المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8186 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



قاعدة « لا ضرر ولا ضرار » (*)  
  
3266   08:27 صباحاً   التاريخ: 20-9-2016
المؤلف : آية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج1 ص211 - 246.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / لا ضرر ولا ضرار /

في شرح القاعدة الفقهيّة المشهورة المعروفة ؛ بـ « قاعدة لا ضرر ».

والكلام فيها في مقامات :

المقام الأول : في مدركها‌ :

وهو عبارة من روايات كثيرة في كتب الفريقين يروي هذه الجملة عن رسول الله صلى الله عليه واله وهي بمنزلة كبرى كلّيّة يطبقها صلى الله عليه واله في موارد عديدة :

منها : ما رواه في الكافي في قضيّة سمرة بن جندب المشهورة عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، بعد نقل القضيّة أنّه صلى الله عليه واله قال للأنصاري : « اذهب فاقلعها‌ وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار » (1) .

وفي بعض طرق هذا الحديث كطريق عبد الله بن مسكان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر حكاية قوله صلى الله عليه واله هكذا قال صلى الله عليه واله : « إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن » (2) ففي هذا الطريق زيد على تلك الجملة المعروفة كلمة « على مؤمن ».

ومنها : ما رواه الفقيه مرسلا في باب ميراث أهل الملل : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » بزيادة كلمة « في الإسلام » (3).

ومنها : ما رواه الكليني عن عقبة بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه السلام في أنّه قضى رسول الله صلى الله عليه واله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نقع الشي‌ء ، وقضى صلى الله عليه واله بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء وقال : « لا ضرر ولا ضرار » (4).

ومنها : تطبيق هذه الكبرى في باب الشفعة ، كما رواه الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال عليه السلام : « قضى رسول الله صلى الله عليه واله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين وقال : لا ضرر ولا ضرار ». (5).

ومنها : ما عن دعائم الإسلام في مسألة جدار الجار ، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه لو هدم جدار داره ولم يقسط هو ، أو أراد أن يهدمه ، قال عليه السلام : « لا يترك وذلك أن رسول الله عليه السلام قال : لا ضرر ولا ضرار » (6).

والإنصاف أنّ الفقيه بعد ملاحظة هذه الروايات الكثيرة من طرقنا ، بضميمة ما رواه مخالفونا في كتبهم عنه صلى الله عليه واله ، ربما يقطع بصدور هذه الجملة ـ أي جملة « لا ضرر‌ ولا ضرار » ـ عن رسول الله صلى الله عليه واله.

ولذلك ادّعى بعضهم (7) التواتر في هذا الحديث ، فلا حاجة إلى التكلّم في سنده مع عمل الأصحاب به وإرساله إرسال المسلمات ، مضافا إلى صحّة سند بعض هذه الروايات.  

نعم في ثبوت الكلمتين ، أي كلمة « في الإسلام » وكلمة « على مؤمن » إشكال ؛ لأنّ في قضيّة سمرة بن جندب التي قضيّة واحدة ، روي في بعض الطرق الصحيحة بدون كلمة « على مؤمن » وفي بعض آخر معها.  

ولكن يمكن أن يقال بعدم اعتبار عدم ذكرها في بعض الطرق بعد بناء الأصحاب على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لبناء العقلاء على ذلك ، وعدم ذكر الراوي في ذلك الطريق لعدم احتياجه إلى نقله ، أو لجهة أخرى.

وأمّا كلمة « في الإسلام » فيمكن أن يقال فيها بعدم الإشكال أيضا ، لاحتمال صدورها وعدم معارض لها. وأمّا إرسالها من الفقيه فلا يضرّ مع تلقّي الأصحاب لها بالقبول.

المقام الثاني : في فقه الحديث‌ :

أي ما هو مفاد الحديث ومضمونه ، وهو العمدة في المقام ؛ لأنّ المقصود من ذكر هذه القاعدة الفقهيّة وشرحها وإيضاحها هو أن يكون الفقيه ذا بصيرة في مقام تطبيق هذه القاعدة على الفروع المتفرّعة عليه ، ولا يتوقّف ولا يشتبه في شي‌ء منها.

فأقول : أمّا ألفاظ هذه الجملة ، أعني كلمة « الضرر » و« الضرار » وإلاّ ما عداهما ، أعني كلمتي « على مؤمن » و« في الإسلام » على فرض ثبوتهما في الحديث لا يحتاج إلى البحث والتكلّم فيهما لوضوح المراد منهما.

أمّا كلمة « الضرر » : فقال بعض : إنّه أمر وجودي ضد النفع.

وقال آخرون : إنّ التقابل بينه وبين النفع تقابل العدم والملكة ، فيكون معناه عدم النفع في موضوع قابل له.  

والظاهر أنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ لا العدم والملكة ؛ لأنّه في الموضوع القابل يرجع إلى النقيضين لا يمكن ارتفاعهما ، وفيهما يمكن الارتفاع حتّى في الموضوع القابل ، فالمبيع الذي بيع برأس المال مثلا مع أنّ تلك المعاملة قابلة للنفع والضرر يصدق أنّ هذه المعاملة لا نفع فيها ولا ضرر.

وعلى كلّ حال الظاهر من لفظ الضرر عرفا هو النقص في ماله ، أو عرضه ، أو نفسه ، أو في شي‌ء من شؤونه بعد وجوده أو بعد وجود المقتضى القريب له بحيث يراه العرف موجودا.

وأمّا كلمة « الضرار » : فقيل بأنّه مصدر باب المفاعلة ، وحينئذ بناء على أن تكون المفاعلة من الطرفين ، يكون معناه الضرر على الغير في مقابل ضرره عليه.

وبناء على أن يكون بمعنى تكرار صدور المبدأ من الفاعل سواء أكان الفاعل شخصا واحدا أو شخصين وإن كان يستعمل غالبا فيما كان الفاعل شخصين ، ولعلّ لأجل هذه الغلبة يتبادر بدوا إلى الذهن المشاركة من الطرفين ، وإن كان محطّ النظر فاعليّة أحدهما ومفعوليّة الآخر ، كما يقال : ضارب زيد عمرا.

وهذا هو الفرق بين باب المفاعلة والتفاعل بعد اشتراكهما في المشاركة ، حيث أنّ النظر في باب التفاعل إلى فاعليّة الاثنين ، ولذا يقال : تضارب زيد وعمرو برفع الاثنين ، بخلاف باب المفاعلة حيث أنّه برفع أحدهما ونصب الآخر كما ذكرنا يكون معناه تكرار صدور الضرر.

وهذا المعنى مناسب في المقام ؛ لأنّ قوله صلى الله عليه واله لسمرة « أنت رجل مضارّ » ليس بمعنى صدور الضرر من الطرفين ، لأنّ الأنصاري ما أضرّ بسمرة ، وكون إطلاق لفظة « مضارّ » عليه بلحاظ موارد الآخر بعيد عن مساق الحديث ، بل الظاهر أنّه صلى الله عليه واله في‌ مقام بيان أنّ سمرة كثير الضرر ومصرّ عليه.

وأمّا احتمال أن يكون اسما بمعنى الضرر ، لا مصدر باب المفاعلة ففي غاية البعد ؛ لأنّه تكرار أوّلا بدون أيّ نكتة وفائدة فيه.

وثانيا هو خلاف ظاهر هذه الكلمة ؛ لأنّه ظاهر في كونه مصدر باب المفاعلة.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه واخترناه في معنى الضرار ورود باب المفاعلة في كثير من الموارد بهذا المعنى ، أي كثرة صدور المبدء من شخص وتكراره ، كقوله تعالى :

{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] , [النساء: 142] وقوله تعالى {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] وأمثال ذلك ممّا في القرآن الشريف أو في غيره.

والحاصل : أنّ لفظ « الضرر » له مفهوم واضح عند العرف ، بحيث كلّ تفسير وشرح له ليس أوضح من نفسه ، ومثل هذه المفاهيم ليست قابلة للتعريف الحقيقي ، فكلّ ما يذكر في شرحه يكون تعريفا لفظيّا هو أخفى منه.

وأمّا لفظة « الضرار » فهو أيضا كذلك ، وهو مصدر باب المفاعلة من نفس المادة ، فلا حاجة إلى إيراد ما ذكره اللغويّون في المقام والنقض والإبرام فيها.

وأمّا كلمة « لا » فلا شكّ في أنّها لنفي الجنس إذا كان ما بعدها نكرة ، نحو : لا رجل في الدار. فتكون ظاهرة في نفي الحقيقة حقيقة ، إلاّ أن يثبت أنّ النفي ادّعائي.

هذه شرح كلمات المفردة التي في الحديث.

وأمّا شرح هذه الجملة ومفادها ، أعني : « لا ضرر ولا ضرار » فالأقوال المعروفة المشهورة التي ذكرها الفقهاء أربعة :

الأوّل : أن يكون مفادها النهي عن إيجاد ضرر الغير ، أو مطلقا حتّى على النفس ، فيكون مساقها مساق قوله تعالى {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة: 197] حيث أنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة هذه الأمور في الحجّ. ونظائرها كثيرة في الأخبار ، حيث يكون ظاهر الكلام نفي ولكن أريد منه النهي ، كقوله صلى الله عليه واله : « لا سبق إلاّ في خف أو حافر أو نصل » (8) وغير ذلك من الموارد العديدة.

ولقد أصرّ شيخ الشريعة الأصفهاني على هذا القول ، وتعيّن هذا الاحتمال من بين الاحتمالات الأربع (9).

الثاني : أن يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ونظائرها كثيرة في الأخبار ، كقولهم : ـ المتصيّدة من الروايات ـ لا شكّ لكثير الشكّ (10) ، وقوله عليه السلام : « لا سهو في السهو » (11) وقوله عليه السلام : « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » (12) وغيرها من الموارد الكثيرة ، فيكون المراد من هذه الجملة بناء على هذا القول أنّ الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأوّليّة إذا صارت ضرريّة وتعنونت بعنوان الضرر يرتفع ذلك الحكم عن ذلك الموضوع ، فتكون هذه القاعدة بناء على هذا حاكما على الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب الموضوع.

وإلى هذا القول ذهب صاحب الكفاية واختاره (13).

الثالث : أن تكون مفادها نفي الحكم الضرري ، بمعنى أنّ كلّ حكم صدر من الشارع فان استلزم ضرر أو حصل من قبل جعله ضرر على العباد ـ سواء أكان الضرر على نفس المكلّف أو على غيره ، كوجوب الوضوء الذي حصل من قبل وجوبه ضرر مالي أو بدني على المكلّف ، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنيّة حيث نشأ من قبله ضرر على المغبون ـ مرفوع.

ولا يخفى أنّه بناء على هذا القول استعمل كلمة « لا » في معناها الحقيقي ، لأنّ معناها الحقيقي ـ كما ذكرنا ـ نفي جنس مدخولة حقيقة لا ادّعاء ، ولا شكّ في أنّ رفع الحكم الضرري من الشارع رفع حقيقي ؛ لأنّه لا وجود للحكم الضرري ـ لو كان ـ إلاّ في عالم التشريع ، والمفروض أنّه رفعه بهذه الجملة بناء على هذا القول.

والفرق بين هذا القول والقول الثاني ، أي ما ذهب اليه صاحب الكفاية لا يكاد يخفى ، لأنّ المرفوع ابتداء في القول السابق هو متعلق الحكم ، وفي هذا القول نفس الحكم.

ويترتّب على هذا الفرق آثار ، وقد ذكرنا في دليل الانسداد أنّ لزوم الاحتياط بالجمع بين المحتملات ـ في حال الانسداد في أطراف المعلوم بالإجمال ـ بحكم العقل.

فإذا كان الاحتياط بالمعنى المذكور حرجيّا أو ضرريّا فإن قلنا بالقول الثاني ـ أي ما ذهب إليه صاحب الكفاية في قاعدتي الضرر والحرج ـ فلا يمكن رفع وجوب الاحتياط بكلّ واحدة من القاعدتين ؛ لأنّ متعلّق الأحكام الواقعيّة ليس فيها حرج ولا ضرر حتّى يرتفع برفعها الأحكام ، والاحتياط ، أي الجمع بين المحتملات.

وإن كان حرجيّا أو ضرريّا ولكن وجوبه عقلي ، ليس من المجعولات الشرعيّة حتّى يرتفع برفع موضوعه في عالم التشريع ، وهو اعترف في الكفاية بذلك.

وأمّا لو قلنا بالقول الثالث ، أي كون المرفوع نفس الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، فيمكن أن يقال : إنّ الضرر نشأ من قبل الأحكام المجعولة فترتفع ، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب الاحتياط ، فيكون الاحتياط لو كان واجبا شرعيّا لا عقليّا بالمقدار الذي يرفع الخروج من الدين.

وخلاصة الكلام : أنّه تظهر الثمرة بين القولين ـ أي الثاني والثالث ـ في كلّ مورد لا يكون موضوع الحكم ضرريّا ، ولكن نفس الحكم يكون ضرريا.

وبعبارة أخرى : يكون الضرر مسبّبا عن نفس الحكم كما ربما تكون المعاملة الغبنيّة كذلك ، فإنّ الضرر يأتي من قبل لزوم المعاملة ، لا من نفس المعاملة ، وللزوم حكم شرعي ؛ ففي جميع هذه الموارد بناء على القول الثاني لا حكومة لقاعدة لا ضرر على الأدلّة الأوليّة ، بخلاف القول الثالث فإنّها بناء عليه تكون حاكمة عليها ، فظهر الفرق بين القولين بحسب الماهيّة والآثار.

الرابع : أنّ مفادها نفي الضرر غير المتدارك ، بمعنى أنّ الشارع ينهى عن الضرر غير المتدارك.

وتقريبه بأن يكون الضرر المتدارك في حكم العدم ولا يراه الشارع ضرر ، كما هو كذلك عند العرف والعقلاء ، فنفي الضرر المطلق بناء على هذا الفرض يرجع إلى نفي الضرر غير المتدارك ، والظاهر حينئذ من نفي الضرر غير المتدارك في عالم التشريع لزوم التدارك ؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر المتدارك منزّل منزلة العدم ، فإذا كان النفي بمعنى النهي فيكون الضرر غير المتدارك منهيّا إيجاده ، وهكذا كناية عن وجوب تداركه.  

كما أنّه إذا قال : لا تقبل هدية بلا عوض ، فيكون كناية عن أنّه إذا أهدى إليك شخص هدية فلا تجعله بلا عوض ولا تدارك ، بل يجب عليك تداركها بإهداء شي‌ء إلى المهدي في مقابلها.

إذا عرفت هذه الوجوه والأقوال فنقول :

الصحيح من هذه الاحتمالات والأقوال هو الذي ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري (14) وشيخنا الأستاذ (15) .

وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّه صلى الله عليه واله في مقام‌ التشريع ، وفي مقام أنّ الحكم المشروع في المقام حكم امتناني على الأمّة ؛ فالحديث ظاهر سياقا في أمرين :

أحدهما : أنّ الرفع رفع تشريعي ؛ إذ لا معنى لأن يكون إنشاء الرفع لرفع التكويني ، لأنّه أولا المناسب لمقام الشارعيّة هو أن يكون رفعه وضعه رفعا ووضعا تشريعيّا لا تكوينيّا ، لخروج ذلك عن وظيفته وليس من شئونه.

وثانيا : أنّ الرفع التكويني لا يمكن أن يحصل بإنشاء الرفع ، بل لا بدّ له من أسبابه التكوينيّة.

وأمّا احتمال أن يكون إخبارا عن الرفع التكويني ، ففي غاية السقوط ؛ لأنّه كذب أوّلا ؛ وثانيا لا ربط له بمقام الشارعيّة.

وأمّا كونه في مقام الامتنان يدلّ عليه مضافا إلى تسالم الأصحاب على ذلك في فتاويهم ، سوق الكلام لذلك ، حيث يخاطب سمرة بقوله صلى الله عليه واله : « أنت رجل مضارّ » أي مصرّ على الضرر ، كما استظهرنا من هذه اللفظة ، ثمَّ يقول صلى الله عليه واله : « لا ضرر ولا ضرار ».

فإذا ظهر ظهور الحديث الشريف في هذين الأمرين ، من دون الاحتياج إلى كلمة « على مؤمن » أو كلمة « في الإسلام » فنقول : لا شكّ في أنّ الرفع التشريعي ظاهره أنّ المرفوع من الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ رفعها يكون رفعا حقيقيا لا ادّعائيا ، لأنّه لا وجود للأحكام الشرعيّة إلاّ في عالم التشريع ، فإذا رفعه في عالم التشريع يرتفع من عالم الوجود حقيقة وبقول مطلق ، وقد بيّنّا في شرح مفردات وألفاظ الحديث أنّ كلمة « لا » ظاهرة في نفي جنس مدخولها حقيقة إذا كان المدخول نكرة.

وأمّا إذا كان المرفوع أمرا تكوينيا فلا بدّ أن يكون الرفع ادّعائيّا لا حقيقيّا ، فتكون النتيجة رفع الحكم حقيقة برفع الموضوع ادّعاء ، كقوله المتصيّدة من الروايات : « لا شكّ لكثير الشكّ ».

ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر هذه الجملة ، لا يصار إليه إلاّ بعد عدم إمكان رفع المدخول لكلمة « لا » حقيقة. وفيما نحن فيه يمكن ذلك ، أي الرفع الحقيقي لمدخول « لا ».

بيان ذلك : أنّ الضرر الناشئ من قبل الأحكام الشرعيّة ويكون مسبّبا عنها يمكن رفعه حقيقة من عالم الوجود برفع أسبابه التشريعيّة ، أي رفع ذلك الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر ، فالمرفوع حقيقة هذا القسم من الضرر لا بتقييد في لفظ الضرر ، أو بتجوّز ، أو إضمار ، أو تقدير أو غير ذلك ؛ بل الرفع التشريعي في مقام الامتنان على الأمّة يقتضي ذلك وقاصر عن شموله لأزيد من هذا ، إذ رفع سائر الإضرار ـ أي الإضرار الخارجية ـ لا ربط لها بالشارع في هذا المقام.

نعم لا ننكر أنّ الشارع قد يدعي رفع موضوع خارجي بلحاظ رفع حكمه ، ولكن هذا فيما لا يمكن رفعه حقيقة في عالم التشريع ، فمقتضى ظاهر هذه الجملة هو رفع الضرر الذي منشأه الحكم الشرعي برفع نفس الحكم ، فيكون الحديث حاكما على إطلاقات وعمومات الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب المحمول.

وهذا من هذه الجهة أيضا يفارق قول صاحب الكفاية من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ؛ لأنّ ما قاله تكون نتيجة الحكومة في جانب الموضوع ، وهذا القول تكون نتيجة الحكومة في جانب المحمول.

ثمَّ أنّه ظهر ممّا ذكرنا فساد سائر الأقوال :

أمّا القول الأوّل : وهو أن يكون النفي بمعنى النهي ، فلأجل أنّه خلاف الظاهر ؛ لما ذكرنا من ظهور الجملة في الرفع التشريعي ، فلا ربط له بالضرر الخارجي التكويني كي يتوهم أنّ النفي بمعنى النهي ، وإلاّ يلزم الكذب ، أو يقال إنّ نفيه ادّعائي من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، فهذان القولان متوقّفان على أن يكون الرفع رفع الضرر التكويني ، حتّى يؤول بأحد الوجهين كي لا يلزم الكذب ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : ذكرنا ظهور الحديث وسوقه في مقام الامتنان ، وأيّ امتنان في إلزام المكلّف بلزوم ترك الإضرار ، بل هذا تحميل وتكليف ، فتأمل.

وثالثا : حمل الجملة الخبريّة على الإنشاء خلاف ظاهر اللفظ ، فيحتاج إلى قرينة‌ صارفة مفقودة في المقام. والعجب ممّن يصرّ على ذلك المعنى وظاهر الحديث أجنبي عنه.

وأمّا القول الثاني : ـ أي نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، الذي ذهب إليه صاحب الكفاية 1 فقد ظهر ـ فساده أيضا ممّا ذكرنا من توقفه على أن يكون المراد من الضرر هو الضرر الخارجي التكويني ، حتّى تخرج عن ظاهر الجملة ، « من جهة لزوم الكذب بأنّه ليس رفعا حقيقيا ، وإنّما هو رفع ادّعائي باعتبار رفع حكم الموضوع الضرري.

وقد عرفت أنّ الضرر الخارجي يرجع إلى ادّعاء الرفع باعتبار رفع حكمه ، وهذا خلاف ظاهر كلمة « لا » ولا يصار إليه إلاّ بعد عدم إمكان الرفع الحقيقي ، وفي المقام ممكن كما عرفت ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : مرجع رفع الحكم برفع الموضوع في المقام إلى رفع حكم المجعول على نفس عنوان الضرر حتّى يصير من مصاديق رفع الحكم برفع الموضوع ، وحكم المجعول للضرر بمعناه المصدري ـ أي الإضرار ـ ليس إلاّ الحرمة التكليفيّة ؛ إذ بمعناه الاسم المصدري ـ أي الضرر الحاصل من الإضرار ـ لا حكم له ، لا تكليفا ولا وضعا. أمّا تكليفا فمعلوم ؛ لأنّه بهذا المعنى ليس من فعل المكلّف حتّى يكون مركزا ومحلّ تعلّق التكليف.

وأمّا وضعا فمن جهة أنّ نفس الضرر بالمعنى الاسم المصدري ليس من أسباب الضمان ، فلا بدّ وأن يكون حكمه المرفوع بناء على هذا القول حرمة الإضرار ، وهذا ينتج عكس ما أراده صلى الله عليه واله من هذه الجملة تماما.

إن قلت : إنّ هذا يلزم لو كان المرفوع نفس عنوان الضرر ، وأمّا لو كان الفعل المعنون بهذا العنوان ـ وبعبارة أخرى : يكون المراد من الضرر ما هو المضرّ ـ فلا يرد هذا الإشكال ، بل يكون حاكما على العمومات والإطلاقات التي تثبت الأحكام للافعال بعناوينها الأوّليّة بتقييد تلك الإطلاقات ، وتخصيص تلك العمومات بصورة‌ عدم تعنون تلك الأفعال بعنوان الضرر.  

غاية الأمر ذلك التقييد والتخصيص اللبي بلسان الحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب المحمول ، وهذا عين الغرض والمقصود من هذه الجملة ، فما أنتج هذا القول خلاف المقصود.

قلت : إنّ إرادة الفعل الذي صار سببا للضرر من الضرر مجاز لا يصار إليه إلاّ بالقرينة ؛ لأنّه من استعمال المسبّب وإرادة السبب.

نعم هذا صحيح فيما إذا لا يمكن ارادة نفس المسبب ، فلا بدّ من أن يحمل على إرادة السبب ، أو محملا آخر صونا للكلام عن الكذبيّة أو محذور آخر.

وقد عرفت أنّه في المقام يمكن إرادة نفي نفس الضرر حقيقة بالبيان المتقدّم ، فلا يقاس ما نحن فيه بحديث الرفع بالنسبة إلى رفع الخطأ والنسيان ، حيث حملوها على رفع الفعل الذي صدر عن خطأ ونسيان ؛ لأنّ الرفع هناك لا يمكن أن يستند إلى نفس الخطأ والنسيان وإرادة نفيهما ، لا تكوينا لأنّه كذب ، ولا تشريعا لأنّه يلزم منه أن يكون الفعل الذي صدر خطأ بحكم العمد ؛ لأنّ حكم الخطأ مرفوع على الفرض ، وهذا عكس ما هو المقصود من حديث الرفع ، من كونه في مقام الامتنان على الأمّة ويكون ضد الامتنان ، ومن إيقاعهم في غاية الكلفة والمشقّة ، فلا بدّ من حملهما على الفعل الذي صدر نسيانا أو خطأ.

إن قلت : بناء على ما اخترت من كون مفاد الحديث نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر ، أيضا كذلك يلزم أن يكون استعمال الضرر مجازا ؛ لأنّه أريد منه أيضا سببه ، أي الحكم الذي يكون سببا للضرر ، فيكون أيضا من استعمال المسبّب وإرادة السبب.

قلت : بين المقامين فرق واضح ، فإنّه في الأوّل ـ أي فيما إذا كان المراد من الضرر الضرر الخارجي ـ لا يمكن أن يكون المراد نفي الضرر ؛ لأنّه كذب ، فلا بدّ أن يراد منه سببه ، وهذا هو المجاز.

وأمّا في المقام فحيث إنّ المراد من الضرر الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم ، يمكن رفعه حقيقة بالرفع التشريعي ، وبرفع منشأه ، أي الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، فيصح أن يكون المراد نفي الضرر الكذائي من دون تجوّز ولا تقدير ولا غير ذلك ، فبالدلالة الالتزاميّة يدلّ على نفي الحكم الذي يكون سببا للضرر ، لا أنّه أريد من لفظ الضرر وهذا المعنى كي يكون مجازا.

وأمّا القول الرابع : ففيه أولا : أنّ الضرر المتدارك منزّل منزلة العدم ـ على فرض صحّته وتماميّة ـ يكون ذلك فيما إذا تحقّق التدارك في الخارج ، لا بصرف حكم الشارع بوجوب التدارك ، خصوصا إذا كان حكمه تكليفا لا وضعا ، فإذا كان المراد من نفي الضرر نفي غير المتدارك منه ، بمعنى أنّه كلّ ضرر يجب تداركه ، فالضرر الذي لا يجب تداركه منفي في الإسلام.

فهذه الدعوى مركبة من أمرين :

أحدهما : أن الضرر الذي يجب تداركه نازل منزلة العدم.

وهذا هو الذي أشكلنا عليه بأنّه بصرف الحكم الشرعي بوجوب تداركه لا يراه العرف والعقلاء منزلة العدم ، خصوصا إذا كان حكمه هذا حكما تكليفيا.

والثاني : أن يكون نفي الضرر غير المتدارك كناية عن وجوب تدارك كلّ ضرر بجعل الجملة الخبرية بمعنى الإنشائية ، أي النهي عن الضرر غير المتدارك ، كي يكون هذا النهي كناية عن وجوب تدارك كلّ ضرر تكليفا بل وضعا.

وفي هذه الدعوى الثانية أنّه إذا كان المراد من وجوب تداركه الحكم الوضعي بضمانه ، فهذا غير ثابت في الشريعة ، وليس الضرر من أسباب الضمان ، وقد عدها الفقهاء من الإتلاف واليد والعقود المعاوضية الفاسدة والتغرير وغير ذلك ، ولم يذكروا في جملتها الضرر ، وإذا كان المراد صرف الوجوب التكليفي ، فهذا أيضا غير معلوم في جملة من الموارد ، مضافا إلى أنّه لا يوجب كونه نازل منزلة العدم ، كما ذكرنا ؛ هذا أوّلا.

وأمّا ثانيا ، فيرد عليه كلّ ما أوردنا عليه في القول الأوّل من كون النفي بمعنى النهي ، بناء على أن يكون مبنى هذا القول أيضا كون النفي بمعنى النهي ، كما شرحناه مفصلا.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يجوز الخروج عمّا هو ظاهر الجملة إلاّ من جهة ملزمة لذلك ، وقد عرفت ما هو الظاهر منها وعدم جهة ملزمة للخروج عن ذلك الظاهر ، فلا مناص إلاّ عن اختيار ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري من أنّ ظاهر الحديث هو الاحتمال الثالث الذي ذكرناه من نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر. (16) ‌

والحاصل : أنّ هذه الاحتمالات الأربع كلّها ممكنة في عالم الثبوت ، ولكن في مقام الإثبات بينها طوليّة وترتيب.

فالمراتب كعدد الاحتمالات أربع مراتب ، لا تصل النوبة إلى الثاني إلاّ بعد تعذّر الأوّل ، وهكذا على حسب الترتيب.

الأوّل : هو رفع الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم الشرعي حقيقة وواقعا برفع سببه أي الحكم ، وهذا هو المعنى الظاهر من هذه الجملة ، والظاهر من معنى كلمة « لا » الموضوعة لنفي الجنس بالنفي البسيط مقابل الجعل البسيط ، والمراد من البسيط ـ في كليهما ـ أن يكون المنفي والمجعول نفس وجود الشي‌ء. ويشهد لما ذكرنا ـ من ظهور كلمة « لا » لذلك ـ أنّهم اتّفقوا على أنّ خبر « لا » النافية للجنس هو مفهوم « موجود ». ودائما محذوف لمعلوميّته.

فإذا تعذّر هذا المعنى ـ أي النفي الحقيقي لا ادّعاء ـ فتصل النوبة إلى الثاني ، أي نفى الحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا النفي نفي تركيبي ، مقابل الجعل التركيبي ، أي نفي الحكم عن هذا الموضوع. فقول الفقهاء « لا شكّ لكثير الشكّ » في الحقيقة عبارة عن نفي حكم الشكّ ـ وهو البناء على الأكثر ـ عن شكّ كثير الشكّ.  

وإن شئت قلت : إنّه نفي بسيط أمّا ادّعاء.

وإذا تعذّر هذا المعنى تصل النوبة إلى احتمال الثالث الذي هو عبارة عن كون النفي بمعنى النهي الذي هو خروج عن الظاهر ، أى المعنيين الحقيقيّين التحقيقي والادّعائي وان كان بينهما أيضا طوليّة ، كما ذكرنا.

ولكن مع أنّه خروج عن ظاهر مقدّم على احتمال الرابع ، وهو أن يكون كناية عن لزوم تدارك الضرر باشتغال ذمّة الذي أوقع الضرر ، لا بصرف وجوبه تكليفا كما شرحنا ؛ لأنّه خلاف الظاهر من جهتين :

الأولى : كون النفي بمعنى النهي ، وقلنا إنّه خروج عن الظاهر ، وإن أصرّ عليه النراقي (17). وشيخ الشريعة الأصفهاني 0 (18).

الثانية : تنزيل الضرر المتدارك منزلة المعدوم ، وإرادة خصوص الضرر غير المتدارك منه.

وينبغي التنبيه على أمور‌ :

الأوّل : في الإشكالات على تطبيق هذه الجملة على مواردها التي طبق صلى الله عليه واله عليها.

فمنها : في قضية سمرة بن جندب التي تقدّم ذكرها مفصّلا ، وأشكل عليه أوّلا : بأنّها لا تنطبق على أمره صلى الله عليه واله بقلع العذق والرمي بها وجهه ؛ لأنّ‌ حقّ سمرة في ذلك البستان من حيث بقاء عذقه فيه ليس ضرريّا ، بل الضرر في جواز دخوله فيه بلا استيذان ، فيلزم تخصيص المورد وهو مستهجن ، فيلزم إجمال العام.

وأجيب على هذا الإشكال بأنّه صلى الله عليه واله لم يطبق الجملة على هذه القضيّة من هذه الجهة ، وإنّما كان حكمه بقلع عذقه من جهة ولايته صلى الله عليه واله على النفوس والأموال تأديبا وحسما لمادّة الفساد بعد أن تمرّد من قبول الحكم الشرعي ، أي وجوب الاستيذان ، أو عدم إباحة دخوله بغير الإذن الذي هو مفاد « لا ضرر ولا ضرار » ، فتطبيقه كبرى لا ضرر بلحاظ هذا المعنى لا بلحاظ أمره بقلع العذق ، فليس من باب تخصيص المورد ـ كي يكون مستهجنا ويكون موجبا لسقوط حجيّة العام وإجماله.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ عن هذا الإشكال بأنّ ضرر الأنصاري ولو كان مستندا إلى جواز الدخول بغير إذنه وهو الجزء الأخير لعلّة الضرر ، ولكن جواز الدخول من غير استيذان بالأخرة ينتهي إلى حقّه لإبقاء عذقه في ذلك البستان ، فذلك الحقّ الذي هو حكم شرعي وضعي نشأ من قبله الضرر ، فيكون الضرر عنوانا ثانويّا لذلك الحقّ ، فيرتفع بارتفاع الضرر بالمطابقة أو بالالتزام ، فلا يرد إشكال حتّى بناء على تطبيقه على مسألة العذق (19).

وفيه أوّلا : أنّ صرف كون منشأ الضرر ـ أي جواز الدخول بغير الاستيذان من آثار الحقّ ـ لا يوجب تعنون الحقّ بعنوان الضرر وأن يكون الضرر عنوانا ثانويّا له ، فإذا كان الضرر عنوانا ثانويّا للدخول بغير الإذن يرتفع نفس جواز الدخول بغير الإذن من دون تأثير في ارتفاع الحق.

هذا مضافا إلى ما بيّنّا سابقا أنّ سوق لا ضرر في مقام الامتنان فلا يجري فيما إذا كان موجبا لضرر الغير ؛ لأنّه كما أنّ بقاء حقّ السمرة في إبقاء عذقه في بستان الأنصاري لو سلّمنا أنّه منشأ للضرر كذلك منعه عن حقّه وقلع عذقه ضرر عليه ، فيدخل في باب تعارض الضررين بل تزاحم الحقّين.

فالصواب في الجواب أن يقال ؛ إنّ تقديم حقّ الأنصاري لحفظ عرضه من جهة أهميّته في نظر الشارع ، كما هو الشأن في باب التزاحم من تقديم الأهمّ على المهمّ ، وهو أحد المرجّحات الخمسة في باب التزاحم بل أهمّها.

ومنها : تطبيقه صلى الله عليه واله هذه الجملة على عدم جواز منع فضل الماء لمنع الكلاء لأهل البادية.

وأشكل على ذلك أيضا بأنّ هذا التطبيق خلاف الامتنان بالنسبة إلى مالك الماء ، بل يكون ضررا عليه لسلب سلطنته ومنعه عن حقّه ، وهكذا الأمر في تطبيقه صلى الله عليه واله على الشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين ، فيشكل على هذا التطبيق بعين الإشكال المتقدّم.

وكذلك في مسألة جدار حائط الجار إذا سقط من عند نفسه فلا يجب عليه أن يبنيه ، وأمّا إذا هدمه هو أي الجار صاحب الجدار فلا يترك ويجب عليه أن يبنيه ، فذلك الإشكال ـ أي منع المالك عن التصرّف في ماله ـ موجود.

والجواب عن الجميع أمّا في مسألة عدم جواز منع الماء فلعلّه من جهة أنّ عدم جواز منعهم ليس من جهة حرمة المنع ، بل نهي تنزيهي ومثل هذا النهي ليس منافيا لحقّ المالك أو الحقّ الأولويّة التي للمانع.

ولكن هذا التوجيه بعيد ؛ لعدم ملائمته مع كونه من قضائه صلى الله عليه واله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نقع الشي‌ء ، وبين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل الماء ليمنع فضل الكلاء.

فالأولى أن يقال : قدم رفع ضرر أهل البادية ومشارب النخل لأهل المدينة لأهميّته ، فإنّ عدم تلف حيوانات أهل البادية وعدم تلف نخيل أهل المدينة كان أهمّ من حفظ حقّ الأولويّة الذي كان لصاحب الماء ومالكه أو من كان أولى به ، وهذا‌ واضح جدا.

وأمّا مسألة الشفعة فليس جعل حقّ الشفعة ضررا لا على البائع ولا على المشتري ، أمّا على البائع فمعلوم ؛ لعدم الفرق له بين أن يكون المبيع بعد انتقاله عنه ملكا للشفيع بواسطة أخذه بحقّ الشفعة ، أو يكون ملكا للمشتري.

وأمّا المشتري فلأنّه من أوّل الأمر أقدم على اشتراء مال يصير متعلّقا لحقّ الغير بمحض اشترائه.

وأمّا مسألة الجدار فعدم جواز هدمه ووجوب بنائه عليه لو هدمه وأنّه لا يترك ، فمن جهة أهميّة حقّ المهدوم عليه من حقّ الهادم ، خصوصا إذا كان مستلزما لهتك عرضه وتلف أمواله.

التنبيه الثاني : أشكل شيخنا الأعظم الأنصاري على تماميّة هذه القاعدة المستفادة من قوله صلى الله عليه واله « لا ضرر ولا ضرار » بلزوم تخصيص الأكثر (20).

بيان ذلك : أنّه بعد ما كان المراد من قوله صلى الله عليه واله ـ كما استفدناه ـ نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر وأنّه لم يجعل في الدين مثل هذا الحكم نرى أنّه في كثير من أبواب الفقه مثل هذا الحكم مجعول ، كأبواب الحج ، والزكاة ، والخمس ، وأبواب الجهاد ، والضمانات بواسطة اليد أو الإتلاف ، إلى غير ذلك.

ثمَّ أجاب عنه : بأنّه من الممكن أن يكون بين الأفراد الخارجة عن تحت هذا العموم جامع ، والتخصيص يكون بعنوان إخراج ذلك الجامع الواحد ، وقال : إذا كان كذلك فإخراج عنوان واحد عن تحت عموم العام من العناوين التي يتعنون العام بها ليس بمستهجن ، وإن كان أفراد العنوان الخارج أكثر من الأفراد الباقي تحت العام.

واعترض عليه صاحب الكفاية بأنّ خروج عنوان واحد عن العام ليس بمستهجن ، ولو كان أفراده أكثر من الأفراد الباقي تحت العام إذا كان عموم العام‌ أنواعيا وكان محطّ العموم الأصناف التي للعام. وأمّا لو كان محطّ العموم والنظر إلى الأشخاص ومصاديقه ، فلا فرق في استهجان تخصيص أكثر الأفراد بين أن يكون بعنوان واحد وتحت جامع واحد. (21) ‌

فلو كان عنوانا واحدا ولكن محطّ العموم هو المصاديق والأفراد مثل « أكرم كلّ عالم » فلو كان المخصّص عنوانا واحدا مثل « إلاّ أن يكون فاسقا » وكان أفراد الخاصّ أكثر من الباقي بعد الإخراج ، يكون هذا التخصيص مستهجنا وإن كان بعنوان واحد.

وأمّا إن كان محطّ العموم أنواع العالم ، من الصرفي والنحوي والأصولي والمنطقي والفقهاء إلى غير ذلك من الأنواع ، وكان المخصّص عنوان النحويين مثلا ، وفرضنا أفراده كان أكثر من مجموع الأنواع الآخر ، فهذا التخصيص ليس بمستهجن.

والسرّ في ذلك هو أنّ إلقاء ما ليس بعام عند العرف بحسب مراده بصورة العموم خروج عن طريقة الإفادة والاستفادة عندهم، فيكون ركيكا مستهجنا عندهم ، فلا بدّ وأن يلاحظ مصبّ العموم ، فإن كان الأنواع فخروج المتكلّم عن طريقة العرف وأهل المحاورة بإخراج أكثر الأنواع ، وإن كان مصبّه الأفراد فخروجه عن طريقتهم هو إخراج أكثر الأفراد ، سواء أكان بعنوان واحد جامع لتلك الأفراد المختلفة ، أم كان بعناوين متعدّدة.

والشاهد على ذلك الوجدان ، ومراجعة أرباب المحاورة.

ولا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون العام من قبيل القضيّة الخارجيّة أو القضية الحقيقية.

نعم تصوير العموم الأنواعي في القضية الخارجيّة لا يخلو عن إشكال ، بخلاف القضيّة الحقيقيّة فإنّه قد يكون الحكم فيها على العام بلحاظ جميع وجوداته ومصاديقه وأفراده ـ كما هو الحال في أغلب المسائل التي لجميع العلوم والفنون ، والقضايا التي تجعل كبرى في الشكل الأوّل ـ وقد يكون الحكم فيها بلحاظ جميع أنواعه وأصنافه ، ولا نظر للحاكم إلى قلّة الأفراد وكثرتها.

ففي القسم الأوّل من القضيّة الحقيقيّة تخصيص أكثر الأفراد مستهجن ولو كان بعنوان واحد ، وفي القسم الثاني تخصيص أكثر الأنواع مستهجن ولو كان أفراد أكثر الأنواع الخارج بالتخصيص أقلّ بكثير من أفراد ذلك النوع الواحد الباقي تحت العام.

فالمناط كلّ المناط في الاستهجان هو تخصيص الأكثر ممّا هو مصبّ العموم ، سواء أكان هو الأنواع أو كان هو الأفراد ، وسواء أكان الخارج هو بعنوان واحد أو بعناوين.

فإشكال صاحب الكفاية ( قده ) وارد على ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري .

وما ذكره شيخنا الأستاذ من الفرق بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة ، وجعله تحقيقا في المقام (22) لا يخلو عن الخلل كما عرفت وجهه.

هذا كلّه بحسب الكبرى ، وأمّا بحسب الصغرى فلا شكّ أنّ مصبّ العموم في القاعدة هي الأفراد ، إذا مفادها كما استظهرنا من أدلّتها هو نفي كلّ حكم ضرري ، أي ينشأ من قبله الضرر.

 وليس مفادها نفي كلّ نوع من أنواع الأحكام الضرريّة حتّى لا يكون خروج نوع واحد موجبا للاستهجان ، ولو كان أفراده أكثر ممّا بقي تحت العام.

هذا ، مضافا إلى أنّ الخارج من هذا العموم ـ على فرض تسليم التخصيص ـ ليس عنوان واحد ، وإنّما هو صرف فرض شيخنا الأعظم الأنصاري ، لأنّ الأحكام الضرريّة مجعولة بعناوين موضوعاتها ، كعنوان الحجّ والجهاد والخمس والزكاة ، وعنوان من أتلف واليد والمقبوض بالعقد الفاسد ، إلى غير ذلك من العناوين التي يجدها الفقيه المتتبع ، بل موضوع الأحكام الضرريّة موضوعات مسائل هذه الأبواب.

فالصواب في الجواب عن أصل إشكال تخصيص الأكثر : أنّ خروج هذه المذكورات عن تحت القاعدة بالتخصّص ، وليس تخصيص في البين أصلا.

بيان ذلك : أنّ قاعدة نفي الضرر ، وكذلك قاعدة نفى الحرج بناء ـ على ما استظهرناه من أنّ مفادهما نفي الأحكام الضرريّة والحرجيّة ـ يكون حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّليّة ، بمعنى أنّ الأدلّة الأوّليّة لها إطلاق أو عموم يشمل كلتا حالتي الحكم ، من كونه ضرريّا وغير ضرري ، فالقاعدة تخرج حالة كونه ضرريّا عن مفاد الإطلاق أو العموم ، فنتيجة هذه الحكومة لبّا تقييد ذلك الإطلاق ، أو تخصيص ذلك العموم بغير حالة كون ذلك الحكم ضرريا.

وأمّا إذا كان الحكم المجعول على موضوع ضرري دائما كوجوب الجهاد وإعطاء الخمس والزكاة مثلا ، أو كان نفس الحكم دائما ضرريّا كحكمه بضمان اليد في مورد التلف ، فخارج عن مصبّ هذه القاعدة.  

وليس من باب التخصيص حتّى يكون مستهجنا لكونه تخصيص الأكثر ، نعم لو اتّفق لهذه الأحكام الضرريّة ومن قبلها ترتّب ضرر آخر غير ما يقتضي طبع نفس هذه الأحكام أو موضوعاتها ، فحينئذ يكون مشمولا لهذه القاعدة ، ولا محذور فيه أصلا.  

وذلك من جهة شمول الحكومة لمثل هذا المورد ؛ لأنّه بالنسبة إلى مثل هذا الضرر الذي اتّفاقي وليس من مقتضيات طبع نفس الحكم أو موضوعه ، يكون من مداليل الإطلاق أو العموم للأدلّة الأوّلية ، فالقاعدة تقيد ذلك الإطلاق ، أو يخصّص ذلك العموم بغير مورد ترتّب هذا الضرر على ذلك الحكم ، فيكون تقييدا أو تخصيصا لدليل ذلك الحكم لبّا بلسان الحكومة.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة ناظرة إلى تضييق المجعول الأوّلي وتخصيصه بإحدى حالتيه ، أي حالة عدم كونه ضرريّا فلا بدّ وأن يكون لذلك المجعول الأوّلي حالتان ، حتّى يكون داخلا في موضوع القاعدة ، وإلاّ لو لم يكن له إلاّ حالة واحدة يكون خارجا عن موضوع القاعدة ، وليس من باب التخصيص.  

وحيث أنّ في الموارد المذكورة للتخصيص إمّا يكون الموضوع موضوعا ضرريّا دائما ، أو نفس الحكم كذلك ، فيكون خروجها بالتخصّص لا بالتخصيص.

التنبيه الثالث : في بيان وجه تقديم هذه القاعدة على الأدلّة الأوليّة القائمة على‌ ثبوت الأحكام الواقعيّة لموضوعاتها بعناوينها الأوّلية.

أقول : لا شكّ في أنّ النسبة بين دليل هذه القاعدة وبين تلك الأدلّة عموم من وجه ، مثلا دليل وجوب الغسل عام من حيث كونه ضرريّا أو غير ضرري ، ولا ضرر أعمّ منه ؛ لشموله لغير وجوب الغسل من الأحكام الضرريّة ، فيتعارضان في مورد الاجتماع وتصادم العنوانين ، فبأيّ وجه أخذوا بدليل لا ضرر وقدّموه على تلك الأدلّة ، مع أنّ مقتضى القاعدة تساقط الدليلين المتعارضين في مورد الاجتماع إذا كان بينهما عموم من وجه.

وقد ذكروا لذلك وجوها نذكر منها ما هو المختار في وجه الجمع ونترك الباقي ؛ إذ لا فائدة في ذكرها والإشكال عليها مع وضوح بطلانها.

فنقول : وجه تقديم دليل لا ضرر على تلك الأدلّة حكومته عليها بالحكومة الواقعيّة بالتضييق في جانب المحمول ، فدليل لا ضرر يضيق المحمول في تلك الأدلّة برفعه رفعا تشريعيّا في إحدى الحالتين ، أي حالة كونه ضرريّا سواء أكان المحمول حكما تكليفيّا أو وضعيّا ، بلا تصرّف وتضييق في النسبة التي بين الموضوع والمحمول حتّى يكون تخصيصا.

نعم ينتج نتيجة التخصيص ، فإذا قسنا دليل لا ضرر مع دليل وجوب الغسل أو الوضوء على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر ، يكون مفاد لا ضرر أنّ هذا الوجوب المحمول على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر ، ويقال بأنّ المحدث بحدث كذا يجب عليه ليس مجعولا إذا كان ضرريّا ، فلا يمكن التعارض بين مثل هذين الدليلين ؛ لأنّ التعارض بين الدليلين عبارة عن التناقض بينهما ، وفي التناقض لا بدّ وأن تكون القضيتين الموجبة والسالبة متّحدتين من حيث الموضوع والمحمول ، وإنّما الاختلاف من حيث السلب والإيجاب ، فلو كانت إحدى القضيتين المختلفتين بالسلب والإيجاب مفادها التصرّف في موضوع القضيّة الأخرى ، كقولهم « لا شكّ لكثير الشك » أو‌ التصرّف في محمولها كقوله صلى الله عليه واله « لا ضرر ولا ضرار » بناء على ما استظهرنا منه من أنّ مفاده رفع الحكم الضرري عن عالم الجعل والتشريع ، فلا يتحقّق تناقض وتعارض.

وهذا هو السرّ في عدم ملاحظة النسبة بين الحاكم والمحكوم ، بل يقدّم الحاكم على كلّ حال ، لأنّ ملاحظة النسبة فرع التعارض ، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم ؛ إذ المعارضة فرع وحدة القضيّتين بحسب الموضوع والمحمول.

وأمّا إذا كان لسان إحدى القضيتين التصرّف في موضوع القضية الأخرى أو محمولها فلا تعارض حتّى تلاحظ النسبة أو قوّة الظهور.

وأمّا الجمع العرفي الذي ذكره صاحب الكفاية (23) وإن كان صحيحا ومطابقا للواقع ، إلاّ أنّه ليس بلا سبب وجزافا.

ووجه الجمع العرفي هو ما ذكرناه من الحكومة في هذا المورد ، وربما يكون وجهه في الموارد الآخر غير الحكومة ، من قوّة الظهور في أحدهما لكونه أظهر ، أو كون أحدهما خاصّا ، أو غير ذلك.

وأمّا بيان أقسام الحكومة الثمانية ، من كونها ظاهريّة أو واقعيّة ، أو كونها في جانب الموضوع أو في جانب المحمول ، كلّ واحد منهما بالتوسعة أو بالتضييق فقد ذكرنا وشرحناها في باب حكومة الأمارات على الأصول في كتابنا « منتهى الأصول». (24)

التنبيه الرابع : في أنّ مفاد لا ضرر نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر واقعا‌ ، سواء علم المكلّف بذلك أم لا ؛ وذلك من جهة أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة لا بقيد أنّها معلومة ، فالمراد من الحديث الشريف نفي الضرر الواقعي سواء فيه العلم والجهل.

فمن هذا يتولّد الإشكال في موارد :

منها : قولهم بصحّة الوضوء أو الغسل مع الجهل بكون استعمال الماء ضرريّا.

ومنها : تقييدهم لخيار الغبن ، وكذلك خيار العيب بجهل المغبون بالغبن وجهل المشتري بعيب المبيع.

ولكن الجواب عن هذه الإشكالات : أمّا في مسألة الطهارة المائيّة فلأنّ حكم الشارع ببطلان الطهارة المائيّة في ظرف الجهل بضرر استعمال الماء خلاف الامتنان ؛ لأنّه يوجب إعادة الوضوء والغسل ، بل الأعمال المتوقّفة عليهما وقد سبق أنّ سوق الحديث في مقام الامتنان ، فلا يجرى فيما هو خلاف الامتنان.

لا يقال : حكمه بالبطلان في صورة العلم أيضا خلاف الامتنان ؛ لأنّ العاقل لا يقدم على ضرر نفسه ، خصوصا إذا علم أنّ هذا العمل لغو لا أثر له ، وهذا المعنى لا يتطرّق في حقّ الجاهل بالضرر ، هذا أوّلا ، وثانيا ما تقدّم من أنّ مفاد لا ضرر نفى الحكم الذي يكون الضرر عنوانا ثانويا له.

وبعبارة أخرى يكون علّة تامّة للضرر أو يكون هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للضرر ، حتّى يصحّ أن يقال إنّ هذا الحكم ضرري ، بحيث لو لم يكن هذا الحكم لما كان المكلّف واقعا في الضرر.

وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ؛ لأنّه كان يقع في الضرر من جهة جهله ، ولو لم يكن هذا الحكم مجعولا في ذلك الحال أي في حال جهله بالضرر ، فليس الضرر ناشئا من الحكم المجعول في حال الجهل ، وإلاّ لما كان واقعا في الضرر في فرض عدم ذلك الحكم في حال الجهل ، مع أنّه يقع قطعا لاعتقاده عدم الضرر ، فهو يرى نفسه موضوعا وداخلا في الذي يجب عليه الوضوء أو الغسل وإن لم يكن الوجوب مجعولا في ذلك الحال ، فتضرّره مستند إلى فعله الناشئ عن اعتقاد عدم الضرر ، ولعمري هذا واضح جدّا.

وأمّا بطلان الوضوء والغسل بالماء الذي استعماله مضرّ لحرمة الإضرار بالنفس ـ وأنّ الإضرار بالنفس إلى أيّ حدّ جائز وإلي أيّ حدّ لا يجوز وما الدليل عليه ـ فهذا شي‌ء خارج عن محلّ كلامنا ، وهي مسألة فقهيّة يبحث عنها في محلّها.

وأمّا مسألة خيار الغبن فليس مستند إلى هذه القاعدة ، بل ثبوتها بواسطة تخلّف الشرط الضمني ، وهو تساوي المالين في خيار الغبن وسلامة العوضين في خيار العيب ، مضافا إلى وجود أدلّة خاصّة في خيار العيب دالّة على ثبوت الخيار حال الجهل بالعيب دون حال العلم به ، وتفصيل المسألة في محلّه.

التنبيه الخامس : قد عرفت أنّ مفاد لا ضرر ـ بناء على ما استظهرناه ـ رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر ، سواء كان ذلك الحكم حكما تكليفيّا أو كان وضعيّا ، بل الحكم الوضعي أولى بشمول لا ضرر له ؛ لأنّ الحكم التكليفي بمحض جعله وتشريعه لا يكون موجبا لوقوع الضرر في الخارج ، بل الضرر يقع في مرحلة الامتثال ، فيتوسّط بينه وبين وقوع الضرر إرادة المكلّف واختياره.

وأمّا الحكم الوضعي كاللزوم في المعاملة الضرريّة ، فهو بنفسه موجب لوقوع الضرر من دون توسّط إرادة المكلّف واختياره في البين ، فيكون دليل هذه القاعدة ـ كما تقدّم ـ حاكما على إطلاقات الأدلّة الأوّلية في جانب المحمول ، بمعنى تضييق القاعدة لمحمول تلك الأدلّة وتقييدها بحال عدم كونها ضرريّا.

وهذا معنى كون مفادها رفع الحكم الضرري ، فلا بدّ وأن يكون حسب مفاد تلك الإطلاقات حكم ثابت مجعول لو لا هذه القاعدة ، فشأن هذه القاعدة رفع الحكم الضرري الذي لو لا هذه القاعدة كان ثابتا وموجودا.

وأمّا وضع الحكم الذي يكون في عدمه ضرر على شخص ، فهذا خارج عن المفاد ومدلول هذه القاعدة.

فبناء على هذا لا يمكن إثبات الضمان بهذه القاعدة فيما إذا كان عدم الضمان ضررا‌

على شخص ، بل لا بدّ في إثباته من التمسّك بأخذ أسباب الضمان ، كاليد والإتلاف وسائر أسباب الضمان.

والحاصل أنّه لا يجوز أن يقاس عدم الحكم إذا كان ضرريّا فيقال برفعه حتّى يكون نفي النفي إثباتا بوجود الحكم الضرري ؛ لما ذكرنا من أنّ مفادها الرفع لا الوضع ، لا من جهة أنّ العدم ليس قابلا للرفع حتّى يقال إنّ العدم في مرحلة البقاء قابل للوضع والرفع ، بل من جهة كونه ناظرا إلى الأحكام المجعولة حسب إطلاق أدلّتها أو عمومها لكلتا حالتي كونها ضرريّة أو غير ضرريّة ، وتقييدها بصورة عدم كونها ضررية ، فإذا لم يكن حكم مجعول من قبل الشارع فلا موضوع لهذا القاعدة.

وأمّا كون عدم جعل الحكم في موضوع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم ـ كما توهّم ـ فعجيب.

فما توهّم في موارد كثيرة من التمسّك بهذه القاعدة لإثبات الحكم بواسطة كون عدمه ضرريّا ليس كما ينبغي.

كما أنّ بعضهم توهّم جواز طلاق المرأة للحاكم إذا كان الزوج لا يقدر على نفقته ، أو لا يعطي عصيانا أو لعذر ، وكان غائبا زمنا طويلا ولا يعرف مكانه وليس له مال ينفق عليها منه ، ففي هذه الموارد وأمثالها مما تتضرّر المرأة من عدم جواز الطلاق توهّموا رفع عدم جواز الطلاق إلاّ لمن أخذ بالساق ، مستندا إلى هذه القاعدة.

وأنت عرفت عدم صحّة هذا التوهّم.

وأمّا البحث عن هذه المسألة وأنّه هل يجوز طلاق مثل هذه المرأة ولو كان لأدلة أخر غير هذه القاعدة؟ فهو أجنبي عن مقامنا وإن ذكره شيخنا الأستاذ استطرادا. (25) ‌

وهنا فروع كثيرة قالوا بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة ، كفكّ الباب على دابّة فشردت وتلفت ، أو على طير فطار ، وكحبس الحرّ فشردت دابّته ، أو طار طيره ، أو أبق عبده وأمثال ذلك ممّا يكون الحكم بعدم الضمان موجبا لضرر المالك ، فكلّ هذه المذكورات وأمثالها إن كان للضمان وجه آخر غير هذه القاعدة فهو ، وإلاّ فالقول بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة لا وجه له كما عرفت.

التنبيه السادس : في أنّ المراد من الضرر المنفي في هذه القاعدة هل هو الضرر الشخصي أو النوعي ؟

والمراد من الضرر الشخصي هو أنّ المناط في رفع الحكم ترتّب الضرر الشخصي الخارجي عليه ، ففي كلّ مورد نشأ من قبل الحكم الشرعي ضررا خارجيّا على شخص فذلك الحكم مرتفع في حقّه دون من لا يتضرّر من قبله. ومن الممكن أن يكون الحكم ضرريّا في حقّ شخص دون شخص آخر ، بل لشخص واحد في مورد دون مورد آخر.

وأمّا الضرر النوعي فالمراد منه كون الحكم ضرريّا نوعا ، وإن لم ينشأ منه ضرر في بعض الأحيان أو لبعض الأشخاص.

والظاهر من الحديث الشريف ـ بناء على ما استظهرنا منه ـ هو الضرر الشخصي لا النوعي ؛ لأنّ معنى الحكومة على ما بيّنّاه رفع الحكم في كلّ مورد نشأ منه الضرر ، وأمّا في المورد الذي لم ينشأ من قبله ضرر فلا معنى لرفعه بل الإطلاق يشمله.

وبعبارة أخرى : كون الحديث في مقام الامتنان يقتضي أن يكون الرفع بلحاظ حال كلّ شخص بحسب نفسه ، وإلاّ رفع الحكم عن شخص بلحاظ شخص آخر أي امتنان فيه؟

وكذلك الأمر في قاعدة لا حرج فالحكم مرفوع فيها بلحاظ الحرج الشخصي دون النوعي ، ومساق هاتين القاعدتين من هذه الجهة واحد.

وأمّا كون الضرر أو الحرج النوعيين حكمة لجعل حكم في بعض الأحيان ـ كما ربما يكون كذلك في باب جعل الطهارة الترابيّة بدلا عن المائيّة عند عدم التمكّن منها ، أو التقصير والإفطار في السفر ـ فلا ربط له بما نحن فيه ، وهو وإن كان ممكنا بل واقعا كما ذكرنا ، ولكن يحتاج إلى ورود دليل خاصّ على ذلك.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجب تدارك الضرر الوارد على الغير ، بأن يتحمل خسارة ما وقع التلف عليه إلاّ بأحد أسباب الضمان ، من اليد ، أو الإتلاف ، أو غيرهما كما هو مذكور في أبواب الضمانات ، ولا بأن يتحمّل الضرر ليدفعه عن الغير ؛ كلّ ذلك من جهة أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان ، نعم ليس له أن يدفع الضرر عن نفسه بتوجيهه إلى الغير.

التنبيه السابع : في تعارض الضررين‌ بمعنى أنّه دار الأمر بين حكمين ضرريين ، بحيث يلزم من نفي أحد الحكمين ثبوت الحكم الآخر ، وذلك كما إذا أدخل الدابّة رأسها في قدر يملكه شخص آخر غير صاحب الدابّة ، فالقدر لشخص والدابة ملك لشخص آخر ، فهاهنا يقع التعارض بين جواز كسر القدر لخلاص الدابّة وجواز ذبح الدابّة لبقاء سلامة القدر ، فكلا الحكمين ضرريّان ويلزم من نفي جواز كلّ واحد منهما بواسطة « لا ضرر » ثبوت الضرر للمالك الآخر ، فمنع مالك القدر عن كسره ضرر على صاحب الدابّة ، كما أنّ منع صاحب الدابّة عن ذبحه ضرر على صاحب القدر ، فلا يجري « لا ضرر » في الطرفين لمعارضتهما لو كان أحد الأمرين واجبا.

وهذا فيما إذا لم يكن بتفريط من أحدهما ، وإلاّ يجب على المفرط تخليص مال الغير ولو بتلف ماله ولا ضمان على الآخر. نعم لو قلنا بأنّه يجب مراعاة أكثر الضررين وأعظمهما وينفي الحكم الذي ينشأ ذلك الضرر الكثير منه ، فحينئذ يجب ارتكاب ما هو أقلّ ضررا منهما ـ أي من الكسر ومن الذبح ـ في المفروض.

ولكن لا دليل على هذا إلاّ ما يتوهّم من أنّ مقتضى الامتنان على الأمة هو ذلك. ولكن عرفت أنّ مقتضى الامتنان رفع الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر فيما إذا لم يكن الرفع موجبا لوقوع الضرر على شخص آخر ، ففي هذا المورد وأمثاله لا مجال لجريان‌ لا ضرر ، لا من جهة المعارضة فقط لو كان هناك معارضة ، بل من جهة أنّ جريانها خلاف الامتنان فلا يجرى لا ضرر في الطرفين.  

ونتيجة ذلك بقاء سلطنة كلّ واحد منهما على ماله ، ومنع الآخر عن التصرّف فيه بكسر أو ذبح أو غير ذلك من التصرّفات التي للمالك حقّ المنع عنها.

ويمكن أن يقال : إنّه ليس لكلّ واحد من المالكين منع الآخر عن تخليص ماله ولو كان التخليص مستلزما لتلف ماله ، غاية الأمر يجبر التلف أو النقص كما إذا حفر الأرض لتلخيص غرسه فيما إذا كان بحقّ ، فيجبر نقص الحاصل من الحفر بلزوم طم الحفر من طرف الحافر القالع لغرسه ؛ وذلك من جهة عدم سلطنته على ماله ومنعه الغير عن مثل هذا التصرّف الذي مقدّمة لتخليص ماله.

والحاصل أنّ المثال المذكور ، أي إدخال الدابّة رأسها في قدر الغير بغير تفريط من أحد المالكين ، ليس من تعارض لا ضرر في الطرفين ؛ إذ الضابط فيه كما بيّنّا أن يكون نفي أحد الحكمين الضرريين مستلزما لثبوت الحكم الضرري الآخر ، لا أن يكون مستلزما لثبوت الضرر على الآخر ، وما نحن فيه من الأمثلة من قبيل الثاني لا الأوّل.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ تعارض مفاد لا ضررين ـ أي تعارض نفي الحكمين الضرريين ـ هو عبارة عن عدم إمكان رفعهما في عالم التشريع ، إمّا بأن يكون رفع أحدهما مستلزما لثبوت الآخر ، فمعنى رفعهما إثباتهما أيضا لما ذكرنا من الملازمة ، وهذا اجتماع النقيضين في كلّ واحد من الحكمين.  

وإمّا بالعلم بوجود أحد الحكمين وعدم رفعه لجهة من الجهات ، كما لو أنّ جواز حفر البئر في داره إذا كان ضررا على جاره لو رفع بلا ضرر بواسطة كون هذا الحكم ضرريّا على جاره ، وحرمة حفر البئر أيضا لو رفع بواسطة كونه ضرريّا على نفسه ، فيقع التعارض بين لا ضررين باعتبار مؤدّاهما ، أعني نفي جواز حفر البئر ونفي حرمة حفره.

وذلك من جهة أنّ نفي أحد الحكمين مستلزم لثبوت الآخر ، فنفي جواز حفر البئر مستلزم لحرمة الحفر ، كما أنّ نفي حرمته مستلزم لجوازه. وكما أنّ في مثال القدر والدابة التي أدخلت رأسها فيها لو علمنا بوجوب أحد الأمرين ، أي كسر القدر أو ذبح الدابّة ، فيقع التعارض بين نفي جواز الكسر بلا ضرر ونفي جواز الذبح به ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما في عالم التشريع مع العلم بوجود أحدهما.

ولا ينافي ثبوت التعارض بينهما مع كونهما ـ أي النفيين ـ مدلول دليل واحد ، كما أنّه لا تنافي بين تعارض الاستصحابين مع أنّهما مفاد دليل واحد ، أي قوله عليه السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

والسرّ في ذلك : هو انحلال قضيّة « لا ضرر » وقضية « لا تنقض » وأمثالها ممّا كانت القضيّة بنحو الطبيعة السارية ، أو العامّ الاستغراقي إلى قضايا متعدّدة بعدد مصاديق ذلك العامّ الذي جعل موضوعا للحكم.

وعلى كلّ حال إذا تحقّق التعارض بالمعنى المذكور فيتساقطان ؛ لعدم وجود مرجّح من مرجّحات باب التعارض لوحدة الدليل وعدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا مرجّحات باب التزاحم فأجنبي عن هذا المقام.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ كثيرا من المباحث التي ذكروه في المقام خارج عن محلّ البحث ، مثلا قالوا : إذا دار الأمر بين ضررين لا بدّ من وقوع أحدهما ، فإمّا أن يكون الضرران على شخص واحد أو على شخصين ، وإذا كانا على شخص واحد فإمّا يكونان مباحين أو محرّمين أو مختلفين. فإذا كانا مباحين فله الخيار في ارتكاب أيّهما أراد ، وإن كانا مختلفين يتعيّن عليه ارتكاب ما ليس بحرام ، وإن كانا محرّمين ، عليه أن يختار للارتكاب ما هو أضعف ملاكا ويترك ما هو أقوى بحسب الملاك ، عملا بقواعد باب التزاحم ومرجّحاته.

وأنت تدري أنّ كلّ ذلك خارج عن محلّ البحث ، أعني وقوع التعارض بين‌ مفادي لا ضرر ، أي نفي الحكمين الضرريين الذين يلزم من نفي كلّ واحد منهما ثبوت الآخر ، أو نعلم بثبوت أحدهما.

والحاصل : أنّه إذا تعارض نفي حكم ضرري مع نفي حكم ضرري آخر ، فلا محالة يسقط لا ضرر في الاثنين بالمعارضة. ولا يعتنى بما قيل من تقديم أعظم الضررين وينفي بلا ضرر ذلك الحكم الذي يكون ضرره أكثر وأعظم ؛ لأنّ هذا ليس من مرجّحات باب التعارض ، فلا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأخر إن كانت ، وإلاّ فإلى الأصول العمليّة.

نعم قد يكون البحث صغرويّا بمعنى أنّه هل هاهنا تعارض بين نفي هذين الحكمين الضرريين أم لا؟ وقد يكون البحث من جهة أنّ المورد من موارد التزاحم أو من موارد التعارض؟ فهذه أمور يسهل على الفقيه تشخيصها بعد معرفة ضوابطها الكليّة.

هذا كلّه في تعارض لا ضرر مع نفسه بالنسبة إلى نفي الحكمين الضرريين فيما إذا لا يمكن ولا يصحّ نفيهما جميعا لما تقدّم من الوجهين.

وأمّا فيما إذا تعارض لا ضرر مع لا حرج كما إذا كان تصرّف المالك في ملكه ضرريّا على الجار ، وكان ترك تصرّفه فيه حرجا على المالك وإن لم يكن ضررا عليه ، فيقع التعارض بين نفي جواز التصرّف بلا ضرر مع نفي حرمة التصرّف بلا حرج ، فالأمر كما ذكرنا في تعارض لا ضرر في مورد نفي أحد الحكمين مع نفسه في مورد نفي الحكم الآخر لوحدة المناط ، وهو عدم إمكان جمع النفيين في عالم الجعل والتشريع ، ووحدة لسان لا ضرر ولا حرج في الحكومة بالتضييق في جانب المحمولات التي هي الأحكام الواقعيّة للأشياء بعناوينها الأوّليّة التي هي مفاد إطلاقات الأدلّة أو عموماتها ، ونتيجتها تقييد تلك الإطلاقات ، وتخصيص تلك العمومات بغير ما كانت ضرريّة أو حرجيّة.

ويظهر ممّا ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري حكومة قاعدة الحرج على قاعدة الضرر ، (26) ولم نعرف لها وجها يمكن الاعتماد والاتّكاء عليه.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ حال تعارض قاعدة الحرج مع نفسه في موردين ، حال تعارض قاعدة الضرر مع نفسه في موردين من موارده فيتساقطان ، والمرجع حينئذ هي القواعد الأخر لو كانت ، كقاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » وإلاّ فالرجوع إلى الأصول العمليّة.

التنبيه الثامن : في بيان مجرى قاعدة « الناس مسلطون على أموالهم » ومورد تعارض قاعدة لا ضرر معها.

فنقول : لا شكّ في أنّ مفاد لا ضرر ـ بناء على ما استظهرناه من الحديث الشريف ـ رفع الحكم الضرري ونفيه مطلقا ، سواء كان حكما تكليفيّا أم وضعيّا ، وبعبارة أخرى : مفاد قاعدة لا ضرر أنّه ليس في المجعولات الشرعيّة وفيما هو من الدين مجعول ينشأ من قبله الضرر ويكون الضرر عنوانا ثانويّا له ، فالسلطنة الاعتبارية المجعولة من قبل الشارع للملاك على أموالهم إذا كان ضرريّا منفي بلا ضرر ، ويكون حال السلطنة حال سائر الأحكام الشرعيّة المجعولة على موضوعاتها ، فكما تكون القاعدة حاكمة على أدلّة سائر الأحكام فكذلك الحال في نسبتها مع قاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » لاتّحاد المناط في الجميع.

ولكن الشأن في إثبات الصغرى ، وأنّه في أيّ مورد يتحقّق هذه المعارضة.

ولتوضيح المقام نقول : إنّ تصرّف المالك في ماله مع الإضرار بالغير على أنحاء :

فقد لا يكون إلاّ بقصد الإضرار بالغير من دون أن يكون له نفع في هذا التصرف ، أو يكون في تركه ضرر عليه.

الثاني : أن لا يكون بقصد الإضرار ، ولكن ليس في ذلك التصرّف نفع له ولا في‌ تركه ضرر عليه ، بل يكون عابثا بفعله.

الثالث : أن يكون له نفع فيه ، ولكن ليس في تركه ضرر عليه.

الرابع : أن يكون في تركه ضرر عليه.

ولا شكّ في حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة « الناس مسلّطون على أموالهم » في الصورة الأولى والثانية ، بناء على شمول قاعدة السلطنة لمورد الإضرار بالغير ، سواء كان من قصده الإضرار أم لم يكن.  

وأمّا لو قلنا بأنّ التصرّفات التي موجبة للإضرار بالغير إذا لم يكن للمالك نفع فيه ولا في تركه ضرر عليه خارجة عن عموم قاعدة السلطنة ، فلا يبقى مجال للحكومة ، بل خروج الصورتين عن تحت عموم قاعدة السلطنة يكون بالتخصّص لا بالحكومة.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا وجه لاحتمال عدم شمول قاعدة السلطنة للصورتين ؛ لأنّ ظاهر الحديث أنّ لكلّ مالك السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله ولو كان بقصد الإضرار ، وسواء كان مستلزما للضرر على الغير أم لا ، غاية الأمر يكون ضامنا للضرر الوارد على الغير لأنّه بفعله وبإتلافه.

ولا يخفى أن مرادنا التصرّفات التي لا يكون مستلزما للتصرّف في مال الغير أو في نفسه ، مثل (27) أن يتصرّف في معوله (28) بهدم دار الغير أو في مديته (29) بشقّ بطن الغير ، فلا ضرر يكون حاكما على قاعدة السلطنة في تينك الصورتين.

وأمّا في الصورة الثالثة : فأيضا مقتضى ما ذكرنا في الصورتين المتقدّمتين حكومة قاعدة لا ضرر على قاعدة السلطنة ؛ لأنّ سلطنة الملاّك على أموالهم حكم شرعي وضعي على الأموال بعناوينها الأوّلية ، وقد تقدّم حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلّة‌ الأوّلية المثبتة للأحكام على موضوعاتها بعناوينها الأوّلية.

ولكنّ الشيخ الأعظم الأنصاري أفاد في المقام أنّ عدم جواز تصرّف المالك في ماله وحرمته فيما إذا كان التصرّف ضرريّا بالنسبة إلى الغير ، ولم يكن تركه ضرريّا على نفسه ولكن كان فيه نفع للمالك ، فترك مثل هذا التصرّف وحرمته حرجي للمالك ؛ لأنّه لا شكّ في أنّ عدم قدرة المالك على التصرّفات النافعة حرج عليه ، فيقع التعارض بين قاعدة الضرر وقاعدة الحرج ، والثانية حاكمة على الأولى. وعلى فرض عدم الحكومة تكون قاعدة السلطنة هو المرجع بعد تساقط لا ضرر ولا حرج بالمعارضة (30).

وفيه : ما تقدّم من أنّه لم نعرف وجها يمكن الاعتماد عليه ، لحكومة قاعدة الحرج على قاعدة لا ضرر ، فالصحيح أنّ المرجع قاعدة السلطنة بعد تساقط لا حرج ولا ضرر بالمعارضة.

وما أفاده شيخنا الأستاذ من عدم اجتماع مورد هاتين القاعدتين لأنّ مفاد قاعدة لا ضرر نفي السلطنة إذا كانت ضرريّة ، ونفي السلطنة على تقدير كونه حرجيّا أمر عدمي ولا يرتفع بلا حرج حتّى تقول أنّ نفي النفي إثبات ، فيرجع إلى بقاء السلطنة فيقع التعارض ، وذلك من جهة أنّ مفاد لا حرج نفي الحكم الموجود الذي يكون حرجيّا ، لا إثبات حكم لرفع الحرج (31).

يمكن أن يجاب عنه : بأنّ مورد الحرج في المقام حرمة ذلك التصرّف النافع للمالك الموجب للإضرار بالغير ، والحرمة حكم وجودي ، فارتفاعها بلا حرج مع ارتفاع جواز التصرّف بلا ضرر ممّا لا يجتمعان ، فيقع التعارض بين لا حرج ولا ضرر ، وبعد تساقطهما بالمعارضة يكون المرجع قاعدة السلطنة.

وعلى تقدير القول بعدم إطلاق دليل السلطنة بالنسبة إلى التصرّف الذي يكون‌ موجبا للإضرار فالمرجع هي الأصول العمليّة ، وفي المقام هي البراءة. وممّا ذكرنا ظهر حال الصورة الآتية.

الصورة الرابعة : وهي فيما إذا كان ترك التصرّف وعدم السلطنة عليه يكون موجبا لتضرّر المالك ، فقاعدة الضرر بالنسبة إلى ضرر الغير مع نفسه بالنسبة إلى ضرر المالك يتعارضان ، وبعد تساقطهما المرجع هي قاعدة السلطنة.  

ولا يخفى أنّ جواز تصرّف المالك في هاتين الصورتين ـ أي في صورة الثالثة والرابعة ـ من حيث الحكم التكليفي لا ينافي مع ثبوت الضمان وضعا لقاعدة الإتلاف.

والحمد لله أولاً وآخراً.

__________________

(*) « القواعد والفوائد » ج 1 ، ص 141 ؛ « الأقطاب الفقهيّة » ص 47 ؛ « الحقّ المبين » ص 152 ؛ « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعيّة » ص 311 ؛ « عوائد الأيّام » ص 15 ؛ « عناوين الأصول » عنوان 10 ؛ « الرسائل الفقهيّة » ص 109 ؛ « مجموعه رسائل » ص 454 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 40 ؛ « مجموعة قواعد فقه » ص 190 ؛ « قواعد فقه » ص 97 ؛ « بدائع الدرر في قاعدة نفى الضرر » الامام الخميني ؛ « اصطلاحات الأصول » ص 195 ؛ « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص 95 ؛ « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » السيستاني ؛ « قاعدتان فقهيتان اللاضرر والرضاع » السبحاني ؛ « القواعد » ص 245 ؛ « قواعد فقه » ص 144 ؛ « قواعد الفقه » ص 8 ؛ « قواعد فقهي » ص 169 ؛ « قواعد فقهية » ص 51 ؛ « قواعد الفقهية » ص 44 ـ 45 و134 ؛ « المبادي العامة للفقه الجعفري » ص 270 ؛ « ترجمه وتحقيق قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » زهرا شرف الدين ، ماجستير ، جامعه طهران ، 1371 ؛ « تصحيح وتحقيق قاعدة لا ضرر از عوائد الأيّام » محمد على اليثربى ، ماجستير ، جامعة طهران ؛ « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » أحمد مولا ، ماجستير ، جامعة طهران ، 1339 ؛ « حديث لا ضرر از ديدگاه امام راحل » محمد هادي معرفت ، مجله حضور ، العدد 4 ؛ « دو قاعدة فقهي قاعدة يد ولا ضرر » مجلة « حقّ » ـ فصليّة ، العدد 9 ، العام 1366.

(1) « الكافي » ج 5 ، ص 292 ، باب الضرار ، ح 2.

(2) « الكافي » ج 5 ، ص 294 ، باب الضرار ، ح 8 ؛ « وسائل الشيعة » ج 17 ، ص 341 ، أبواب إحياء الموات ، باب 12 ، ح 4.

(3) « الفقيه » ج 4 ، ص 334 ، باب ميراث أهل الملل ، ح 5718.

(4) « الكافي » ج 5 ، ص 293 ، باب الضرار ، ح 6.

(5) « الكافي » ج 5 ، ص 280 ، باب الشفعة ، ح 4.

(6) « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 504 ، ح 1805 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 118 ، أبواب إحياء الموات ، باب 9 ، ح 1.

(7) « إيضاح الفوائد » ج 2 : ص 48.

(8) « الكافي » ج 5 ، ص 50 ، باب فضل ارتباط الخيل ، ح 14 ؛ « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 348 ، أبواب كتاب السبق والرماية ، باب 3 ، ح 1.

(9) « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » 24 ـ 27.

(10) « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 329 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 16.

(11) « الكافي » ج 3 ، ص 358 ، باب من شكّ في صلاته ، ح 5 ؛ « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 340 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 25 ، ح 2.

(12) « وسائل الشيعة » ج 5 ، ص 338 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، باب 24.

(13) « كفاية الأصول » ص 381.

(14) « المكاسب » ص 372.

(15) « منية الطالب » ج 2 ، ص 201.

(16) « المكاسب » ص 372.

(17) ليس هذا مختار النراقي ، فراجع : « عوائد الأيام » ص 18 ـ 19.

(18) « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » ص 24 ـ 27.

(19) « منية الطالب » ج 2 ، ص 209 ـ 210.

(21) « درر الفوائد في حاشية على الفرائد » ص 284.

(22) « منية الطالب » ج 2 ، ص 210 ـ 211.

(23) « كفاية الأصول » ص 382.

(24) « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 537.

(25) « منية الطالب » ج 2 ، ص 221.

(26) « المكاسب » ص 375.

(27) مثل للمنفي لا للنفي.

(28) المعول ج معادل : أداة لحفر الأرض.

(29) المدية ج مُدىً ومِدىً ومديات ومديات : الشفرة الكبيرة.

(30) « المكاسب » ص 375.

(31) « منية الطالب » ج 2 ، ص 226.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.