أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015
13289
التاريخ: 13-9-2020
8717
التاريخ: 25-03-2015
1646
التاريخ: 24-09-2015
2049
|
وقد
رأيت من لا يفرق بين الغلو والإغراق، ويجعل التسميتين لباب واحد، وعندي أن معنى
البابين مختلف كاختلاف اسميهما، إلا أن الإغراق أصله في النزع، وأصل الغلو بعد
الرمية، وذلك أن الرامي ينصب غرضاً يقصد إصابته، فيجعل بينه وبينه مدى يمكن معه
تحيقي ذلك الغرض، فإذا لم يقصد غراً معيناً، ورمى السهم إلى غاية ما ينتهي إليه
بحيث لا يجد مانعاً يمنعه من استيفاء السهم قوته في البعد سميت هذه الرمية غلوة
فالغلو مشتق منها، ولما كن الخروج عن الحق إلى الباطل يشبه خروج هذه الرمية عن حد
الغرض المعتاد إلى غير حد سمي غلواً، قال الله سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ) وهو لا يعد من المحاسن إلا
إذا اقترن به ما يقربه من الحق، كقد للاحتمال، ولو ولولا للامتناع، وكاد للمقاربة،
وأداة التشبيه، وآلة التشكيك، وأشابه ذلك من القرائن اللفظية.
وقد
يكون الغلو حقاً من جهة المعنى، كالغلو في الدين، فإنه قسمان: حق وباطل، فالحق فحص
الإنسان عن دينه، وإفراط ورعه وتحرجه، كقول بعضهم: إنما الزهد في الجلال، والغلو:
الباطل، كقول النصارى في المسيح عليه السلام.
وفي
قوله تعالى: (لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ) دليل على أن من الغلو ما هو
حق، وهو ما أشرنا إلهي، وإن كان الغلو في الدين دين الله قد يكون في بعض الأحايين
حقاً فالتوسط خير منه كقول رسول الله صلى الله عليه[وآله] وسلم خير الأمور
أوساطها .
ومن
شواهده المستحسنة قول مهلهل [وافر]:
فلولا
الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض
تقرع بالذكور
وقد
قيل: إن هذا البيت أكذب بيت قالته العرب، وإن بيت امرئ القيس في صفة النار أقرب
منه إلى الحق، لأن فيه ما يخلص به من الطعن وهو اعترافه ببعد مسافة النار، وأنها
لم يدنها إلا النظر العالي، وقالوا: حاسة البصر أقوى من حاسة السمع، لأن أقوى سمع
وأصحه إنما يسمع أعظم صوت من ميل واحد، بشرط حمل الريح ذلك الصوت إلى جهة السامع
في الليل عند هدوء الأصوات وسكون الحركات، وحاسة البصر تبصر الجواهر الشفافة،
والأجسام الصقيلة، والأجرام المضيئة من بعد يتجاوز الحد بغير واسطة، ورؤية النيران
العظيمة المرتفعة مواقدها للناظر المرتفع مكانه ممكنة من البعد ما لم يمنع من ذلك
ضوء النهار، ويحول مخروط ظل الأرض دونها، وقد كانت زرقاء اليمامة ترى الجيوش خيلها
ورجلها، وتحزر أعدادها من مسيرة ثلاثة أيام، وتنذر به قومها، ويقع الأمر على ما
أخبرت به، وقد تواتر الخبر عنها بذلك، وضرب بها المثل، وقد تقدم ذكر النابغة لها
في قصة الحمام، فلهذا رجحوا بيت امرئ القيس على بيت مهلهل، وعندي أن بيت مهلهل
أقرب إلى الصدق والاستحسان من بيت امرئ القيس على شرطهم، فإنهم شرطوا أن كل كلام
تجاوز المتكلم فيه حد المبالغة إلى الإغراق والغلو، واقترن بما يقربه من الإمكان
خرج من حد الاستقباح إلى حد الاستحسان، وقد تقدم في بيت مهلهل لولا، وهي من الحروف
التي زعموا أن الكلام باقترانه بها يبعد من العيب بتة، وليس في بيت امرئ القيس شيء
من ذلك، مع أنه قد صرح في البيت الذي قبله أن النار إنما شبت في وجه النهار، عند
رجوع المغيرة، من المغار حيث قال: تشب لقفال ، وضوء النهار يمنع من
رؤية النيران والكواكب وجميع الأجرام المضيئة، وهذا القدر يدخل بيت امرئ القيس في
باب الاستحالة، مع خلوه مما يقربه من الإمكان، والبيت الذي هو عندي من عيوب هذا
الباب لمجيء الإفراط فيه غير مقترن بما يخلصه به من ذلك، وليس مما يحتمل تأويلاً
يقربه من الصدق ميت النمر بن تولب الذي يشبه فيه نفسه بالسيف حيث قال [بسيط]:
أبقى
الحوادث والأيام من نمر ... أسباد سيف صقيل أثره باد
تظل
تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
وقد
تأول بعضهم هذا البيت تأويلاً لو صح تخلص به قائله من العيب، وهو أن قوله:
بعد
الذراعين والساقين والهادي
لم
يرد أنك تحفر عنه بعد حفرك على هذه الأعضاء، لأنه لم يرد إلا أعضاء المضروب لا
أعضاء الضارب، يعني بعد قده الذراعين والساقين والهادي، وهذا عندي لا يخلصه، فإنه
على هذا التأويل لم يخرج عن كونه غلوا غير مقترن بما يخلص. والذي هو أقرب منه بحيث
لا يجوز أن يؤتى به في باب الغلو ولا يخرج عن كونه مبالغة قول النابغة في صفة
السيوف [طويل]:
تقد
السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن في الصفاح نار
الحباحب
وما
تجاوز حد المبالغة فهو غلو، لا سيما وهو غير مقترن، وإذا ثبت أن بيت النابغة أحسن
أحواله أن يعد من المبالغة لا من الإغراق، وأن بيت النمر قد تجاوز حدث فهو من
الغلو ولما كان ما جاء من الغلو مستحسناً، لا يكون إلا باقترانه بما تقدم، وما جاء
منه غير مقترن كان مستقبحاً. وجاء بيت النمر غير مقترن علم أنه من الغلو المستقبح.
والله أعلم.