أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-03-2015
8431
التاريخ: 27-7-2017
2556
التاريخ: 29-09-2015
1645
التاريخ: 29-09-2015
3831
|
إن النثر كان أسرع من الشعر، في التطور والتفاعل مع قضايا الحياة والعصر، وأكثر منه قابلية للتعبير عن ذلك.
ومن الأسباب، التي أدت إلى تأخير الشعر عن اللحاق بركب النثر في هذه الناحية، كما يرى بعض أدباء هذه الفترة، التزامه بعض القيود الفنية، التي تحد من حريته وانطلاقه، نحو التطور والتجديد الفني، كالوزن والقافية.
ويبدو هذا بوضوح من قول صاحب ثورة الأدب (وما أظن احداً يرتاب في صحة الملاحظات على الشعر العصري، وعلى وقوفه في قوافيه وأوزانه، وفي صوره ومعانيه، عن مجاراة أنغام العصر وموسيقاه) (1).
وقول الناقد والشاعر المهجري ميخائيل نعيمة ، مهاجما القافية الموحدة (إن القافية العربية السائدة إلى اليوم، ليست سوى قيد من حديد، نربط به قرائح شعرائنا، وقد حان تحطيمه من زمان) (2).
وقول الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي ملمحا إلى ذلك (ولا أرى للشعر قواعد بل هو فوق القواعد، حر لا يتقيد بالسلاسل والأغلال، وهو أشبه بالأحياء في اتباعه سنة النشوء والارتقاء ) (3) ، ودعوته الصريحة بعد ذلك إلى التحرر من القافية الموحدة (4).
يتضح هذا أيضاً، من قول الشاعرة المعاصرة نازك الملائكة، أول عهدها بكتابة الشعر الحر (5) (وقد يرى كثيرون معي أن الشعر العربي، لم يقف بعد على قدميه، بعد الرقدة الطويلة، التي جثمت على صدره، طيلة القرون المنصرمة الماضية ، فنحن عموماً ما زلنا أسرى، تسيرنا، القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام.
ما زلنا نلهث في قصائدنا ، ونجدر عواطفنا بسلاسل الأوزان القديمة )(6).
وقولها مهاجمة القافية الموحدة (7) (إن هذه القافية تضفي على القصيدة لوناً، رتيباً، فضلاً عما تثيره في النفس من شعور بتكلف الشاعر وتصيده للقافية)(8).
والواقع أن الوزن والقافية يمثلان عنصراً هاماً من عناصر الفن الشعري، ومقوما أصيلاً من مقوماته الفنية، التي تميزه عما عداه من فنون القول الأخرى، وبخاصة فن النثر.
ولذا فإن تحطيم هذا العنصر الأساسي من عناصر الشعر، يؤدي حتما إلى تشويه معالم هذا الفن، وطمس لأخص خصائصه الفنية.
وقد تنبه إلى هذه الحقيقة بعض ذوي الفطنة من نقادنا القدامى، ويتضح هذا من قول ابن رشيق القيرواني (الوزن أعظم أركان الشعر وأولادها به خصوصية )(9).
وقول ابن سنان الخفاجي مؤكداً صحة ذلك، ومتخذا من وجود هذا العنصر الفني في الشعر، وسيلة للتفريق بينه وبين النثر.
(فالفرق بين الشعر والنثر بالوزن على كل حال، وبالتقفية أن لم يكن المنشور مسجوعاً على طريق القوافي في الشعر)(10).
ويتفق بعض ذوي الفكر الثاقب ، والحس الفني الدقيق، من نقادنا المحدثين مع القدماء في ذلك، فيرون أن الوزن هو أخص خصائص الشعر، وألزم لزومياته ، وهو مرتبط به أوثق ارتباط.
ويبد هذا واضحاً من قول "العقاد" (نظم الشعر فن مستقل بذاته بين الفنون ، التي عرفت في العصر الحديث باسم الفنون الجميلة، وتلك مزية نادرة جداً بين أشعار الأمم الشرقية والغربية، خلافاً لما يبدو إلى الخاطر لأول وهلة ، فإن كثيراً من أشعار الأمم، تكسب صفتها الفنية بمصاحبة فن آخر، كالغناء والرقص أو الحركة على الإيقاع.
ولكن النظم العربي، فن معروف المقاييس والأقسام بعد استقلاله عن الغناء والرقص والحركة الموقعة، فلا يصعب تمييزه شطرة شطرة بمقياسه الفتي من البحور والأعاريض إلى الأوتاد والأسباب) (11).
وعلى طبيعة هذا فالنظم الموسيقي للشعر العربي بما يتضمنه من وزن وقافية، جزء من طبيعة هذا الفن، وسمة من اخص سماته الفنية، التي ارتبطت به من زمن بعيد وأغنته عن بعض الفنون الصوتية والحركية كالغناء والرقص . . التي صاحبت أشعار بعض الأمم الأخرى، في مرحلة نشأتها والتي تطور عنها الوزن بعد ذلك (12).
ويعزي العقاد أصالة الوزن في الشعر العربي إلى عاملين ، هما، الغناء المنفردة، وبناء اللغة نفسها على الأوزان.
يقول (إنما الوزن المقسم بالأسباب والأوتاد والتفاعيل والبحور، خاصة عربية نادرة المثال في لغات العالم، وكذلك القافية التي تصاحب هذه الأوزان.
ومرجع ذلك إلى أسباب خاصة، لم تتكرر في غير البيئة العربية الاولى ، أهمها سببان : هما الغناء المنفرد، وبناء اللغة نفسها على الأوزان.
فالأمم التي ينفرد الشاعر فيها بالإنشاد، تظهر القافية في شعرها، لأن السامعين يحتاجون إلى الشعور بموضع الوقوف والترديد، ولكن الجماعة إذا اشتركت في الغناء ، لم تكن بحاجة إلى هذا التنبيه ؛ لأن المغنين جميعاً يحفظون الغناء، بفواصله ولوازمه، ومواضع النبر، والترديد في كلماته فينساقون مع الإيقاع، بغير حاجة إلى القوافي عند نهاية السطور.
وإنما تنشأ الحاجة إلى القافية، او وقفة تشبه القافية ، عند تفاوت السطور وانقسام القوم إلى منشدين ومستمعين )(13).
وليست اهمية الوزن مقصورة على هذه الصلة الوثيقة بين الشعر العربي والنظم وبين اللغة والوزن وحسب ولكنها تتعدى ذلك إلى ناحية فنية تتعلق بمدى ما يتركه الفن الشعري من تأثير في نفوس سامعيه وعقولهم، يفضل هذا العنصر الموسيقي.
وقد فطن إلى هذه الحقيقة بعض المدافعين عن أهمية هذا العنصر الموسيقي في شعرنا العربي من نقادنا المحدثين كالرافعي فقال (وإنما الوزن من الكلام كزيادة اللحن على الصوت، يراد منه إضافة من طرب صناعة النفس، إلى طرب من صناعة الفكر، فالذين يهملون كل ذلك، لا يدكرون شيئاً من فلسفة الشعر، ولا يعلمون أنهم إنما يفسدون أقوى الطبيعتين في صناعته، إذ المعنى قد يأتي نثراً، فلا ينقصه ذلك عن الشعر من حيث هو معنى، بل ربما زاده النثر احكاماً وتفصيلاً وقوة ، بما يتهيأ فيه من البسط والشرح، ولكنه يأتي في الشعر غناء، وهذا ما لا يستطيعه النثر بحال من الأحوال)(14).
ويرى بعض نقادنا المعاصرين، أن لموسيقى الشعر وظيفة أخرى، علاوة على هذه الاثارة النفسية والفكرية، وهي كونها وسيلة من وسائل التعبير والإيحاء.
يقول (وموسيقى الشعر ليست تطريباً فحسب، بل هي وسيلة من وسائل التعبير والإيحاء، لا تقل أهمية عن التعبير اللفظي بل لعلها تفوقه.
ذلك لأن موسيقى الشعر، هي التي تخلق الجو، وهي التي توحي بالظلال الفكرية والعاطفية لكل معنى، وقد تكون تلك الظلال أكثر فاعلية في النفس من المعنى المجرد، بحيث يعتبر ضعف الموسيقى في الشعر، انقاصاً شديداً من قدرته على التعبير والإيحاء) (15).
وبرغم تأكيد بعض الباحثين والنقاد المعاصرين القول بأن ثورة بعض شعرائنا المحدثين على الوزن والقافية ، كتلك التي رأينا صوراً منها، قد تأثرت في دوافعها واتجاهاتها، ببعض اتجاهات الشعر الاوربي الحديث ومذاهبه (16) ، فإن موقف بعض رواد الحركة النقدية الحديثة في أوربا من أهمية هذا العنصر الموسيقي في الشعر، يبدو مطابقاً لموقف ذوي الفطنة من نقادنا القدماء والمحدثين ، الذي عرضنا له آنفاً (17).
ومما يصور هذه الحقيقة قول "كولردج" (إن الوزن هو الشكل المميز للشعر وصفته الجوهرية) (18).
ذلك لأنه لا يتعلق بالشكل الخارجي لهذا الفن وحسب، ولكنه يمس روحه وله كذلك، فهو مرتبط بالمضمون كارتباطه بالشكل.
ومرد هذا، إلى انه "ينبع من حالة التوازن في النفس، التي توجد نتيجة الصراع بين نزعتين متضاربتين ، أولاهما: اطلاق العاطفة المشبوهة بدون قيد ولا شرط.
والثانية : هي السيطرة على هذه العاطفة الثائرة، وذلك عن طريق فرض نظام عليها، او وحدة موسيقية تتكرر بشيء من النظام (19).
ويتفق معه في هذا الرأي "رتشاردز" إذ يرى ان وظيفة الوزن في الشر، ليست تلاعباً بالمقاطع والأصوات (20) ، وإنما هي في الواقع، أبعد من هذا بكثير، وذلك لأنها تعكس شخصية الشاعر، وتصور انفعاله ، وحالته النفسية والشعورية تصويراً دقيقاً.
ويبدو هذا جلياً من قوله (فليس الإيقاع مجرد تلاعب بالمقاطع، وإنما هو يعكس الشخصية بطريق مباشر، وهو لا يمكن فصله عن الألفاظ ، التي تكونه، والنعم المؤثر في الشعر ، لا يصدر إلا عن دوافع، قد انفعلت انفعالاً صادقاً، ولهذا فهو أدق على نظام النزعات (21).
ويقول في موضع آخر مؤكداً هذه الحقيقة ، ومبيناً ان قيمة الوزن وأثره تتوقف على مدى انفعالنا به، واستجابتنا له.
(والوزن شأنه شأن الإيقاع، ينبغي ألا تتصوره على أنه في الكلمات ذاتها، أو في دق الطبول ، فليس للوزن في المنبه ، وإنما هو في الاستجابة " التي تقوم بها) (22).
ولهذا فهو يؤيد وجهة نظر "كولردج" في هذا الصدد ، التي ملخصاً ، أن لوزن يبدو احياناً كما لو كان مخدرا للسامع ، أو منوما له (23).
والقافية على أية حال، جزء لا يتجزأ من الوزن، وهي مرتبطة به أوثق ارتباط.
ذلك أنها بحكم موقعها في نهاية البيت الشعري، تتحكم في إيقافه وتضبطه موسيقيا محكماً ودقيقاً.
وهي لا تعد ضابط الإيقاع في البيت وحده بل في القصيدة كلها.
ولهذا كان القدماء، يعدونها ، حافر الشعر (24).
هي ليست حرفاً واحداً ، او صوتاً واحداً، وإنما هي أكثر من حرف وصوت، فقد تون كلمة او جزء من كلمة (25).
وهي تبنى غالباً على حرف واحد، يسمى بحرف الروي، وهو الذي يتكرر في القصيدة، أما هي فإنها لا تتكرر بلفظها ومعناها، وإن حدث هذا، فإنه يعد عيباً من العيوب الفنية، يؤاخذ عليه الشاعر (26).
ثم إن تكرار حرف الروي في القصيدة، إن فهم مغزاه على حقيقته، فإنه لا يعد عيباً خطيراً أو شيئاً يبعث على الملل.
ذلك لأن الشاعر الصادق ، هو الذي تتطبع انفعالاته وعواطفه على تجربته الشعرية وتتلون هذه التجربة بألوان هذه الانفعالات والعواطف وتصطبغ بصبغتها.
ويبدو هذا واضحاً في كل عنصر من عناصر قصيدته ، سواء أكان لفظاً أم فكرة، ام صورة أم موسيقى.
ومن ثم، فإن تكرار الشاعر لحرف بعينه ، قد يكون له مغزى نفسي عميق فقد يرجع هذا إلى صورة الحرف أو شكله ، أو إلى صوته ، وما يوحي هذا الصوت في نفس الشاعر من إيحاءات نفسية معينة، تعكس شعوراً يسيطر عليه، وهو بصدد ممارسته لتجربته الفنية في هذه القصيدة أو تلك.
أو قد يكون الباعث على ذلك ناحية عضوية، نشأت عن شعور نفسي معين، جعل الشاعر، يستصعب نطق بعض الحروف، ويستسهل نطق اخرى.
وهناك امثلة كثيرة من شعرنا العربي، توضح لنا بجلاء هذه الحقيقة.
من ذلك مثلاً سينية البحتري، التي تصور بوضوح صدق تجربة الشاعر، ومطابقة هذه التجربة لحالته النفسية والشعورية.
ومما يوضح ذلك، قوله في بداية هذه القصيدة :
صنت نفسي عما يدنس نفسي وترفعت عن جداً كل حبس،
وتماسكت حين زعزعني الدهــ ر التماسا منه لتعسي ونكسى.
بلغ من صبابة العيش عندي طففتها الأيام تطفيف بخس .
وبعيد ما بين وارد رفه علل شربه ووارد خمس.
وكان الزمان أصبح محمو لا هواه مع الأخس الأخس (28)
يلاحظ هنا أن السين المكسورة جاءت حرفاً لروي هذه القصيدة ومجيء هذا الحرف بالذات هنا له دلالة نفسية عميقة.
فحرف السين من حروف الصفير، التي تنسل هاربة من بين الأسنان والفم يكاد يكون مغلقاً.
وهذه الظاهرة الصوتية تحدث لمن يحسون بشيء من الجهد والارهاق البدني أو النفسي ، الذي ينعكس على طريقة نطقهم للكلام واختيارهم بطريقة لا شعورية لبضع الحروف والأصوات ، التي تتلاءم وهذا الإحساس الذي ينتابهم (29).
وقد كان هذا الشاعر في حالة نفسية يرثى لها، فقد كثيراً من الروابط التي تربطه بالحياة.
فقد المال والجاه، والصحب والخلال ، وأصبح وحيداً غريباً في وطنه. ومع هذا، فإنه لم يفقد قيمه ومثله العليا، فلم يهن نفسه ولم يذلها لأي نذل أو خسيس ، ولم يتزعزع ويضعف ، بل تماسك ووقف صلباً شامخاً امام هذه التوائب.
ومن ثم، فليس بعجيب ان تأتي السين المكسورة حرف روي لهذه القصيدة ملائمة في نقطها وصوتها الخافت هذا الإحساس وذلك الانكسار النفسي، الذي ينتاب هذا الشاعر ويدفعه كذلك وبطريقة لا شعورية إلى ترديد هذا الحرف في البيتين الأول والثاني من هذه القصيدة أربع مرات.
وشبيه بهذا ، مجيئ السين المكسورة حرف روي كذلك لقصيدة أبي القاسم الشابي "البنى المجهول" التي يعبر من خلالها عن شعوره بالخيبة إزاء شعبه الذي لم يستمع لنصائحه ، ومن ثم، لم يهب من سباته العميق محاولاً تغيير وضعه السياسي والاجتماعي.
وتنكره لشاعره واتهامه له بالسحر والجنون.
ولذا فقد استهل الشابي قصيدته معلنا غيظه من هذا الشعب، ومتمنياً أن يكون حطاباً حتى يتمكن من اقتلاع شجرة الفساد التي ضربت بجذورها البعيدة في أرضه، أو سيلا عارماً يغرق قبور الأحياء من هذا الشعب، أو ريحا، يعصف بكل ما يحاول خنق الزهور الشابة، أو شتاء سخياً، ينضر ما أذبله الخريف من أوراق، أو ان يوهب قوة العواطف والأعاصير ، حتى يتمكن من إبلاغ صوته إلى شعبه الحي الميت.
أيها الشعب ليتني كنت حطا با فأهوى على الجذوع بفأسي.
ليتني كنت كالسيول إذا سا لت تهد القبور رمسا يرمس.
لتني كنت كالرياح فاطوي كل ما يخنق الزهور بنحسي.
ليتني كنت كالشتاء أغثى كل ما أذيل الخريف بقرسي
ليت لي قوة العواطف يا شعــ بي فألقى إليك ثورة نفسي.
ليت لي قوة الأعاصير لكن أنت حي يقضى الحياة برمس (30).
فصوت الشاعر يعلو في أول بيت تقريباً، ولكنه ينخفض ويخفت في نهاية كل بيت، وكأن شعوراً داخلياً هو الذي يدفع الشاعر إلى هذا، مدركاً أنه لا فائدة من ذلك كله، فالشعب لن يسمع، ولن يستجيب، إلى هذا الصراخ، وكيف يسمع وهو معدود من بين الأحياء، لكنه في الواقع ميت !.
ومن ثم، تأتي السين المكسورة معبرة عن هذا الإحساس الذي ينتاب الشاعر إزاء شعبه، ونتيجة لهذا الإعياء الصوتي الذي يحدث له، اثر ما يبذله من جهد عضلي في رفع صوته عالياً، فيما يشبه الصراخ.
ومن ذلك أيضاً، اختيار أبي تمام الراء المضمومة حرف روي لقصيدة له في مدح المعتصم، والتي استهلها بوصف مقدم الربيع.
رقت حواشي الدهي فهي تمرمر وغدا الثرى في حلية يتكسر.
نزلت مقدمة المصيف حميدة ويد الشتاء جديدة لا تكفر.
لولا الذي غرس الشتاء بكفه لاقى المصيف هشائما لا تثمر.
أضحت تصوغ بطونها لظهورها نورا تكاد له القلوب تنور. (31).
فأبو تمام يبدو من خلال هذه الأبيات فرحاً مبتهجا بمقدم الربيع، ومبعث هذا الفرح هو احساسه برقة الحياة والطبيعة من حوله، الذي خلعه عليهما ، فدب فيهما الفرح والسرور.
ومن المظاهر الدالة على ذلك الرقص والتثني، فجوانب الدهر أخذت من فرط فرحها تتمايل وتثنى، وكذا النبات في الثرى الرطب.
وليس هناك حرف من حروف اللغة العربية، أدق رسماً وتصويرا لهذه الحالة النفسية من حرف الراء بما فيه من تقوس وتثن.
ولذا فليس بعجيب ان يردده الشاعر في البيت الأول ست مرات ويأتي حرف روي لقصيدته هذه.
وبناء على هذا كله، يتضح لنا، أن القافية مرتبطة بالحالة النفسية والشعورية للشاعر، شأنها في هذه شأن الوزن.
وهذا الارتباط النفسي عامل هام، من عوامل وحدة موسيقى الشعر بما تتضمنه من وزن وقافية.
ولما كانت القافية ضابط الإيقاع في القصيدة وعنصراً هاماً من عناصر وحدتها الموسيقى ، فإن أي خل يلحق بها، يؤدي إلى زعزعة الوزن وانكساره.
وهذا يفسر لنا ، سر اهتمام القدماء بدراسة العيوب، التي تلحق بالوزن والقافية وتعوقهما عن اداء وظيفتها الفنية (32).
وعلى أية حال، فهذا كله يدلنا دلالة قاطعة على أن الوزن والقافية، يمثلان عنصراً هاماً ، من عناصر الفن الشعري ، وقاعدة من قواعده الفنية الأصلية، ولا فإن تجاهل بعض الشعراء او بعض النقاد المعاصرين، لأهمية هذا العنصر الموسيقي ، يعد اخلالاً بقيمة الشعر باعتباره فنا من الفنون القولية المنغمة والخلط بينه وبين النثر، بحيث يصعب علينا، أن نميز بين ما هو شعر وما هو نثر.
وهذا يكشف لنا عن المغزى الحقيقي وراء استهجان الذوق العربي الحديث والمحافظ بنوع خاص (33) ، لهذا اللون من الشعر الجديد، الذي يغفل هذا العنصر الموسيقي إغفالاً تاماً، وينحو منحى فنيا شبيها بمنحى النثر (34).
والذي ظهر نتيجة لهذه الدعوة الخاطئة للتحرر من هذا العنصر الموسيقي الذي بدا لبعض نقادنا المحدثين ــ كما أشرنا ــ قيدا من القيود الفنية التي تقف عائقاً في سبيل لحاق الشعر بالنثر الحديث في رقيه وتطوره.
ذلك لأن تطور الشعر، لا ينبغي أن يكون عن حساب فقده لأي عنصر من عناصره الفنية.
وقد وضح لنا أن موسيقى الشعر، هي أحد العناصر الفنية الهامة" التي ينهض عليها هذا الفن القولي، وبدونها يصبح فنا أعرج مبتور الساقين.
وقد فطن إلى هذه الحقيقة بعض ذوي الحس الفني الدقيق من عدا التطور والتجديد الشعري في العصر الحديث، حيث اقتصر تجديدهم لهذا العنصر الموسيقي، على تعديله وتطويره، وليس على التخلص منه.
وهذا التعديل يمس الوزن كما يمس القافية.
ويتمثل هذا بوضوح ، في بعض أنماط من الشعر المرسل والشعر الحر، التي بدأت تظهر في الافق النقدي منذ أوائل هذا القرن (35).
فالشائع بين نقادنا المعاصرين، أن اهم خصائص الشعر المرسل ، هي الابقاء على الوزن مع التنويع في القوافي، وأهم خصائص الشعر الحر، هي عدم التزام الوزن التقليدي، والاعتماد على وحدة التفعيلة، بدلا من وحدة البيت، مع التزام القافية أحياناً (36).
وقد مزج بعض ذوي الأصالة الفنية من شعراء مدرسة الشعر الحر المعاصرة في أشعارهم بين هذين النوعين، وأصبح هذا المزج سمة غالبة على أشعارهم (37).
ومما يصور ذلك قصيدة "نازل الملائكة" الخطي المشدود إلى شجرة السرو، وهي قصة عاطفية تصور من خلالها، شعور محب، كان يتوهم ان حبه مات، فذهب إلى دار الحبيبة، ليسأل عنها، وإذا به يفاجأ بنبأ موتها، ومن هول الصدمة، لم يصدق في البداية ووجد نفسه مشدوداً إلى خيط متدل من شجرة سرو في فناء المنزل، فانشغل بتأمل هذا الشيء التافه ، إلى أن عاد إليه وعيه، فانصرف عن التفكير فيه إلى التفكير ، في فداحة مأساته (38).
تقول نازك في بداية هذه القصيدة، معبرة عما كان يدور بخلد هذا المحب وهو في طريقه إلى بيت الحبيبة، ومصورة شعوره الذي خلعه ، على الطبيعة من حوله :
في سواد الشارع المظلم والصمت الأصم .
حيث لا لون سوى لون الدياجي المدلهم.
حيث يرخى شجر الدفلي أساه
قصة حدثني صوت بها ثم اضمحلا.
وتلاشت في الدياجي شفتاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة الحب الذي يحسبه قلبك ماتا.
وهو ما زال انفجاراً وحياة.
وغذا يعصرك الشوق إليا.
وتناديني فتعيى
تضغط الذكرى على صدرك عبثاً
من جنون ثم لا تلمس شيئاً
أي شيء حلم لفظ رقيق
أي شيء ويناديك الطريق
ويرك الليل في الدرب وحيداً تسأل الأمس البعيدا
فتفيق أن يعود ويراك اشارع الحالم والدفلي تسير.
لون عينيك انفجار وحبور
وعلى وجهك حب وشعور
كل ما في عمق أعماقك مرسوم هناك
وأنا نفسي أراك
من مكاني الداكن الساجي البعيد
خلاف عينيك يناديني كسيرا
وترى البيت أخيراً (39).
فهذه القصيدة كما يتضح من هذه الأبيات، تختلف من ناحية الشكل الفني عن القصيدة العربية التقليدية ذات الشطرين، وهي أقرب شبها بالشكل الفني للموشح، إذ أنها مقسمة إلى عدة مقاطع، ويشتمل كل مقطع منها على عدة أسطر، وهي تجري على وزن واحد، هو بحر الرمل، ولكن الشاعر استعاضت هنا عن وحدة البيت. بوحدة التفعيلة، واختلافها كمياً من سطر إلى آخر، فرب سطر يشتمل على أربع تفعيلات، ورب سطر يشتمل على تفعيلتين ، ورب آخر لا يشتمل إلا على تفعيلة واحدة.
والأبيات هنا مقفاة، ولكنها لا تلتزم في ذلك قافية واحدة بل عدة قواف.
فتأتى أحياناً بسطرين على قافية واحدة، ثم بسطرين على قافيتين مغايرتين للقافية السابقة، ثم تأتى بسطر على قافية السطر الأخير، ثم تردفه بسطر آخر على قافية السطر الذي قبله، ومن ثم فتبدو التقفية على هذا النحو متبادلة.
وقد تغير هذا النهج في بعض المقاطع الأخرى، وتجعل لكل سطرين قافية واحدة، ثم تغيرها بعد ذلك.
والتنويع في القوافي يعد من أخص خصائص الشعر المرسل، كما أن التنويع في الكم الصوتي للإيقاع يعد خصيصة من خصائص الشعر الحر.
وعلى هذا يتأكد لنا، ان هذه القصيدة جمعت بين هذين النوعين من الشعر الجديد.
وشبيه بهذا المنهج الفني ، بعض قصائد لصلاح عبد الصبور، منها قصيدته "هجم التتار" التي يقول فيها.
هجم التتار
ورموا مدينتنا العريقة بالدمار
رجعت كتائبنا ممزقة وقد حمى النهار.
الراية السوداء والجرحى وقافلة موات
والطلبة الجوفاء والخطو الذليل بلا التفات
وأكف جندي تدق على الخشب
لحن السغب
والبوق ينسل في انبهار
والأرض حارقة كأن النار في قرصة تدار.
والأفق مختنق الغبار
وهناك مركبة محطمة تدور على الطريق
والخيل تنظر في انكسار
والأذن يلسعها الغبار
والجند أيديهم مدلاة إلى قرب القدم
قمصانهم محنية مصبوغة بتثار دم
والأمهات هربن خلف الربوة الدكناء من هول الحريق
او هول انقضاض الشقوق
او نظرة التتر المحملقة الكريهة في نهم كريه
زحفا الدمار والانكار
وابلدتي هجم التتار !
وقريب من هذا النهج الفني، قصيدة "محمود درويش" ــ أحبك أكثر ــ التي اختار لها بحراً من أبحر الشعر العربي التقليدي وهو بحر المتقارب، وقافية تتكرر كل عدة أسطر، يقول في هذه القصيدة :
تكبر ... تكبر !
فمهما يكن من جفاك
متبقى بعيني ولحمى ملاك
وتبقى كما شاء لي حبنا ان أراك
نسيمك عنبر
وأرضك سكر
وإني احبك اكثر
* * *
يداك خمائل
ولكنني لا أغني
ككل البلابل
فإن السلاسل
تعلمني أن أقاتل
أقاتل .. أقاتل
لأني احبك اكثر
* * *
وجذر الهوى فيك مد
فكيف إذن لا أحبك اكثر
وأن كما شاء لي حبنا أن أراك
نسيمك عنبر
وأرضك سكر
وقلبك أخضر
وإني طفل هواك
على حضنك الحلو
أنمو واكبر (40).
وشبيه بهذا قوله مخاطباً وطنه الجريح ... الذي أصبحت جراحة أوسمة على صدوره، معبراً عن تفاؤله بمستقبل مشرق، بالرغم مما يعانيه هذا الوطن من آلام ، وما أصابه من نكبات :
يقول تحت عنوان "لا تنامي حبيبتي " :
عندما يسقط القمر
كالمرايا المحطمة
يكبر الظل بيننا
والأساطير تختصر
لا تنامي حبيبتي
جرحنا صار أوسمة
صار وردا على قمر
* * *
خلف شباكنا نهار
وذراع من الرضا
عندما لفنى وطار
خلت أني فراشة
في قناديل جلنار
وشفاه من الندى
حاورتني بلا جوار
لا تنامي حبيبتي
خلف شباكنا نهار
* * *
سقط الورد من يدي
لا عبير، ولا خدر
لا تنامي حبيبتي
العصافير تنتحر
ورموشي سنابل
تشرب الليل والقمر
صوتك الحلو قبلة
وجناح على وتر
غصن زيتونة بكى
في المنافي على حجر
باحثا عن أصوله
وعن الشمس والمطر
لا تنامي حبيبتي
العصافير تنتحر
عندما يسقط القمر
كالمرايا المحطمة
يشرب الظل عارنا
ونداري قرارنا
عندما يسقط القمر
يصبح الحب ملحمة
لا تنامي حبيبتي
جرحنا صار أوسمة
وبدانا على الدجى
عندليب على وتر (41)
والواقع ان هذا النمط من الشعر الجديد ، الذي يمزج بين بعض خصائص الشعر المرسل، وبعض خصائص الشعر الحر، على النحو الذي رأينا، يعد امتداداً لأنماط شعرية أخرى، سبقته إلى الوجود، ولكنها لم تأخذ حظها من النضج الفني (42).
ومع أن موسيقى هذا النوع منا الشعر الحر، لا تختلف عن موسيقى شعرنا العربي التقليدي إلا في التنويع النغمي للإيقاع ، فإن تأثيرها في نفوس السامعين، لا يصل إلى مدى ما يصل إليه تأثير موسيقى شعرنا التقليدي، ذات الصوت القوي والإيقاع المنتظم.
وذلك لما يتميز به من وحدة الإيقاع، ووحدة النغمة في القصيدة كلها وهذا على العكس من موسيقى الشعر الحر، التي تبدو خافتة الصوت ومفككة الإيقاع وغير قادرة على إحداث هذه الوحدة النغمية داخل القصيدة، لأن تنوع قافيتها ، وتنوع إيقاعها ، يحولان دون ذلك ، ولا يؤديان إلى وحدة عامة في النغمة.
ومن ثم، فإن موسيقى الشعر الحر، على النحو الذي رأينا، تبدو اكثر شبها بموسيقى النثر، ذات الإيقاع المتعدد والقوافي المتنوعة (43).
ولذا فقد كانت الموضوعات النثرية، هي اكثر موضوعات الفن الادبي ملاءمة لهذا النوع من الشعر، حتى إن بعض المتعاطفين معه من معاصرينا، يرون أنه لا يصلح، إلا لتناول مثل هذه الموضوعات ، وبعض الفنون الخارجية عن دائرة الشعر الغنائي (44).
فقد تمثلت المحاولات الاولى لكتابة هذا الفن الشعري، في مطلع نهضتنا الأدبية الحديثة في صياغة بعض الموضوعات النثرية في قالب نظمى، كترجمة بعض أسفار التوراة في قالب موزون بيد انه متعدد القوافي (45).
أو كتابة بعض القصص والمسرحيات في قالب نظمى متنوع القافية (46)، أو ترجمة بغض فنون الشعر الملحمي في قالب نظمى يجمع بين بعض خصائص الشعر المرسل، وبعض خصائص الشعر الحر.
مثل ترجمة البستاني للإلياذة التي مزج فيها بين خصائص هذين النوعين من الشعر الجديد.
فقد استعمل في نظمه لها اكثر من وزن، كما نوع في قوافيها ، معتبراً النشيد قصيدة قائمة بذاتها، ولكن قد ينتظمها بحر أو اكثر، وقد تقفى بأكثر من قافية، وقد تلتزم القافية الموحدة في نهاية بعض الموضوعات (47).
ومما يوضح ذلك قوله مثلاً، في النشيد الثالث :
نظم القواد سرى الجند
بحما الجيشين على الحد
زحف الطروادة عن بعد
بصديد عال مشتد
ودوي يقصف كالرعد
كالرهو إذا اشتد المطر
والقر مواطنة يذر
في الجو تعج له زمر
فوق الأقيانس تنتشر
للبغمة محكمة الحشد
فيعم الفتك بحملتها
أما الاغريق بجملتها
فمشيت بثقيل سكينتها
آلت والنفس بحدتها
تتعاضد واريد الزند
وقد يبدو هذا النمط من النظم شبيها ببعض أنماط الموشح.
ومصداقاً لهذا قوله ، وهو بصدد الحديث عن اتجاهه الفني في نظمه. لنصوص الالياذة التي ترجمها إلى العربية.
(ووسعت لنفسي في استنباط ضروب غير مطروقة، ولكنني لم اخرج بشيء منها، عن أصول الشعر واللغة، فاستعملت النظم الشائع من قصائد وتخاميس، وأراجيز، وسلكت مسالك اخرى، دعوتها بأسماء رأيتها تنطبق عليها وهي المثنى والمربع . . ، والموشح (48).
والواقع أن كثيراً من رواد الحركة الشعرية الجديدة، من أصحاب الشعر المرسل، وبعض ذوي الأصالة الفنية من أصحاب الشعر الحر، لم يبعدوا كثيراً عن الأصول الفنية لنظم الشعر العربي.
وذلك لوجود صلة فنية واضحة بين بعض انواع من نظمهم، وبعض انواع من نظم الشعر العربي.
فبعض أنماط الشعر المرسل، وكذا بعض أنماط الشعر الحر، التي أشرنا إليها، تعد امتداداً لبعض فنون النظم العربي، التي استحدثت في القرن الثاني وتوسع فيها بعض المتأخرين ، وأضافوا إليها فنونا جديدة.
كفن المزدوج ، الذي استعمله بعض شعراء القرنين الثاني والثالث في كتابة بعض الأغراض المستحدثة في الشعر العربي ، كالشعر التعليمي ، والشعر القصصي ، أو التاريخي
ولعل من أشهر هذه المزدوجات ، مزدوجة أبان اللاحقي، الذي نظم فيها كتاب كليلة ودمنة شعراً وقد استهلها بقوله :
هذا كتاب أدب ومحنة
وهو الذي يدعى كليلة ودمنة
فيه دلالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته الهند
فوضعوا آداب كل عالم
حكاية عن ألسن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله
والسخفاء يشتهون هزله (49)
ومن ذلك أيضاً أرجوزة أبي العتاهية في الزهد، التي تضمنت أربعة آلاف مثل كما يقولون (50).
ومما جاء فيها قوله :
حسبك ما تبغته القوت
ما اكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا
من اتقى الله رجا وخافا
إن كان لا يغنيك ما يكفيكا
فكل ما في الأرض لا يغنيكا
إن القليل بالقليل يكثر
إن الصفاء بالقذى ليكدر (51).
ومن قبيل ذلك أيضاً أرجوزة عبد الله بن المعتز في تاريخ المعتضد (52).
وتعد بعض هذه الانماط من الشعر الجديد، امتداداً كذلك لفن المربع، والمخمس، والمسمط، والموشح بأنواعه وأنماطه المختلفة (53).
ولذا فليس بعجيب ، ان نرى بعض رواد المدرسة الشعرية المحافظة كشوقي، ومن نحا نحوه، يستعملون أنماطاً من الشعر المرسل والشعر الحر، في كتابة بعض الفنون الشعرية الخارجية عن دائرة الشعر الغنائي، كالشعر المسرحي.
ومما يدل على صحة ذلك، استعمال "شوقي" لبعض انماط من الشعر المرسل في كتابة بعض مسرحياته ، كمسرحية "قمبيز" مثلاً، التي نوع في أبحرها وقوافيها ومزج بذلك بين بعض خصائص الشعر المرسل، وبعض خصائص الشعر الحر.
ويظهر أنه أسرف في تنويع الأوزان والقوافي في هذه المسرحية، حتى إنه كان يصنع هذا في الموقف الواحد، والمشهد الواحد، دون وجود ضرورة نفسية أو فنية، تدعو إلى ذلك.
مما دفع ناقداً كالعقاد إلى اتهامه له بالفشل والسقوط في نظم هذا العمل الادبي. ويتضح هذا من قوله (وأيا كان اعتذار الشاعر في تغيير الأوزان موقفاً بعد موقف فما نخال أحداً يعذره، حين يغير الوزن في البيتين الأثنين، يلقى بهما الممثل والممثلان في الحوار الواحد .. ، فإن احد البيتين من بحر وقافية، وإذا البيت الثاني من بحر آخر وقافية أخرى.
نعم إلى هذا الدرك من الخلل والاسفاف هبط شوقي في نظم الرواية (54).
وسواء أكان العقاد على صواب في هذا الاتهام، ام لم يكن على صواب، فالذي يعنينا هنا أمور اخرى غير هذا الأمر.
لعل من اهمها، تأكيد القول بأن الشعراء المحافظين ، قد أسهموا مع المجددين ، في كتابة بعض انماط من الشعر المرسل، والشعر الحر، التي لا تبعد كثيراً، عن الأصول الفنية لنظم الشعر العربي، هذه ناحية.
واخرى وهي ان موضوعات الشعر المرسل، المتنوع القافية، والشعر الحر المتنوع الوزن، هي اما موضوعات خارجة عن دائرة الشعر الغنائي الذاتي وطبيعته الفنية، أو موضوعات نثرية.
ولذا فإن دخولها ميدان هذا الشعر، قد ادى إلى تغيير في إطاره الموسيقي كي يتسع لتناول هذه الموضوعات، ومن هذا طرأ على موسيقى هذا الشعر، شيء من التعديل والتطوير.
ويبدو ان هذا كان أحد الأسباب ، التي أدت إلى نشأة فن المزدوج، في شعرنا العربي، وذلك لأن موضوعات هذا الشعر كانت خارجة عن ميدان الشعر الغنائي كما أشرنا.
والواقع أن ظهور المزدوج ، وما على شاكلته من الفنون الشعرية، الخارجة عن طبيعة النظم المألوف للشعر العربي، الذي يتميز بوحدة الوزن و القافية، لم يؤد إلى إحلال هذه الفنون المستحدثة، محل هذا النظم المألوف. بإيقاعه الموسيقي ذي النغمة الواحدة، وإنما ظل هذا النظم، كما يبد للمتصفح لتراثنا الشعري عبر تاريخه الطويل، السمة الغالبة على الشكل الموسيقي للقصيدة العربية حتى عصور الانحطاط الأدبي.
واقتصرت هذه الفنون المستحدثة على تناول الموضوعات الخارجة عن طبيعة موضوع الشعر العربي.
وهذا ما حدث بالفعل في العصر الحديث، فقد كان مجال هذا النوع من الشعر في العصر الحديث محدوداً، وقد اقتصر في بداية ظهوره على تناول موضوعات نثرية، أو موضوعات خارجة عن ميدان الشعر الغنائي، كما مر بنا.
يضاف إلى ذلك أن ظهور هذه الانماط الشعرية الجديدة في أدبنا الحديث سواء ما يتصل منها بتراثنا، ام لم يتصل به، لم يؤد إلى الغاء. الشكل الموسيقي المألوف للنظم العربي، بما يتميز به من وحدة الوزن والقافية.
وظل هذا الشكل الموسيقي ، سمة من سمات الفن الشعري الأصيل.
وقد أثبتت التجاري حتى لأولئك الشعراء الثائرين على هذا الشكل الموسيقى صدق ذلك (55).
وهذا يفسر لنا ، سر تراجع بعض رواد الشعر الجديد عن دعوتهم إلى التحرر من الوزن والقافية سواء في عالمنا العربي، ام في العالم الأوربي (56).
وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على صحة القول بأن موسيقى الشعر، عنصر أصيل من عناصر هذا الفن، وجزء من طبيعته الفنية، التي تقاس من بين ما تقاس به، بمقدار ما يتوافر لها من هذا العنصر الموسيقي.
ولذا فكلما ابتعد هذا العنصر عن موسيقى الشعر، واقترب من موسيقى النثر قل تأثيره في نفوس سامعيه، وعجز تبعاً لذلك عن أداء وظيفته.
ومن ثم، فليس بغريب أن يرفض ذوو الأصالة الفنية من نقادنا المحدثين تلك التجارب الجديدة، التي تحاول كتابة الشعر على إيقاع نثري.
وعلى أية حال، فمهما كانت النتائج التي ترتبت على الدعوة إلى الخروج على الوزن والقافية، أو التحرر منهما، في مطلع نهضتنا الأدبية الحديثة، فإنها كانت كما رأينا ، عدوى انتقلت من النثر إلى الشعر، نظراً لطغيان النثر على الحياة الأدبية والشعر في هذه الفترة، الذي يبدو أنه لم يقف عند حدود الشكل الموسيقي لها الفن الأدبي، وبل تعداه إلى موضوعه ومضمونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ثورة الأدب ص52.
(2) الغربال ص402.
(3) ديوان الزهاوي جـ1 ص3.
(4) المرجع السابق ص4.
(5) وذلك في عام 1947 م، وهو الذي شهد ميلاد أول قصيدة لها في ذلك: راجع: قضايا الشعر المعاصر ص21.
(6) مقدمة شظايا ورماد ص6.
(7) وذلك أول عهدها بكتابة الشعر الحر، لأنها عدلت عن هذا الرأي بعد ذلك وطالبت بضرورة الالتزام بالقافية: راجع الهامش قبل الأخير من هذا الفصل رقم 56.
(8) مقدمة شظايا ورماد ص16.
(9) العمدة جـ 1 ص134.
(10) سر الفصاحة ص271.
(11) حياة قلم ص274 طـ بيروت ، ص195 طـ : دار المعارف.
(12) فهناك ارتباط بين نشأة الوزن والرقص في أشعا كثيرة من الأمم. راجع مثلاً رأي رتشاردز في ها، مبادئ النقد الأدبي ص200.
(13) حياة قلم ص284 طـ بيروت ، ص196 طـ : دار المعارف.
(14) وحي القلم جـ 3 ص285.
(15) الشعر المصري بعد شوقي ج3 ص385.
(16) النقد الأدبي الحديث لغنيمي هلال ص473 ، حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي ص10 ، قضايا الشعر المعاصر لنازل الملائكة ص160.
(17) وربما يرجع ذلك في ظني إلى تأثر الشعر الاوربي في المصور الوسطي، ببعض خصائص وسمات الشعر العربي راجع في ذلك :
Warton, History of English poetry , V, I , P , a
(18) كولدرج لمصطفى بدوي ص198.
(19) المرجع السابق ص198.
(20) مبادئ النقد الأدبي ص194 – 195.
(21) العلم والشعر ص48-49.
(22) مبادئ النقد الأدبي ص194.
(23) المرجع السابق ص198 – 199.
(24) منهاج البلغاء ص271.
(25) راجع تعريف النقاد العرب للقافية، العمدة جـ1، ص151 ــ 152 ، مفتاح العلوم ص 208.
(26) طبقات فحول الشعراء ص560 طـ : الأولى ، العمدة جـ 1 ص170.
(27) راجع ما كتبه إبراهيم أنيس عن الجرس في اللفظ الشري: موسيقى الشعر ص21-44.
(28) ديوان البحتري جـ 2 ص1152 – 1153 طـ : دار المعارف بمصر.
(29) موسيقى الشعر ص32-33.
(30) أغاني الحياة ص 102 ط : دار الكتب الشرقية بتونس.
(31) ديوان أبي تمام جـ ص194 – 195 ، دار المعارف بمصر.
(32) راجع في ذلك مثلاً مقدمة الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء ص14 – 26، طبقات فحول الشعراء ص57-62 ، العمدة جـ 1 ص168 – 170.
(33) راجع في ذلك وحي القلم للرافعي جـ 3 ص381 ، وحياة قلم للعقاد ص316.
(34) ويطلق على هذا النمط من الفن التعبيري، اسم الشعر المنثور ويعزى ظهوره إلى أوائل هذا القرن، على يد أمين الرياحني وبعض شعراء المهجر. راجع الاتجاهات الأدبية ص421.
(35) يكاد يتفق النقاد والباحثون والمعاصرون على أن البداية الحقيقية لكتابة الشعر المرسل، ترجع إلى أوائل هذا القرن، ويعزى الفضل في ذلك إلى ثلاثة من الشعراء الكبار آنذاك، وهم الزهاوي، والبكري، وعبد الرحمن شكري.
أما البداية الحقيقية لكتابة الشعر الحي، فترجع إلى الربع الأول من هذا القرن، ويعزى الفضل في ذلك إلى أحمد زكي أبو شادي وجماعة أبولو.
راجع: حركات التجديد في موسيقى الشعر ص17 ، 73 ، 74 ، أبو شادي وحركة التجديد في الشعر العربي الحديث ص286 ــ 304.
(36) راجع موسيقى الشعر ص153 ، حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي ص64 ، ص 129 – 132.
(37) مثل نازك، والسياب وصلاح عبد الصبور ، والبياتي.
(38) ديوان شظايا ورماد ص22-23 ، وراجع تحليل بعض نقدنا المعاصرين لهذه القصيدة ، اتجاهات الشعر المعاصر ص 37-42.
(39) انظر القصيدة كاملة في المرجع السابق ص185-194.
(40) آخر الليل ص107-109.
(41) المرجع السابق ص33-34.
(42) لمعرفة الانماط المختلفة للشعر المرسل والشعر الحر، راجع: حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي ص129-131.
(43) لمزيد من الإيضاح راجع ما كتبته عن ...... والإيقاع في الكتاب الاول.
(44) قضايا الشعر المعاصر ص33 ، الأدب وفنونه لمندور، حركات التجديد في موسيقى الشعر العربي ص16-17.
(45) وهذه المحاولة تنسب إلى الكتاب اللبناني رزق الله حسون (1986م) . راجع حركات التجديد في موسقى الشعر العربي ص19-20.
(46) كصنيع خليل مطران وشوقي وعلى أحمد باكثير وفريد أبو حديد، في بعض قصائدهم ومسرحياتهم الشعرية.
(47) مقدمة ترجمة الباذة ، هيمروس " البستاني ص94-102 ، الناشر، دار احياء التراث العربي ــ بيروت.
(48) المرجع السابق ص102 – 104.
(49) كتاب الأوراق جـ1 ص47.
(50) انظر هذه الأرجوزة كاملة في ديوان أبي العتاهية ص385 – 388 ، طـ : لويس شيخو.
(51) ديوان أبي العتاهية ص493 – 494ط : دار صادر ــ بيروت.
(52) ديوان ابن المعتز جـ 2 ص5-29 ط: دار بمصدر.
(53) راجع الخصائص النظمية لهذه الفنون في العمدة جـ1 ص17 ، ومقدمة ابن لدون ص549.
(54) رواية تمييز في الميزان للعقاد (ضمن مجموعة أعلام الشعر، الناشر :دار الكتاب العربي ــ بيروت) ص400.
(55) ويتضح هذا من قول نازل الملائكة ، بعد ممارسة طويلة لكتابة الشعر الحر ، (والحقيقة أن القافية ركن مهم في موسيقية الشعر الحر، لأنها تحدث رتبنا، وتثير في النفس أنغاماً وأصداء ، وهي فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر
والشعر الحر أحوج ما يكون إلى الفواصل بعد أن أغرقوه بالنثرية الباردة ، قضايا الشعر المعاصر ص163).
(56) راجع مقدمة ديوان شجرة القمر لنازل الملائكة ص14، قضايا الشعر المعاصر ص34 فن الشعر لإحسان عباس ص95.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|