تطوّر
فنّ الرواية في القرن الثامن عشر وارتقى واغتنى بفضل عاملين: (الأوّل) تأثير
القصّة الإنجليزيّة التي سبقت القصّة الفرنسية إلى التطور ومن ثم أكسبتها الملاحظة
الدقيقة لأحوال الطبقة الوسطى، ووصفها والاعتناء بالمشاعر العاديّة لأفراد البشر
العادييّن.
(والثاني)
تأثير الاتجاهات الاجتماعية والفكرية المستجدّة من حيث روح التفحّص الموضوعي
والمناقشة الحرّة والالتفاتُ إلى معالجة المشكلات الأخلاقية والسياسيّة.
وفي القرن
التاسع عشر غدت الرواية أوسع الأنواع الأدبية وأكثرها شمولاً إذ احتوت على عنصر
المغامرة كما في القرون الوسطى والعنصر النفسي كما في القرن السابع عشر والعنصر
الاجتماعي كما في القرن الثامن عشر؛ ثم تمثّلت كُلَّ تطلعات القرن التاسع عشر،
واتصفت على التوالي بالغنائية والواقعية والاجتماعية والطبيعيّة والرمزيّة.
وسنقتصر
في هذا البحث على استعراض تطور الرواية في الفترة الرومانسية أي في النصف الأول من
القرن التاسع عشر، مرجئين النظر في روايّة النصف الثاني من القرن إلى بحث الواقعية
والرمزية.
ويمكن
أن نقسم النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى قسمين:
(الأول)
فترة الكتاب الأوائل. (الثاني) فترة القصّة التاريخية.
1-فترة الكتاب الرومانسيين الأوائل: (1800-1825)
من
المعلوم أن شاتوبريان ومدام دوستايل كانا أبرز عرّابي المذهب الرومانسيّ تنظيراً
وتأليفاً فقد كتب الأول روايتي (آتالا، ورينيه) فيما بين 1801-1802 وكانتا تنهجان
نهج رواية (بول وفيرجيني) لبرناردن دوسان بيير من حيث العناية بالوصف الطبيعي.
ولكنهما جدّدتا في العناية بالوصف النفسيّ والتحليل العميق للعواطف والبواعث. أما
دوستايل فقد كتبت رواية دلفين (1802) وكورين(1807) اللّتين مهدتْ فيها السّبيل
لروايات الكاتبة الرومانسية جورج صاند. ومن الكتاب الأوائل المشهورين بنجامان
كونستان (المتوفى عام 1830) الذي تحتل رواياته مركزاً مرموقاً في الأدب الفرنسيّ
ونذكر منها (أدولف: 1816) التي حلّل فيها بنفوذ ذكيّ مدهش وبأسلوب طلقٍ خالٍ من التكلف
قضيّه التلاشي البطيء للحب البائس، مما جعلها تبدو دوماً جديدة وواقعية أكثر من
أية رواية أخرى، بما في ذلك روايات ستندال.
ونذكر
من الكتاب الأوائل أيضاً شارل نودييه (المتوفى عام 1840) الذي كان يتميز بروح
فعالة نشيطة ومعالجات جذابة. وقد برع في عشرينيات القرن التاسع عشر في القصة
القصيرة التي تمازج بين الواقعية والغنائية. ويعد بحقّ أحد مؤسّسي الرواية
الرومانسية.
2-فترة الرواية التاريخيّة: (1826-1865)
ونعني
بالتاريخية تلك التي تتخذ أبطالها من بين الأشخاص التاريخيين وكذلك أحداثها
الكبرى، مع الاحتفاظ بحرية الكاتب في الإغناء والتفصيل والتحليل، أو تلك التي
تبتكر شخصياتٍ من الخيال ضمن فترة تاريخية معينة.
ومن
أبرز كتّاب هذه المرحلة:
· ولتر سكوت:
وهو
كاتب إنجليزي ألّف فيما بين 1814-1826 سلسلة من الروايات لقيت كثيراً من النجاح
والإقبال الجماهيري لما تتميز به من الجدّة والحيوية والتشابك والعقدة والحماسة
العاطفية، بحيث تبعث على المتابعة والتشويق والتسلية والإمتاع. وكان لرواياته هذه
أثرٌ كبير في ازدهار هذا الفن الروائي في أنحاء القارة الأوربية وكان يختار الإطار
الطبيعي الجذاب لرواياته كالطبيعة الإيكوسية والإنجليزية والفرنسيّة ويحسن مؤالفة
أشخاصه في ذلك الإطار مع عنايته بالمغزى الأخلاقي. وعلى يديه اكتملت ملامح الرواية
الرومانسية، ومثالنا على ذلك روايتاه: (ويفرلي وإيفانهو) وما زالت هذه الرواية
ترتقي حتى عام 1840 حين بدأت بالهبوط مع انتشار الاشتراكية العاطفية وظهور
المسلسلات القصصية في الصحف اليومية.
·الفرد
دوفينيي:
أصدر
دوفينيي عام 1826 روايته (الخامس من مارس) وبسط في مقدّمتها نظريته في الرواية
التاريخية ويرى فيها أن للكاتب الروائي حقّ التصرف الشّعريّ إزاء الوقائع
التاريخية. ولهذا كانت رواياته تقوم على اختراع الشخصيات أكثر من قيامها على
شخصيات تاريخية معروفة.
كتب
في عام 1832 رواية (ستيلّو أو العفاريت الزُّرق) التي يقرر فيها الانفصام ما بين
المجتمع والشاعر أو الأديب بصورة عامة؛ تستوي في ذلك جميع البنى السياسية
والاجتماعية التي يعيش فيها الأديب. ثم كتب روايات أخرى كان من أنضجها (عُود
الخيزران)
· فيكتور
هوغو:
كتب
هوغو عدة روايات ضعيفة قبل أن يبدع رائعته (نوتردام دو باريس) عام 1831. التي تقوم
حبكتها وعقدتها على الصراع العنيف بين أشخاص متضادّين. وتدور هذه الرواية حول فتاة
بوهيميّة أضاعت أمَّها، ثم وجدتها في النهاية بفضل التعرّف على تميمة وحذاءٍ صغير.
هذه الفتاة (أزميرالدا) أحبّها الضابط الشاب فيبوس بينما كان أحد الشمامة يكرهها
ويطاردها؛ فلجأت إلى الأحدب كازيمودو قارع أجراس كنيسة نوتردام الذي كان يتمتع
بقلب طيب محب للخير...
وتكمن
أهمية الرواية في الوصف الدقيق والخياليّ لا في إبداع الشخصيات وتصوير طبائعها
ونفسيّاتها. ويؤخذ عليها أنها عسيرة ضعيفة التشويق. ثم أنهى هوغو في عام 1862
رواية الخالدة الثانية (البؤساء) حيث أجاد تصوير لوحاتها الوصفية. أما روايته
(عمال البحر) فيبدو فيها شاعراً وصّافاً أكثر منه روائياً. والحقيقة أن هوغو يعالج
الرواية بنفسية شاعريّة فتراه يتدفق على سجيّته دون أن يعبأ بأي قيد شعري أو
مراعاة لقواعد النوع الروائي. وقد شبهه بعضهم بنهر فائض هائج لا يعرف ضفافه ولا
اتّجاهه. ولكنه حين يصادف وادياً ضيّقاً أو حاجزاً يغدو رائع الجريان أو يتدفق في
شلالٍ متلألئ...!
·ألكسندر
دوماس الأب:
(1803-1870)
رواياته كثيرة جداً ويصعب تعدادها. وأشهرها: الفرسان الثلاثة ومونت كريستو. ولا
تجد في رواياته تحليلاً نفسياً بل تقرأ للتسلية فقط وتدهشك مقدرته على خلق الحوادث
والمفاجآت والمشاهد الحماسيّة. وقد شارك على نطاقٍ واسع في بدعة المسلسلات القصصية
الصحفية التي تتميز بالسطحية من جهة، والسّرد المشّوق والعقدة الغامضة والحوار
والسرعة والمماطلة في الحلّ، والتي يتابعها الجمهور البسيط الذي يسعى إلى
الاستمتاع والتسلية ويتساءل دوماً: وماذا بعد؟