المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

التاريخ
عدد المواضيع في هذا القسم 6763 موضوعاً
التاريخ والحضارة
اقوام وادي الرافدين
العصور الحجرية
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
العهود الاجنبية القديمة في العراق
احوال العرب قبل الاسلام
التاريخ الاسلامي
التاريخ الحديث والمعاصر
تاريخ الحضارة الأوربية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



فتح مكة  
  
2177   03:04 مساءً   التاريخ: 7-2-2017
المؤلف : محمد الشيرازي
الكتاب أو المصدر : لأول مرة في العالم
الجزء والصفحة : ج2، الفصل الثاني
القسم : التاريخ / التاريخ الاسلامي / السيرة النبوية / سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام /

غزوة الفتح

خرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)يوم الجمعة حين صلّى العصر بالناس، بكتائب الإسلام وجنود الرحمن، وهم عشرة آلاف من المسلمين، ونحو من أربعمائة فارس، وذلك لنقض قريش العهد الذي وقع بينهم وبين رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بالحديبيّة.

وكان خروجه في شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة النبويّة المباركة، بعد أن استخلف على المدينة أبا لبابة، وقيل: أبا ذر الغفاري.

وكان سببها : ان بني بكر بن عبد مناة من كنانة، كانت بينهم وبين خزاعة حروب قبل الإسلام وقتل، فلما جاء الإسلام تشاغل الناس به، فلما كانت الهدنة عام الحديبية دخلت بنو بكر من كنانة في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وعقده.

فلما مضت سنتان من القضية، وقد استتبّ الأمن في البلاد وساد الهدوء في المنطقة، وصلت قريش أنباء حرب مؤتة وانهزام المسلمين بعد أن قتل فيها اُمراؤها الثلاثة، مما أطمعهم في التجرؤ على إثارة البلبلة في البلاد، والإخلال بأمن المنطقة، ونقض العهد الذي وقعوه مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بالحديبية.

فعمدوا إلى توزيع الأسلحة في حلفائهم بني بكر من كنانة، وحرّضوهم على أن يبيّتوا خزاعة حلفاء المسلمين، ويغيروا عليهم ليلاً ويصيبوا الثأر منهم، كما وعدوهم بأن يمدّوهم بالرجال أيضاً، ثم بدأوا بإشعال فتيل نار الفتنة، وذلك عبر المخطّط التالي: فقد أوعزوا إلى رجل من كنانة أن يقعد في صراط خزاعة، ويروي هجاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

فلما فعل ذلك مرّ عليه رجل من خزاعة وقال له: يا هذا كفّ عن قولك.

فأجابه قائلاً: وما أنت وذاك؟

فردّ عليه مهدداً: لئن عدت لأكسرنّ فاك.

فأعادها الكناني، فرفع الخزاعي يده وضرب بها فاه الكناني، فاستنصر الكناني قومه، والخزاعي قومه، وبدأت المناوشات بين الجانبين.

قريش تنقض عهدها:

ولما بدأت المناوشات بين الجانبين خرج نوفل بن معاوية في نفر من بني بكر فبيت خزاعة على ماء بأسفل مكة يقال له الوتير، وأصاب منهم رجالاً وأموالاً، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، وكان من بينهم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم.

فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل انا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك.

فقال نوفل: لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟

فقاتلوهم حتى لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، حتى قدموا على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)يخبرونه بما قد وقع، ويستنصرونه. وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)إذ ذاك بين أصحابه في المسجد، فوقف عليه عمرو بن سالم الخزاعي وقال:

يا رب انّي ناشد محمداً حلف أبينا وأبيه الأتلدا

إنّ قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

هم بيّتونا بالوتير هُجّدا وقتلونا ركَّعاً وسجّداً

فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): حسبك يا عمرو، ثم قام (صلى الله عليه وآله)فدخل دار زوجته ميمونة وقال: اسكبوا لي ماءاً، فجعل يغتسل ويقول: (لا نصرت إن لم أنصر بني كعب) وهم رهط عمرو بن سالم الخزاعي.

وقيل : إنّ ميمونة سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)يقول في متوضّئه ليلاً: لبيك لبيك (ثلاثاً) ، نصرت نصرت (ثلاثاً).

فلما خرج قالت : يا رسول اللّه، سمعتك تقول في متوضئك: لبيك لبيك ثلاثاً، نصرتَ نصرت ثلاثاً، كأنك تكلّم إنساناً، فهل كان معك أحد؟

فقال (صلى الله عليه وآله): هذا راجز بني كعب يستصرخني ويزعم أنّ قريشاً أعانت عليهم بني بكر.

ثم خرج بديل بن الورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فأخبروه بما اُصيب منهم ومظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكّة.

ندامة قريش:

ثم ندمت قريش على ما صنعت، وعلموا أنّ ذلك نقض لما كان بينهم وبين رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وخافوا ردّه الحاسم عليهم، فبعثوا إليه أبا سفيان ليشدّد العقد.

وقد كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال للناس: كأنّكم بأبي سفيان قد جاء ليشدّد العقد ويزيد في المدّة.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة، فدخل على ابنته اُمّ حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)طوته عنه.

فقال: يا بنية أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عنّي؟

قالت: بل هو فراش رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك باللّه تعالى.

فقال: واللّه لقد أصابك يا بنية بعدي شرّ.

ثم خرج حتى أتى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فقال: يا محمد احقن دم قومك، وأجر بين قريش، وزدنا في المدة.

فقال (صلى الله عليه وآله): أغدرتم يا أبا سفيان؟

قال: لا.

قال (صلى الله عليه وآله): فنحن على ما كنا عليه.

ثم لقي أبو سفيان أحد الصحابة فكلّمه أن يكلّم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله). فقال : ما أنا بفاعل.

ثم لقي صحابياً آخر، فقال له مثل ذلك.

ثم أتى إلى منزل علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وعندهما الحسن والحسين (عليهما السلام) يدبان بين يديهما.

فقال: يا بنت سيّد العرب تجيرين بين قريش، وتزيدين في المدة، فتكونين أكرم سيّدة في الناس؟

فقالت (عليها السلام): جواري جوار رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

فقال: أتأمرين ابنَيْكِ أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر؟

قالت (عليها السلام) : واللّه ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس، وما يجير على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)أحد.

فقال عندها، وقد التفت إلى علي (عليه السلام): يا أبا الحسن أنت أمسّ القوم بي رحماً، واني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

فقال (عليه السلام) : ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)على أمر لا نستطيع أن نكلّمه فيه.

فقال : يا أبا الحسن، اني أرى الاُمور قد اشتدّت عليّ، فانصحني واجعل لي منها وجهاً.

فقال له علي (عليه السلام): أنت شيخ قريش فاذهب وقم على باب المسجد فاجر بين قريش، ثم الحق بأرضك.

فقال: أو ترى ذلك مغنياً عنّي شيئاً؟

قال (عليه السلام): لا واللّه ما أظن ذلك، ولكن ما أجد لك غيره.

ولعله قال له علي (عليه السلام) ذلك حتى يفتح باب الأمل عليه، فيلزمه عبرها بالصلح ويسد عليه طريق التفكير في تجييش الجيوش لمحاربة المسلمين من جديد.

فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين قريش، ثم ركب بعيره فانطلق.

فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟

قال : أتيت محمداً فكلّمته، فواللّه ما ردّ عليَّ شيئاً، ثم جئت أحد الصحابة فلم أجد عنده خيراً، ثم أتيت صحابياً آخر فكان كذلك، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليّ بشيء صنعته، فواللّه ما أدري هل يغني شيئاً أم لا؟

قالوا : وبمَ أمرك؟

قال : أمرني أن اُجير بين الناس، ففعلت.

قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟

قال: لا.

قالوا: ويلك ما زاد الرجل على أن لعب بك، أو أنت تجير بين قريش؟ ما يغني عنا ما قلت.

قال: لا واللّه ما وجدت غير دلك.

النبي (صلى الله عليه وآله) يتجهّز للفتح:

ثم أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)الناس بالجهاز، وأعلمهم انه سائر إلى مكة، وقال: اللّهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، فتجهَّز الناس.

فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم بمسير رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)إليهم، وسلّم الكتاب إلى امرأة سوداء اسمها سارة مع عشرة دنانير لتوصله إلى أهل مكة.

وسارة هذه هي مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام، وكانت قد أتت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى المدينة.

فقال لها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): أمسلمة جئت؟

قالت: لا.

قال (صلى الله عليه وآله): أمهاجرة جئت؟

قالت: لا.

قال (صلى الله عليه وآله): فما جاء بك؟

قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي، وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني.

قال (صلى الله عليه وآله): فأين أنت من شباب المشركين؟ وكانت مغنيّة نائحة.

قالت : ما طلب منّي بعد وقعة بدر.

فحثّ عليها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بني عبدالمطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة.

فلما كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يتجهّز لفتح مكة، أتاها حاطب وسلّمها الكتاب وأمرها أن تأخذ على غير الطريق. فلما خرجت سارة بالكتاب نزل جبرئيل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأخبره بذلك.

فاستدعى (صلى الله عليه وآله)علياً (عليه السلام) وقال له: إنّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا، وقد كنت سألت اللّه أن يعمي أخبارنا عليهم، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق، فخذ سيفك وألحقها وانتزع الكتاب منها وخلّها، وصر به إليَّ.

ثم استدعى (صلى الله عليه وآله)الزبير وقال له: امض مع علي بن أبي طالب في هذا الوجه.

فمضيا، فلما أدركاها، قال لها الزبير: أين الكتاب الذي معك؟

فأنكرت وحلفت وبكت.

فقال الزبير وقد التفت إلى عليّ (عليه السلام): ما أرى معها يا أبا الحسن كتاباً، فارجع بنا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)نخبره ببراءتها.

فقال علي (عليه السلام): يخبرني رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) انّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها، وتقول أنت: انه لا كتاب معها؟!

ثم اخترط (عليه السلام) السيف وتقدّم إليها وقال: أما واللّه لئن لم تخرجي الكتاب ثم لأضربنّ عنقك.

فقالت لما رأت الجدّ: إذا كان لا بدّ من ذلك فأعرض يابن أبي طالب بوجهك عنّي، فأعرض بوجهه، فكشفت قناعها وأخرجت الكتاب من عقيصتها، فأخذه علي (عليه السلام) وصار به إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).

مع حاطب بن أبي بلتعة:

ولما كان أمر حاطب هذا، يتطلّب تهييج الرأي العام ضده، حتى يرتدع كل من يفكّر في ارتكاب أمثالها، ولعله لذلك نرى انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)أمر بالصلاة جامعة، ثم صعد المنبر وأخذ الكتاب بيده وقال: أيها الناس اني قد كنتُ سألتُ اللّه عزّوجلّ أن يخفي أخبارنا عن قريش، وانّ رجلاً منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا، فليقم صاحب الكتاب، وإلاّ فضحه الوحي.

فلم يقم أحد، فأعادها ثانية، فقام حاطب بن أبي بلتعة وقال: أنا يا رسول اللّه صاحب الكتاب، وما أحدثت نفاقا بعد اسلامي ولا شكاً بعد يقيني.

فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب ؟

قال وهو يلتمس لنفسه عذراً : يا رسول اللّه انّ لي أهلاً بمكة، وليس لي بها عشيرة يدفعون عن أهلي، فأردتُ أن تكون لي عند القوم يد يدفع اللّه بها عن أهلي ومالي، إذ ليس أحد من المهاجرين إلاّ وله هناك من عشيرته من يدفع اللّه به عن أهله وماله.

فأعذره رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وعفا عنه وقال لأصحابه يوصيهم به: لا تقولوا له إلاّ خيراً.

فقام أحد الصحابة وقال: يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا المنافق، إنه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين.

فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): اتركه، ونهاه عن التعرّض له.

فأنزل اللّه تعالى في حاطب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلى قوله سبحانه: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3] (1).

الزحف نحو مكة:

وبعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفّار ومزينة وجهينة وأشجع وسُليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لاقاه بالطريق.

وخرج (صلى الله عليه وآله)في عشرة آلاف من المسلمين، ونحو من أربعمائة فارس، ولم يتخلّف من المهاجرين والأنصار عنه أحد، وحيث انه كان في شهر رمضان صام وصام الناس، حتى إذا بلغ كراع الغميم، نزل (صلى الله عليه وآله)فأمر بالإفطار لنزول الوحي عليه بذلك، فأفطر وأفطر الناس، وصام قوم فسمّوا (العصاة) لأنهم صاموا، ظنّاً منهم بأن الصوم حتى في مثل هذه الحال أفضل، فاجتهدوا مقابل نصّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وأمره لهم بالإفطار، فأنذرهم القرآن وحذّرهم مغبّة التقدّم على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمرهم بالتقوى والتحرز عن الإجتهاد مقابل نصوصه الصريحة بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] (2).

من ذكريات الفتح:

وقد كان العباس عم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)خرج بأهله وعياله مهاجراً مسلماً فلقي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بالجحفة، فانضمّ إليه.

وكان ممن لقي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بالطريق أيضاً: أبو سفيان بن الحارث بن المطلب ابن عمه، وعبداللّه بن أبي اُمية ابن عمته، أخو اُم سلمة اُم المؤمنين، لقيا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فلم يأذن لهما.

فكلّمته اُم سلمة فيهما فقالت: يا رسول اللّه ابن عمك، وابن عمتك وصهرك.

قال (صلى الله عليه وآله): لا حاجة لي بهما، أما ابن عمّي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال، وكان من قوله له: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] (3).

فلما خرج الخبر إليهما بذلك قال أبو سفيان بن الحارث ومعه ابن له: واللّه ليأذننّ لي أو لآخذنّ بيد ابني هذا ثم لنذهبنّ في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً.

فلما بلغ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ذلك رقّ لهما وأذن لهما. وقيل : انّ علياً (عليه السلام) قال لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] (4) ففعل ذلك أبو سفيان بن الحارث.

فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) مجيباً له وهو لا يرضى إلا بأن يتفوّق في حسن القول عليه: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] (5).

فأنشده أبو سفيان بن الحارث أبياتاً، وقد أسلم وحسن إسلامه، وكذلك فعل عبداللّه بن أبي اُمية.

في مرّ الظهران.

ثم مضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)حتى نزل مرّ الظهران عشاءً، أي: نزل على مشارف مكة ـ وقد عميت أخباره عن قريش ـ فأمر (صلى الله عليه وآله)أصحابه فأوقدوا أكثر من عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشاً مسيره وهم مغتمّون لما يخافون من غزوه إياهم.

فقال العباس: يا سوء صباح قريش، واللّه لئن دخل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.

قال : فركبتُ بغلة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فخرجت حتى أتيت الأراك، فقلت لعلّي أجد بعض الحطّابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيأتوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة.

قال : فواللّه إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط، ولا عسكراً.

قال : ويقول بديل: هذه واللّه خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان : خزاعة أقل وأذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

قال : فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة.

فعرف صوتي فقال: يا أبا الفضل؟

قلت : نعم.

قال : ما وراك وما هذه النيران؟

قلت : هذا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وراك، قد جاء بما لا قبل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين.

قال أبو سفيان : فما الحيلة؟

قلت : واللّه لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فأستأمنه لك، فردفني، ورجع صاحباه.

المساعي الحميدة لعباس:

انّ التقاء الشخصيات المرتبطة بالسماء كرسول اللّه (صلى الله عليه وآله)له الأثر البالغ في احتواء الطرف واستهوائه، فإن كان عدوّاً ضعفت روحيته واستسلم للحق، ولو عن عدم قناعة، وإن كان صديقاً أو محايداً قويت معنويته، واستلهم الحق عن قناعة، ولذلك تأبى قوى الشرّ وبكل إصرار أن يلتقي الناس ويتعرَّفوا على المرتبطين بالسماء، بينما العباس ذو المكانة المعروفة، كان يريد الخير لأهل مكة، فقام بهذا الدور، ونال تأييد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك أردف أبا سفيان خلفه.

قال: فجئت به، فكلما مررنا بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وأنا عليها، قالوا: عم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)على بغلة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

حتى مررت بنار أحد الصحابة فقال: من هذا؟ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: هذا أبو سفيان عدوّ اللّه؟ الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فركضت البغلة فسبقته بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء، واقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ثم جلست وأخذت برأسه وقلت: واللّه لا يناجيه الليلة أحد دوني.

فبينا أنا كذلك إذ دخل الصحابي وقال: يا رسول اللّه هذا أبو سفيان عدوّ اللّه قد أمكن اللّه منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه.

فقلت : يا رسول اللّه اني قد أجرته.

فلما أكثر الصحابي في شأنه قلت له: مهلاً، فواللّه ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني فلان ما قلت هذا.

قال الصحابي: مهلاً يا عباس، فواللّه إسلامك كان أحبّ إليّ من إسلام أبي لو أسلم، وما ذلك إلا اني قد عرفت انّ إسلامك كان أحبّ إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم).

عندها التفت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)الى عمّه العباس وقال ـ يقطع حوارهما ـ: اذهب به ياعباس إلى رحلك فقد آمنّاه، فإذا أصبحت فأتني به.

قال: فذهبت به إلى رحلي.

الأمر الذي لابدّ منه:

قال العباس : فلما أصبحت غدوت بأبي سفيان على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما رآه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلاّ اللّه؟

قال : بأبي أنت واُمّي ما أحلمك وأكرمك، وأرحمك وأوصلك، واللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه إله غيره لأغنى عنّي شيئاً يوم بدر ويوم اُحد.

قال (صلى الله عليه وآله): ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه؟

قال : بأبي أنت واُمي ما أحلمك وأكرمك وأرحمك وأوصلك، أمّا هذه ففي النفس منها شيء.

فقال له العبّاس: ويحك أسلم واشهد بشهادة الحق، اشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه قبل أن تضرب عنقك.

فتشهد وقد تلجلج بها لسانه شهادة اضطرار، فأسلم اضطراراً.

فقال العباس : يا رسول اللّه، انّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر، فاجعل له شيئاً.

قال (صلى الله عليه وآله): نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

قال أبو سفيان : داري ؟!

قال (صلى الله عليه وآله): دارك، ثم قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

ومع ذلك كله لم يأمن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)أبا سفيان من الغدر إن تركه يذهب إلى مكة، ولذلك التفت إلى عمّه العباس وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): خذه يا عم إلى خيمتك، وكانت قريبة.

فلما جلس أبو سفيان في الخيمة ندم على مجيئه مع العباس وقال في نفسه: من فعل بنفسه مثل ما فعلت أنا؟ جئت فأعطيت بيدي، ولو كنت انصرفت إلى مكة فجمعت الأحابيش وغيرهم فلعلّي كنت أهزمه!

فناداه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من خيمته قائلاً : يا أبا سفيان إذن: كان اللّه يخزيك.

فسقط أبو سفيان في يده ولم يقل شيئاً.

فلما أصبح وقت الصلاة سمع بلالاً يؤذّن فقال: ما هذا المنادي يا أبا الفضل؟

قال : هذا مؤذّن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)للصلاة.

ثم خرج به إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فرآه يتوضّأ وأيدي المسلمين تحت شعره، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه، فقال أبو سفيان: باللّه ما رأيت كاليوم قط كسرى ولا قيصر.

احتياطات:

ثم أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)العباس أن يحبسه بمضيق من الوادي عند خطم الجبل تمر به جنود اللّه فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها.

قال العباس : وكان كلما مرت قبيلة قال لي أبو سفيان: يا عباس من هذه؟

فأقول: سُليم.

فيقول: ما لي ولسُليم.

ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟

فأقول: مزينة.

فيقول : ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تمر قبيلة إلا سألني عنها، فأخبرته بهم، وكلما أخبرته عنها قال: ما لي ولبني فلان، حتى مرّ به رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد.

فقال : يا عباس، من هؤلاء؟!

فقلت: هذا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)في المهاجرين والأنصار.

قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم قال: واللّه يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً.

قلت : يا أبا سفيان انها النبوّة.

قال: فنعم إذن.

قلت : النجاء إلى قومك.

وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مرّ بأبي سفيان قال له:

(اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة)

يا معشر الأوس والخزرج ثأركم يوم الجبل.

فسمعها أبو سفيان، فأضمرها في نفسه حتى إذا مرّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)به قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ انه قال كذا وكذا.

فقال (صلى الله عليه وآله): ليس مما قال سعد شيء، ثم أرسل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)إلى سعد فنزع الراية منه ودفعها إلى علي (عليه السلام) وقال: اُدخلها ادخالاً رفيقاً.

فأخذ علي (عليه السلام) الراية بيده، ثم جعل ينادي ويقول:

اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ الحرمة

أبو سفيان : الداعية الجديد

ثم انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)التفت إلى أبي سفيان وقال له: يا أبا سفيان تقدّم إلى مكة، فأعلمهم بالأمان.

فمضى أبو سفيان حتى جاء قريشاً فصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.

قالوا : قاتلك اللّه وما تغني عنّا دارك؟

قال: ومن أغلق بابه فهو آمن.

فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وسار رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)فدخل مكة من أعلاها.

الدخول إلى مكة:

فلما ظهر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بكتيبته على ثنية أذاخر دخل من ناحيتها، وضربت له خيمة من أدم بالحجون عند قبر عمّه أبي طالب (عليه السلام) وأبى أن يدخل بيته أو بيوتهم بمكة الذي صادره المشركون.

وكان ذلك بعد أن أمر كتائب أصحابه واُمراء عسكره أن يحيطوا بمكة كاملة، ثم يدخلوها من جميع المداخل والطرق النافذة إليها من أعلاها وأسفلها، ومن كل جوانبها حتى يسدّوا على أهلها طريق المجابهة، وأمرهم أن يكفّوا أيديهم عن القتال، ولا يقاتلوا إلا مَن قاتلهم.

كما وعقد لواءاً لأبي رويحة الخثعمي وأمره أن ينادي بين أهل مكة: ألا ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، إضافة إلى المأمن الثلاثة المذكورة، ولذلك اطمئنّ الناس وألقوا أسلحتهم ودخلوا بيوتهم آمنين لم تُسب لهم ذرّية ولم يُسفك منهم دم.

وقيل : انه بعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كدل على مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه.

وقيل : انه بعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسُليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يفرز رايته عند أدنى البيوت.

وبعث ابن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وأمرهم أن يكفّوا أيديهم عن القتال، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.

على مشارف مكة:

ولما انتهى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في كتيبته الخضراء فاتحاً منتصراً إلى ذي طوى وهو موضع مرتفع يرى منه بيوت مكة ومنازلها، ولمح بطرفه منازل مكة وبيوتها، ونظر إلى مسقط رأسه وموطنه الذي خرج منه عنوة، واليوم قد دخلها وفتحها، وتلمّس الفتح الذي منّ اللّه تعالى به عليه، والعودة التي بشّره جبرئيل (عليه السلام) بها، اغرورقت عيناه بدموع الشوق والرحمة، وسجد للّه تعالى تواضعاً وشكراً، وحمده على نعمه وأياديه.

ثم نزل في خيمته التي ضربت له بالحجون عند قبر عمّه أبي طالب (عليه السلام) ليستريح فيها قليلاً، ويتهيّأ منها لزيارة المسجد الحرام والطواف حول بيت اللّه العتيق.

تطهير البيت من الأصنام:

ثم انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعد أن استراح قليلاً في خيمته اغتسل وركب راحلته القصواء واتّجه نحو المسجد الحرام، ولم يكن محرماً لحجّ ولا عمرة، وعليه السلاح، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، وعليهم السلاح، وهم يردّدون مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قوله تعالى:

{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] (6).

وقد ارتجَّت مكة من قولهم، حتى دخل الرسول (صلى الله عليه وآله)المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت وهو على راحلته، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستّون صنماً، فجعل يطعنها (صلى الله عليه وآله) بالقوس ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] (7) {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49] (8) والأصنام تتساقط على وجوهها.

ثم رفع (صلى الله عليه وآله)علياً (عليه السلام) على منكبيه حتى أسقط ما تبقّى من الأصنام التي كانت على الكعبة، وكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قد خصّ علياً (عليه السلام) بهذه المنقبة دون غيره، وإليه أشار ابن العرندس حيث يقول في قصيدته:

وصعود غارب أحمد فضل له *** دون القرابة والصحابة أفضلا

وأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ابن أسد الخزاعي فحدد أنصاب الحرم، وبث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)سراياه إلى الأوثان التي كانت فكسرت كلها. ومما كسرها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) اللاّت والعزّى ومناة الثالثة الاُخرى، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلاّ كسره.

من ذكريات الكعبة:

فلما فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا عليه، وقيل: جلس في ناحية من المسجد حتى نظر إلى البيت، فجعل يحمد اللّه ويدعو ما شاء أن يدعو، ثم دعا بسادن الكعبة وهو يومئذ عثمان بن طلحة، وكان قد أغلق باب البيت لما بلغه انّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد دخل مكة، وامتنع من تسليم المفتاح. فقام إليه علي (عليه السلام) وأخذه منه وسلّمه إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

فأمر (صلى الله عليه وآله) بباب الكعبة ففتحت، فدخلها، فرأى فيها صورتين، فدعا بثوب فبلّه في ماء ثم محاهما، فانطمستا، ثم صلّى بين العمودين على الرخامة الحمراء ركعتين، ثم أقبل على أركان البيت وكبّر إلى كل ركن منه.

ثم قصد (صلى الله عليه وآله) الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينظرون ماذا يفعل بهم، وهم يظنون ـ حسب أعراف الجاهلية الخشناء ـ ان السيف لا يرفع عنهم، وانهم سوف يبادون عن آخرهم، لكن الواقع لم يكن كذلك، فإن الإسلام هو دين المكارم والمحاسن، والنبي (صلى الله عليه وآله) هو رسول الرحمة والإنسانية، ولذلك رأوه (صلى الله عليه وآله) أقبل حتى أخذ بعضادتي الباب وخطب فيهم الخطبة التالية:

لائحة حقوق الإنسان:

ابتدأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) خطابه بحمد اللّه تعالى والثناء عليه وقال:

لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ثم قال : ألا كل مأثرة، أو مال، أو دم يدّعى، أو مظلمة، أو احنة كانت في الجاهلية، فهو تحت قدميّ هاتين، إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج، فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إن مكة محرمة بتحريم اللّه، لم تحلّ لأحد كان قبلي، ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار، وهي محرّمة إلى أن تقوم الساعة، لا يختلى خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحلّ لقطتها إلا لمنشد.

ثم قال: أيّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب إن اللّه قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها، ألا انكم من آدم، وآدم من طين، وعلى رواية: وآدم من تراب.

ثم تلا قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13] (9) الآية.

ثم قال : ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقى اللّه، ان العربيّة ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه.

ثم التفت إلى القوم وقال وهو يخاطبهم: ألا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم، وطردتم، وأخرجتم، وآذيتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلوني، والآن يا معشر قريش ماذا تقولون؟ وماذا تظنون اني فاعل بكم؟

قالوا : نظن خيراً، ونقول خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت.

قال (صلى الله عليه وآله): فإنّي أقول لكم كما قال يوسف (عليه السلام) لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين)(10) اذهبوا فأنتم الطلقاء.

فخرج القوم كأنما انشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وقد كان اللّه سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمّي أهل مكة: (الطلقاء).

مع سدانة الكعبة:

ثم جلس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)في المسجد، فقام إليه علي (عليه السلام) ومفتاح الكعبة في يده، ليُسلّمها إليه، فقام العباس وسأل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)أن يعطيه المفتاح، فنزل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] (11).

فأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)علياً (عليه السلام) أن يردّ المفتاح إلى عثمان بن طلحة.

فلمّا ردّه إليه قال عثمان بن طلحة، وكان لا يتوقّع أن يُردّ المفتاح إليه: يا علي أخذته مني بكره، وجئت به إليّ برفق؟

قال (عليه السلام) : نعم، لقد أنزل اللّه عزّوجل فيك قرآناً يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

فلمّا سمع عثمان بن طلحة ذلك، أسلم، فأقرّه النبي (صلى الله عليه وآله) في يده.

وروي : عن عثمان بن طلحة انه قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل النبي (صلى الله عليه وآله) يوماً وهو يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، وذلك قبل الهجرة، فأغلقت له ونلت منه.

فحلم (صلى الله عليه وآله)عنّي ثم قال: يا عثمان لعلّك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت.

فقلت : لقد هلكت قريش يومئذ وذلّت.

فقال (صلى الله عليه وآله): بل عمرت وعزّت يومئذ، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منّي موقعاً ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال.

فلما كان يوم الفتح قال: يا عثمان ائتني بالمفتاح، فأبيت أن آتيه به، فأخذه منّي علي، ثم دفعه إليه، فلما أتم صلاته وزيارته داخل البيت ردّه عليَّ وقال: يا عثمان بن طلحة إنّ اللّه استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف.

قال: فلما وليت ناداني فقال: ألم يكن الذي قلتُ لك؟

قال: فذكرت قوله (صلى الله عليه وآله)لي بمكة قبل الهجرة، فقلت: بلى أشهد أنّك رسول اللّه.

أول أذان على سطح الكعبة:

فلما دخل وقت صلاة الظهر، أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بلالاً أن يصعد فيؤذّن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب وخالد وعتاب ابنا اُسيد والحارث بن هشام وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة.

فقال خالد : لقد أكرم اللّه اُسيداً ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه.

وقال الحارث: أما واللّه لو أعلم أنه حق لاتّبعته.

وقال أبو سفيان : واللّه لا أقول شيئاً، ولو تكلمت بشيء لأخبرت عني هذه الحصباء والجدد، هذا وعتاب يسمع كلامهم.

فبعث إليهم النبي (صلى الله عليه وآله)فقال لهم: قد علمت الذي قلتم، ثم ذكر لهم ذلك.

فقال أبو سفيان : أنت تعلم اني لم أقل شيئاً.

فقال (صلى الله عليه وآله): اللّهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون.

عندها قال الحارث وخالد: نشهد أنّك رسول اللّه، واللّه ما اطّلع على هذا أحد معنا فنقول أخبرك.

وقال عتاب لما جاء إليه: نستغفر اللّه ونتوب إليه، قد واللّه يا رسول اللّه قلنا ذلك، فأسلم وحسن إسلامه، فولاّه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) مكة.

وكان فتح مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

في دار اُم هاني:

ثم ان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان قد عهد إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم، سوى نفر كانوا يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله)ومن أسلم معه، ويحرّضون على حربهم ومقاتلتهم، ويصدّون الناس عن سبيل اللّه والحقّ، مثل هبار بن الأسود الذي تعرّض لزينب بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)حين هجرتها فأرعبها مما سبّب إسقاط جنينها ومرضها حتّى ماتت منه.

ومثل: عكرمة بن أبي جهل الذي كان أحد مثيري الحروب ومؤجّجي نيران الفتن ضد المسلمين.

ومثل : قينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وتحضّضان المشركين يوم أحد عليه.

فاستتر هؤلاء عن أعين المسلمين، فبلغ علياً (عليه السلام) أن نفرين منهم وكانا حموين لاُم هاني اُخت علي (عليه السلام) قد استجارا بأم هاني فأجارتهما في بيتها، فقصد علي (عليه السلام) نحو دارها مقنعاً بالحديد، ونادى: أخرجوا من آويتم، فرعبا، وخافت اُم هاني عليهما، فخرجت إليه (عليه السلام) وهي لا تعرفه، فقالت: يا عبد اللّه أنا اُم هاني بنت عم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) واُخت علي بن أبي طالب (عليه السلام) فانصرف عن داري.

فقال (عليه السلام): اخرجوهم.

فقالت : واللّه لأشكونّك إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

فنزع علي (عليه السلام) المغفر عن رأسه فعرفته، فجاءت إليه تشتدّ حتى التزمته وقالت: فديتك، حلفت لأشكونّك إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال لها: اذهبي فبرّي قسمك، فإنه بأعلى الوادي.

فجاءت إليه تشتد، فلما سمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كلامها قال لها: مرحباً بكِ يا اُم هاني، قد أجرنا من أجرتِ يا اُمّ هاني.

وأمّا هبار: ففرّ، ثم أسلم، وعفى (صلى الله عليه وآله)عنه.

واستؤمن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لسارة وإحدى القينتين فأمنهما فأسلمتا.

وأما ابن أبي سرح فإنه أسلم فجاء به عثمان، فاستأمن له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأمنه, وكان قد أسلم قبل ذلك ثم هاجر ثم ارتدّ ورجع إلى مكة.

مع فضالة بن الملوح:

وقيل : إن فضالة بن عمير بن الملوح همّ أن يقتل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وهو يطوف بالبيت، فلمّا دنا منه قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضالة؟

قال : نعم.

قال (صلى الله عليه وآله): ماذا تحدّث به نفسك؟

قال: لا شيء كنت أذكر اللّه.

فضحك النبي (صلى الله عليه وآله)ثم قال: استغفر اللّه، ثم وضع يده إلى صدره فسكن قلبه.

وكان فضالة يقول: واللّه ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق اللّه شيئاً أحبّ إليّ منه.

قال فضالة: فرجعتُ إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت شعراً، فأجبتها شعراً:

قالت هلمّ إلى الحديث فقلت *** لا يأبى الإله عليك والإسلام

لو قــد رأيت محمـداً وقبيله ***  بالفتح يوم تكسر الأصنام

لرأيت ديـن اللّه أضحى بيننا ***  والشرك يغشي وجهه الاظلام

من مكارم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم):

ثم ان أكثر هؤلاء النفر الذين أهدر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) دمهم استأمن لهم بعض معارفهم، فخرجوا من استتارهم، وجاءوا إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فأسلموا على يديه، فقبل إسلامهم وعفا عنهم.

وكان أحد هؤلاء: صفوان بن اُمية، وقد فرَّ يومئذ، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة.

فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فردّه وقال: يا صفوان، اذكر اللّه في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قد جئتك به.

فقال صفوان، وهو يستبعد ذلك حسب رأيه: اُغرب عني فلا تكلّمني.

فقال له عمير، وهو يريد أن يُطمئنه: أي صفوان اُعلمك انّ أفضل الناس وأبرّ الناس وخير الناس ابن عمك، عزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك.

فقال صفوان، وهو يبدي ما في قرارة نفسه وما انطوى عليه الجاهليون من الغدر: إني أخافه على نفسي.

فقال له عمير : انه ليس كما تتصوّر، هو أحلم من ذلك وأكرم.

فاطمأنّ صفوان لما أراه عمير عمامة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعثها إليه علامة لأمانه، فرجع معه حتى وقف به على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال : هذا يزعم أنك أمنتني؟

فقال (صلى الله عليه وآله): صدق.

قال : فاجعلني بالخيار شهرين.

قال (صلى الله عليه وآله): أنت بالخيار أربعة أشهر.

وكان ممّن استأمن لهم فآمنهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)عكرمة بن أبي جهل، حيث استأمنت له زوجته اُم حكيم بنت الحارث بن هشام وأخبرت زوجها بذلك وهي تقول له: جئتك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك، فآمنك.

فجاء معها إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأسلم على يديه، ثم قال: يا رسول اللّه مرني بخير ما تعلم فاعلمه.

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): قل أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وجاهد في سبيل اللّه.

ولهذه الأخلاق الكريمة، والسيرة الطيّبة أسلم الناس زرافات زرافات، ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقرأ ـ على رواية ـ:

}إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3){ (12).

البيعة رجالاً ونساءاً:

ثم اجتمع الناس للبيعة، فجلس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)على الصفا يبايع الناس، فبايعه الرجال على الإسلام والجهاد والطاعة للّه ولرسوله.

ولما فرغ من بيعة الرجال، أقبلت النساء يبايعنه وهو على الصفا، فأنزل اللّه عزّوجلّ:

{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الممتحنة: 12] (13).

فقالت هند، وكانت بين النساء وهي متنكّرة حتى لا يعرفها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لما صنعت بحمزة (عليه السلام): إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال!

ثم قالت: أما المال فقد أصبتُ من مال أبي سفيان هنات لأنه رجل ممسك لا يوسّع على عياله.

فقال لها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): وانكِ لهند؟

قالت : نعم، فاعف عمّا سلف، عفى اللّه عنك.

ثم قالت: وأما الزنا فلا تزني الحرّة، وأمّا الولد فقد ربّيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر.

فتأثّر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من ذلك ولم يقل لها شيئاً، ثم قالت: وأما البهتان فإنه قبيح، وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق، وأما انه لا نعصيك في معروف، فإنّا ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

وقيل : انها لما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور.

ثم ان اُم حكيم بنت الحارث بن هشام زوجة عكرمة بن أبي جهل كانت بين النساء أيضاً فقالت: يا رسول اللّه ما ذلك المعروف الذي أمرنا اللّه أن لا نعصيك فيه؟

فقال (صلى الله عليه وآله): لا تلطمنّ خدّاً، ولا تخمشن وجهاً، ولا تنتفن شعراً، ولا تدعين بويل وثبور.

وكان ذلك دأب النساء على موتى الجاهلية فقد كنّ ينتفن شعر رأسهنّ حتى لا يبقى في رأسهنّ طاقة شعر، ويدعين بالويل والثبور.

فقالت: يا رسول اللّه كيف نبايعك؟

قال (صلى الله عليه وآله): إنني لا اُصافح النساء، ثم دعا بقدح من ماء، فأدخل يده فيه ثم أخرجها وقال: ادخلن أيديكنّ في هذا الماء فهي البيعة، ففعلن.

معيار التفاضل في الإسلام:

ثم قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)على الصفا يخطب في عشيرته، بني هاشم وبني عبدالمطلب، ويوصيهم بوصاياه، لأنهم هم الذين سيخلّفونه إذا ارتحل عن مكة، ويجسّدونه في أعمالهم وتصرّفاتهم، وأهل مكة الذين هم حديثوا عهد بالإسلام ينظرون إليهم نظر اقتداء وتأسّي، لأنهم يرونهم رهط رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وعشيرته، وممثّلوه فيهم.

ولذلك خطب (صلى الله عليه وآله)عليهم يحفّزهم على الخير والتقوى، وعلى العمل للآخرة، ويحذّرهم الإتّكال على الأماني والإقتناع بحسبهم ونسبهم والإشتغال بالدنيا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

(يا بني هاشم، ويا بني عبد المطلب، انّي رسول اللّه إليكم، واني شفيق عليكم، لا تقولوا انّ محمداً منّا، فواللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتَّقون، ألا فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم، وفيما بين اللّه عزّوجل وبينكم، وانّ لي عملي ولكم أعمالكم).

مع بديل بن ورقاء:

ثم ان العباس الذي كان يقوم بدور الوسيط بين النبي (صلى الله عليه وآله) وشخصيات قريش وكبار الجاهليين ويسعى لجذبهم وتقريب قلوبهم إلى الإسلام، جاء يوم الفتح بالخزاعي: بديل بن ورقاء حتى أوقفه بين يدي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وقال: يا رسول اللّه هذا يوم قد شرفت فيه قوماً، فما بال خالك (بديل بن ورقاء) وهو قعيد حيه؟ أي لم يشرف كبقية الشخصيات بوسام، ولم يعهد إليه أمر من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وكان بديل شيخاً طاعناً في السنّ، وقد جاء متلثّماً، فالتفت إليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وقال: (إحسر عن حاجبيك يا بديل)، فحسر عنهما وحدر لثامه.

فرأى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) سواداً بعارض بديل.

فقال (صلى الله عليه وآله) له: كم سنّوك يا بديل؟

فقال: سبع وتسعون يا رسول اللّه.

فتبسّم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وقال: (زادك اللّه جمالاً وسواداً، وأمتعك وولدك)، لكن رسول اللّه قد نيف على الستّين وقد أسرع الشيب فيه.

ثم قال (صلى الله عليه وآله)له: يا بديل اركب جملك هذا الأورق وناد في الناس: انها أيام أكل وشرب.

وكان بديل جهير الصوت، فأتمر بأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأخذ ينتقل بين خيامهم ويقول: أنا رسول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إليكم يقول لكم: إنها أيام أكل وشرب، وهي لغة خزاعة يعني: الإجتماع والاُلفة.

وهكذا كان يكرم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كبار القوم، ويبقيهم في مكانتهم، أو يمنحهم مكانة وجاهاً، حتى يستهوي قلوبهم ويشدّهم إلى الإسلام والايمان، ويجذب الآخرين الذين لم تطلهم يد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ولم يسلموا بعد إلى الإسلام.

سرية غالب الي بني مدلج:

ثم ان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بعث ـ بعد ان فتح مكة ـ السرايا فيما حول مكة، يدعون الناس الى اللّه عز وجل، ولم يأمرهم بقتال.

فبعث (صلى الله عليه وآله)غالب بن عبد اللّه الي بني مدلج.

فقالوا: لسنا عليك ولسنا معك.

فقال الناس: اغزهم يا رسول اللّه.

فقال: ان لهم سيداً اديباً أريباً، وربَّ غازٍ من بني مدلج شهيد في سبيل اللّه(14).

سرية عمرو الي بني الديل:

وبعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ايضاً عمرو بن اُمية الضمري الي بني الديل، فدعاهم إلى اللّه ورسوله، فأبوا أشد الإباء.

فقال الناس: اغزهم يا رسول اللّه.

فقال (صلى الله عليه وآله): ان سيدهم قد أسلم، فيقول لقومه: اسلموا، فيقولون: نعم ويسلمون، وهكذا كان.

سرية عبد اللّه بن سهيل:

كما وبعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)ايضاً عبد اللّه بن سهيل بن عمرو الي بني محارب بن فهر، فقبلوا منه وأسلموا، وجاء معه نفر منهم ليلتقوا برسول اللّه (صلى الله عليه وآله)من قريب ويتعلموا منه الاسلام وأحكامه.

سرية خالد الي بني جذيمة:

وكان ممن بعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بعد فتح مكة ليدعو الناس إلى اللّه خالد بن الوليد، بعثه إلى بني جذيمة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، وانما بعث اليهم خالداً للترة التي كانت بينه وبينهم، فقد أصابوا في الجاهلية الفاكه بن المغيرة عم خالد، وعوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن، وكانا قد أقبلا في تجارة من اليمن، فأخذت بنو جذيمة ما معهما وقتلتهما، ولذلك أنفذ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)عبد الرحمن بن عوف مع خالد للترة أيضاً التي كانت بين ابن عوف وبينهم.

هذا و رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)كان قد خطب يوم الفتح وقال: (ألا كل مال، أو مأثرة، أو دم، أو مظلمة، أو احنة كانت في الجاهلية فهو تحت قدمي).

فلما نزل خالد بمن معه علي الغميصاء وهو ماء من مياه بني جذيمة، اخذ بنو جذيمة السلاح وقالوا: يا خالد إنا لم نأخذ السلاح على اللّه وعلى رسوله، ونحن مسلمون، فانظر فان كان بعثك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ساعياً فهذه ابلنا وغنمنا فاغد عليها.

فقال خالد: ضعوا السلاح.

قالوا: انا نخاف منك أن تأخذنا باحنة الجاهلية وقد اماتها اللّه ورسوله.

فانصرف عنهم بمن معه ونزلوا قريباً، ثم شنّ عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً، ثم أمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم على السيف وقتلهم.

أنباء الغدر وتداركها:

فلما غدر خالد ببني جذيمة جاء رسولهم إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)وأخبره بما فعل خالد بهم، فرفع (صلى الله عليه وآله)يديه إلى السماء بعد أن صعد المنبر وأعلم الناس بفعل خالد وقال:

(اللّهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد) يعيد ذلك ثلاث مرات وبكى.

ثم دعا (صلى الله عليه وآله)علياً (عليه السلام) وقد قدم عليه تبر ومتاع، فأعطى علياً (عليه السلام) التبر وقال: يا علي أئت بني جذيمة فانظر في أمرهم وارضهم مما صنع خالد، ثم رفع (صلى الله عليه وآله) قدميه وقال: يا علي اجعل قضاء اهل الجاهلية تحت قدميك.

فلما أتاهم علي (عليه السلام) حكم فيهم بحكم اللّه تعالى، فلما رجع الي النبي (صلى الله عليه وآله)قال: يا علي اخبرني بما صنعت.

قال (عليه السلام) له: يا رسول اللّه عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرّة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم، وحيلة رعاتهم، وروعة نسائهم، وفزع صبيانهم، ولما يعلمون ولما لا يعلمون، ثم فضلت معي فضلة، فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول اللّه.

فقال عندها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وقد ظهر الرضا علي وجهه المبارك مؤكداً: يا علي أعطيتهم ليرضوا عني؟ رضي اللّه عنك، واللّه ما يسرني يا علي أن لي بما صنعت حمر النعم.

ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، يا علي أنت هادي اُمتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة(15).

__________

(1) الممتحنة: 1 ـ 3.

(2) الحجرات: 1.

(3) الإسراء: 90.

(4) يوسف: 91.

(5) يوسف: 92.

(6) الإسراء: 81.

(7) الإسراء: 81.

(8) سبأ: 49.

(9) الحجرات: 13.

(10) يوسف: 92.

(11) النساء: 58.

(12) النصر: 1ـ3.

(13) الممتحنة: 12.

(14) وهذا التعبير: (ان لهم سيداً أديباً أريباً) والذي يأتي بعده: (أن سيدهم قد أسلم) يدل على دور القيادة الصالحة في إسعاد الأمة والعكس بالعكس.

(15) بحار الأنوار: ج21 ص143 ب27 ح6.

 




العرب امة من الناس سامية الاصل(نسبة الى ولد سام بن نوح), منشؤوها جزيرة العرب وكلمة عرب لغويا تعني فصح واعرب الكلام بينه ومنها عرب الاسم العجمي نطق به على منهاج العرب وتعرب اي تشبه بالعرب , والعاربة هم صرحاء خلص.يطلق لفظة العرب على قوم جمعوا عدة اوصاف لعل اهمها ان لسانهم كان اللغة العربية, وانهم كانوا من اولاد العرب وان مساكنهم كانت ارض العرب وهي جزيرة العرب.يختلف العرب عن الاعراب فالعرب هم الامصار والقرى , والاعراب هم سكان البادية.



مر العراق بسسلسلة من الهجمات الاستعمارية وذلك لعدة اسباب منها موقعه الجغرافي المهم الذي يربط دول العالم القديمة اضافة الى المساحة المترامية الاطراف التي وصلت اليها الامبراطوريات التي حكمت وادي الرافدين, وكان اول احتلال اجنبي لبلاد وادي الرافدين هو الاحتلال الفارسي الاخميني والذي بدأ من سنة 539ق.م وينتهي بفتح الاسكندر سنة 331ق.م، ليستمر الحكم المقدوني لفترة ليست بالطويلة ليحل محله الاحتلال السلوقي في سنة 311ق.م ليستمر حكمهم لاكثر من قرنين أي بحدود 139ق.م،حيث انتزع الفرس الفرثيون العراق من السلوقين،وذلك في منتصف القرن الثاني ق.م, ودام حكمهم الى سنة 227ق.م، أي حوالي استمر الحكم الفرثي لثلاثة قرون في العراق,وجاء بعده الحكم الفارسي الساساني (227ق.م- 637م) الذي استمر لحين ظهور الاسلام .



يطلق اسم العصر البابلي القديم على الفترة الزمنية الواقعة ما بين نهاية سلالة أور الثالثة (في حدود 2004 ق.م) وبين نهاية سلالة بابل الأولى (في حدود 1595) وتأسيس الدولة الكشية أو سلالة بابل الثالثة. و أبرز ما يميز هذه الفترة الطويلة من تأريخ العراق القديم (وقد دامت زهاء أربعة قرون) من الناحية السياسية والسكانية تدفق هجرات الآموريين من بوادي الشام والجهات العليا من الفرات وتحطيم الكيان السياسي في وادي الرافدين وقيام عدة دويلات متعاصرة ومتحاربة ظلت حتى قيام الملك البابلي الشهير "حمورابي" (سادس سلالة بابل الأولى) وفرضه الوحدة السياسية (في حدود 1763ق.م. وهو العام الذي قضى فيه على سلالة لارسة).