أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-11-2016
3813
التاريخ: 1-3-2017
4139
التاريخ: 2-3-2017
9153
التاريخ: 10-2-2017
4057
|
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
هذا الخطاب متوجه إلى جميع الناس مؤمنهم و كافرهم إلا من ليس بمكلف من الأطفال و المجانين و روي عن ابن عباس و الحسن أن ما في القرآن من {يا أيها الناس} فإنه نزل بمكة و ما فيه من {يا أيها الذين آمنوا} فإنه نزل بالمدينة {اعبدوا ربكم } أي تقربوا إليه بفعل العبادة و عن ابن عباس أنه قال معناه وحدوه و قوله { الذي خلقكم } أي أوجدكم بعد أن لم تكونوا موجودين و أوجد من تقدم زمانكم من الخلائق و البشر بين سبحانه نعمه عليهم و على آبائهم لأن نعمه عليهم لا تتم إلا بنعمه على آبائهم « لعلكم تتقون » أي خلقكم لتتقوه و تعبدوه كقوله (2) تعالى { و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } و قيل معناه اعبدوه لتتقوا و قيل معناه لعلكم تتقون الحرمات بينكم و تكفون عما حرم الله و هذا كما يقول القائل اقبل قولي لعلك ترشد فليس أنه من ذلك على شك و إنما يريد أقبله ترشد و إنما أدخل الكلام لعل ترقيقا للموعظة و تقريبا لها من قلب الموعوظ و يقول القائل لأجيره اعمل لعلك تأخذ الأجرة و ليس يريد بذلك الشك وإنما يريد لتأخذ أجرتك و مثله قول الشاعر :
و قلتم لنا كفوا الحروب لعلنا *** نكف و وثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمح سراب في الملأ متألق
أراد قلتم لنا كفوا لنكف لأنه لو كان شاكا لما قال وثقتم كل موثق و قال سيبويه إنما وردت لفظة لعل على أنه ترج للمخاطبين كما قال {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] و أراد بذلك الإبهام على موسى و هارون فكأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما و طمعكما و الله عز و جل من وراء ذلك و عالم بما يؤول إليه أمر فرعون و قيل فائدة إيراد لفظة لعل هي أن لا يحل العبد أبدا محل الآمن المدل بعمله(3) بل يزداد حالا بعد حال حرصا على العمل و حذرا من تركه و أكثر ما جاءت لفظة لعل و غيرها من معاني الشك فيما يتعلق بالآخرة في دار الدنيا فإذا ذكرت الآخرة مفردة جاء اليقين و قيل معناه لعلكم توقون النار في ظنكم و رجائكم و أجرى لعل على عباده دون نفسه و هذا قريب مما قاله سيبويه .
معنى الآية الثانية يتعلق بما قبلها لأنه تعالى أمرهم بعبادته و الاعتراف بنعمته ثم عدد لهم صنوف نعمه ليستدلوا بذلك على وجوب عبادته فإن العبادة إنما تجب لأجل النعم المخصوصة فقال سبحانه : {الذي جعل لكم الأرض فراشا} أي بساطا يمكنكم أن تستقروا عليها و تفترشوها و تتصرفوا فيها و ذلك لا يمكن إلا بأن تكون مبسوطة ساكنة دائمة السكون { والسماء بناء} أي سقفا مرفوعا مبنيا {وأنزل من} نحو { السماء } أي من السحاب { ماء فأخرج به} أي بالماء {من الثمرات رزقا لكم} أي عطاء لكم و ملكا لكم و غذاء لكم و هذا تنبيه على أنه هو الذي خلقهم و الذي رزقهم دون من جعلوه ندا له من الأوثان ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم به بقوله {فلا تجعلوا لله أندادا} و قوله {أنتم تعلمون} يحتمل وجوها ( أحدها ) أن يريد أنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها لم تنعم عليكم بهذه النعم التي عددناها و لا بأمثالها و أنها لا تضر و لا تنفع ( و ثانيها ) أن يريد أنكم تعقلون و تميزون و من كان بهذه الصفة فقد استوفى شرائط التكليف و لزمته الحجة و ضاق عذره في التخلف عن النظر و إصابة الحق ( و ثالثها ) ما قاله مجاهد و غيره أن المراد بذلك أهل التوراة و دون غيرهم أي تعلمون ذلك في الكتابين و قال الشريف الأجل المرتضى قدس الله روحه استدل أبو علي الجبائي بقوله تعالى : {الذي جعل لكم الأرض فراشا} و في آية أخرى « بساطا » على بطلان ما يقوله المنجمون من أن الأرض كروية الشكل قال و هذا القدر لا يدل لأنه يكفي من النعمة علينا أن يكون في الأرض بسائط و مواضع مفروشة و مسطوحة و ليس يجب أن يكون جميعها كذلك و معلوم ضرورة أن جميع الأرض ليس مسطوحا مبسوطا و إن كان مواضع التصرف فيها بهذه الصفة و المنجمون لا يدفعون أن يكون في الأرض سطوح يتصرف فيها و يستقر عليها و إنما يذهبون إلى أن جملتها كروية الشكل .
___________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ،ص122-124.
2- وفي النسختين (لقوله) باللام بدل الكاف.
3- وفي النسخ التي عندنا : (بعلمه) بتقديم اللام على الميم.
بعد ان ذكر سبحانه كلا من المؤمنين والكافرين والمنافقين بسماتهم وأوصافهم ، وما يؤول إليه حال كل منهم انتقل إلى مخاطبة البالغين العاقلين ، مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين ، الموجود منهم في زمن الخطاب ، ومن سيوجد آمرا الجميع بعبادة اللَّه وحده . . والأمر بالنسبة إلى المؤمنين يراد به الثبوت والاستمرار على الايمان والطاعة ، وبالنسبة إلى غيرهم من الكافرين والمنافقين والفاسقين يراد به التوبة والإنابة .
وتسأل : كيف عممت الخطاب لمن سيوجد مع العلم بأن يا أيها الناس خطاب مشافهة ، والمشافهة مع المعدوم لا تجوز ؟ .
والجواب: ان القضايا على نحوين : خارجية وحقيقية ، والأولى تختص بمن وجد بالفعل ، ولا تشمل من سيوجد ، مثل غرق من في السفينة ، والثانية تشمل من وجد ، ومن سيوجد ، مثل اعدلوا أيها الحكام ، فان هذه القضية تنطبق على كل حاكم موجود بالفعل أو بالقوة ، وقوله تعالى : { يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} من هذا الباب .
الفرع يتبع الأصل :
من تتبع آيات القرآن ، وتدبرها بروية وإمعان يرى انه إذا قرر أصلا من
أصول العقيدة ، كالتوحيد والنبوة والبعث قرنه بالحجة والبرهان ، وإذا ذكر حكما شرعيا ، كتحريم الزنا - مثلا - أرسل القول فيه من غير دليل ، فما هو السر ؟ .
الجواب : إذا ثبت وجود الباري ، ونبوة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) بالحجة العقلية كان قولهما هو الدليل والحجة ، ولا يجوز مخالفته بحال ، لأن مخالفة قول اللَّه والرسول نقض لدليل العقل القاطع على التوحيد والنبوة ، فمن آمن وسلَّم بهذين الأصلين فعليه أن يسلَّم بكل ما ثبت بنص الكتاب والسنة من أحكام الشريعة وفروعها من غير سؤال ، وطلب للجواب ، ومن أنكرهما فلا جدوى من الحديث معه في الشريعة وفروعها ، ومن أجل هذا اهتم القرآن بإيراد الأدلة والبراهين على التوحيد والنبوة والبعث ، وابتدأ بالأول ، لأنه الأساس .
التوحيد :
ترتكز الأديان السماوية كلها على أصول ثلاثة : التوحيد ، والنبوة ، والبعث ، وما من نبي من آدم إلى محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) إلا وتقوم دعوته على هذه الأصول ، وما عداها يتفرع عنها ، فعدالة اللَّه وقدرته وحكمته فرع عن التوحيد ، والإمامة والقرآن فرع عن النبوة ، والحساب والجنة والنار فرع عن البعث .
وابتدأ القرآن الكريم بالأصل الأول ، وأرشد إلى دلائله ، لأنه الأساس ، وخاطب الناس بقوله : {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} الخ . . وبديهة ان عبادته تستدعي معرفته أولا بطريق القطع والجزم ، لا بطريق التخمين والظن (2) لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا بشهادة القرآن نفسه . فما هو الطريق الذي يؤدي قطعا إلى معرفة اللَّه جل وعلا ؟
لقد اختلف العلماء في نوعية هذا الطريق ، وقرره كل بما رآه صوابا . . فمنهم من اعتمد على الدليل الكوني ، وأورده على هذه الصورة : ان الطبيعة وحوادثها المتكررة المتجددة تتطلب وجود علة لها ، ولا يصح أن تكون العلة هي الطبيعة نفسها ، وإلا لزم أن يكون الشيء علة ومعلولا في آن واحد ، وهذا هو الدور الباطل الذي أوضحناه في الفقرة السابقة { يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية 4 من هذه السورة ، وان كانت العلة خارجة عن الطبيعة نقلنا إليها الكلام وسألنا : هل هي نتيجة لعلة سابقة ، أو انها وجدت لذاتها من غير علة ، وعلى الأول يأتي الكلام والسؤال عن كل علة سابقة ، وهكذا دواليك . . وهذا هو التسلسل المحال ، فتعين الثاني ، أي وجود علة بذاتها ، واليها تنتهي جميع العلل ، ولا تنتهي هي إلى غيرها ، وهي كلمة اللَّه ، وقوله للشيء كن فيكون .
- ملحوظة - هذا الدليل يقوم على التسليم بنظرية العلية ، وهي ان كل أثر يستلزم مؤثرا ، وكل معلول لا بد له من علة ، تماما كالعلم يستدعي وجود العالم ، والكتابة وجود الكاتب (3) .
ولكي تتضح لديك فكرة التسلسل وبطلانها ، ووجوب الانتهاء إلى علة لا علة لها نضرب إليك مثلا من هذه التصاميم التي يضعها المهندسون للطائرات والسيارات ، وغيرها من الآلات والبنايات فإنها جميعا لا بد أن تنتهي إلى المخترع الأول الذي وضع التصميم من تلقائه ، يأخذ الغير منه ، ولم يأخذه هو من أحد ، ولو افترض انه لا مخترع أول للتصميم لزم أن لا يوجد اختراع ولا شيء يمت إلى التصميم على الإطلاق .
وعلى هذا فليس لأحد أن يقول ويسأل : ممن أخذ المخترع الأول هذا التصميم ، لأن معنى مخترع انه لم يتلق من الغير ، وهذه الحقيقة تدل على صحتها بنفسها ، تماما كما تدل الشمس على ضوئها . . وهكذا الحال بالنسبة إلى الخالق
والرازق ، فان معناه انه يخلق ، ولم يخلق ، ويرزق ، ولم يرزق . . لذا كان ليبنتز يسمي اللَّه المهندس ، أي المخترع ، وأفلاطون يسميه الصانع ، إشارة إلى أنه خالق غير مخلوق .
ومنهم من استدل على وجود اللَّه بنظام العالم وتنسيقه واطراد هذا النظام والتنسيق ، ويسمى هذا الدليل بالدليل الغائي .
- ملحوظة - يرى الكثير من علماء الطبيعة الجدد أن ظواهر الطبيعة لا يجوز تفسيرها بالعلة الغائية ، بل يتحتم تفسيرها بالعلة الفاعلية .
والجواب : انّا نستكشف وجود العلة الفاعلية من وجود العلة الغائية ، تماما كما نستكشف من ترتيب السرير ترتيبا هندسيا وجود النجار الخبير . ويتضح الجواب أكثر من تقرير الفرض الضروري فيما يلي :
ومنهم من اعتمد الفرض الضروري الذي يعتمده علماء الطبيعة وغيرهم في اكتشاف العديد من الحقائق ، ومن هذا الفرض نظرة الجاذبية التي اكتشفها نيوتن من سقوط التفاحة على الأرض . . فان جميع الافتراضات غير الجاذبية خاطئة ، وافتراض الجاذبية صحيح ، ومن هنا جزم نيوتن بوجودها .
أما تطبيق هذا الدليل على ما نحن فيه فهو انّا نشاهد نظام العالم وتماسكه واطراده ، وكل ما نفترضه لوجود هذا النظام غير الخالق الحكيم فهو فرض فاسد يرفضه العقل ، ولا يتقبل العقل إلا وجود خالق حكيم هو الذي نظَّم ورتب ، واليك هذا المثال :
إذا رأيت اسمك مكتوبا في الفضاء بأحرف من نور ، ثم بحثت في كل جهة فلم تر أحدا ، فلا بد ان تفترض ان إنسانا عاقلا يوجد في مكان ما يملك آلة يستطيع بواسطتها أن يرسم أحرفا في الفضاء من نور متماسكة منسجمة . . وأي فرض غير هذا ، كالصدفة ، أو اصطدام سيارتين ، أو وجود بركان ، كل ذلك وما إليه يجرك إلى الخطأ ، وعلى الأقل لا يركن إليه عقلك الا إذا افترضت وجود الشخص الذي يملك الآلة . . وهكذا الحال بالنسبة إلى نظام الكون .
وأخطر كلمة وأوضحها كلمة « فولتر » ، حيث يقول : « ان فكرة وجود اللَّه فرض ضروري ، لأن الفكرة المضادة حماقات » . وقرأت في كتاب
الظاهرة القرآنية ص 91 طبعة 1958 : « ان نوعا من النمل في أمريكا يغادر مساكنه قبل اندلاع الحريق فيها بليلة » . ومهما فرضت لذلك من الفروض والتفاسير فلا تركن النفس أبدا الا بفرض وجود مدبر حكيم أعطى لكل نفس هداها .
ومنهم من يعتمد البرهان الخلقي ، ويقول : لو لا الايمان بوجود اللَّه لانهارت المقاييس الخلقية ، ولم يكن من رادع يردع الناس عن الشر ، ولا وازع يبعثهم على عمل الخير .
وهذا الدليل في واقعه أقرب إلى انكار الخالق من الاعتراف به ، إذ يكون الايمان باللَّه ، والحال هذه ، وسيلة لا غاية ، بحيث لو افترض وجود انسان يفعل من تلقائه ما ينبغي فعله ، ويترك ما ينبغي تركه لما وجب عليه الايمان باللَّه . .
وليس من شك ان جعل اللَّه أداة أقبح من إنكاره .
ومنهم من يعتمد الدليل اللدني ، وهو الشعور والاحساس القلبي مباشرة ، ويقول : ان قلب الإنسان يدرك وجود الخالق مباشرة من غير براهين ، ومقدمات ، تماما كما يحس الحب والبغض ، وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 3 { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } فقرة المعرفة ، رقم 4 .
وأفضل الطرق كلها هو الطريق الذي استدل به اللَّه سبحانه على وجوده ، ويتلخص بالنظر والتفكير في خلق السماوات والأرض ، وفي الإنسان والموت والحياة ، والنعم الجلَّى ، وما إلى ذاك مما جاء في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، ونهج البلاغة .
وهذا الطريق ، وان رجع في حقيقته إلى الدليل الكوني والغائي الا أن تقريره في هذا الأسلوب يبعده عن التكلف والتعسف ، ويقربه إلى افهام الخواص والعوام . .
ومن لا يقتنع من اللَّه سبحانه بما أورده هو جل وعلا من الأدلة على وجوده ، فهل يقتنع من عبد مثله ؟ .
وغريبة الغرائب ان الجاحد يؤمن ويعتقد بأن القميص الذي يلبسه - مثلا - قد زرع بذره الفلاح بانتظام ، ثم غزله وحاكه العامل بإتقان ، ثم باعه التاجر بمعرفة ، ثم فصّله وخاطه الخياط على القدر المطلوب ، انه يعتقد بهذا كله ، ثم لا يعتقد بوجود من اتقن وصنع كل شيء ؟ .
وبالإضافة إلى الأدلة على وجود اللَّه التي تدخل تحت ضابط عام ، وقاعدة
كلية ، فإنه سبحانه قد أعطى كل انسان دليلا خاصا به وحده على وجوده جل وعز لا يشاركه فيه سواه ، فما من انسان أيا كان إذا رجع إلى ما مر به من حوادث وتجارب ، وتأملها بإمعان إلا ويجد في حياته أشياء لا تفسير لها إلا إرادة اللَّه ومشيئته .
واني أستبعد كل البعد أن يعيش انسان ، أي انسان ، ولو كان كافرا ، يعيش حينا من الدهر دون أن تمر لحظة واحدة في حياته ، ولا يرجع فيها إلى اللَّه تلقائيا ومن غير قصد وشعور ، وإلى من يتجه في أحلك لحظات الشدة ؟
انه من غير شك يعود إلى فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها ، وطبعت كل مولود بطابعها ، حيث لا أب يعلمه ، ولا أم تلقنه ، ولا محيط يكيفه .
قال زنديق للإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : ما الدليل على وجود الصانع ؟
قال الإمام : لو ركبت البحر ، وهاجت الرياح ، وغرقت السفينة والملاحون ، وبقيت أنت حيا ، فهل ترجو النجاة لنفسك ؟
قال الزنديق : أجل .
قال الإمام : ان الصانع هو الذي ترجوه آنذاك .
وبالتالي ، فاني أنصح من يشك في وجود اللَّه أن يقرأ أدلة الجاحدين والماديين ، فإنه سينتهي حتما إلى الإيمان باللَّه ، إذ لا يجد دليلا على انكارهم إلا انهم يريدون ان يروا اللَّه بالعين ، ويلمسوه باليد ، ويشموه بالأنف .
وقد ذكرت الكثير الكثير من أدلة هذا الباب في كتاب « اللَّه والعقل » .
وكتاب « فلسفة المبدأ والمعاد » الذي وضعته خاصة للرد على الفلسفة المادية ، وكتاب « بين اللَّه والإنسان » . وكتاب « معالم الفلسفة » . وكتاب « الإسلام مع الحياة » وكتاب « إمامة علي والعقل » (4) . وغير هذه المؤلفات من الكتب والمقالات . . واللَّه سبحانه المسؤول أن يطهر نفوسنا من الشك والريب ، وأن يشملها بتوفيقه ورضوانه .
وأطلنا الكلام في الأصل الأول ، وهو التوحيد ، ليكون كالضابط العام الذي يرجع إليه في كل ما يتصل به من الآيات .
________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص58-64.
2- الإسلام عقيدة وشريعة ، والعقيدة كالإيمان باللَّه وصفاته ، والنبي وعصمته ، والبعث وما إليه من الغيب .
ولا يثبت شيء من مسائل العقيدة إلا بطريق القطع ، ومن هنا لم تكن محلا للاجتهاد . والشريعة كالعبادات والمعاملات والجنايات ، ويجوز اثبات مسائلها بطريق الظن والاجتهاد ، على شريطة أن يقوم دليل قطعي على صحة العمل بهذا الطريق الظني الخاص ، بحيث يكون القطع مصدرا للعمل بالظن .
3- إن الفيلسوف الانكليزي هيوم ينكر مبدأ العلية ، ويقول : لا دليل على ان وجود شيء يستلزم وجود شيء آخر ، وإنما العادة جرت أن يحدثا معا دون أن يكون بينهما تلازم قهري . . وليس لدينا شيء نرد به هذا القول سوى ان الغاء مبدأ العلية الغاء لبديهة العقل عند جميع الناس ، فما من أحد يتصور وجودا من غير سبب موجب . . هذا ، إلى ان تكرار وجود الحادثين معا ، وعدم تخلف أحدهما عن الآخر ، ولو بحسب العادة يجعل للعادة من القوة ما للتجربة التي هي الطريق الوحيد للمعرفة عند التجربيين .
4- أسطر هذه الكلمات في اليوم السابع من الشهر الثالث من سنة 1967 ، وفيه قدمت دار العلم للملايين 5 كتب من مؤلفاتي ، إلى المطبعة لتعيد طبعها ، وتجمعها في كتاب واحد باسم « الإسلام والعقل » وهذه الكتب الخمسة هي اللَّه والعقل . النبوة والعقل . الآخرة والعقل . إمامة علي والعقل . المهدي المنتظر والعقل .
{ يا أيها الناس اعبدوا..} لما بين سبحانه: حال الفرق الثلاث: المتقين و الكافرين، و المنافقين، و أن المتقين على هدى من ربهم و القرآن هدى لهم، و أن الكافرين مختوم على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة، و أن المنافقين مرضى و زادهم الله مرضا و هم صم بكم عمي وذلك في تمام تسع عشرة آية فرع تعالى على ذلك أن دعى الناس إلى عبادته و أن يلتحقوا بالمتقين دون الكافرين و المنافقين.
وهذا السياق يعطي كون قوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} متعلقا بقوله: {اعبدوا} ، دون قوله {خلقكم} و إن كان المعنى صحيحا على كلا التقديرين.
قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أندادا و أنتم تعلمون} ، الأنداد جمع ند كمثل، وزنا و معنى و عدم تقييد قوله تعالى: و أنتم تعلمون بقيد خاص و جعله حالا من قوله تعالى فلا تجعلوا، يفيد التأكيد البالغ في النهي بأن الإنسان و له علم ما كيفما كان لا يجوز له أن يتخذ لله سبحانه أندادا و الحال أنه سبحانه هو الذي خلقهم و الذين من قبلهم ثم نظم النظام الكوني لرزقهم و بقائهم.
_______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص52.
في الآية الكريمة: {يَا أيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} عدة ملاحظات نشير إليها فيما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريباً، وهو نداء عام شامل يشير إلى أن القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة خاصة، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله، وللثورة على كل ألوان الشرك والإنحراف عن طريق التوحيد.
2 ـ يركّز القرآن، في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله، على نعمة خلق البشر. وهي نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته وكذلك رحمته العامة والخاصّة. لأن الموجود البشري سيّد الموجودات، ومظهر علم الله وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة.
أُولئك الذين يستنكفون عن عبادة الله والخضوع له، غافلون غالباً عن العظمة المنطوية في خلقهم وخلق الذين من قبلهم، وعن اليد المدبّرة المقدّرة التي أوجدت هذا الخلق، وأودعت فيه النعم الدقيقة المدروسة المتجلية في جسم الإنسان وروحه.
فالتذكير بهذه النعم دليل لمعرفة الله، ومحرك للشكر على هذه النعم.
3 ـ نتيجة هذه العبادة هي التقوى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فعباداتنا لا تزيد الله عظمة وجلالا، كما أن إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئاً. هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى، والتقوى هي الإحساس بالمسؤولية والمحرّك الذاتي للفرد، وهي معيار قيمة الإنسان وميزان تقييم شخصيته.
4 ـ عبارة: {أَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} لعلها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم. والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أن الله الواحد الأحد، خالق البشر وخالق آبائهم، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو إنحراف عن الخط الصحيح.
الاية الثانية استعرضت قسماً من النعم الإلهية التي تستحق الشكر، ذكرت أوّلا خلق الأرض: {اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً}.
فهذه الكرة السائرة بسرعة مذهلة في الفضاء، قد سُخرت للإنسان كي يمتطيها ويستقر عليها دون أن تؤثر عليه حركتها.
وتتجلى عظمة نعمة الأرض أكثر حين نلاحظ خاصّية الجاذبية التي تؤمّن لنا إمكانية الإستقرار وإنشاء الأبنية والمزارع، وسائر مستلزمات الحياة على هذه الأرض. فلو انعدمت هذه الخاصية لحظة واحدة لتناثر كل ما على هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات في الفضاء!
تعبير «فِراش» يصوّر بشكل رائع مفهوم الإستقرار والإستراحة ، كما يصوّر إضافة إلى ذلك مفهوم الإعتدال والتناسب في الحرارة. هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) مفسراً هذه الآية إذ يقول:
(جَعَلَهَا مُلاَئِمَةً لِطِبَاعِكُمْ، مُوافِقَةً لأجسادكم وَلَمْ يَجْعَلْهَا شَديدَةَ الْحماء وَالْحَرارَةِ فَتُحِرقَكُمْ، وَلاَ شَدِيدَةَ البُرودةِ فَتُجْمِدَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ طيب الرّيح فَتَصدَعَ هَامَاتِكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ النَّتْنِ فَتُعْطِبَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ اللِّيْن كَالْمَاءِ فَتُغْرِقَكُمْ، وَلاَ شَديدَةَ الصَّلاَّبَةِ فَتَمْتنِعَ عَلَيْكُمْ في دُورِكُمْ وَأَبْنِيَتِكُمْ وَقُبُورِ مَوْتَاكُمْ ... فَلِذَلِكَ جَعَلَ الأَرْضَ فِرَاشاً لَكُمْ)!(2).
ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}.
كلمة «سَماء» وردت في القرآن بمعان مختلفة، وكلها تشير إلى العلو، واقتران كلمة «سَماء» مع «بِنَاء» يوحي بوجود سقف يعلو البشر على ظهر هذه الأرض. بل إنّ القرآن صرّح بكلمة «سَقْف» في بيان حال السماء إذ قال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا } [الأنبياء: 32].
لعل هذا التعبير القرآني يثير استغراب أُولئك الذين يفهمون موقع الأرض في الفضاء، فيتساءلون عن هذا السقف ... عن مكانه وكيفيته. ولعل هذا التعبير يعيد ـ بادئ الرأي ـ إلى الأذهان فرضية بطليموس التي تصور الكون على أنه طبقات من الأفلاك متراكمة بعضها فوق بعض مثل طبقات قشور البصل!! من هنا لابدّ من توضيح لمفهوم السماء والبناء والسقف في التعبيرات القرآنية.
ذكرنا أن سماء كل شيء أعلاه، وأحد معاني السماء {جَوّ الأرض}، وهو المقصود في الآية الكريمة. وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات.
لو أمعنّا النظر في الدور الحياتي الأساس الذي تؤديه هذه الطبقة الهوائية لفهمنا مدى استحكام هذا السقف وأهميته لصيانة البشر.
هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفّاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب، وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية، على الرغم من أنه لا يمنع وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الارض.
لو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوماً إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة، ولَمَا كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب، وهذه الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدّة مئات من الكيومترات(3) تعمل على إبادة كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية، وقليل جداً من هذه الصخور تستطيع أن تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكّر صفو حياتهم.
من الشواهد الدالة على أن أحد معاني السماء هو «جو الأرض» حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)يتحدث فيه إلى «المفضّل» عن السماء فيقول:
«فَكّرْ في لَوْنِ السَّمَاءِ وَمَا فِيهِ منْ صَوَابِ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ هَذَا اللَّوْنَ أَشَدُّ الألْوَانِ مُوافِقَةً لِلْبَصَرِ وَتَقْوِيَةً ...»(4).
ومن الواضح أن زرقة السماء ليست إلاّ لون الهواء الكثيف المحيط بالأرض. ولهذا فإن المقصود بالسماء في هذا الحديث هو جوّ الأرض نفسه.
وأُضيفت كلمة الجوّ إلى السماء في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ..} [النحل: 79].
وحول معاني السماء الاُخرى ستنحدّث بشكل أوفى في ذيل الآية 29 من هذه السّورة.
بعد ذلك تطرقت الآية الى نعمة المطر: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}... ماءً يحيي الأرض ويخرج منها الثمرات.
عبارة {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} تؤكد مرّة اُخرى أن المقصود من «السماء» هنا هو جوّ الأرض، لأننا نعلم أن المطر ينزل من الغيوم، والغيوم بخار متناثر في جوّ الأرض.
الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) يتحدث عن نزول المطر في تفسير هذه الآية فيقول: «يُنْزِلُهُ مِنْ أَعْلَى لِيَبْلُغَ قُلَلَ جِبَالِكُمْ وَتِلالِكُمْ وَهِضَابَكُمْ وَأَوْهَادَكُمْ، ثُمَّ فَرَّقَهُ رِذَاذاً وَوَابِلا وَهَطْلا لِتَنْشِفَهُ أَرَضُوكُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطَرَ نَازِلا عَلَيْكُمْ قَطْعةً وَاحِدَةً فَيُفْسِدَ أَرَضِيكُمْ وَأَشْجَارَكُمْ وَزُرعَكُمْ وَثِمَارَكُمْ»(5).
ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقاً لبني البشر {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الَّثمَراتِ رِزْقَاً لَكُمْ}.
وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة رب العالمين لعباده، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه، من ماء عديم اللون، ليكون قوتاً للإنسان والحيوان، لذلك عطف عليها قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
فهذه الأنداد المفتعلة وما تعبدون من دون اللّه، لم يخلقوكم ولا خلقوا آباءكم، ولا خلقوا ما ترونه حولكم من مظاهر كونية ونعم موفورة.
و«الأنداد» جمع «نِد» على وزن ضدّ، وهو الشبيه والشريك، وواضح أن هذا الشبه قائم في أذهان المشركين وليس أمراً واقعياً.
وبعبارة أدق: ندّ الشيء ونديده ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ مشاركة في جوهره، وذلك ضرب من المماثلة، أي المماثلة في جوهر الذات.
________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص94-98.
2ـ نور الثقلين، ج 1، ص 41.
3 ـ تذكر كثير من الكتب أن سمك الجوّ المحيط بالأرض يبلغ مائة كيلومتر، ويبدو أن المقصود بهذا السمك هو الطبقة الجوية الكثيفة، لأن العلم الحديث أثبت أن الهواء موجود بشكل رقيق متباعد الجزئيات على بعد مئات الكيلومترات.
4- توحيد المفضل ، ص127 ، وبحار الانوار ، ج3 ، ص111.
5 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 41.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|