أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-11-2020
2507
التاريخ: 5-12-2021
4223
التاريخ: 16-2-2022
3363
التاريخ: 17-2-2022
2138
|
بين الأسباب الرائجة وروايات أهل البيت عليه السّلام
برزت حاجة المجتمع للأسباب في ظرف افتقد فيه المصدر المباشر لنقلها ، في هذا الظرف لجأ العامّة إلى من تيسّر وتوفّر من التابعين ، فيما لجأ أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السّلام إلى بيت العصمة والطهارة المتمثّل في أئمّتهم ، وتلقّوا منهم الروايات في أسباب النزول ، بما ينسجم مع منظومتهم الفكريّة والعقائديّة ، التي تعتقد بأنّهم معصومون يمثّلون امتدادا لخطّ الرسالة ، ويشكّل امتدادهم امتدادا لعصر النصّ ، وأنّ ما يروونه فإنّما يرويه الواحد منهم عن أبيه عن جدّه عن الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن جبريل عن اللّه ، وهو ما يميّز المدرسة الشيعيّة :
مدرسة أهل البيت عليهم السّلام .
وهذا التقسيم سيضطّرنا إلى الحديث عن نوعين من أسباب النزول :
الأسباب الرائجة وروايات أهل البيت عليهم السّلام ، وهذا أمر لم يلفت إليه الباحثون على أهميّته ، حتّى من كتب على مستوى البحث الشيعيّ .
أولا : الأسباب الرائجة
وهي الأسباب التي نقل أكثرها أهل العامّة عن التابعين ، وتعرّض لها الطبري في تفسيره الشهير بتفصيل ، ثمّ ضمّتها كتب خاصّة بين دفّتيها ، منذ أن تولّت أمر
جمعها في القرن الخامس الهجريّ ، ككتاب الواحديّ ، ثمّ من حذا حذوه .
والأمر الذي لا بدّ من لفت النظر إليه ، هو أنّها في غالبها لا تمثّل روايات تنسب إلى معصوم ، وإنّما هي أحداث ينقلها نفس الصحابيّ أو التابعيّ ، ولنكون أكثر دقّة نقول : إنّ الروايات في هذه الأسباب لا تكاد تتجاوز عدد الأصابع ، « 1 » وهذا الأمر يغيب عن كثير من الأذهان في مثل هذه الأيّام ، لا سيّما أنّهم يعبّرون عنها ب : روايات أسباب النزول .
وهذا القسم هو الذي اشتهر لاحقا بعنوان « أسباب النزول » ، فهو المستقرّ في الأذهان عندما يراد الحديث عن هذا الفنّ ، وإليه يشار عند البحث عن سبب نزول آية ما .
وقد اضطرّ أهل العامّة إلى الاعتماد على هذه الأسباب ؛ وذلك لافتقارهم إلى روايات في التفسير منقولة عن المعصوم ، فيما تمثّل روايات أهل البيت عليهم السّلام مخزنا ومرجعا مهمّا في عالم تفسير القرآن الكريم للمدرسة الشيعيّة ، ففي حين أحصى بعضهم هذه الروايات بأكثر من 4000 رواية ، « 2 » لا نجد عند العامّة أكثر من 250 رواية ، على ما أحصاها السيوطيّ ، « 3 » وقد ذكر أنّ أكثرها لا اعتبار له ، ولذا يقول : « الذي صحّ [ من المأثور في التفسير ] قليل جدّا ، بل أصل المرفوع منه في غاية القلّة » ، « 4 » فيما نقل عن ابن حنبل قوله الشهير : « ثلاثة ليس لها أصول [ ليس لها أصل : ] المغازي والملاحم والتفسير » « 5 ».
ومن هنا يظهر أنّ الحاجة إلى الأسباب الرائجة المنقولة في غالبها عن التابعين هي حاجة سنيّة بالدرجة الأولى ، ولكن كثيرا من الباحثين الشيعة قد تأثّروا بالبحث السنّي ، فساروا في هذا البحث على طريقة أهل العامّة « 6 ».
سبب رواج هذه الأسباب
أمّا السبب في رواج هذه الأسباب بعنوان « أسباب النزول » ، فيمكن ردّه إلى عدّة أمور :
أوّلا : لا شكّ أنّ أرباب القرار وأصحاب السلطة الذين أرادوا استمداد الشرعيّة من خلال أسباب النزول ، قد روّجوا الأسباب التي تتناسب مع استمراريّة حكمهم والمذهب الذي يدينون له ، فسمحوا بانتشارها وأشاعوها في المجتمع وعند العوامّ ، في مقابل سعي حثيث لحصار بقيّة الأسباب بغرض انحسارها وتلاشيها.
ثانيا : لا شكّ أنّ تفسير الطبريّ الذي كان أوّل من جمع هذه الأسباب بشكل منظّم قد لعب دورا مؤثّرا في مجال رواج هذه الأسباب ، « خاصّة أنّ تفاسير عديدة ألّفت بعده لم تتخلّص من سلطته المعرفيّة الضاغطة » ، « 7 » لذا عدّوه في هذا المجال أهمّ مصدر في التفسير ، بمعنى أنّه يعدّ أصلا لغيره من الكتب التفسيريّة « 8 ».
ثالثا : الدور الذي لعبته التصنيفات الخاصّة التي ضمّت بين دفّتيها أسباب النزول ، من قبيل كتابي الواحدي والسيوطيّ ، فأشبعت رغبة الناس وفضولهم إلى معرفة الأسباب .
حول دور التابعين
وإذا كان لا بدّ من ملاحظات نسجّلها حول دور التابعين في أسباب النزول « 9 » :
1 . عدم تعرّضهم لبحث الدراية واقتصار دورهم على الرواية « 10 ».
2 . كثرة النقل عنهم في مجال الرواية ، مع وجود المتناقضات التي لا تقبل الجمع فيما نقلوه .
ممّا جعل الباحثين يؤكّدون على أنّ ذلك يعود إلى الوضع حيث صار : « كلّ أحد يخترع شيئا ويختلق إفكا وكذبا ، ملقيا زمامه إلى الجهالة ، غير مفكّر في الوعيد للجاهل بسبب نزول الآية » ، « 11 » و « نعتقد أنّ عدد الأحاديث الموضوعة وظّفت في بيان أسباب نزول آيات القرآن ، ومن ثمّ تزعزعت ثقة العلماء القدامى بأخبار أسباب النزول التي لا غنى لهم عنها . . . » ، « 12 » كما أشار الباحثون ، وقد نبّهوا إلى الاستغراق والإفراط في الاعتماد على أسباب النزول « 13 ».
ثانيا : دور الأئمّة عليهم السّلام
تابع أئمّة أهل البيت عليهم السّلام بشكل عامّ ، والإمامان الباقر والصادق عليهما السّلام بشكل خاصّ ، « 14 » ما بدأه الأمير عليه السّلام ، مع مراعاة مقتضيات مرحلتهم والظروف المستجدّة ، لا سيّما اشتداد الحاجة إلى أسباب النزول ، والنموّ الثقافيّ والفكريّ للمسلمين في هذا العصر ، فضلا عن آثار الوضع ، وهذا خلق نوعا من التمايز عن دور أمير المؤمنين عليه السّلام ، وهو ما نتعرّض له .
أولا : دورهم على مستوى الدراية
1 . أهميّة أسباب النزول
نبّه أئمّة أهل البيت عليهم السّلام على حقيقة أسباب النزول ، وقاموا بتثبيت دورها كعنصر له دور كبير في بيان حقائق ومفاهيم مرتبطة بالقرآن من جهة ، وبمجمل أوضاع الإسلام والمسلمين من جهة أخرى ، من ذلك ما ورد عن الصادق عليه السّلام : « اعلموا رحمكم اللّه أنّه من لم يعرف من كتاب اللّه : الناسخ والمنسوخ ، والخاصّ والعام ، والمحكم والمتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكيّ من المدنيّ ، وأسباب التنزيل ( . . . ) ، فليس بعالم القرآن ولا هو من أهله » ، « 15 » وهذا تصريح بأهميّة بحث أسباب النزول بعد الإشارات التي مرّت في كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام .
2 . ظهور مصطلح « سبب النزول ».
ورد التصريح بمصطلح « سبب النزول » لأوّل مرّة على لسان الأئمّة عليهم السّلام ، فكانوا أوّل من اصطلح به ، طبقا للوثائق الموجودة بين أيدينا ، ولعلّ الذي دعاهم إلى
ذلك تركيز روايات الأسباب في العقل الجمعيّ ؛ من ذلك الرواية التي تقدّمت في مجال بيان أهميّة هذا المبحث حيث عبّر الإمام عليه السّلام ب : « أسباب التنزيل » ، بالإضافة إلى عدد كبير من الروايات تشتمل على هذا العنوان ، من ذلك ما ورد في الآية : {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] فعن الصادق عليه السّلام أنّه قال : « كان سبب نزول ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لمّا تزوّج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها ، ورأى زيدا يباع ورآه غلاما كيّسا حصيفا ، فاشتراه . . . » ، « 16 » وورد في نزول سورة الفتح عنه عليه السّلام أيضا أنّه قال : « كان سبب نزول هذه السورة وهذا الفتح العظيم أنّ اللّه عزّ وجلّ أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في النوم أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلق مع المحلقين ، فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج . . . » ، « 17 » كما ورد ذلك في مجموعة أخرى من أسباب نزول الآيات . . . « 18 » هذا بالإضافة إلى وروده في بيان نزول بعض السور كسورة الكهف « 19 » والمعوذتين . « 20 » وفي المقابل فإنّ عبارة سبب النزول ، في مدرسة العامّة ، « لم تكن معلومة في عهد الصحابة والتابعين » ، « 21 » ويبدو « أنّ الصيغة النهائيّة المعبّرة عن علم أسباب النزول قد استقرّت بمعناها الاصطلاحيّ استقرارا نهائيّا في النصف الأوّل من القرن الرابع الهجريّ » « 22 ».
أكّد أئمّة أهل البيت عليهم السّلام على حقيقة أنّ لأغلب آيات القرآن الكريم أسباب نزول ، فعن خيثمة قال : قال أبو جعفر عليه السّلام : « يا خيثمة القرآن نزل أثلاثا : ثلث فينا وفي أحبائنا ، وثلث في أعدائنا وعدوّ من كان قبلنا ، وثلث سنة ومثل . . . » ، « 23 » وبمقتضى المقابلة بين الثلثين الأوّلين ، والثلث الذي يمثّل حركة عامّة في إطار السنّة والأمثال ، يظهر أنّ المراد من الثلثين الأوّلين خصوص ما نزل وفق أسباب النزول .
وفي حديث آخر ورد عن الباقر عليه السّلام ، في تفسيره للحديث المعروف : « ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن » ، « 24 » قال عليه السّلام : « ظهر القرآن الذين نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم » « 25 ».
الأدلّة على كثرة الأسباب
وهذه الكثرة تعدّ متناسقة مع طبيعة القرآن ، وما أكّدوا عليه من نزوله منجّما وفق الأحداث والاحتياجات المستجدّة في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : فإنّ « هذا القرآن لم ينزل جملة واحدة ، بل نزل منجّما مفرّقا بحسب الحوادث والمناسبات والوقائع ( . . . ) ، وهي التي سمّاها العلماء فيما بعد أسباب النزول » « 26 ».
لقد غفل الباحثون في علوم القرآن عن هذه الحقيقة ، كثرة أسباب النزول ، لا سيّما أهل العامّة ، « 27 » واعتبروا أنّ باب أسباب النزول هو في القليل من الآيات ، فهي بنظرهم تمثّل : « نسبة ضعيفة مقارنة بمجموع آيات المصحف » ، « 28 » وأنّ « أكثر تنزّله [ كان ] ابتداء من غير سبب » ، « 29 » مؤكّدين على « أنّ القدامى كانوا مدركين تمام الإدراك أنّ علم أسباب النزول لا يتعلّق بآيات المصحف كلّها ، بل بعدد محدود منها لا يتجاوز في أقصى الحالات » . « 30 » وما جعلهم ينزعون إلى هذا الرأي بالأساس ، هو قلّة ما نقل إلينا من أسباب ، « 31 » ففي إحصائيّاتهم أنّ عدد الآيات التي لها أسباب النزول في تفسير الطبريّ لم يتجاوز ال : ( 564 ) آية ، « 32 » أمّا الواحدي فقد أورد ( 629 ) آية لها سبب نزول ، « 33 » وأوصلها بعضهم إلى « 858 آية ، بين مصرّح بها ومشار إليها » ، « 34 » في حين أنّ السيوطيّ ذكر ( 857 ) آية ، أو « 954 آية تصريحا أو إشارة » ، « 35 » « وهو ما يمثّل أعلى نسبة من مجموع الآيات التي لها أسباب نزول في المؤلّفات القديمة « 36 ».
قلّة النقل وكثرة الأسباب
لا يمكن الاستناد إلى قلّة النقل ، للاستدلال على قلّة الأسباب ، وذلك لأمور :
أ ) فقدان مجموعة كبيرة من الأسباب
لا شكّ أنّنا فقدنا - لظروف تاريخيّة متعدّدة المناحي - كميّة كبيرة من أسباب النزول ، فقضت يد القدر على قسم لا يستهان به منها ، كغير الأسباب من الوثائق والنصوص ، فيما كان أغلب السلف متساهلا « بأمر ضبط الحوادث ، ومن ثمّ فإنّ رصيدنا اليوم بهذا الشأن ضئيل للغاية . . . » « 37 ».
ب ) الغفلة في حساب الآيات
إنّ هؤلاء الباحثين عندما قاموا بعمليّة إحصاء الأسباب ، فإنّهم قد اعتبروا السبب الواحد مرتبطا بآية واحدة ، فيما نجد كثيرا من الأحيان نزول الآيات الكثيرة مرتبطة بسبب واحد ، وهذه بعض الشواهد :
نقل ابن سيّد الناس ، عن ابن إسحاق ، أنّه قال : « وكان فيما أنزل اللّه من القرآن يوم أحد ستون آية من سورة آل عمران فيها صفة ما كان في يومهم . . . » ، « 38 » فإذا راجعنا أسباب النزول للسيوطيّ مثلا ، نجد أنّ الآيات المذكورة في مجال الإحصاء لا تتجاوز العشر آيات ! « 39 » وكذلك ما ورد من أنّ النصارى عندما أتوا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فإنّ اللّه أنزل : « بضع وثمانين آية » من سورة آل عمران ، « 40 » مع أنّهم لم يعدّوا من الأسباب في هذه الآيات أكثر من بضعة وعشر آية .
وفي سورة المجادلة ستّ آيات مرتبطة بالسبب المنقول في شكوى خولة زوجها ، وعند الإحصاء تعدّ واحدة . « 41 » والمعوّذتان تشتملان على إحدى عشر آية ، ارتبطت بسبب واحد ، وتحصى على أساس أنّها فرد واحد ، « 42 » وعلى ذلك يمكن القياس في كثير من الموارد .
ج ) أثر ضمّ روايات أهل البيت عليهم السّلام
لو ضمّت روايات أهل البيت عليهم السّلام ، لا سيّما روايات الصادقين عليهما السّلام ، إلى أسباب النزول لارتفع عددها ضمن حدود معيّنة ، فيما أنّ الكتب العامّة في جمع أسباب النزول تخلو من أيّ رواية عنهم عليهم السّلام .
د ) تعمّد عدم إشاعة الأسباب
لا بدّ أن نلتفت إلى حقيقة مهمّة ومؤثّرة في مجال أسباب النزول ، وهي ما ذكرناه من تعمّد أمير المؤمنين عليه السّلام ، ومن بعده أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ، عدم إشاعة أسباب النزول ونشرها بشكل واسع .
4 . العبرة بعموم اللفظ
من البحوث في عالم الدراية ، في إطار أسباب النزول ، بحث عرف عند علماء القرآن لاحقا بعنوان : « العبرة بعموم الصيغة لا بخصوص السبب » ، أو « المورد لا يخصّص الوارد » ، وهذا المطلب بعينه تمّ التنبيه عليه من الأئمّة عليهم السّلام قبل أن يرد في كتب علوم القرآن ، وقد نصّوا عليه بتعابير مختلفة منها ما ورد عن خثيمة عن أبي جعفر عليه السّلام : « . . . ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ، ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت
السّماوات والأرض » ، « 43 » ومن ذلك ما ورد في إطار بيان أنّ للقرآن ظهرا وبطنا من أنّ : « ظهر القرآن الذين نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم » . . « 44 ».
ثانيا : دورهم على مستوى الرواية
ما يمكن تسجيله في إطار روايات أهل البيت عليهم السّلام في أسباب النزول ، عدّة ملاحظات :
1 . ضخّ عدد كبير من الروايات
ساهم الإمامان الباقر والصادق عليهما السّلام في ضخّ مجموعة من الروايات ، وفق ما اقتضته المصلحة والظروف ، بحيث بلغت الروايات المنقولة عنهما أضعاف ما روي عن الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والإمام عليّ عليه السّلام ؛ لذا يلاحظ المراقب أنّ كتب التفسير والحديث حافلة برواياتهما ، فلا يخفى هذا الأمر على أيّ باحث يرجع إلى كتب التفسير والحديث الشيعيّة . « 45 » هذا على أنّنا يجب أن لا نغفل عن أنّهم عليهم السّلام لم يكونوا في وارد استقصاء أسباب النزول ؛ لما ذكرناه سابقا من أنّهم لم يكونوا راغبين في إشاعة الأسباب إذا ما كانت تؤدّي إلى شقّ صفوفهم في مواجهة الأعداء ، أو لظروف أخرى ، كما ورد في الآية : {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ...} [الفرقان: 27] عن الإمام الهادي عليه السّلام عندما سأله المتوكّل العبّاسيّ عنها فيمن نزلت ؟ ، فأجابه عليه السّلام : « هذان رجلان كنّى اللّه عنهما ، ومنّ بالستر عليهما ، أفيحبّ الخليفة كشف ما ستره اللّه ؟ ! » . « 46 » كما أنّهم كانوا يبتعدون عن عمليّة فضح الناس ، وما يؤكّد هذا المطلب أنّه
فيما تصرّح بعض الأسباب المنقولة عن العامّة باسم من نزلت فيه آية اللعان « 47 » كما نجده عند السيوطيّ ، « 48 » فإنّ الرواية عن الصادق عليه السّلام حين سئل : كيف يلاعن الرجل المرأة ؟ ، قام ببيان سبب النزول والحادثة المذكورة من غير تسمية الفاعل ، فإنّه ذكرها في رجل من المسلمين وزوجته ، « 49 » حفظا لعرض المرأة ، وخصوصيّة زوجها !
إذا كانت عمليّة ضخّ روايات أهل البيت عليهم السّلام تتركّز في مجال تصحيح الحقائق والعقائد ، وكذلك مواجهة كثرة الوضع ، وهذا ما يمكن لحظه من خلال عدّة إشارات في رواياتهم :
1 . بيان المطلب الباطل ، قبل التعرّض إلى إعطاء الرأي الحقّ فيه :
من الملفت أن عددا كبيرا من أسباب النزول في روايات أهل البيت عليهم السّلام ، يتصدّره الحديث عن شيوع مطلب فاسد وسبب غير صحيح لنزول الآية بين الناس ، وأنّ السبب الذي يورده الإمام عليه السّلام هو السبب الحقيقيّ .
فقد ورد في الآية : {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] أنّ الإمام الصادق عليه السّلام ابتدأ بالسؤال : « ما يقول الناس فيها ؟ » ، وبعدها قام ببيان سبب النزول فيها ، « 50 » وكذلك في الآية : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] حيث بيّن عليه السّلام قول العامّة فيه ثمّ قام بتصحيحه . « 51 ».
ودفع الإمام عليه السّلام توهّم نزول الآية : . . . {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [الرعد: 43] في عبد اللّه بن سلام أوّلا ، ثمّ بيّن أنّ الصحيح نزولها في عليّ بن أبي طالب . « 52 » كما يظهر ، في مثل كتاب مجمع البيان ، أنّ عددا كبيرا من أسباب النزول المنقولة عن الأئمّة عليهم السّلام ترد عندما يكون الخلاف قد وقع فيمن نزلت . « 53 » 2 . تعبيرهم في بيان الأسباب بأداة الحصر :
وممّا يشير إلى ذلك كثرة تعبيرهم بأداة الحصر « إنّما نزلت في . . . » ، بما يوحي بأنّه قد ادّعي نزولها في شخص آخر ، كما في أسباب نزول الآيات :
103 من سورة آل عمران ، « 54 » و 166 من سورة النساء ، « 55 » و 43 من سورة الرعد ، « 56 » و 11 من سورة النور . . . « 57 » بل ورد أحيانا تعبير « كذبوا إنّما نزلت . . . » كما في الآية : . . . {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى...} [الشورى: 23] حيث ورد فيها : « كذبوا إنّما نزلت فينا خاصّة » . « 58 » والنتيجة أنّ روايات أهل البيت عليهم السّلام قد تركّزت في معرض الردّ على الوضع والادعاءات الباطلة ، التي كثرت في زمانهم ، وحركتهم في مسألة الأسباب وإن توسّعت بالقياس إلى الفترات السابقة ، إلّا أنّها تأطّرت بنطاق بيان بعض الحقائق اللازمة ، وفقا لما تمليه الظروف ، وبما يكفل عدم التناحر بين مكوّنات المجتمع الإسلاميّ .
2 . كثرة الاستفهام والسؤال عن أسباب نزول الآيات
وممّا يؤكّد ترسّخ بحث أسباب النزول في العقل الجمعيّ لأبناء هذا العصر كثرة السؤال عن الأسباب ، كما في الآيات التالية : الآية من سورة البقرة ، « 59 » الآية 83 من سورة آل عمران ، « 60 » الآية 58 من سورة النساء ، « 61 » الآية 93 من سورة الأنعام ، « 62 » الآية 74 من سورة الإسراء ، « 63 » الآية 88 من سورة مريم ، « 64 » وغيرها . . .
خلاصة ونتائج
1 . إذا أردنا أن ندرس تصاعد الاهتمام بأسباب النزول بين مختلف القرون ، بدءا من عصر الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، مرورا بالأمير عليه السّلام ، وصولا إلى الصادقين عليهما السّلام . . . ، فسنجد أنّ ثمّة علاقة جدليّة تربط بين أسباب النزول وبين بعض العوامل التي لعبت دورا هامّا في تطوّرها ، وأهمّها عاملان :
الأوّل : ارتباطها بحقائق التاريخ من السيرة النبويّة الطاهرة ومختلف أحداث عصر الوحي ، لذا كنّا نلاحظ أنّ مرور الزمن ، وتشوّق الأجيال التي لم تشهد الوحي إلى معرفة ملابسات ذلك العصر ، كان يسهم في شيوعها أكثر فأكثر ، ولا سيّما أنّها كانت تلعب دور تأييد بعض الحقائق التاريخيّة التي يمكن أن تخدم الفئات المتخالفة ، ولذا فإنّ بإمكان أسباب النزول أن تحرف حقائق التاريخ بشكل واسع .
الثاني : العامل الإيديولوجي العقائديّ ، فكلّما اشتدّ الصراع المذهبيّ ، كلّما تألّق هذا العلم ، وبدأ يتّخذ أبعادا جديدة ، وكلّما كثر الجدل العقائديّ ، موّنت
أسباب النزول هذا الصراع ، سلبا أو إيجابا ، افتراءً على الإسلام أو تبيانا للحقائق ، فقد كانت أسباب النزول اللاعب الأبرز في تأييد الحقائق ، بما يخدم المنظومات العقائديّة المختلفة .
وفي النتيجة لا يمكن للباحث أن يقوم بدراسة أسباب النزول بمنأى عن هذه العوامل ، وبمنأى عمّا يمكن أن تؤثّره على الأصعدة كافّة ، مع أنّ العجب العجاب أنّ مختلف الدراسين العامّة عندما أشاروا إلى أهميّة بحث أسباب النزول ، فإنّهم لم يشيروا إلى دوره على الصعيد التاريخيّ والعقائديّ ، وهذا الأمر محل ارتياب !
2 . ومن الإشارات التي يمكن أن نخلص إليها ، أنّ مختلف الأحداث في هذه الفترة تشير إلى أمر يسوء الأسباب ، فكلّ الأحداث التي أدّت إلى تصاعد الاهتمام بها كانت في المقابل تفتح الباب مشرعا أمام الوضع والجعل ، ممّا يضعف هذه الأسباب على مستوى اعتبارها وحجيّتها .
3 . تبيّن أنّ الأئمّة عليهم السّلام قد أشاروا إلى مجموعة من الأبحاث في عالم دراية أسباب النزول ، كما أنّهم عملوا على ضخّ عدد من روايات هذا الباب .
ولكن يا ترى إلى أي مدى ترسم هذه الإشارات وتؤسّس لعلم مستقلّ ولفنّ قائم بذاته ، له خصوصيّاته ؟ ففرق بين الكلام عن أسباب النزول ، وبين الاهتمام بعلم خاصّ مستقلّ في تفسير القرآن .
نقول حتّى زمانه لا يوجد أيّ دليل يمكن أن يطمأنّ إليه على ذلك ، فالإشارات في عالم الدراية عن أهل البيت عليهم السّلام ، لا يظهر منها أنّ ثمّة علم قائم بذاته ، وغاية ما يستفاد منها هو الاهتمام بروايات أسباب النزول في عمليّة الوقوف على معطيات القرآن ، وضرورة ذلك لارتباط عدد كبير من الآيات بهذه الأسباب ، مع عدم موت الآية بموت السبب ، ولا شيء من ذلك يؤسّس لعلم مستقلّ ، بل الأمر مرتبط بغيرها من روايات التفسير الأخرى .
بل ربما تكون القرائن من خلال كلماتهم على العكس منه ، حيث لا يظهر التمييز في كلماتهم عليهم السّلام بين روايات أسباب النزول ، وبين غيرها من روايات التفسير المنقولة عنهم ممّا يعني عدم جعلها بابا مستقلا .
وممّا يؤيّد عدم استقلال أسباب النزول بعلم وباب مستقلّ حتّى أواخر القرن الثالث ، أنّنا لو راجعنا المصادر التي تكفّلت تدوين هذه الأسباب ، فنجدها لا تجعلها تحت عنوان ، أو باب مستقلّ « 65 ».
______________
( 1 ) . لاحظ : أمّهات هذه الكتب ، ك : أسباب النزول القرآنيّ للواحدي ، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطيّ .
( 2 ) . راجع : معرفة ، التفسير والمفسّرون ، ج 1 ، ص 181 .
( 3 ) . لاحظ : خاتمة الإتقان .
( 4 ) . الإتقان ، ج 4 ، ص 180 ، 214 ، 257 .
( 5 ) . البرهان ، ج 2 ، ص 156 ؛ التفسير والمفسّرون في ثوبة القشيب ، ج 1 ، ص 180 ؛ وهذا لا يعني أنّ كلّ ما نسب إلى أهل البيت عليهم السّلام ، فهو صادر عنهم ، بل نعتقد بأنّه قد تسلّل الوضع إلى حديثهم : « حيث وجد الكذّابون ، من رفيع جاه آل الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بين الأمّة ومواضع قبولهم من الخاصّة والعامّة ، أرضا خصبة استثمروها لترويج أباطيلهم . . . » ( التفسير والمفسّرون في ثوبه القشيب ، ج 1 ، ص 476 ).
( 6 ) . وسنبيّن ذلك بشيء من التفصيل عند الحديث عن البحوث المعاصرة في أسباب النزول .
( 7 ) . بسّام الجمل ، أسباب النزول ، ص 100 .
( 8 ) . لاحظ : د . فرشوخ ، المدخل إلى علوم القرآن والعلوم الإسلاميّة ، ص 153 ، 155 ؛ كذلك : الشيخ حسن أيّوب ، الحديث في علوم القرآن والحديث ، ص 147 .
( 9 ) . كتبت دراسات كثيرة حول دور التابعين في مجال أسباب النزول ، ونحن نكتفي بإدراج ملاحظتين عامّتين ، ونركّز البحث في دور أهل البيت عليهم السّلام حيث لم نجد أيّ دراسة تعرّضت إلى دورهم في هذا الإطار .
( 10 ) . يقسّم علماء القرآن علم أسباب النزول إلى شعبتين : 1 ) نظريّ : ويطلقون عليه اسم ، الدراية ، و « يعنى بذكر قواعد هذا العلم ، وما يتعلّق بها » ؛ 2 ) تطبيقيّ ، وفي مصطلحهم ، رواية ، و « يتناول أسباب النزول الواردة والمأثورة ، ويعنى بجمعها . . . » ( د . الرشيد ، أسباب النزول وأثرها في بيان النصوص ، ص 105 ) .
( 11 ) . الواحدي ، ص 7 .
( 12 ) . بسّام الجمل ، أسباب النزول ، ص 83 .
( 13 ) . لاحظ : كلام ابن عاشور ، في مقدّمة تفسيره ، التحرير والتنوير ، كنموذج لذلك .
( 14 ) . وذلك لطبيعة الظروف الموضوعيّة ، التي حكمت حركة الأئمّة عليهم السّلام .
( 15 ) . بحار الأنوار ، ج 93 ص 9 ، عن تفسير النعمانيّ .
( 16) . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 172 .
( 17 ) . المصدر السابق ، ص 309 .
( 18 ) . راجع : سبب نزول الآيات ، البقرة ، 97 ، 98 ( تفسير نور الثقلين ، ج 1 ، ص 104 ) ؛ المجادلة ، 10 ، ( المصدر السابق ، ج 5 ، ص 261 ) ؛ هود ، 12 ( تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 324 ) ؛ مريم ، 96 ( المصدر السابق ، ج 2 ، ص 56 ) . . . .
( 19 ) . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 31 .
( 20 ) . المصدر السابق ، ص 450 .
( 21 ) . الشيخ عبد المجيد غزلان ، البيان في مباحث من علوم القرآن ، ص 93 .
( 22 ) . بسّام الجمل ، أسباب النزول ، ص 75 .
( 23 ) . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 10 .
( 24 ) . بصائر الدرجات ، ص 196 ، ح 7 .
( 25 ) . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 11 ، ح 4 .
( 26 ) . أ . د . فضل عبّاس ، إتقان البرهان ، ص 237 ، وهو قريب ممّا يذكره الشيخ محمّد هادي معرفة ، « وإذا كان القرآن ينزل نجوما ، وفي فترات متفاصلة بعضها عن بعض ، ولمناسبات شتّى كانت تستدعي نزول آية أو آيات تعالج شأنها ، فقد اصطلحوا على تسمية تلكم المناسبات بأسباب النزول أو شأن النزول على فرق بينهما . . . » ( الشيخ معرفة ، التمهيد ، ج 1 ، ص 241 ) . . . .
( 27 ) . لاحظ : الزرقاني ، مناهل العرفان ، ج 1 ، ص 101 ؛ أ . د . فضل عبّاس ، إتقان البرهان ، ج 1 ، ص 357 ؛ أ . د . فهد بن عبد الرحمن الرومي ، دراسات في علوم القرآن ، ص 134 . . . .
( 28 ) . بسّام الجمل ، أسباب النزول ، ص 120 .
( 29 ) . خالد خليفة السعد ، علم أسباب النزول وأهميّته في تفسير القرآن ، ص 141 .
( 30 ) . بسّام الجمل ، أسباب النزول ، ص 122 .
( 31 ) . لاحظ مثلا : أ . د . فضل عبّاس ، المصدر السابق ، ج 1 ، ص 357 .
( 32 ) . بسّام الجمل ، أسباب النزول ، ص 121 .
(33 ) . المصدر السابق ، ص 109 .
( 34 ) . أ . د . فضل عبّاس ، المصدر السابق ، ج 1 ، ص 251 .
( 35 ) . المصدر السابق ، ج 1 ، ص 251 .
( 36 ) . بسّام الجمل ، المصدر السابق ، ص 111 .
( 37 ) . الشيخ معرفة ، التمهيد ، ج 1 ، ص 246 .
( 38 ) . ابن سيّد الناس ، عيون الأثر ، ج 1 ، ص 435 ، 436 .
( 39 ) . راجع : السيوطي ، لباب النقول ، ص 61 - 66 .
( 40 ) . المصدر السابق ، ص 53 .
( 41 ) . المصدر السابق ، ص 255 .
( 42 ) . المصدر السابق ، ص 314 .
( 43 ) . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 10 .
( 44 ) . المصدر السابق ، ج 1 ، ص 11 .
( 45 ) . سنتعرّض إلى أهمّ هذه الكتب ، عند الحديث عن التصنيفات في مجال أسباب النزول .
( 46 ) . راجع : بهج الصباغة ، ج 5 ، ص 63 .
( 47 ) . النور ، 6 .
( 48 ) . لاحظ : ما نقله الواحدي ، ص 231 ؛ والسيوطيّ ، لباب النقول في أسباب النزول ، ص 182 .
( 49 ) . الكافي ، ج 6 ، ص 163 ، ح 4 ؛ وفي المقابل ما رواه السيوطيّ ، لباب النقول في أسباب النزول ، ص 181 ، 182 .
( 50 ) . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 385 .
( 51 ) . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 84 ، 85 .
( 52 ) . بصائر الدرجات ، ص 234 ، ح 11 .
( 53 ) . كما في الآيات ، 88 - 90 من سورة النساء ، وبيان أبي جعفر عليه السّلام ، مجمع البيان ، ج 3 ، ص 132 .
( 54 ) . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 195 .
( 55 ) . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 159 .
( 56 ) . بصائر الدرجات ، ص 234 ، ح 11 .
( 57 ) . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 99 .
( 58 ) . الكافي ، ج 8 ، ص 93 ، ح 66 .
( 59 ) . تفسير العيّاشي ، ج 1 ، ص 98 .
( 60 ) . المصدر السابق ، ج 1 ، ص 183 .
( 61) . الكافي ، ج 1 ، ص 226 ، ح 1 .
( 62 ) . المصدر السابق ، ج 8 ، ص 200 ، ح 242 .
( 63 ) . تفسير العيّاشي ، ج 2 ، ص 306 .
( 64 ) . تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 57 .
( 65 ) . سنشير إلى أهمّ المصادر التي دوّنت أسباب النزول في فقرة خاصّة .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|