنها بلفظ التأنيث ، تقول : الأحجار تعجبني ، ولا تقول يعجبونني " . ويجوز أن يكون إناثا سماها لضعفها ، وقلة خيرها ، وعدم نصرها .

وثالثها : إن المعنى : إلا ملائكة ، لأنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله ، وكانوا يعبدون الملائكة ، عن الضحاك . {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} أي : ماردا شديدا في كفره وعصيانه ، متماديا في شركه وطغيانه ، يسأل عن هذا فيقال : كيف نفى في أول الكلام عبادتهم لغير الأوثان ، ثم أثبت في آخره عبادتهم الشيطان ، فأثبت في الآخر ما نفاه في الأول ؟ أجاب الحسن عن هذا ، فقال : إنهم لم يعبدوا إلا الشيطان في الحقيقة ، لان الأوثان كانت مواتا ، ما دعت أحدا إلى عبادتها ، بل الداعي إلى عبادتها الشيطان ، فأضيفت العبادة إلى الشيطان ، بحكم الدعاء ، وإلى الأوثان ، لأجل أنهم كانوا يعبدونها ، ويدل عليه قوله تعالى : (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) أضافت الملائكة عبادتهم إلى الجن من قبل أن الجن دعتهم إلى عبادة الملائكة . وقال ابن عباس : " كان في كل واحد من أصنامهم التي كانوا يعبدونها شيطان مريد ، يدعو المشركين إلى عبادتها ، فلذلك حسن إضافة العبادة إلى الأصنام وإلى الشيطان " . وقيل : ليس في الآية إثبات المنفي ، بل ما يعبدون إلا الأوثان وإلا الشيطان ، وهو إبليس {لعنه الله} : أبعده الله عن الخير ، بإيجاب الخلود في نار جهنم {وقال} يعني الشيطان : لما لعنه الله : {لأتخذن من عبادك نصيبا} أي : حظا {مفروضا} أي : معلوما ، عن الضحاك . وقيل : مقدرا محدودا ، وأصل الاتخاذ : أخذ الشيء على وجه الاختصاص ، فكل من أطاعه فإنه من نصيبه وحزبه ، كما قال سبحانه {كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله} .

وروي أن النبي قال في هذه الآية : " من بني آدم تسعة وتسعون في النار ، وواحد في الجنة " وفي رواية أخرى : " من كل ألف واحد لله ، وسائرهم للنار ولإبليس " أوردهما أبو حمزة الثمالي في تفسيره . ويقال : كيف علم إبليس أن له أتباعا يتابعونه ؟ والجواب : علم ذلك من قوله {لأملأن جهنم منك وممن تبعك} وقيل : إنه لما نال من آدم ما نال ، طمع في ولده ، وإنما قال ذلك ظنا ، ويؤيده قوله تعالى : {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} {ولأضلنهم} هذا من مقالة إبليس يعني : لأضلنهم عن الحق والصواب . وإضلاله : دعاؤه إلى الضلال ، وتسبيبه له بحبائله ، وغروره ، ووساوسه . {ولأمنينهم} يعني : أمنينهم طول البقاء في الدنيا ، فيؤثرون بذلك الدنيا ونعيمها ، على الآخرة . وقيل : معناه أقول لهم : ليس وراءكم بعث ، ولا نشر ، ولا جنة ، ولا نار ، ولا ثواب ، ولا عقاب ، فافعلوا ما شئتم ، عن الكلبي .

وقيل معناه أمنينهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية ، وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها ، وأدعو كلا منهم إلى نوع يميل طبعه إليه ، فأصده بذلك عن الطاعة ، وألقيه في المعصية . {ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} تقديره : ولآمرنهم بتبتيك آذان الأنعام ، فليبتكن أي : ليشققن آذانهم ، عن الزجاج . وقيل : ليقطعن الآذان من أصلها ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام ، وهذا شيء قد كان مشركو العرب يفعلونه ، يجدعون آذان الأنعام . ويقال : كانوا يفعلونه بالبحيرة ، والسائبة ، وسنذكر ذلك في سورة المائدة ، إن شاء الله .

{ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} أي : لآمرنهم بتغيير خلق الله ، فليغيرنه .

واختلف في معناه فقيل : يريد دين الله وأمره ، عن ابن عباس ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وجماعة ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام . ويؤيده قوله سبحانه وتعالى : {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، وأراد بذلك تحريم الحلال ، وتحليل الحرام . وقيل : أراد معنى الخصاء ، عن عكرمة ، وشهر بن حوشب ، وأبي صالح ، عن ابن عباس . وكرهوا الاخصاء في البهائم .

وقيل : إنه الوشم ، عن ابن مسعود ، وقيل : إنه أراد الشمس ، والقمر ، والحجارة ، عدلوا عن الانتفاع بها إلى عبادتها ، عن الزجاج . {ومن يتخذ الشيطان وليا} أي :

ناصرا . وقيل : ربا يطيعه {من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا} أي : ظاهرا .

وأي خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار ، وأي صفقة أخسر من استبدال رضاء الشيطان برضاء الرحمن ؟ {يعدهم} الشيطان أن يكون لهم ناصرا ، {ويمنيهم} الأكاذيب والأباطيل . وقيل : معناه يعدهم الفقر إن أنفقوا مالهم في أبواب البر ، ويمنيهم طول البقاء في الدنيا ، ودوام النعيم فيها ، ليؤثروها على الآخرة .

{وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} أي : لا يكون لما يعدهم ويمنيهم أصل وحقيقة .

والغرور : إيهام النفع فيما فيه ضرر . {أولئك} إشارة إلى الذين اتخذوا الشيطان وليا من دون الله ، فاغتروا بغروره ، وتابعوه فيما دعاهم إليه . {مأواهم} : مستقرهم جميعا ، {جهنم ولا يجدون عنها محيصا} أي : مخلصا ، ولا مهربا ، ولا معدلا .

{والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنت تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا} [النساء : 122]

قد مر تفسير صدر الآية في هذه السورة ، وقوله : {ومن أصدق من الله قيلا} ومن أصدق من الله حديثا ونحوه بإشمام الزاي كوفي ، غير عاصم ، ورويس ، والباقون بالصاد . وقد ذكرنا الوجه عند ذكر الصراط في الفاتحة وقوله {وعد الله} نصب على المصدر ، وتقديره وعد الله ذلك وعدا ، فهو مصدر دل معنى الكلام الذي تقدم على فعله الناصب له ، و {حقا} أيضا مصدر مؤكد لما قبله ، كأنه قال : أحقه حقا . و {قيلا} : منصوب على التمييز ، كما يقال : هو أكرم منك فعلا ، ومعناه :

وعد الله ذلك وعدا حقا ، لا خلاف فيه {ومن أصدق} : استفهام فيه معنى النفي :

أي لا أحد أصدق من الله قولا ، فيما أخبره ، ووعدا فيما وعده .

____________________

1. تفسير مجمع البيان  ، ج3  ، ص 190-196  .

2. الطبن بكسر الطاء وتشديد الباء : الشأن والعادة . والبيت لفروة بن مسيك المرادي (اللسان : طبب) .

3. جمع سادن : خادم الكعبة .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1)  :

{ إِنَّ اللَّهً لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ومَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً } . تقدمت هذه الآية مع تفسيرها في الآية 48 من هذه السورة ، ولا اختلاف بين النصين إلا في التتمة ، حيث قال هناك : « ومَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً » وقال هنا : « ومَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً » والمعنى واحد .

مرة ثانية التكرار في القرآن :

تكلمنا عن التكرار في القرآن عند تفسير الآية 48 من سورة البقرة ، المجلد الأول ص 96 ، ونعطف عليه ما قاله صاحب تفسير المنار عند تفسيره لهذه الآية :

« ان القرآن ليس قانونا ، ولا كتابا فنيا ، يذكر المسألة مرة واحدة ، يرجع إليها حافظها عند إرادة العمل بها ، وإنما هو كتاب هداية . . وإنما ترجى الهداية بإيراد المعاني التي يراد إيداعها في النفوس في كل سياق يعدها ويهيؤها لقبول المعنى المراد ، وإنما يتم ذلك بتكرار المقاصد الأساسية ، ولا يمكن أن تتمكن دعوة عامة إلا بالتكرار ، ولذلك نرى أهل المذاهب الدينية والسياسية الذين عرفوا سنن الاجتماع وطبائع البشر وأخلاقهم يكررون مقاصدهم في خطبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في صحفهم وكتبهم » .

{ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً } . كان العرب قبل محمد ( صلى الله عليه وآله ) يزعمون ان الملائكة بنات اللَّه : { أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ واتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً} [الإسراء : 40] . وقد حملهم هذا الاعتقاد على أن يتخذوا تماثيل يسمونها أسماء الإناث ، كاللات والعزى ومناة ، ويرمزون بالأصنام إلى الملائكة التي زعموا إنها بنات اللَّه . . وكانوا يتقربون بها إلى اللَّه زلفى في بدء الأمر ، ومع مرور الأجيال تحولت تلك الأصنام عندهم إلى آلهة تخلق وترزق . . وهكذا تتحول وتتطور زيارة قبور الأولياء - عند الأعراب والعوام - من تعظيم الشعائر وتقديس المبدأ الذي مات عليه صاحب القبر إلى الاعتقاد بأنه قوة عليا تجلب النفع ، وتدفع الضر .

{ وإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً } . أي ان عبادة المشركين للأصنام هي في واقعها عبادة الشيطان نفسه ، لأنه هو الذي أمرهم بها فأطاعوا أمره ، ومن أطاع غيره ، وسلك مسالكه فهو عبد مأمور له .

{ لَعَنَهُ اللَّهُ وقالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً } . النصيب المفروض الحصة الواجبة ، والمعنى ان الشيطان قال للَّه ، جل وعز : ان لي سهما فيمن خلقتهم لعبادتك ، وقلت عنهم فيما قلت : « وما خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - 56 الذاريات ، وان هذا السهم فرض واجب لي يطيعني ويعصيك .

وتسأل : ان ظاهر الآية يدل على ان الشيطان شخص حقيقي ، وانه يخاطب اللَّه بقوة وثقة ، فهل الكلام جار على ظاهره ، أو لا بد من التأويل ؟ .

الجواب : نقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده ان في كل فرد من أفراد الإنسان استعدادا لعمل الخير والشر ، ولاتباع الحق والباطل ، والى هذا الاستعداد أشار سبحانه بقوله : {وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد : 10] ، وان النصيب المفروض للشيطان من الإنسان هو استعداده للشر الذي هو أحد النجدين .

وعليه يكون لفظ الشيطان كناية عن هذا الاستعداد .

وفي ص 20 من المجلد الأول تكلمنا عن المراد من الشيطان . . وغير بعيد أن يكون هذا القول الذي جاء على لسان الشيطان { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً } أن يكون تصويرا لواقع العصاة الذين تغلَّب فيهم جانب الاستعداد للشر على جانب الاستعداد للخير ، وليس خطابا حقيقيا مع اللَّه سبحانه .

سياسة الشيطان والعلم الحديث :

وقال قائل : ان فكرة الشيطان سيطرت على عقول الناس يوم كان العلم مجرد كلمات تقال في حلقات الدرس ، وسطور تملأ صفحات الكتب ، ولا تتجاوزها إلى العمل إلا قليلا ، أما اليوم فقد أصبحت فكرة الشيطان بشتى تفاسيرها خرافة وأسطورة بعد أن صار العلم مقياسا لكل حقيقة ، وأساسا لكل خطوة يخطوها الإنسان ، وقوة في كل ميدان ، ومعجزة تحرك الحديد ليخرق الأرض آلاف الأمتار ، يفجرها أنهرا من الذهب ، ويطير في الجو إلى القمر والمريخ ، يخاطب أهل الأرض من هناك بما يشاهد في رحلته .

الجواب : لا نظن أحدا يهوّن من شأن العلم وفوائده ، وانه قوة وثروة ، وان حاجة الناس إليه تماما كحاجتهم إلى الماء والصيام . . ولكن لا أحد يجهل ان العلم تماما كالإنسان فيه استعداد للخير والشر ، وانه حين يوجه إلى الخير ينتج الطعام للجائعين ، والكساء للعراة ، والعلاج للمرضى ، وحين يوجه إلى الشر يقتل ويدمر . . والشر هو الركيزة الأولى لسياسة الشيطان الذي نعنيه . وقد أصبح العلم اليوم في يد السياسة تتجه به إلى الفتك والهدم ، والسيطرة والاستغلال .

وقد تضاعف نصيب الشر أو الشيطان - مهما شئت فعبر - بتقدم العلم وتطوره .

كان أعوان الشر فيما مضى يتسلحون بقوة العضلات ، أما الآن ، وبعد ان بلغ العلم من الجبروت ما بلغ فإن حزب الشيطان يتسلحون بالذرة والصواريخ الموجهة ، وما إليها مما يزلزل الأرض من أعماقها .

وقرأت فيما قرأت ان أمريكا وضعت مخططا لشراء شباب العلم في أي مكان وجدوا أو يوجدون ، وان سمسارها المتجول استطاع في بعض زياراته لبريطانيا أن يعقد صفقة مع سبعمائة عالم للهجرة لأمريكا ، ومعظم هذه العقول يستغلها الساسة الأمريكيون في صنع الأجهزة والآلات لغزو العالم كله ، والسيطرة على مقدراته ، وهؤلاء هم الشيطان عدو اللَّه والإنسان .

أما المدارس العصرية المنتشرة هنا وهناك فأكثرها من نصيب الشيطان ، ولا شيء فيها يمت إلى الدين والخلق الكريم بصلة . . وهكذا استجابت العقول الكبيرة والصغيرة في هذا العصر لدعوة الشر والشيطان الذي أعلنها بقوله : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً } .

{ ولأُضِلَّنَّهُمْ ولأُمَنِّيَنَّهُمْ } . إضلال الشيطان للإنسان أن يزين له الحق باطلا ، والخير شرا ، أو يوهمه انه لا حق ولا خير في الوجود ، ولا جنة ولا نار ، وان الدنيا ملك لمن يحوزها كما قال « نيتشه » . . وفي الحديث : « خلق إبليس مزينا ، وليس إليه من الضلالة شيء » أما تمنية الشيطان للإنسان فهو أن يخيل إليه ادراك ما يتمناه من طول الأجل ، والنجاة يوم الحساب والجزاء ، وما إلى ذلك من الأماني الكاذبة ، والسعادة الموهومة .

{ ولآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأَنْعامِ ولآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } . البتك القطع ، يقال : بتكه ، أي قطعه ، والتبتيك للتكثير والمبالغة في البتك . والأنعام الإبل والبقر والغنم ، وكان العرب في الجاهلية يقطعون آذان بعض الأنعام ، ويوقفونها للأصنام ، ويحرّمونها على أنفسهم ، ويأتي التفصيل ان شاء اللَّه عند تفسير الآية 103 من سورة المائدة : { ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وَصِيلَةٍ ولا حامٍ ولكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } .

وبعد ان كان الشر أو الشيطان يأمر حزبه في عصر الجاهلية بقطع آذان الأنعام وتغيير خلق اللَّه أصبح يأمرهم بإلقاء قنابل النابالم على النساء والأطفال ، والقنبلة الذرية على المدن ك « هيروشيما » و « ناكازاكي » لإفناء خلق اللَّه . . وهذا من ( حسنات ) سيطرة الساسة على عبقرية العقول ، وجبروت العلم .

{ ومَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ } - أي يطيعه - { فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً } . حيث يصبح ضحية الأهواء والشهوات ، وأسير الأوهام والخرافات .

{ يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً } . حيث سار بهم على طريق التهلكة بعد ان زين لهم انه سبيل النجاة ، فالزاني أو شارب الخمر - مثلا - يخيل إليه انه يتمتع باللذائذ ، وهو في واقعه يتحمل أعظم المضار دنيا وآخرة .

{ ولا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً } . المحيص المخرج والمفر ، والمعنى ان حزب الشيطان من المشركين والمفسدين لا نجاة لهم من عذاب اللَّه . . وبعد ان ذكر سبحانه الوعيد أردفه بالوعد على سنته المعهودة من اقتران الترغيب بالترهيب ، قال عز من قائل : { والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } . وفي هذه الآية ثلاثة تأكيدات : الأول التأبيد الذي دل عليه لفظ ( أبدا ) . والثاني وعد اللَّه حقا . والثالث ومن أصدق . والغرض من هذا التكرار التنبيه إلى ان مواعيد الشيطان كاذبة ، وأمانيه فارغة ، وأوامره باطلة ، وان قول اللَّه هو الحق والصدق ، وطاعته هي الخير والسعادة .

وتسأل : ان الوعد بالجنة في أكثر آياته يقترن الخلود فيها بالتأبيد ، وأكثر آيات الوعد بالنار لا يقترن الخلود فيها بالتأبيد ، فما هو السر ؟

الجواب : السر ان الخلود عبارة عن طول المكث ، وقد يكون إلى الأبد ، وقد لا يكون . . ومن دخل الجنة فلا يخرج منها ، فناسب ذلك ذكر التأبيد ، أما من يدخل النار فقد ينقطع عذابه ، ويخرج منها ، ولهذا لم يقترن العذاب فيها بالتأبيد إلا في حالات خاصة ، كالشرك وقتل العمد .

___________________________

1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص 440-444 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :  

قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } ( إلى آخر الآية ) ظاهر الآية أنها في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة { نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } ، بناء على اتصال الآيات فالآية تدل على أن مشاقة الرسول شرك بالله العظيم ، وأن الله لا يغفر أن يشرك به ، وربما استفيد ذلك من قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ } : ( محمد : 34 ) فإن ظاهر الآية الثالثة أنها تعليل لما في الآية الثانية من الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فيكون الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله كفرا لا يغفر أبدا ، وهو الشرك.

والمقام يعطي أن إلحاق قوله { وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ } بقوله { إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } إنما هو لتتميم البيان ، وإفادة عظمة هذه المعصية المشؤومة أعني مشاقة الرسول ، وقد تقدم بعض الكلام في الآية في آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب.

قوله تعالى : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً } الإناث جمع أنثى يقال : أنث الحديد أنثا أي انفعل ولان ، وأنث المكان أسرع في الإنبات وجاد ، ففيه معنى الانفعال والتأثر ، وبذلك سميت الأنثى من الحيوان أنثى وقد سميت الأصنام وكل معبود من دون الله إناثا لكونها قابلات منفعلات ليس في وسعها أن تفعل شيئا مما يتوقعه عبادها منها ـ كما قيل ـ قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } : ( الحج : 74 ) وقال : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً } : ( الفرقان : 3 ) .

فالظاهر أن المراد بالأنوثة الانفعال المحض الذي هو شأن المخلوق إذا قيس إلى الخالق عز اسمه ، وهذا الوجه أولى مما قيل : إن المراد هو اللات والعزى ومنات الثالثة ونحوها ، وقد كان لكل حي صنم يسمونه أنثى بني فلان إما لتأنيث أسمائها أو لأنها كانت جمادات والجمادات تؤنث في اللفظ.

ووجه الأولوية أن ذلك لا يلائم الحصر الواقع في قوله { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً } كثير ملاءمة ، وبين من يدعى من دون الله من هو ذكر غير أنثى كعيسى المسيح وبرهما وبوذا.

قوله تعالى : { وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً } المريد هو العاري من كل خير أو مطلق العاري ، قال البيضاوي : المارد والمريد الذي لا يعلق بخير ، وأصل التركيب للملامسة ، ومنه صرح ممرد ، وغلام أمرد ، وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها ( انتهى ) .

والظاهر أن الجملة بيان للجملة السابقة فإن الدعوة كناية عن العبادة لكون العبادة إنما نشأت بين الناس للدعوة على الحاجة ، وقد سمى الله تعالى الطاعة عبادة قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي } : ( يس : 61 ) فيئول معنى الجملة إلى أن عبادتهم لكل معبود من دون الله عبادة ودعوة منهم للشيطان المريد لكونها طاعة له.

قوله تعالى : { لَعَنَهُ اللهُ } اللعن هو الإبعاد عن الرحمة ، وهو وصف ثان للشيطان وبمنزلة التعليل للوصف الأول.

قوله تعالى : { وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً } كأنه إشارة إلى ما حكاه الله تعالى عنه من قوله { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } : ( ـ ص : 83 ) وفي قوله { مِنْ عِبادِكَ } تقرير أنهم مع ذلك عباده لا ينسلخون عن هذا الشأن ، وهو ربهم يحكم فيهم بما شاء.

قوله تعالى : { وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ } ( إلى آخر ) الآية التبتيل هو الشق ، وينطبق على ما نقل : أن عرب الجاهلية كانت تشق آذان البحائر والسوائب لتحريم لحومها.

وهذه الأمور المعدودة جميعها ضلال فذكر الإضلال معها من قبيل ذكر العام ثم ذكر بعض أفراده لعناية خاصة به ، يقول : لأضلنهم بالاشتغال بعبادة غير الله واقتراف المعاصي ، ولأغرنهم بالاشتغال بالآمال والأماني التي تصرفهم عن الاشتغال بواجب شأنهم وما يهمهم من أمرهم ، ولآمرنهم بشق آذان الأنعام وتحريم ما أحل الله سبحانه ، ولآمرنهم بتغيير خلق الله وينطبق على مثل الإخصاء وأنواع المثلة واللواط والسحق .

وليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق الله الخروج عن حكم الفطرة وترك الدين الحنيف ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } : ( الروم : 30 ).

ثم عد تعالى دعوة الشيطان وهي طاعته فيما يأمر به اتخاذا له وليا فقال : { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً } ولم يقل : ومن يكن الشيطان له وليا إشعارا بما تشعر به الآيات السابقة أن الولي هو الله ، ولا ولاية لغيره على شيء وإن اتخذ وليا.

قوله تعالى : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً } ظاهر السياق أنه تعليل لقوله في الآية السابقة { فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً } وأي خسران أبين من خسران من يبدل السعادة الحقيقية وكمال الخلقة بالمواعيد الكاذبة والأماني الموهومة ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ } : ( النور. 39 ) .

أما المواعيد فهي الوساوس الشيطانية بلا واسطة ، وأما الأماني فهي المتفرعة على وساوسه مما يستلذه الوهم من المتخيلات ، ولذلك قال : { وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً } فعد الوعد غرورا دون التمنية على ما لا يخفى.

ثم بين عاقبة حالهم بقوله { أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً } أي معدلا ومفرا من « حاص » إذا عدل.

ثم ذكر ما يقابل حالهم وهو حال المؤمنين تتميما للبيان فقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ } ( إلى آخر الآية ) وفي الآيات التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة ، والوجه العام فيه الإيماء إلى جلالة المقام وعظمته بوضع لفظ الجلالة موضع ضمير المتكلم مع الغير فيما يحتاج إلى هذا الإشعار حتى إذا استوفى الغرض رجع إلى سابق السياق الذي كان هو الأصل ، وذلك في قوله {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} ، وفي ذلك نكتة أخرى ، وهي الإيماء إلى قرب الحضور وعدم احتجابه تعالى عن عباده المؤمنين وهو وليهم .

قوله تعالى : { وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً } فيه مقابلة لما ذكر في وعد الشيطان أنه ليس إلا غرورا فكان وعد الله حقا ، وقوله صدقا .

________________________

1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 73-75 .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)  :  

 

الشّرك ذنب لا يغتفر :

تشير هذه الآية مرة أخرى إلى خطورة جريمة الشرك الذي يعتبر ذنبا لا يغتفر ولا يتصور وجود ذنب أعظم منه ، ويأتي هذا البحث بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المنافقين والمرتدين الذين ينساقون بعد إسلامهم إلى الكفر.

ولقد مرّ ما يشابه مضمون هذه الآية ، في نفس سورة النساء في الآية (٤٨) وما إعادة تكرار مثل هذه المسائل التربوية إلا دليل على بلاغة القرآن ، لأنّ المسائل الأساسية تستلزم التكرار في فواصل مختلفة بغية ترسيخها في الأذهان والنفوس.

والحقيقة أنّ الذنوب تشبه سائر الأمراض ، فما دام المرض لم يهاجم موقعا مهما في جسم الإنسان ولم يشل أحد هذه المواقع ، كانت القدرة الدفاعية للجسم تحمل معها الشفاء والتحسن ، ولكن لو هاجم المرض مركزا حساسا في جسم الإنسان ـ مثل الدماغ ـ وأوجد نتيجة لذلك شللا في الجسم ، فإنّ أبواب الأمل بالشفاء والتحسن قد تغلق في مثل هذه الحالة التي تنذر بقدوم الموت المحتم.

والشرك كهذا المرض الأخير يشل مركزا حساسا في روح الإنسان ، وينشر الظلمة في نفسه ، وإذا استمر الشرك فلا أمل يرتجى في نجاة الإنسان ، بينما لو بقيت حقيقة التوحيد وعبادة الواحد الأحد التي هي ينبوع كل فضيلة وحركة ... لو بقيت هذه الحقيقة حية فلا يعدم الإنسان الآمل في غفران ذنوبه الأخرى ، وفي هذا المجال تقول الآية الكريمة : {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}.

وقد قلنا : بأنّ هذه الآية قد تكررت مرّتين في هذه السورة ، وما ذلك إلّا لتزيل آثار الشرك والوثنية ـ وإلى الأبد ـ من نفوس أولئك الناس الذين ظل الشرك يعشش في أعماق نفوسهم لآماد طويلة ، ولتظهر آثار التوحيد المعنوية والمادية على وجوه هؤلاء.

ولكن تتمة الآيتين تختلف في إحداهما عن الأخرى اختلافا طفيفا ، حيث تقول الآية الأخيرة : {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} بينما الآية السابقة تقول : {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً}.

وفي الحقيقة فإنّ الآية السابقة تشير إلى الفساد العظيم الذي ينطوي عليه الشرك فيما يخص الجانب الإلهي ، ومعرفة الله ، أمّا الآية الأخيرة فقد بيّنت الأضرار التي يلحقها الشرك بنفس الإنسان والتي لا يمكن تلافيها ، فهناك تبحث الآية في الجانب العلمي من القضية ، وهنا تتناول الآية الأخيرة الجانب العملي منها ونتائجها الخارجية.

ويتّضح من هذا أنّ الآيتين تعتبر إحداهما بالنسبة للأخرى بمثابة اللازم والملزوم بحسب الاصطلاح (وقد اشتمل الجزء الثّالث من نفس هذا التّفسير على توضيحات أكثر حول هذه الآية) .

مكائد الشّيطان :

إنّ الآية الأولى ـ من مجموع الآيات الخمس الأخيرة ـ تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة ، وهذه الآية إنّما تبيّن سبب ضلال المشركين، فتذكر أنّهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم ، إذ يتركون عبادة الله خالق ومنشئ عالم الوجود الوسيع ، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إيجابي في الوجود ، بل هي ـ أحيانا مضللة كالشّيطان : {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً}.

وممّا يلفت النظر أن هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما «إناث» و «شيطان مريد».

وكلمة «إناث» مشتقة من المصدر «أنث» على وزن «أدب» وتعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن ، ولهذا السبب فإنّ العرب تقول : «أنث الحديد» إذا لانّ في النار ، وقد سمي جنس المرأة بـ «الإناث» لأنّها أكثر رقّة ولطفا ولينا من الرجل.

لكن بعض المفسّرين يرى هنا ـ أنّ القرآن يشير في هذه الآية إلى أصنام كانت معروفة لدى قبائل العرب حيث انتخبت كل قبيلة صنما من هذه الأصنام ووضعت له اسما مؤنثا. فالصنم «اللات» سمّي هكذا ليكون مؤنثا لكلمة لفظ الجلالة «الله» ، أمّا الصنم «عزى» فهو مؤنث كلمة «أعز» وكذلك أصنام أخرى مثل «مناة» و «نائله» وأمثالها.

بينما يرى بعض آخر من كبار المفسّرين أنّ القصد من كلمة «إناث» الواردة في الآية ليس المعنى المعروف بالمؤنث ، بل أنّ القصد منها هو الجذر اللغوي الذي اشتقت منه هذه اللفظة ، أي أنّ المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإنسان ، وأن وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والانحناء أمام الأحداث ، وبعبارة أوضح : أنّها موجودات لا تملك الإرادة والإختيار ولا تنفع ولا تضرّ شيئا أبدا.

أمّا كلمة «مريد» وهي من حيث الجذر اللغوي مأخوذة من مادة «مرد» بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر ، ولهذا سمّي الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد ، وعلى هذا فإنّ الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة ، ولم يبق في وجوده شيء من مصادر القوّة.

أو قد تكون هذه الكلمة مأخوذة من الأصل «مرود» بمعنى الطغيان والجبروت، أي أن معبود هؤلاء الوثنيين هو شيطان متكبر متجبر.

والحقيقة أنّ القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إلى نوعين : بعضها ضعيف

الإرادة مطلقا ، والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر ، لكي يبيّن أن الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إنّما يعيش في ضلال واضح مبين.

بعد ذلك كله تشير الآية إلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضا من خططه الدنيئة ، وقبل كل شيء تؤكد أن الله قد أبعد الشيطان عن رحمته {لَعَنَهُ اللهُ}.

وفي الحقيقة فإنّ أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة الله ، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين ، وبديهي أنّ من يكون بعيدا عن رحمة الله كالشيطان ، يكون خاويا من كل خير أو حسن ، ولا يمكنه أن يترك خيرا أو حسنا في حياة غيره ، وفاقد الشيء لا يعطيه ، فهو لن يكون غير نافع فحسب ، بل سيكون ضارا أيضا.

ثمّ تذكر الآية التالية أنّ الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضا من خططه :

أوّلها : أن يأخذ من عباد الله نصيبا معينا ، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان : {وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} فالشيطان يعلم بعجزه عن إغواء جميع عباد الله ، لأنّ من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط أولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات ، والذين لا إيمان لهم ، أو ضعاف الإيمان.

والثّانية : خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة : {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ}.

والثّالثة : اشغلهم بالأمنيات العريضة وطول الأمل {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} (2) .

أمّا الخطّة الرّابعة : ففيها يدعو الشيطان اتباعه إلى القيام بأعمال خرافية ، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية : {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ} وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون المشركون ، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي ، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الانتفاع بهذه الحيوانات.

وخامس : الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإنسان ، هي ما ورد على لسانه في الآية إذ تقول : {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ...} وهذه الجملة تشير إلى أنّ الله قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقة إياه ـ النزعة إلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد ، بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى ، ولكن وساوس الشيطان والانجراف وراء الأهواء والنزوات تبعد الإنسان عن الطريق المستقيم الصحيح ، وتحرفه إلى الطرق المعوجة الشاذة.

والشاهد على والقول أيضا الآية (٣٠) من سورة الرّوم ، إذ تقول : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.

ونقل عن الإمام الصّادق عليه ‌السلام أنّه فسّره بأنّ القصد من التغيير المذكور في هذه الآية من سورة النساء هو تغيير فطرة الإنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر الله (3) .

وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه ، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإنسان ، لأنّه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي تؤدي إلى تغيير السعادة بالشقاء للناس ، وقد أكّدت الآية في آخرها مبدأ كليا ، وهو أنّ أي إنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه وليا من دون الله ، فقد ارتكب إثما وذنبا واضحا إذ تقول الآية : {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً}.

والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أنّ الشيطان يستمر في إعطائه الوعود الكاذبة لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض ، ولكنه لا يفعل شيئا بالنسبة لهؤلاء غير الإغواء والخداع : {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً} (4).

وبيّنت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير اتباع الشيطان ، بأنّهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفرا أبدا ، فتقول الآية : {أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً} (5).

لقد بيّنت الآيات السابقة أنّ الذين يتخذون الشيطان وليا لهم ، إنّما ينالهم ضرر واضح ومبين ، وأنّ الشيطان يعدهم زيفا وخداعا ويلهيهم بالأمنيات الواهية الخيالية الطويلة العريضة ، وإن وعد الشيطان مكر وخداع لا غير.

أمّا في هذه الآية الأخيرة ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ فقد بيّنت مقابل أولئك في النهاية أعمال المؤمنين والثواب الذي سينالونه يوم القيامة ، من جنّات وبساتين وأنهار تجري فيها ، حيث تقول الآية : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}.

وإنّ هذه النعمة العظيمة دائمة أبدا ، وليست كنعم الدنيا الزائلة ، فالمؤمنون في الجنّة يتمتعون بما أوتوه من خير دائما أبدا ، تؤكّد هذه بعبارة {خالِدِينَ فِيها أَبَداً}.

وإنّ هذا الوعد وعد صادق وليس كوعود الشيطان الزّائفة ، حيث تقول الآية : {وَعْدَ اللهِ حَقًّا}.

وبديهي أنّ أي فرد لا يستطيع ـ أبدا ـ أن يكون أصدق قولا من الله العزيز القدير في وعوده وفي كلامه ، كما تقول الآية : {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} وطبيعي أنّ عدم الوفاء بالوعد ناتج إمّا عن العجز وإمّا الجهل والحاجة ، والله سبحانه وتعالى منزه عن هذه الصفات.

__________________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 308-314 .

2. إنّ عبارة «ولامنّينّهم» تعود إلى المصدر «منى» على وزن «منع» وتعني قياس الشيء أو تقييمه ، ولكنّها ترد في أغلب الأحيان لتعني القياس والتقييم والآمال الوهمية والخيالية أمّا النطفة التي تسمّى بـ «مني» فمعناها أن قياس تركيب أولى الموجودات الحسية قد تمّ فيها.

3. تفسير التبيان ، الجزء الثّالث ، ص ٣٣٤.

4. الغرور يعني في الأصل الأثر الواضح للشيء ، ولكنه يطلق في الغالب على الآثار التي لها ظاهر خادع وباطن كريه ، ويطلق على كل شيء يخدع الإنسان مثل المال والجاه والسلطان التي تبعد الإنسان عن الحق وعن جادة الصواب على أنّه مادة للغرور.

5. المحيص مشتق من المصدر «حيص» ويعني العدول والانصراف عن الشيء ، وعلى هذا الأساس فإن المحيص هو وسيلة الانصراف والفرار.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .