إنما شبهت هذه بليس في العمل لمشابهتها إياها في المعنى. وإنما أفردت عن باب كان لأنها حروف وتلك أفعال (إِعْمَالَ لَيْسَ أْعْمِلَتْ مَا) النافية نحو ما هذا بشراً وما هنَّ أمهاتهم، وهذه لغة الحجازيين وأهملها بنو تميم وهو القياس لعدم اختصاصهم بالأسماء. ولإعمالها عند الحجازيين شروط أشار إليها بقوله:(دَونَ إِنْ مَعَ بَقَا الْنَّفْيِ وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ) أي علم. فإن فقد شرط من هذه الشروط بطل عملها نحو ما إن زيد قائم فما حرف نفي مهمل وإن زائدة وزيد مبتدأ وقائم خبره. ومنه قوله:
بَنِي غُدَانَةَ مَا إِنْ أَنْتُمُ ذَهَبٌ وَلاَ صَرِيِفٌ وَلَكِنْ أَنْتُمُ الْخَزَفُ
وأما رواية يعقوب بن السكيت ذهباً بالنصب فمخرَّجة على أن إن مؤكدة لما لا زائدة وكذا إذا انتقض النفي بإلا نحو: {وما محمد إلا رسول} (آل عمران: 144)، فأما قوله:
وَمَا الْدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوْنَاً بِأَهْلِهِ وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبَا
فشاذ أو مؤوَّل. وكذا يبطل عملها إذا تقدم خبرها على اسمها نحو ما قام زيد. ومنه قوله:
وَمَا خُذَّلٌ قَوْمِي فَأَخْضَعَ لِلعِدَا وَلَكِنْ إذَا أَدْعُوْهُمُ فَهُمُ هُمُ
وأما قول الفرزدق:
فَأَصْبَحُوْا قَدْ أَعَادَ اللَّهُ نِعْمَتَهُمْ إذْ هُمْ قُرَيْشٌ وَإذْ مَا مِثْلُهُمْ بَشَرُ
فشاذ وقيل غلط سببه أنه تميمي وأراد أن يتكلم بلغة الحجاز، ولم يدر أن من شروط النصب عندهم بقاء الترتيب بين الاسم والخبر وقيل مؤول.
ص126
تنبيهان: الأول قال في التسهيل: وقد تعمل متوسطاً خبرها وموجباً بإلا وفاقاً لسيبويه في الأول وليونس في الثاني. الثاني اقتضى إطلاقه منع العمل عند توسط الخبر ولو كان ظرفاً أو مجروراً. قال في شرح الكافية: من النحويين من يرى عمل ما إذا تقدم خبرها وكان ظرفاً أو مجروراً وهو اختيار أبي الحسن بن عصفور (وَسَبْقَ حَرْفِ جَر) مع مجروره (أَوْ ظَرْفٍ) مدخولي ما مع بقاء العمل (كَمَا بِي أَنْتَ مَعْنِيّاً) وما عندك زيد قائماً (أجَازَ العُلَمَا) سبق مصدر نصب بالمفعولية لأجاز مضاف إلى فاعله، والمراد أنه يجوز تقديم معمول خبر ما على اسمها إذا كان ظرفاً أو مجروراً كما مثل. ومنه قوله:
بِأُهْبَةِ حَزْمٍ لُذْ وَإِنْ كُنْتَ آمِناً فَمَا كُلَّ حِيْنِ مَنْ تُوالِي مُوَالِيَا
فإن كان غير ظرف أو مجرور بطل العمل نحو ما طعامك زيد آكل. ومنه قوله:
وَقَالُوْا تَعَرَّفْهَا الْمَنِازِلَ مِنْ مِنىً وَمَا كُلَّ مَنْ وَافَى مِنًى أنَا عَارِفُ
وأجاز ابن كيسان بقاء العمل والحالة هذه (وَرَفْعَ مَعْطُوفٍ بِلَكِنْ أوْ بِبَلْ مِنْ بَعْدِ) خبر (مَنْصُوْبٍ بِمَا) الحجازية (الزَمْ حَيْثُ حَلْ) رفع مصدر نصب بالمفعولية لا لزم مضاف إلى مفعوله، والفاعل محذوف، والتقدير الزم رفعك معطوفاً بلكن أو ببل إلى آخره. وإنما وجب الرفع لكونه خبر مبتدأ مقدر. ولا يجوز نصبه عطفاً على خبر ما لأنه موجب وهي لا تعمل في الموجب، تقول ما زيد قائماً بل قاعد، وما عمرو شجاعاً لكن كريم، أي بل هو قاعد ولكن هو كريم. فإن كان العطف بحرف لا يوجب كالواو والفاء جاز الرفع والنصب نحو ما زيد قائماً ولا قاعد ولا قاعداً. والأرجح النصب.
ص127
تنبيه: قد عرفت أن تسمية ما بعد بل ولكن معطوفاً مجاز إذ ليس بمعطوف، وإنما هو خبر مبتدأ مقدر، وبل ولكن حرفا ابتداء (وَبَعْدَ مَا) النافية (وَلَيْسَ جَر البَا) الزائدة (الْخَبَرْ) كثيراً نحو: {وما ربك بظلام} (فصلت: 46)، {أليس الله بكاف عبده} (الزمر: 36) (وَبَعْدَ لاَ) النافية (وَنَفْيِ كَانَ) وبقية النواسخ (قَدْ يُجَرْ) قليلاً. من ذلك قوله:
فَكُنْ لِيَ شَفِيْعَاً يَوْمَ لاَ ذُوْ شَفَاعَةٍ بِمُغْنٍ فَتِيْلاً عَنْ سَوَادِ ابنِ قَاربِ
وقوله:
وَإِنْ مُدَّتِ الأَيْدِي إلَى الْزَّادِ لَمْ أَكُنْ بِأَعْجَلِهمْ إذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ
وقوله:
دَعَانِي أَخِي وَالْخَيْلُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَلَمَّا دَعَانِي لَمْ يَجِدْنِي بِقُعْدَدٍ
وربما أجروا الاستفهام مجرى النفي لشبهه إياه كقوله:
يَقُوْلُ إذَا اقْلَوْلَى عَلَيْهَا وَأَقْرَدَتْ أَلاَ هَلْ أَخُوْ عَيْشٍ لَذِيْذٍ بِدَائِم
وَنَدر في غير ذلك كخبر إنَّ ولكن وليت في قوله:
فَإِنْ تَنْأَ عَنْهَا حِقْبَةً لاَ تُلاقِهَا فإنَّكَ مِمَّا أحْدَثَتْ بِالْمُجَرِّبِ
وقوله:
وَلَكِنَّ أَجْرَاً لَوْ فَعَلْتَ بِهَيِّنٍ وَهَلْ يُنْكَرُ الْمَعْرُوْفُ فِي النَّاسِ وَالأَجْرُ
وقوله:
لاَ لَيْتَ ذَا العَيْشِ اللَّذِيْذِ بِدَائِمٍ
على إحدى الروايتين. وإنما دخلت في خبر إن في قوله: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر} (الأحقاف: 33)، لأنه في معنى أو ليس الله بقادر.
ص128
تنبيهات: الأول لا فرق في دخول الباء في خبر ما بين أن تكون حجازية أو تميمية كما اقتضاه إطلاقه وصرح به في غير هذا الكتاب. وزعم أبو علي أن دخول الباء مخصوص بالحجازية وتبعه على ذلك الزمخشري وهو مردود، فقد نقل سيبويه ذلك عن تميم وهو موجود في أشعارهم فلا التفات إلى من منع ذلك. الثاني اقتضى إطلاقه أيضاً أنه لا فرق في ذلك بين العاملة والتي بطل عملها بدخول إن، وقد صرح بذلك في غير هذا الكتاب. ومنه قوله:
لَعَمْرُكَ مَا إِنْ أَبُوْ مَالِكٍ بِوَاهٍ وَلاَ بِضَعِيْفٍ قُوَاهْ
الثالث اقتضى إطلاقه أيضاً أنه لا فرق في لا بين العاملة عمل ليس كما تقدم والعاملة عمل إن، نحو قولهم: لا خير بخير بعده النار أي لا خير خير(فِي النَّكِرَات أُعْمِلَت كَلَيْسَ لاَ) النافية بشرط بقاء النفي والترتيب على ما مر، وهو أيضاً خاص بلغة الحجاز دون تميم. ومنه قوله:
تعَزَّ فَلا شَيْءٌ عَلَى الأرْضِ بَاقِيَا وَلاَ وَزَرٌ مِما قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
تنبيهات: الأول ذكر ابن الشجري أنها أعملت في معرفة، وأنشد للنابغة الجعدي:
وَحَلَّتْ سَوَادَ الْقَلْبِ لاَ أَنَا بَاغِيَا سِوْاهَا وَلاَ عَنْ حُبِّهَا مُتَرَاخِيَا
ص129
وتردد رأي الناظم في هذا البيت، فأجاز في شرح التسهيل القياس عليه، وتأوله في شرح الكافية فقال يمكن عندي أن يجعل أنا مرفوع فعل مضمر ناصب باغياً على الحال تقديره لا أرى باغياً، فلما أضمر الفعل برز الضمير وانفصل. ويجوز أن يجعل أنا مبتدأوالفعل المقدر بعده خبراً ناصباً باغياً على الحال. ويكون هذا من باب الاستغناء بالمعمول عن العامل لدلالته عليه ونظائره كثيرة منها قولهم حكمك مسمطاً، أي حكمك لك مسمطاً أي مثبتاً، فجعل مسمطاً وهو حال مغنياً عن عامله مع كونه غير فعل، فأن يعامل باغياً بذلك وعامله فعل أحق وأولى، هذا لفظه. الثاني اقتضى كلامه مساواة لا لليس في كثرة العمل وليس كذلك، بل عملها عمل ليس قليل حتى منعه الفراء ومن وافقه، وقد نبه عليه في غير هذا الكتاب. الثالث الغالب على خبر لا أن يكون محذوفاً حتى قيل إن ذلك لازم كقوله:
مَنْ صَدَّ عَنْ نِيْرَانِهَا فأنا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ
أي لا براح لي. والصحيح جواز ذكره كما تقدم (وَقَدْ تَلِي لاَتَ وَإِنْ ذَا الْعَمَلاَ) المذكور أما لات فأثبت سيبويه والجمهور عملها، ونقل منعه عن الأخفش. وأما إن فأجاز إعمالها الكسائي وأكثر الكوفيين وطائفة من البصريين، ومنعه جمهور البصريين. واختلف النقل عن سيبويه والمبرد، والصحيح الإعمال فقد سمع نثراً ونظماً، فمن النثر قولهم: إن أحد خيراً من أحد إلا بالعافية. وجعل منه ابن جني قراءة سعيد بن جبير: {إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم} (الأعراف: 194)، على أن إن نافية رفعت الذين ونصبت عباداً أمثالكم
خبراً ونعتاً. والمعنى ليس الأصنام الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم في الاتصاف بالعقل، فلو كانوا أمثالكم وعبدتموهم لكنتم بذلك مخطئين ضالين، فكيف حالكم في عبادة من هو دونكم بعدم الحياة والإدراك؟ ومن النظم قوله:
إِنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ الْمَجَانِينِ
ص130
وقوله:
إِنْ الْمَرءُ مَيْتاً بِانْقِضَاءِ حَيَاتِهِ وَلَكِنْ بِأَنْ يُبْغَى عَلَيْهِ فَيُخْذَلاَ
وقد عرفت أنه لا يشترط في معموليها أن يكونا نكرتين (وَمَا لِلاَتَ فِيْ سِوَى) اسم (حِيْنٍ) أي زمان (عَمَلْ) بل لا تعمل إلا في أسماء الأحيان نحو حين وساعة وأوان. قال تعالى: {ولات حين مناص} (ص: 3). وقال الشاعر:
نَدِمَ الْبُغاةُ وَلاَتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ
وقال الآخر:
طَلَبُوْا صُلْحَنَا وَلاَتَ أوَانٍ فَأجَبْنَا أنْ لَيْسَ حِيْنَ بَقَاءِ
أي وليس الأوان أوان صلح، فحذف المضاف إليه أوان منوي الثبوت، وبني كما فعل بقبل وبعد، إلا أن أواناً لشبهه بنزال وزناً بني على الكسر ونون اضطراراً. وأما قوله:
لَهَفِي عَلَيْكِ لِلَهْفَةٍ مِنْ خَائِفٍ يَبْغِيْ جِوَارَكِ حِيْنَ لاَتَ مُجِيْرُ
فارتفاع مجير على الابتداء أو الفاعلية، أي لات يحصل مجير أو لات له مجير. ولات مهملة لعدم دخولها على الزمان.
تنبيه: للنحويين في لات الواقع بعدها هنا كقوله:
حَنَّتْ نَوَارُ وَلاَت هُنَّا حَنَّتِ
ص131
مذهبان. أحدهما أن لات مهملة لا اسم لها ولا خبر. وهنا في موضع نصب على الظرفية لأنه إشارة إلى المكان. وحنت مع أن مقدرة قبلها في موضع رفع بالابتداء، والتقدير حنت نوار ولات هنالك حنين وهذا توجيه الفارسي. والثاني أن تكون هنا اسم لات وحنت خبرها على حذف مضاف، والتقدير وليس الوقت وقت حنين. وهذا الوجه ضعيف لأن فيه إخراج هنا عن الظرفية وهي من الظروف التي لا تتصرف، وفيه أيضاً إعمال لات في معرفة وإنما تعمل في نكرة. واختصت لات بأنها لا يذكر معها معمولاها معاً، بل لا بد من حذف أحدهما (وَحَذْفُ ذِي الْرَّفْعِ) منهما وهو الاسم (فَشَا) فتقدير ولات حين مناص ولات الحين حين مناص، أي وليس الوقت وقت فرار، فحذف الاسم وبقي الخبر (وَالْعَكْسُ قلْ) جداً قرأ بعضهم شذوذاً{ولات حين مناص} (ص: 3)، برفع حين على أنه اسمها والخبر محذوف، والتقدير ولات حين مناص لهم، أي كائناً لهم.
خاتمة: أصل لات لا النافية زيدت عليها تاء التأنيث كما في ربت وثمت، قيل ليقوى شبهها بالفعل، وقيل للمبالغة في النفي كما في نحو علامة ونسابة للمبالغة. وحركت فرقاً بين لحاقها الحرف ولحاقها الفعل، وليس لالتقاء الساكنين بدليل ربت وثمت فإنها فيهما متحركة مع تحريك ما قبلها. وقيل أصلها ليس قلبت الياء ألفاً والسين تاء، وهو ضعيف لوجهين: الأول أن فيه جمعاً بين إعلالين وهو مرفوض في كلامهم لم يجيء منه إلا ماء وشاء، ألا ترى أنهم لم يدغموا في يطد ويتد فراراً من حذف الواو التي هي الفاء وقلب العين إلى جنس اللام. والثاني أن قلب الياء الساكنة ألفاً وقلب السين تاء شاذان لا يقدم عليهما إلا بدليل ولا دليل والله أعلم.
ص132