أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-07-14
443
التاريخ: 2024-07-16
540
التاريخ: 11-10-2014
1512
التاريخ: 2024-07-15
447
|
لم تحظ القصص القرآنية الكريمة باهتمام الدارسين والنقّاد بقدر ما حظيت به قصة أو رواية يوسف (عليه السلام) ، حيث عولجت في دراسات مستقلّة ، ولعل السبب في ذلك عائد إلى جملة نقاط ، منها : أنّ القصة المذكورة قد استقلّت بها سورة كاملة مع ملاحظة أنّ بعض القصص قد استقلّت بدورها بها سور كاملة ، كسورة «نوح» وسورة «الفيل» إلاّ أنّ قصر هذه السور يجعل الاهتمام بها محدوداً بقدر حجم القصص ذاتها ، وهذا على العكس من قصة يوسف حيث أنّها ترتكن إلى ما يمكن تسميته بـ : الرواية لأنـّها تتناول حياة طولية لبطلها يوسف وتضمّنها تفصيلات تتناسب مع الرواية . على أيّة حال ، نكرّر الذهاب إلى أنّ سورة «يوسف» هي السورة الوحيدة من السور الطوال في القرآن تتمحّض لسرد قصة واحدة تستغرق السورة بأكملها ، دون أن يتخلّلها نثرٌ غير قصصي ، عدا الآيات التسع التي تنتهي السورةُ بها وهي في الواقع تعقيبٌ على القصة ذاتها .
ومن الواضح أنّ تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة ، يتحرّك من خلالها بطل رئيس واحد ، ثمّ أبطال ثانويون يتحركون ضمن ذلك البطل .
أقول : إنّ تخصيص سورة بأكملها لقصة واحدة إنّما يكشف عن أهمية هذه القصة وما تنطوي عليه من دلالات خطيرة ينبغي أن نضعها في الاعتبار ، ونحن نتناول بالدراسة مثل هذه القصة .
والآن ، ما هي الخطورةُ التي تنطوي عليها القصةُ أولا؟ وما هي خطوط الشكل الفنّي الذي اعتمدت القصةُ عليه ، ثانياً ؟
* * *
إنّ أهمية قصة يوسف تتمثّل في تضمّنها أحداثاً ومواقف في غاية الإثارة .
وهذه الإثارة ناجمة عن كونها تتصل بأهمّ الدوافع لدى الإنسان وأشدّها إلحاحاً ، وفي مقدمتها الدافع الجنسي .
يلي ذلك ، دافع الحسد أو الغيرة ، وهو دافعٌ مُلحٌّ بدوره لا يكاد يتحرّر الإنسانُ منه إلاّ بالتدريب الشاقّ ، من خلال الوعي الإسلامي بجذور هذا الدافع وطرائق تهذيبه أو التصعيد به ، أو التخلّص منه .
هناك أيضاً دافعٌ ثالثٌ مُلحٌّ بدوره تكشف القصة عنه ، ألا وهو دافع السيطرة أو التفوّق .
وفضلا عن ذلك كلّه ، ثمة دوافع وحاجات وميولٌ ومواقف تكشف القصةُ عنها ، مبيّنةً لنا طرائق التعامل معها ، وإشباعها بالطريقة السوية أو الشاذّة .
هذه الحاجات والمواقف ستتبلور أمامَنا بصورة واضحة حين نقف على تفصيلات هذه القصة وما تحفل به من أحداث وأبطال وبيئات ومواقف ، وبخاصة أنـّها جميعاً صيغت في شكل قصصي حافل بأنواع الإثارة الفنّية .
الشكل الفنّي للقصة
لقد بدأت قصة حياة يوسف على النحو الآتي :
﴿إِذْ قالَ يُوسُفُ لأِبِيهِ : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ﴾
﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ﴾
هنا أجابه أبوه ، قائلا :
﴿يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً﴾
﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإْنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾
إذن القصةُ تعتمد على مادة حُلُميّة منذ البداية .
والحُلُمُ كما هو واضح يُشكّل في القصة المعاصرة بخاصة ، مادة فنّية غنيّة في التقنية القصصية .
وأهمية الحُلُم تنبثق من كون الحُلُم واحداً من أهمّ فعاليات السلوك البشري في الجانب اللاشعوري من الشخصية . ولذلك فإنّ استخدام مادة الحُلُم في أعمال قصصيّة يكتُبُها البَشر إنّما تعدّ ذات أهمية كبيرة ، نظراً لأهمية الجانب اللاشعوري من نشاط الإنسان .
ونحن الآن لا يعنينا أن نتحدّث عن اللاشعور بمعناه الأرضي وافتراقه عن التفسير الإسلامي لللاشعور وصِلة الأحلام بذلك ، بل لهذا البحث مكان آخر تحدّثنا عنه مفصلا في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي ، وإنّما يهمّنا الآن أن نشير فحسب إلى أهمية المادة الحلمية في العمل القصصي بصفتها واحدة من أهم فعاليّات السلوك في نطاقه خارجَ اليقظة ، أو ما يسمّيه البحث الأرضي خارجَ الوعي .
على أيّة حال ، حين ننقل هذه الظاهرة إلى نطاقها الإسلامي ، نجد أنّ الحلم وهو نمطان : صادق وكاذب ، إنّما يُعدّ الصادق منه جزء من الإلهام تدفعه السماء إلى الشخصية خارج يقظتها ، بُغية الإفادة منه في تصحيح السلوك في نطاق الحالم نفسه ، أو نطاق الآخرين بحيث تتحقق الإفادة إمّا بنحو خاص متّصل بالحالم وبمن يعنيه أمره ، أو بنحو عام مُتصل بالجماعات الإنسانية كلِّها أو بعضها .
* * *
وحين نعود إلى قصة يوسف نجد أنّ المادة الحلميّة في هذه القصة قد شملت هذه الأنواعَ الثلاثة من الأحلام ، أي :
1 ـ الحلم الخاص بشخصية الحالم نفسه .
2 ـ الحلم الخاص بمن يعنيه أمره .
3 ـ الحلم المتصل بالجماعات الإنسانية .
أمّا الحلم الخاص بشخصية الحالم ، فقد تمثّل في ثلاثة أحلام :
أ ـ حلم يوسف في رؤيته لأحد عشر كوكباً .
ب ـ ج ـ حُلُمَي صاحِبَيهِ في السجن ، في رؤية أحدهما يعصر خمراً ، ورؤية الآخر حاملا فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه :
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما : إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً﴾
﴿وَقالَ الآخَرُ : إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾
وهذا كلّه فيما يتصل بشخصية الحالم .
أمّا فيما يتصل بمن يعنيه أمره ، فهو حُلُم يوسف بما يتصل بسلوك إخوته . ثمّ حُلُما صاحبيه من حيث صلتهما بالمَلِك الذي يخدمه الأوّل ، ويصلب الآخر .
وأمّا النوع الثالث من الأحلام التي تتصل بالجماعة الإنسانية ـ في هذه القصة ـ فهو : حُلُم المَلِكَ الذي رواه على النحو الآتي :
﴿قالَ المَلِكُ : إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَرات سِمان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ﴾
﴿وَسَبْعَ سُنْبُلات خُضْر وأُخَرَ يابِسات﴾
وهذا الحلم يتصل ليس بالحالم نفسه ، بل برعيّته أجمع من حيث خصب الأرض وجدبها .
إذن الأنواع الثلاثة من الأحلام وجدت طريقها في هذه القصة الحافلة بالأسرار الفنّية المثيرة .
ليس هذا فحسب ، فالمادة الحلميّة لم تقتصر في هذه القصة على استقطابها للأنواع الثلاثة من الأحلام ، بل تجاوزته أيضاً إلى مهمة فنّية اُخرى هي مهمة تفسير الأحلام الثلاثة .
إنّ تفسير الحُلُم يشكّل بدوره جزءً خطيراً من السلوك البشري .
فإذا كان الحُلُم فعاليةً لا شعورية ، أو فعالية غيبيّة ، فإنّ تفسيره هو الذي يمنح المعنى أو الدلالة التي ينطوي السلوك عليها .
من هنا ، فإنّ المادة الحلميّة في قصة يوسف قد استُكملت فنّياً حينما اتّبعت الحُلم بتفسيره وتوضيح دلالاته .
فالأنواع الثلاثة من الأحلام لم يتركها النصُّ القرآني بلا جواب ، بل أتبع كلاّ منها بالتفسير الذي ينطوي الحُلُم عليه .
ونقصد بالأحلام الثلاثة : أنواع الحلم من حيث صلته بالحالم ، أو بمن يعنيه من الخاصة ، أو بالجماعات الإنسانية على نحو ما فصّلنا الحديث عنه .
أمّا عدد الأحلام الذي وجد طريقه في قصة يوسف فهو أربعة أحلام ، ذكرت في القصة ، يُضاف إليها حُلُمان ليوسف وأبيه ذكرتهما نصوص التفسير ، فيكون المجموع ستة أحلام . أمّا ما نتناوله الآن فهو أربعة أحلام وفي حينه نذكر الحُلُمَين الآخَرَين .
1 ـ حُلُم يوسف في رؤيته أحد عشر كوكباً .
2 ـ حُلُم أحد صاحبيه في السجن في رؤيته يعصر خمراً .
3 ـ حُلُم أحد صاحبيه في رؤيته حاملا فوق رأسه خُبزاً تأكل الطير منه .
4ـ حُلُم المَلِك في رؤيته البقراتِ السِمَان والعجافَ ورؤيته السنبلاتِ الخُضَر واليابساتِ .
هذه الأحلام الأربعة ، قد أُتبِعَت في قصة يوسف بتفسير كلّ واحد منها .
* * *
وإليك تفسيرات هذه الأحلام الأربعة :
1 ـ حُلُم يوسف ، وقد فسّره أبوه يعقوب على النحو الآتي :
﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً﴾
2 ، 3 ـ حُلُم صاحبي يوسف في السجن : وقد فسّرهما يوسف على النحو الآتي :
﴿أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً﴾
﴿وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾
4 ـ حُلُم الملك ، وقد فسّره يوسف أيضاً ، على النحو الآتي :
﴿قالَ : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً﴾
﴿فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ﴾
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ﴾
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النّاسُ وفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾
هذه هي التفسيرات التي قدّمها يعقوب ويوسف للأحلام الأربعة في القصة .
ومنها نستخلص أنّ المادّة الحلميّة في قصة يوسف قد استُكملت بإضافة العنصر التفسيري لها .
وبهذه الإضافة تكون المادة الحُلُميّة قد تشكلت ـ فنيّاً ـ على النحو الآتي :
1 ـ القصة أساساً قد اعتمدت على مادة الحُلُم من حيث دَوَران أحداثها ومواقفها على حُلُم بطلها الرئيسي يوسف .
2 ـ القصة قد اعتمدت على أكثر من حُلُم : حلم يوسف وصاحبيه والمَلِك ، وهذا يعني أنّ عنصر الأحلام هو العصب الفنّي الذي قام عليه شكلُ القصة .
3 ـ القصة في مادّتها الحُلُميّة قد استقطبت الأنواع الثلاثة التي ينحصر الحُلُم الصادقُ فيها ، وهي : علاقة الحُلُم بصاحبه ، أو بمن يعنيه أمره ، أو بالجماعات الإنسانية .
4 ـ القصة لم تقتصر في مادتها الحُلُميّة على فعاليّة الأحلام فحسب ، بل تجاوزته فعاليّة تفسير الأحلام أيضاً .
* * *
إنّ هذه العناصر الأربعة في مادة الحُلُم الذي قامَ شكلُ القصة عليه ، إنّما تكشف عن الخطورة الفنّية التي انطوت عليها قصةُ يوسف من حيث جماليةُ البناء القصصي وخطوطه الهندسية التي تناسقت فيما بينها ، حيث تلاقت على حُلُم رئيس وأحلام ثانوية تتواكب معها ، ومن حيث تلاقت على أحلام فردية تخصّ حالماً بعينه ، وأحلام تخصّ شخصيات عادية واُخرى غير عادية ، وأحلام تخصّ جماعة صغيرة ، وأحلام تخصّ جماهير الشعب بأكمله ، ومن حيث أنّها اُتبِعَت بتفسير الأحلام أيضاً ، ومن حيث انحصارُ التفسير في يوسف وأبيه .
كلّ هذه الخطوط الهندسية المتناسقة من حيث اعتمادها على مادة الحُلُم ومستوياته المتقدمة ، إنّما تفصح عن شكل فنّي له خطورته في نطاق البناء القصصي ، وانعكاس ذلك على الدلالات الفكرية في القصة .
والآن ، حين نتجاوز هذا البناء الفنّي القائم على مادة الحُلُم وتفسيره ، أقول :
حين نتجاوز هذا البناء إلى أشكاله الفنّية الاُخرى ، فماذا سنجد حينئذ ؟!
بناء الحدث :
من حيث البناء الذي تتحرّك الأحداث والمواقف من خلاله ، فإنّ الحدَثَ يأخذ تسلسله في الزمن الموضوعي ، أي تسير القصة حادثاً بحادث دون أن تُقطعَ الأحداث وفقاً لزمنها النفسي ، إلاّ نادراً فيما نتحدّث عنه في حينه .
فالقصة تبدأ بحُلُم يوسف الذي فسّره أبوه ، بأنّ إخوته في صدد أن يكيدوا له لو قصّ عليهم رؤياه .
ثمّ تأخذ الأحداث تسلسلها الزمني بدء من إلقائه في الجب ، مروراً بقضيته مع امرأة العزيز ، فإيداعه السجن ، فولايته على مصر ، فقضيته مع إخوته في حادثة الكيل ، وانتهاءً بعودة أبويه وإخوته إليه .
* * *
وأمّا البناء الداخلي للحدث ، فإنّ القصة تسير وفق معمارية بالغة الجمال من حيث تداخل الأحداث وصِلة بعضها بالآخر . ثمّ نموّها عبر خطوط تتوازى وتفترق حتّى تُصبّ في نهر واحد في نهاية المطاف .
ولكي نتبيّن معالم هذا البناء ، يحسن بنا أن نقسمها إلى عناصرها من أحداث وشخصيات ومواقف وبيئات وأفكار ، نظراً لما ينطوي عليه كلّ عنصر من قيمة جمالية وفكريّة لا غنى للمتلقّي من الوقوف عليها ، حتّى يتعرّف على الأسرار الفنّية لهذه القصة ، ثمّ ما تنطوي عليه من أفكار تتصل بأهم دوافع السلوك البشري ، والإفادة منها في تصحيح سلوكنا وتعديله في ضوء مبادئ السماء التي تصوغ لنا أمثال هذه القصص حتى تكون عبرة لاُولي الألباب حيث خُتمت القصة بهذه الحقيقة . وهي قوله تعالى :
﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبابِ﴾
﴿ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ولكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾
﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء وهُدىً ورَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ﴾
ونقف أولا مع أبطال القصة بادئين بأبطالها الثانويين الذين مارسوا مهمّات محدّدة ، ثمّ ببطلها الرئيس يوسف (عليه السلام) .
ويمكننا أن نُحدّد هؤلاء الشخوص الثانويين في :
1 ـ يعقوب .
2 ـ إخوة يوسف .
3 ـ الأخ الأصغر .
4 ـ العزيز .
5 ـ إمرأة العزيز .
6 ـ نسوة المدينة .
7 ـ صاحبي السجن .
ومن الواضح أنّ مهمّة البطل الثانوي ـ في أيّ شكل قصصي ـ تتمثّل في إبراز هدف محدّد وفي إلقاء الضوء على الشخصية الرئيسة ، مع ملاحظة أنّ بعض الأبطال الثانويين في القصص الأرضي قد يشكّلون وجهة نظر مبدع القصة نفسها وقد يضطلعون بأدوار قد لا يُتاح حتّى للبطل الرئيس ممارستها .
والمهمّ أنّ القصص القرآن الكريم تحدّثنا بلغتنا التي نألفها ونتذوّقها حسب استجابتنا التي ركّبتها السماء وفق صياغة خاصة ، تأخذ كلاّ من جانب الإمتاع الجمالي والفكري بنظر الاعتبار ، وهو هدف الفنّ في كلّ أشكاله .
إنّ الأبطال الثانويين في هذه القصة مارسوا أدواراً بالغة الأهمية ، بحيث يضطلع كلٌّ منهم بإبراز هدف محدّد يُلقي من جانب إنارةً على شخصية البطل يوسف ، ويبلور لنا من جانب آخر أفكاراً معيّنة نفيد منها في تعديل السلوك .
ولعلّ كلاّ من يعقوب (عليه السلام) وإخوة يوسف ينهضان بأدوار بالغة المدى بالقياس إلى سائر الأبطال الثانويين ، فيما تتجاذبهم من دوافع السلوك المتصل بدافع الاُبوّة ، ودافع الحسد وسواهما .
كما أنّ امرأة العزيز تضطلع بمهمّة خاصة تتصل بأحد الدوافع البشرية وهو الدافع الجنسي ، مثلما يظل سلوك نسوة المدينة قائماً على دافع الغيرة والحسد والدافع الجنسي أيضاً . في حين يظل سلوك العزيز ، وصاحبي السجن ، متصلا بدوافع اُخرى نتحدّث عنها لاحقاً .
إنّ ما يعنينا هنا ، أن نقف عند كلّ بطل ثانوي في القصة ، لاستخلاص المهمّة الفنّية التي نهض بها وتحديد موقعها العضوي من القصة ، ونبدأ بالبطل يعقوب (عليه السلام) .
شخصية يعقوب
تظلّ هذه الشخصية ذات ملمح مأساوي في القصة ، نظراً للشدائد التي واجهتها ، بيد أنّ المأساة هنا تكتسب جانباً عبادياً يختلف عن المفهوم الأرضي للمأساة .
وأوّل ما يتبادر إلى الذهن ، هو دافع أو عاطفة الاُبوّة التي تشكّل من أقوى الحاجات إلحاحاً عند الآدميّين . وقد تضخّم حجم هذا الدافع بعاطفة اُخرى هي صغر سن ولده يوسف ، ثمّ تضخّم حجمه ثالثاً بسمة الجمال الفائق الذي طبع ولده .
وفي ضوء هذا يمكننا أن نقدّر مدى الحبّ الذي يكنّه يعقوب لولده ، وبالمقابل ينبغي أن نقدّر أيضاً مدى الألم الذي سيلحق الأب حيال أي أذىً يلحق بولده . ثمّ ينبغي أن نقدّر مدى ضخامة المأساة في استجابة الأب عندما تضخم مأساة ولده إلى الدرجة التي يفتقده وليس مجرّد لحوق أذىً به .
إنّ أول خيوط المأساة بدأت مع الحُلُم الذي قصّهُ يوسف على أبيه . ويمكننا بسهولة أن نستكشف لغة المرارة في أعماق يعقوب ، وشدّة تخوّفه في ردّه على يوسف ، وتحذيره إيّاه من أن يقصّ رؤياه على إخوته خشية أن يكيدوا به ، قال لولده :
﴿يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً﴾
﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإْنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾
إنّ الكيد أو التآمر ليس مجرّد مشاعر عدوانية تُترجم إلى سلوك لفظي وحركي عابر نألفه اعتيادياً في سلوك غالبية البشر ، بل يعني حياكة عمل أو خطة للإطاحة بالشخصية وبحياتها ، وهو أمرٌ يكشف لنا عن مدى القلق والتمزّق والتوجّس الذي لفّ شخصية يعقوب (عليه السلام) منذ حدوث الرؤيا ، منعكساً في تحذيره الآنف الذكر .
أمّا من الزاوية الفنّية ، فينبغي أن نتنبّأ بالأحداث اللاحقة التي ستتحرّك في بيئة القصة نتيجة لهذه الكلمة المحذّرة من الكيد . إنّ هذا التحذير القائل :
﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا . . .﴾
لم يُرسم في القصة عَبَثاً ، بل ينطوي على سمة فنّية تتصل بالبناء العماري لهيكل القصة ، ألا وهي : تهيئة ذهن القارئ لأن يتوقع حدوث مأساة بالفعل ، ولكن دون أن يتعرّف تفصيلاتها .
ومن الحقائق المألوفة في حقل الأدب القصصي أنّ عملية التنبّؤ بما سيحدث ، تظل واحدة من أدوات الإثارة ، ولكن شريطة ألاّ تُصبح بشكل جاهز ، وإلاّ فقدت القصة عنصر الإثارة ، بل ينبغي أن تحوم في دائرة ما هو مُتوقّع مضافاً إلى تضبيب مستويات الحَدَث . فأنت قد تتوقع مثلا أن يصيب بطلا ما أحدُ أشكال الأذى دون أن تتيقن ماذا سيحدث بالفعل ، فقد يمرض مثلا ، أو يُجرح ، أو يُختطف ، أو يُقتل ، أو يغترب . . . إلى آخره .
ومن هنا يجيء عنصر التشويق في القصّة في معرفة ماذا سيحدث حيال البطل بديلا عن عنصر التنبّؤ الذي قد يقلّل من الإثارة ومن متابعة ماذا سيحدث .
وأمّا في حالة عدم تضمّن القصة لعناصر التنبّؤ بالأحداث اللاحقة ، فإنّ عنصر المفاجأة سيلعب حينئذ دوراً له فاعليته في هذا الصدد .
والمهم أنّ تحذير يعقوب لولده يتضمّن من الوجهة الفنّية عنصر تنبّؤ بما سيحدث ، بيد أنّ تضبيب أو عدم معرفة ما سيحدث ، هو الذي سيُحقق لدى المتلقّي عنصر إثارة كبيرة هو ، التشويق لمعرفة هويّة الحدَث الذي سيواكب مصير يوسف (عليه السلام) .
والآن ـ خارجاً عن السمة الفنّية المذكورة ـ يعنينا أن نعيد إلى ذاكرتنا من جديد ، أنّ أوّل خيوط المأساة التي أحاطت بيعقوب (عليه السلام) هي : توقّعه لكيد أو مؤامرة كبيرة تحاك ضد ولده في حالة قصّهِ الرؤيا على إخوته ، كما أنّ القارئ يتوقّع أيضاً أن يكون قلق يعقوب (عليه السلام) بالغ الشدّة لجملة من الأسباب : أولها ، أنّ يعقوب إحدى الشخصيات المصطفاة التي لا تتحدّث من خلال التنبّؤات العادية ، بل تتحدّث من خلال لغة الوحي ، ممّا يعني أنـّها مقتنعة تماماً بأنّ مؤامرة ضخمة ستحاك ضد ولده يوسف في حالة قصّه رؤياه على الإخوة .
مضافاً لذلك أنّ بعض النصوص المفسّرة ، ذهبت إلى أنّ يعقوب قد وعدته السماء بأن يستعدّ لمجابهة الشدائد إمتحاناً لحادثة سابقة تتصل بأحد السائلين الذين شكّك يعقوب (عليه السلام)بصدق جوعه .
إذن كلّ أسباب القلق والخوف على مصير يوسف (عليه السلام) تأخذ الآن في أعماق يعقوب (عليه السلام) حجماً كبيراً من الشدّة .
ثمّ تبدأ الشدائد متجسّدة في وقائع بالفعل ، بعد أن كانت مجرّد أحاسيس ومشاعر وأوّل هذه الشدائد تبدأ مع طلب أولاده باصطحاب يوسف (عليه السلام) ، حيث عبّر الأب عن بالغ تخوّفه من هذا الطلب ، قائلا بمرارة :
﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ﴾
إنّ هذا التخوّف يشكل عنصر إضاءة جديدة لمخاوف يعقوب وشدائده القلبية .
كما أنـّه يشكّل من الوجهة الفنّية إرهاصاً جديداً بأنّ حادثة ما ستحاك ضد يوسف (عليه السلام) .
وهنا تأخذ القصة طابعاً فنّياً بالغ الإمتاع ، فالقارئ قد يتوقّع أن تسفر مصاحبة يوسف لإخوته عن حادثة افتراس من الذئب حقاً ، غير أنّ هذا التوقّع سيخفت عندما تكشف القصة عن أنّ الافتراس لا يتمّ بالفعل ، بل إنّ ما يتمّ ، هو حادثة افتعال لعملية افتراس الذئب ليوسف (عليه السلام) ، ومن هنا يمكننا أن نستكشف مدى جمالية هذا المنحى من القصّ :
فأولا : سنعرف أنّ لهذا التخوّف من افتراس الذئب حقيقة ستكشف القصة عنها ، وهي أنّ إخوة يوسف (عليه السلام) سيجيئون إلى أبيهم عشاء يبكون ، وسيقولون له : إنّ الذئب قد أكل يوسف ونحن عنه غافلون .
ثانياً : سُيفاجأ القارئ بحدث جديد هو ، إلقاء يوسف في البئر وليس افتراسه من قِبَل الذئب .
وبهذا المنحى من صياغة القصة تتحقّق إثارة فنّية كبيرة الإمتاع ، حيث تقوم على عنصرين هما : المفاجأة ، ثمّ التشويق لمعرفة ماذا سيحدث من تفصيل ونتائج من هذه العملية ؟
وواضح أنّ القصة تبلغ قمة الإثارة بقدر ما يتوفّر فيها كلٌّ من مفاجأة ما حَدَث ، وتشويق لما سيحدث ، وهذا ما حققته هذه الشريحة من تحرّك البطل يعقوب (عليه السلام) في بيئة القصة .
* * *
ثمّ جاءت المرحلة الثالثة من خطوط المأساة بالغة قمّتها عندما بلغه خبر الذئب وافتراسه ليوسف (عليه السلام) .
لكنه أدرك كَذِبَ هذا القول منهم ، فخاطبهم بمرارة :
﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾
طبيعيّاً أن نستكشف بسهولة أنّ يعقوب وهو يتعامل مع الوحي وليس مع موازين لأرض ، أدرك ـ كما قلنا ـ أنّ قضية الذئب لا واقع لها من الصحة . غير أنّ ما يعنينا من ذلك هو ، هذه الفقرة «فصبرٌ جميل» ، فيما تفصح عن دلالتين ، إحداهما : بلوغ المأساة قمّتها ، بعد أن وقع ما كان يخشاه ، والاُخرى : ممارسته لفضيلة الصبر التي تستهدفها القصة في هذا الجزء منها .
ثمّ جاءت المرحلة الرابعة من خُطوط المأساة ، بعد أن أُخلي يعقوب (عليه السلام) من مسرح الأحداث ، بدءً من إلقاء يوسف في البئر ، فقضيته مع امرأة العزيز ، فلبثه في السجن ، فتعيينه خازناً على الأرض ، جاءت هذه المرحلة بولد جديد يحمل بعضاً من سمات يوسف (عليه السلام) ، هو أخوه الصغير لأبيه بنيامين . . .
لقد أصبح يوسف (عليه السلام) خازناً واحتاج الجمهور إلى الطعام ، ومنهم اُسرة يعقوب (عليه السلام) ، فيما اضطرّ الإخوة إلى التوجّه نحو يوسف . بيد أنّ يوسف ـ لحكمة خاصة ـ يطلب من الإخوة أنّ يصطحبوا أخاهم الصغير بنيامين ، وجاؤوا إلى الأب ، فقال لهم :
﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ ؟ ﴾
ثمّ أوصاهم بهذه الفقرة التي تنضح بالمرارة والخوف :
﴿يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ باب واحِد وادْخُلُوا مِنْ أَبْواب مُتَفَرِّقَة﴾
ثمّ وقع المحذور الجديد وهو : ضياع بنيامين أيضاً عبر حادثة السرقة التي افتعلها يوسف (عليه السلام) لحكمة خاصة ، وعندها وجّه يعقوب (عليه السلام) لأولاده نفس الفقرة
التي عقّب فيها على مصير يوسف (عليه السلام) ، قائلا :
﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾
لكنه الآن يعلّق بعض الآمال على يوسف وبنيامين ، قائلا :
﴿عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً . . .﴾
المهم أنّ هذه الوقائع التي بدأت بالتخوّف على بنيامين ، والأمر بدخول الإخوة من أبواب متفرّقة ، ثمّ إخباره بإيداع بنيامين في السجن ، هذه الوقائع تحفر في أعصاب يعقوب (عليه السلام) آثاراً جديدة من الشدائد ، حتّى توّجت بنهاية موجعة كلّ التوجّع ألا وهي فقدانه لعينيه ، فيما تشف عن ذلك هذه الفقرة القصصية :
﴿وَتَوَلّى عَنْهُمْ وقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ . . .﴾
لقد ظلّ يعقوب (عليه السلام) باكياً وذاكراً ليوسف (عليه السلام) حتّى قال له أولاده :
﴿تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ﴾
وها هو يجيبهم :
﴿إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إِلَى اللّهِ . . .﴾
إذن بلغت المأساةُ قمّتها وأشدّ حينما فَقَد يعقوبُ يوسفَ وبنيامينَ ، وبصره ، مضافاً إلى استحضاره ذكر يوسف إلى الدرجة التي ضجّ منها أولاده ، كما لحظنا .
* * *
إنّ موقف الأولاد وذرّياتهم أو أحفاده نفسه ، يضيف إلى حجم المأساة ثقلا جديداً دون أدنى شك . . . فهاهم حيناً يتّهمونه ، أو لِنَقُل يوجّهون إليه كلاماً لاذعاً من نحو ﴿حَتّى تَكُونَ حَرَضاً﴾ و ﴿تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ . . .﴾ وها هم حيناً آخر يقولون له ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾ ، وهذا بعد أن اطمأن يعقوب (عليه السلام) إلى حياة ولديه من خلال القميص ومن خلال قَنَوات غيبية أطلعته على ذلك .
في نهاية المطاف ، تظل شخصية يعقوب بصفته أحد الأبطال الثانويين في القصة ، رمزاً أو دلالةً أو نموذجاً للأب ، أو لدافع البنوّة بما يواكب هذا الدافع من شدائد لا مناص منها في عملية الاختبار ، ثمّ ما ينبغي أن يزامن هذه الشدائد من عملية الصبر التي تظلّ موضع تشدّد القصة ، متمثلا فيما كرّره يعقوب (عليه السلام) مرتين بقوله : «فصبر جميل» عند بلوغه خبر فقدان كلٍّ من يوسف وبنيامين .
مضافاً لذلك نستكشف دلالةً ثالثة في رسم هذه الشخصية الثانوية يعقوب ألا وهي : النتائج التي يفرزها الصبر والتوكّل على اللّه فيما ينبغي أن نقف عندها أيضاً .
* * *
لقد عاشت المأساة في أعماق يعقوب (عليه السلام) سنوات طوالا ، بدأت مع حلم يوسف (عليه السلام) ، بل مع تلك المقولة التي أرسلتها السماء إلى يعقوب حينما أوحت له بأن يستعد لمواجهة الشدائد ، متبلورة في ابتلائه بسلوك أولاده ، ففقدانه يوسف (عليه السلام) ، ثمّ فقدانه بنيامين أصغر أولاده ، ثمّ ذهاب نور عينيه . . .
إلاّ أنّ لكلّ ليل صباحاً ، ولكلّ شدّة فرَجاً . . . وها هي خيوط الفرج تبدأ بالاقتراب ، حيث تذكر لنا النصوص المفسّرة : إنّ جبرئيل بشّر يعقوب (عليه السلام) بأنّ ولديه لو كانا ميّتين لبعثهما اللّه إليه ، موصياً إيّاه أن يصنع طعاماً للفقراء قبال سلوكه السابق الذي منع الطعام عن جائع ذات ليلة عبر تصوّره بكذب دعوى الجائع .
وتقول هذه النصوص أيضاً : إنّ يعقوب (عليه السلام) دعا اللّه أن يُهبَط عليه مَلَكَ الموت ، فأجابه سبحانه وتعالى إلى ذلك ، ولما سألَ ملك الموتِ عن مرور روح ابنه يوسف (عليه السلام)عليه ، أجابه المَلَك بــ : لا . حينئذ خفّت حدّةُ المأساة في أعماق يعقوب (عليه السلام)و بدأ الفرج يلوح على الاُفق ، حيث اطمأن يعقوب (عليه السلام) على سلامة ولده .
وفي ضوء هذا الإطمئنان وجّه يعقوب (عليه السلام) إلى أولاده هذا الطَلَب :
﴿يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وأَخِيهِ﴾
﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ﴾
* * *
وفعلا عندما ذهب أولاده إلى أخيهم يوسف وأخبرهم بحقيقة الأمر ، عندها قال لهم :
﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي﴾
﴿يَأْتِ بَصِيراً وأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾
وما أن انطلقت القافلةُ التي تحمل قميص يوسف (عليه السلام) من مصر متوجّهة نحو بادية الشام حتى هبّت الصبا حاملة إلى يعقوب رائحة القميص ، فتوجّه إلى أحفاده قائلا :
﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾
إلاّ أنّ أحفاد يعقوب فيما يبدو كانوا بمنأى عن معرفة عطاء السماء وما يحفل به من إعجاز ، وأبوا إلاّ أن يوجّهوا إلى جدّهم قدراً من الألم حينما قالوا له :
﴿تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾
ولكن يعقوب (عليه السلام) وهو المؤمن بعطاء السماء الذي لا حدّ له كان على يقين تام بالبشارة . ولذلك ما أن جاءه البشير وألقى القميص على وجهه حتّى تحققت البشارة فارتدّ بصيراً بعد العمى :
﴿فَلَمّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً﴾
وعندها قال لأولاده :
﴿أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾
وهكذا بدأت المرحلة الجديدة من حياة يعقوب (عليه السلام) ، بدأت بانفراج الأزمة ، بدأت بمسح المأساة من أعماقه ، فقد اطمأنّ إلى يوسف (عليه السلام) وعادت عيناه بصيرتين كما كانتا قبل المأساة .
ثمّ توّجت هذه الحياة الجديدة بالتئام الشمل ، حيث توجّه وأهله أجمعون نحو مصر ، نحو ولده الذي تربّع على عرش مصر وعندها :
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً﴾
وقال يعقوب (عليه السلام) مخاطباً يوسف : السلام عليك يا مذهب الأحزان .
نعم ، لقد هتف يعقوب مُعرباً عن فرحته العظيمة ، عن ذهاب الحزن من أعماقه ، عن ذهاب مرحلة من حياته واستقبال مرحلة جديدة ، مرحلة لمّ الشمل وعودة الأهل بعضهم إلى البعض الآخر .
* * *
وإذن ، نستخلص من حديثنا عن أحد الأبطال الثانويين في قصة حياة يوسف (عليه السلام)و هو : البطل يعقوب (عليه السلام) ، نستخلص جملة من الحقائق الفكرية والفنّية من خلال الأدوار التي مرّت على هذا البطل .
إنّ أهمّ الأفكار التي ينبغي استخلاصها من حياة البطل يعقوب ، هو تحمّل الشدائد وضرورة التوكّل على اللّه . فالشدائد ينبغي ألاّ تحمل الشخصية على الجزع منها واليأس من الفرج الذي يتبعها . فيعقوب (عليه السلام) بالرغم من فقدانه لولديه الأثيرين لديه جداً . وبالرغم من طول المسافة الزمنية التي افتقد فيها ابنه يوسف (عليه السلام) ، لم ييأس من روح اللّه ، حتى أ نّه خاطب أولاده قائلا :
﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ﴾
هذه الفقرة أو الآية تمثّل جوهر الأفكار التي تنطوي عليها حياة يعقوب (عليه السلام) في القصة . فالنص القرآني الكريم يُشدّد على هذا الجانب ويطالبنا ألاّ نيأس أبداً من عطاء السماء مهما امتدّ زمنُ المأساة وطال ، بل إنّ هذا الجانب يُلقي بأضوائه على كلّ أفكار القصة أساساً وليس من خلال الأدوار التي قام بها يعقوب (عليه السلام) فحسب ، بل إنّنا لنجد أنّ خاتمة القصة أو التعقيب الذي أنهتِ السماء قصة يوسف (عليه السلام) به ، هذا التعقيب كان يحوم بدوره على فكرة عدم اليأس من نصرة السماء لعبدها ، سواء أكان هذا العبد يتحرّك من خلال همومه الذاتية ، كما هو شأن يعقوب (عليه السلام) مع أولاده ، أو كان يتحرّك من خلال همومه الاجتماعية أو الرسالية ، كما هو شأن الأنبياء والمصلحين .
ولذلك جاءت خاتمةُ قصة يوسف تحوم على إبراز هذا الجانب من حياة الرُسُل ، يقول النص في الآية التي تسبق ختام السورة :
﴿حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا . . . ﴾
إذن ينبغي ألاّ تفوتنا هذه الصلات الفنّية بين أبطال ثانويين مثل يعقوب (عليه السلام) ، وبين أفكار القصة بأجمعها ، فيعقوب (عليه السلام) هو بطل ثانوي تجسّدت حياته في جملة من الأدوار التي لحظناها في القصة . وكان جوهرُها يتمثّل في تحمّل الشدائد وعدم اليأس من نصرة السماء للعبد .
وفعلا جاء نصرُ السماء ليعقوب بعد تلك الشدائد والمحن ، من الاعتقاد بهلاك يوسف (عليه السلام) ، ثمّ ذهاب نور عينيه .
لقد جاء نصر السماء ليعقوب (عليه السلام) أمراً لافتاً للنظر ، حيث أعادت إليه يوسف وهو من الهالكين حسب منطق الأحداث .
ثمّ ردّت عليه بصره وهو أعمى لا يُرجى شفاؤه حسب منطق الطبّ .
إلاّ أنّ يعقوب الذي شدّد على التوكّل على اللّه ، ثمّ شدّد على عدم اليأس من روح اللّه . . . قد كانت السماء إلى جانبه ، إلى حسن ظنّه وثقته بها ، فنصرته .
هذه الفكرة نفسها قد وُظّفت على المستوى الفنّي لإنارة فكرة العمل الرسالي وضرورة تحمّل الشدائد ، ثمّ اليقين بنصرة السماء في نهاية المطاف ، مهما كانت الشدائد حادّة مثيرة . . . لقد ، وُظّفت هذه الفكرة لإنارة إحدى الأفكار الرئيسة في القصة بأكملها حتى لو لم تكن ذات علاقة بيعقوب (عليه السلام) ، ونعني بها الفكرة المتصلة بضرورة تحمّل أعباء الرسالة ، حيث ختم النص السورة بها ، فقال :
﴿حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا﴾
إذن كان هناك تطابقٌ أو تماثل بين حياة خاصة بيعقوب (عليه السلام) تتّصل بأولاده ، وحياة عامة تـتّصل بالأنبياء والرسل ، هذا التطابق أو التماثل يتجسّد في ضرورة عدم اليأس من نصرة السماء مهما كانت الشدائد حادّة ، سواء أكانت هذه الشدائد فردية تتصل بذهاب ولد أو بَصَر ، أو كانت جماهيرية تتصل بتكذيب الرسل والأنبياء من حيث فقدانهم الأنصار الذين يستجيبون لرسالتهم .
إذن للمرة الأخيرة ، كانت حياة يعقوب (عليه السلام) من خلال الأدوار التي قام بها في هذه القصة تُلقي الضوء فنّياً على أفكار رئيسة في القصة ، وظّفها النص فنّياً في هذا المجال ، وهو أمرٌ ينبغي ألاّ تفوتنا الإشارة إليه ما دمنا في صدد توضيح الخصائص الفنّية في القصص القرآنية .
إخوة يوسف
نقاط التلاقي
نقاط الافتراق
يجيء دورُ إخوة يوسف (عليه السلام) بصفتهم أبطالا ثانويين في الدرجة الثانية بعد البطل يعقوب (عليه السلام) من حيث تحركاتهم في القصة .
أمّا من حيث الأفكار فإنّ دورهم في القصة يُجسّد ظاهرة الحسد بأعتى أشكالها .
إنّ الحسد وفق التصوّر الإسلامي له ، يُعدّ أحد الدوافع الملحّة في الطبيعة الإنسانية ، حتى أنّ المشرّع الإسلامي صوّره لنا دافعاً لا تكاد تخلو منه نفسٌ إنسانية ، بما في ذلك عُظماء الرجال وأتقياؤهم ، كلّ ما في الأمر أنّ الأتقياء لا يُترجمون حسدهم إلى عمل ، بل يحتفظون به مجرّد مشاعر وأحاسيس .
ومن هنا جاء حديث الرفع المشهور الذي لا يُحاسب الإنسان على تسعة أنماط من السلوك ، منها : ما يُكره عليه ، وما يُضطرّ إليه ، وما لا يُطاق و . . . ، ثمّ الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد .
ولقد تحدّثنا مفصّلا في دراساتنا عن علم النفس الإسلامي عن ظاهرة الحسد من الوجهة النفسية والتكييف الدافعي لها من خلال وجهة النظر الإسلامية .
أمّا الآن ، فحسبُنا أن نُشير إلى الحسد بنحو عابر مادامت دراستُنا للقصص القرآنية منحصرة في الجانب الفنّي منه .
ويكفينا من ذلك أن نقرّر بأنّ الحسد وفقاً لحديث الرفع المتقدّم يشكل دافعاً ملحّاً لا يُحاسَبُ الإنسان عليه مادام مجرد أحاسيس أو مشاعر . أمّا إذا تُرجمت هذه الأحاسيس إلى عمل من خلال اللسان مثلا ، كمن يُحاول أن ينتقص من شخصيتك بدافع من الحسد ، أو من خلال اليد ، كمن يحاول الاعتداء عليك ، أو السعي لإيقاعك في مكروه أو شدّة ، حينئذ فإنّ هذا السلوك يظل عُرضةً للمسؤولية ، حيث يتحمّل الحاسد مسؤولية سلوكه تبعاً لحجم الجريمة التي تصدر عنه .
إنّ الحسد في اُقصوصة أو حكاية قابيل هو الذي دفع قابيل إلى القيام بجريمة قتل ، كما لحظنا ذلك في دراستنا لاُقصوصة قابيل وهابيل .
وفي قصة يوسف يقدّم النص القرآني نموذجاً جديداً من السلوك الحاسد ، متمثلا في السلوك الذي أقدم عليه إخوة يوسف ، ونعني به : إلقاءهم إيّاه في الجبّ .
والآن ، لنحاول متابعة النظر في سلسلة الأحداث والمواقف التي رافقت هذه العملية من خلال الدور الذي اضطلع به إخوة يوسف (عليه السلام) ، بصفتهم أبطالا ثانويين في القصة .
* * *
لقد أدرك يعقوب (عليه السلام) عندما قصّ عليه يوسف (عليه السلام) حُلمه وعندما رأى هو بنفسه حُلُماً في هذا الصدد ، أدرك أنّ إخوة يوسف سيتحرّك الحسد من خلال أعماقهم مادام يوسف أثيراً لدى والده ويحظى بحنانه وبخاصة أ نّه كان صغيرهم ، وكان أجملهم وجهاً . وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى أخ صغير آخر لهم ، هو بنيامين .
ولذلك حذّر يوسف (عليه السلام) من أن يحكي حلمه لإخوته ، إلاّ أنّ يوسف قصّ الرؤيا عليهم .
ليس في القرآن ما يدلّ على أنّ يوسف قصّ الرؤيا عليهم ، وإنّما أُثير حسدهم على يوسف ممّا رؤا أنّ يوسف أحبّ إلى أبيهم منهم ، كما نصّ القرآن عليه هنا ، وفي قوله : ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ حينما يحكي القرآن صورة المؤامرة من الإخوة على يوسف (عليه السلام) .
وفعلا جاء ردّ الفعل على قصّ الحُلُم عليهم في شكل محاولة شرّيرة سبقَتها مشاعر وأحاسيس واضحة الانتساب إلى الحسد . إذ قال بعضهم لبعض :
﴿قالُوا : لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ﴾
﴿إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلال مُبِين﴾
إنّ هذا الحوار الجمعي بين الإخوة يكشف عن تحرّك الحسد في أعماقهم مادام الأمر متصلا بيوسف وأخيه لأبيه واُمه . فهذا الانتساب وحده كاف في تفجير الحسد مضافاً إلى ذلك أنـّهما كانا صغيرين . والصغير عادة يظلّ موضع حسد الأكبر منه .
يضاف إلى ذلك التفوّق في الملامح الجسدية . وهذا عنصر مثيرٌ ثالث للحسد .
أمّا العنصر الرابع المُثير للحسد ، فهو إيثار هذين الصغيرين لدى أبيهما .
وأخيراً . . . كان الحلم هو المثير أو المنبّه الأكبر لتفجير الحسد ، حيث أدرك الإخوةُ تماماً أنّ نجمَ أخيهم سيتألّق ، لأنّ رمز الحُلُم هو سجود الأحد عشر كوكباً له ، بل حتى الشمس والقمر يسجدان له أيضاً .
وإذن لنا أن نتصوّر كم سيكون حجم الحسد كبيراً لدى الإخوة مادام الأمر يصل إلى ذوبان شخصياتهم تماماً وتلاشيها قبال شخصية يوسف (عليه السلام) ؟
ومن هنا جاء ردّ الفعل أو الاستجابة على النحو الذي قصّه القرآنُ علينا :
﴿لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ﴾
إنّ تحاورهم فيما بينهم من أنّ يوسف (عليه السلام) وأخاه أحبّ إلى أبيهم منهم ، يفصح عن مرارة المشاعر التي تلفّ أعماقهم .
بل إنّ قولهم ﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ يجسّد قمّة المشاعر الحاسدة ، ومعنى قولهم المتقدم : إنّهم جماعةً يتعصّب بعضهم لبعض ، ويعين بعضُهم البعضُ الآخر ، هذا النحو من التفكير بعقلية العُصبة إنّما يكشف عن أعماق لم تصل إليها يدُ التهذيب بعدُ .
بل إنّهم ذهبوا أكثر من ذلك :
لقد دفعهم الحسدُ إلى أن يتّهموا أباهم بالضلال .
لقد قالوها بصراحة :
﴿إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلال مُبِين﴾
إذن ، كم هو حجم الحسد هنا ؟ إنّه بالغٌ أشدّ مستوياته خطورة ، حيث نتوقّع أن يترتّب على هذا الحوار فيما بينهم تخطيطٌ لمؤامرة ضخمة تتناسب وحجم الحسد المتفجّر في أعماقهم .
إنّ النص القرآني ـ من الوجهة الفنّية ـ يُهيّؤنا لأن نتوقّع حدوث تآمر على يوسف ، فتحذير يعقوب (عليه السلام) لولده يوسف (عليه السلام) من أن يقصّ رؤياه على إخوته ، يهيّؤنا لمثل هذا التوقّع .
كما أنّ طبيعة الحوار الجمعي الذي تمّ بين الإخوة على النحو الذي لحظناه ، يهيؤنا لتوقّع المؤامرة الكبيرة على يوسف (عليه السلام) . . .
كلّ هذه الارهاصات الفنّية ، تعدنا بمؤامرة ذات حجم كبير .
تُرى ، ماذا تمخّض عن هذا الاجتماع ؟
لقد تمخّض اجتماع الإخوة ـ إخوة يوسف ـ عن تجسيد عمليّ لسلوكهم الحاسد متمثّلا في هذين الاقتراحين :
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾
﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ﴾
ثمّ جاء اقتراحٌ ثالث ـ قدّمه أحد الإخوة ، ويُسمّى لاوي ـ حسب بعض النصوص المفسّرة ، حيث قال لهم :
﴿لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ﴾
﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾
ويبدو أنّ الاقتراح الثالث ، هو أخفّ الحلول وطأة من حيث التخلّص من يوسف (عليه السلام) . وبالرغم من أنّ طرح يوسف (عليه السلام) في أرض بعيدة عن أبيه ـ وهو
الاقتراح الثاني ـ يُشكّل أحد اقتراحين متوازنين ، ويحمل نوعاً أقلّ عدواناً من القتل ، إلاّ أنّ القتل فيما يبدو كان قويّاً في أذهان المتآمرين . ولذلك جاء الاقتراح الثالث القاضي بإلقاء يوسف في الجُبّ كاشفاً عن الحقيقة المتقدّمة من خلال قول لاوي :
اطرحوه في البئر بدلا من قتله . أي : أنّ القتل كان هو المسيطر على أذهان المتآمرين .
* * *
على أيّة حال ، تمّ الاتفاق على إلقاء يوسف (عليه السلام) في البئر بدلا من إلقائه في التيه ، أو قتله .
ثمّ بدأت خطةُ التنفيذ من خلال مناورة أجروها مع أبيهم ، على النحو الآتي :
﴿قالُوا : يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ وإِنّا لَهُ لَناصِحُونَ﴾
﴿أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ ويَلْعَبْ وإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾
لقد اختزل النصُ تفصيلات الخطّة التي تمّ الاتفاقُ عليها من حيث عملية التنفيذ والطريقة التي يتمّ من خلالها إقناع الأب .
لقد اختزلها النص تماماً ، ثمّ أبرزها من خلال محاورتهم للأب :
﴿يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنّا . . . ﴾
وواضحٌ أنّ النص بهذا الاختزال حقّق اقتصاداً فنّياً له خطورته في ميدان الشكل القصصي ، حيث تركنا نحن بأنفسنا نستخلص طريقة الاتفاق الذي تمّ بينهم ، والحوار الذي استغرق هذه الطريقة ، وكلّه قد حُذف من النص لم يبرزه لنا في عملية القصّ .
والمهم إذا تجاوزنا هذا الجانب الفنّي من الحوار واتّجهنا إلى جانبه الفكري ، أمكننا أن نُدرك مدى هول الجريمة التي تنطوي عليه هذه المناورةُ مع الأب ، إنّهما تكشف عن النزعة العدوانية التي ألبسها الإخوةُ لبوسَ النصيحة وحبّ الخير وافتعال الحرص على الحفاظ على حياة يوسف (عليه السلام) وكونهم اُمناء عليه وكونهم حريصين على توفير مُتعةِ اللعب معه .
إلاّ أنّ أباهم ـ وهو العارف بأعماقهم الحقيقية ـ لوّح لهم بحزنه على ولده والتخوّف من أن يأكله الذئب .
وسواء أكان هذا التخوّفُ ناجماً عن رؤيا رآها عن عشرة أذؤب يشدّون على يوسف ، وبخاصة أنّ الأرض التي كانوا يعتزمون الذهاب إليها كانت أرضاً مليئةً بالذئاب ، أو كان التخوّف ناجماً عن افتراسهم هم لأخيهم يوسف ، حيث يجيء الذئب هنا رمزاً فنّياً عن أعماقهم المفترسة . أقول : أيّاً كان الأمرُ فإنّ جواب الإخوة على هذا التخوف ، يظل استمراراً للغة المُناورة التي استخدموها مع أبيهم عندما افتعلوا الحرص على حياة يوسف ، حيث أنـّهم هنا استخدموا نفس المناورة ، فقالوا :
﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ﴾
أي ، لا يُعقل أن نكون من العجز والضعف للدرجة التي نسمح فيها للذئب بأن يفترس يوسف ونحن جماعة نستطيع أن نحميه من أيّ خطر .
هنا يختزل النصُّ من جديد بعضَ المواقف ويُحسّسُنا بنحو فنّي لم يقصّه علينا ، أنّ أباهم قد وافقهم على ذلك وسمح ليوسف بالذهاب مع إخوته ، حيث يذكر لنا مباشرة ما يلي :
﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ وأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ﴾
﴿وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾
من هذا السرد ، نستخلص أنّ الأب وافق على اصطحاب يوسف مع الإخوة وإلى أنّ الإخوة عندما صحبوه وعزموا على إلقائه في البئر ، أوحى اللّه ليوسف عندئذ بأن يُخبرهم ويعظهم ويُشعرهم بخطورة ما يقدمون عليه من جريمة ، لعلّهم يرتدعون عنها .
والمُعطى الفكري لهذا التذكير يتمثّل في تحسيس الإنسان في لحظات الإقدام على الجريمة بهول مثل هذه العملية ، فلعلّه يرتدعُ عنه ويفيء إلى صوابه .
ولكن فيما يبدو أنّ الإخوة لم ينفعهم مثل هذا التذكير والعظة ، فنفّذوا عمليّة الإلقاء في البئر دون تردّد .
* * *
وعملية الإلقاء في البئر لم يسردها النص القصصي لنا ، بل تركها لنا ـ نحن المتلقّين ـ نستخلص ذلك وفقاً للفنّ القصصي الذي يختزل أو يقتطع من الحدَث بالقدر الذي يجعل المتلقّي يساهم في الكشف عن ذلك حتى يحقّق إمتاعاً جمالياً لنا .
إلاّ أنّ النصوص المفسّرة قد اضطلعت بعملية الكشف وقدّمت لنا تفصيلات مثيرة رافقت عملية إلقاء يوسف (عليه السلام) في البئر .
فقد ذكرت هذه النصوص أنّ الإخوة كانوا على تفاوت في درجة الشدّة أو التراخي بالنسبة إلى طريقة إلقاء يوسف في البئر . فكان التراخي في الموقف يتمثّل حيناً في اتفاقهم على أن يلقوه في بئر قليلة الماء بحيث لا تغرقه ، بل تُغيّبه فحسب ، أو أن يلقوه في جانب من البئر .
إلاّ أنّ الشدّة في التعامل كانت واضحةً أيضاً في نفس الوقت ، فقد ذكرت النصوص المفسّرة أنـّهم كانوا يضربونه وهو يستغيث بهم واحداً واحداً ، بل إنّهم همّوا بقتله ، إلاّ أنّ لاوي ، أحد الإخوة الذي قدّم اقتراح إلقائه في الجب بدلا من القتل ، هو الذي منعهم من جديد عندما همّوا بقتله .
والمهم أنّ الشدّة في التعامل تحدّدت بوضوح وفقاً للنصوص المفسّرة التي ذهبت إلى أنـّهم جعلوا يدلونه في البئر وهو متعلّقٌ بشفيرها حتّى أنـّهم نزعوا قميصه ، فاستغاث بهم قائلا : ردّوا عليّ القميص أتوارى به . فيجيبُونه بسخرية واستهزاء : أدعُ الشمس والقمر والأحد عَشَر كوكباً يؤنسنك .
وإذا صحّت هذه النصوص المفسّرة ، فإنّ هذا النمط من التعامل يفصح عن أحداث مثيرة غاية الإثارة تفسّر لنا مدى ما يفرزه الحسدُ من سلوك يجسّد قمة النزعة العدوانية لدى الحاسد ، إلى الدرجة التي تجعله ساخراً مستهزئاً في موقف يستدعي على الأقل نوعاً من الندم على هول العملية ، أو على الأقل سكوتاً ، لا سخريةً بذلك .
* * *
كان الدور الأوّل لإخوة يوسف (عليه السلام) هو إلقاؤه في البئر على نحو ما فصّلنا الحديث عنه .
ثمّ اختفى دور الإخوة إلاّ في عملية القافلة التي أخرجت يوسف من البئر ، حيث تقول بعض النصوص المفسّرة : إنّ إخوة يوسف أسرّوا كونه أخاً لهم ، عندما أنقذته القافلة ، وهدّدوه بالقتل في حالة إخباره الجماعة بحقيقة الأمر ، فكتم يوسف ذلك فعلا . وتقول هذه النصوص : إنّ أحد إخوة يوسف كان قد انتبذ بعيداً عن البئر ، فلما أخرجت القافلةُ يوسف أخبر إخوتَه بذلك ، فجاؤوا إلى المُخرج وباعوه بدراهم معدودة .
وإذا صحّ هذا التفسير ، فإنّ إخوة يوسف لم يكتفوا بما فعلوه ، بل إنّهم هدّدوه بالقتل عندما أنقذته القافلة .
ثمّ أنـّهم بعد ذلك باعوه بتلك الدراهم المعدودة . وهو أمرٌ يكشف عن مضاعفات عنصر الحسد فيهم ، حتى بلغ هذه الدرجة التي لحظناها .
* * *
على أيّة حال يبدأ دور الإخوة بالغياب بعد عملية الإنقاذ ، ثمّ يبدأ بالظهور من جديد في مرحلة ما يُسمّى بمرحلة الإنارة ـ حسب المصطلح القصصي ـ أي في مرحلة تأزّم الأحداث وإشرافها على الانفراج . حيث ينكشف الموقف على حقيقته عندما يعرّفهم يوسف ـ وهو متربّعٌ على عرش مصر ـ بكلّ شيء .
إلاّ أنّ هذه المرحلة أيضاً ، مسبوقة ببعض الأدوار التي نشط فيها الإخوة ، وهم يجهلون أنـّهم يتعاملون مع يوسف ، وقبلها أيضاً جسّدوا دوراً مع أبيهم بعد حادثة إلقاء يوسف في البئر ، ونعني به دور إقناع الأب ، أو في الواقع إخفاء الحقيقة على أبيهم بالنسبة لمصير يوسف (عليه السلام) .
ويجدر بنا أن نقف على هذه الأدوار جميعاً ، لنتعرّف على مضاعفات الحسد الذي اقتادهم لأمثلة هذا السلوك ، ثمّ ما تبع ذلك من ردود فعل متنوّعة في هذا الصدد .
والآن ، كيف واجه الإخوةُ أباهم بعد أن ألقوا يوسف في البئر وبعد أن أعطوه عهداً بأنـّهم سيحافظون عليه؟
لقد واجهوا أباهم على هذا النحو الذي يحكيه النصُّ القرآني الكريم :
﴿وَجاؤُوا أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا : يا أَبانا﴾
﴿إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾
﴿وَما أَنْتَ بِمُؤْمِن لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ﴾
﴿وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب﴾
﴿قالَ : بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾
﴿وَاللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾
إنّ هذا الموقف وما يرافقه من حدَثَ الدم والقميص يحفل بعناصر قصصية مُثيرة على جانب كبير من الإمتاع الجمالي ، فضلا عمّا يحفل به من قيم فكريّة تنمّ عن مدى مفارقات الحسد ومضاعفاته .
لقد مارسوا عملية الكذب بأحد أشكاله مرارة ، ثمّ اصطنعوا عملية البكاء المُفتَعل ، ثمّ اصطنعوا عملية تلطيخ القميص بالدم . . . كلّ اُولئك بسبب من الحسد الذي جرّهم إلى ممارسات متنوّعة من السلوك ، كُلّها تنمّ عن المَرَض الداخلي الذي طبَعَ تصرّفاتهم .
* * *
إنّ هذا الدور ـ من الناحية الفنّية ـ قد مهّد له النص من خلال قول أبيهم من أنـّه يخاف أن يأكله الذئب .
ومادام أبوهم قد تخوّف من افتراس الذئب ليوسف ، فحينئذ ما أحسنَ أن يستغلّ الإخوةُ هذا التخوّف ، وما أحسنَ أن يجعلوه فعلا وثيقة إدّعاء لتغطية الجريمة .
وبالفعل تمّ الاتفاق على اصطناع هذا الحدث ، . . . ولكي يخلعوا طابع الصدق على إدعائهم ، فعليهم أن يظهروا بمظهر الكئيب الآسف على ما حَدَث .
إذن ، عليهم أن يصطنعوا عملية البكاء مادام البكاء يكشف عن صدق الأسى والحزن على فقد الحبيب .
وهكذا جاؤوا أباهم عشاء يبكون .
وطبيعيّاً أن يفزعَ أبوهم من هذا المظهر الباكي فيسألهم حينئذ عن ذلك .
وهنا تجيء الإجابةُ جاهزة ، مشحونةً بالكذب ، حيث إدعوا بأنـّهم تركوا يوسف عند رحالهم ليحفظها وانشغلوا باللعب : الاستباق في الركض أو السهام ، ثمّ جاء الذئب في فترة استباقهم وأكل يوسف (عليه السلام) . . .
إنّ مثل هذا الإدعاء المتهافت ، يبدو وكأنـّه غير مقنع فعلا ، لذلك بادروا أباهم سريعاً بأنـّه سوف لن يُصدّقهم حيث قالوا له :
﴿وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِن لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ﴾
ومن الحقائق النفسيّة في هذا الصدد ، أنّ الخائف يعكس في تصرفاته كلّ ما تمارسه أعماقُه من سلوك قائم على التوتّر وما ترافقه من استجابات يخشى فضحها على حقيقتها ، ولذلك كان الإخوة يصدرون عن هذا الخوف حقيقةً عندما عكسوا إجابتهم المتمثلة في أنّ أباهم سوف لن يصدّقهم بهذه الإجابة المصطنعة .
المهمّ ، أنّ هذا الدور لإخوة يوسف (عليه السلام) بالنسبة إلى مواجهة الأب يكشف عن مضاعفات الحسد الذي جرّهُم إلى افتعال أكثر من حدث وأكثر من موقف بغية التستّر على الذنب .
* * *
ومن الوجهة الفنّية ينبغي أن ننتبه أيضاً إلى الرسم القصصي لهذا الدور .
فقد أبرز النص كلاّ من الملامح الداخلية والخارجية للأبطال كما أبرز بيئة الحدث بكلّ ملامحها الخارجية .
أمّا الملامح الخارجية للأبطال ، فهو : ملمحُ البكاء الذي افتعله الأبطال . فضلا عن المظهر القولي في إدّعاء السباق .
وواضح أنّ هذا الملمح الخارجي مرتبط بالملمح الداخلي ، أي : الحزن على فقدان يوسف .
وأمّا الملامح الخارجية للحدث ، فتتمثّل في الدم والقميص ، حيث تقول النصوص المفسّرة : إنّهم ذبحوا سخلةً ولطخوا قميصه بدمها .
وواضحٌ أيضاً صلة هذا الملمح الخارجي بالملمح الداخلي الذي يحرص على إظهار الصدق في إدعاءاتهم .
ولكن ، بالرغم من هذه الملامح الخارجية للأبطال وللبيئة من بُكاء ، ودم على القميص ، بالرغم من هذه الملامح التي تُضفي جماليةً في عملية التذوّق الفنّي ، فإنّ النص حَرِصَ على أن يفضح زيف هذه الملامح ، فأنطق يعقوب (عليه السلام) سريعاً بإجابة حاسمة هي قوله :
﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ . . . ﴾
فهذه الإجابة الحاسمة تكشف عن أنّ كلّ الملامح الخارجية التي افتعلها الأبطال بالنسبة للحدث ولأنفسهم ، قد فقدت فاعليّتها ، وأنّ ملامح الجريمة هي التي طغت على كلّ شيء .
وفي هذا عظةٌ لمن اعتبر .
الدور الثالث لإخوة يوسف (عليه السلام) في هذه القصة ، يتمثّل في ذهابهم إليه وهو يتربّع على عرش مصر ، بيده خزائن الأرض وأقواتُ الناس .
لقد أصاب القحطُ الأرض ويوسف (عليه السلام) هو الذي يوزّع القوت على الجمهور وآل يعقوب إحدى الاُسر التي اضطُرّت إلى الذهاب لمصر لتحصيل القوت ، حيث جمع يعقوب (عليه السلام) أولاده وأمرهم بالذهاب إلى مصر . وفعلا قصدوا مصر :
﴿وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾
يبدو أنّ معرفة يوسف لهم ، وما تجدّد له من حياته معهم ، ثمّ ما رآهم عليه الآن من الحرمان والفقر والمأساة التي كانت تظهر بارزة في وجوههم وأشياء من هذا القبيل ، تلمح من خلال هذه الجملة «فعرفهم وهم له منكرون» وقد رأى انكارهم له أيضاً من جملة تلك المآسي والحرمان .
﴿وَ لَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾
﴿أَ لا تَرَوْنَ أَنـِّي أُوفِي الْكَيْلَ وأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾
كأنّ يوسف يريد بقوله (أَخ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) أن يشعرهم ويلفتهم إلى واقع الأمر وأنـّه يعلم كلّ شيء ، ولكنهم لم يفهموا هذا التلميح .
﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي ولا تَقْرَبُونِ﴾
﴿قالُوا : سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وإِنّا لَفاعِلُونَ﴾
﴿وَ قالَ لِفِتْيانِهِ : اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ﴾
﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾
﴿فَلَمّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا : يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾
﴿فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾
﴿قالَ : هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾
﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حافِظاً وهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾
﴿وَ لَمـّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾
﴿قالُوا : يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا﴾
﴿وَ نَمِيرُ أَهْلَنا ونَحْفَظُ أَخانا ونَزْدادُ كَيْلَ بَعِير ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾
﴿قالَ : لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾
﴿إِلاّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ﴾
﴿وَ قالَ يا بَنِيَّ : لا تَدْخُلُوا مِنْ باب واحِد وادْخُلُوا مِنْ أَبْواب مُتَفَرِّقَة . . . ﴾
﴿وَ لَمّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْء﴾
﴿إِلاّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها . . . ﴾ .
﴿وَ لَمّـا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ﴾
﴿قالَ : إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾
﴿فَلَمّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾
﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ : أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ﴾
﴿قالُوا : وأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا : نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ . . . ﴾
﴿قالُوا : تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأَْرْضِ وما كُنّا سارِقِينَ﴾
﴿قالُوا : فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟﴾
﴿قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ . . . ﴾
﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ . . . ﴾
﴿قالُوا : إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾
﴿فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ولَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً . . . ﴾
﴿قالُوا : يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ . . . ﴾
﴿قالَ : مَعاذَ اللّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ . . . ﴾
﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾
﴿قالَ كَبِيرُهُمْ : أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ﴾
﴿وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ﴾
﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الأَْرْضَ حَتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي . . . ﴾
﴿ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وما شَهِدْنا إِلاّ بِما عَلِمْنا . . . ﴾
﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنّا فِيها والْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وإِنّا لَصادِقُونَ﴾
* * *
هنا ، النصوص القصصية تسرد لنا دوراً ثالثاً يضطلع به الإخوة .
طبيعيّاً لا نتحدث عن الأسباب التي دعت يوسف (عليه السلام) إلى أن يطالبهم بأخيه ، ثمّ يحتجزه لديه ، بل ذاك أمرٌ نرجئ الحديث عنه عندما نتناول البطل الرئيسي في القصة ، أي يوسف (عليه السلام) .
أمّا الآن فيهمّنا أن نوضّح دور الإخوة في هذه الشريحة من القصة ، وهو دورٌ مماثلٌ من جانب لدورهم مع يوسف (عليه السلام) من حيث عملية الاصطحاب ، لكنه مختلفٌ عنه من حيث دوافع السلوك .
إنّ نقاط التلاقي والافتراق في هذا الدور ، تتمثّل في ما يلي :
1 ـ من حيث نقاط التلاقي :
لقد اصطحبوا في هذا الدور أخاً أصغر لهم هو بنيامين ومن قبلُ اصطحبوا أخاً أصغر هو يوسف ، كما أنـّهم أعطوا أباهم عهداً بأن يحفظوا يوسف من الأخطار ، وهنا أيضاً ردّدوا نفس العبارة ، حيث قالوا : «و إنّا له لحافظون» بالنسبة إلى بنيامين . مع ملاحظة أنّ كلاّ من بنيامين ويوسف يشكّلان موضع حَسَد من الإخوة .
2 ـ وأمّا من حيث نقاط الافتراق :
فإنّ دوافع السلوك في هذا الدور ، تظلّ مختلفةً عن الدور السابق مع يوسف .
فهنا بالرغم من كرههم لبنيامين ، إلاّ أنـّهم لم يظهروا نواياً سيئةً حياله في هذه الرحلة . ففي رحلتهم مع يوسف (عليه السلام) كانوا هم المطالبين بذلك ، أمّا في رحلتهم مع بنيامين فإنّ خازن الأرض هو الذي طالبهم بذلك ، أي إنّهم اُكرهوا على أن يصحبوا بنيامين لأسباب تتصل بالحصول على الطعام . وتبعاً لذلك اضطرّ أحدهم ـ وهو الأكبر ـ أن يعطي موثقاً لأبيه يتكفّل من خلاله بإرجاع بنيامين سالماً ، دون أن يكون ذلك بدافع من رغبة ، بل بدافع من الحصول على الطعام .
ولهذا السبب ، كما سنجد في الدور الرابع للإخوة ، أنّ الأخ الذي أعطى موثقاً لأبيه بإرجاع بنيامين ، هذا الأخ ظلّ باقياً في مصر ولم يرجع مع الإخوة عندما احتجز يوسف أخاه بنيامين في حادثة افتعال السرقة .
ومهما يكن ، فإنّ إخوة يوسف في هذا الدور ، لم يضمروا أيّة نوايا سيئة مع أخيهم الأصغر بنيامين ، بل إنّهم امتثلوا أمر أبيهم باصطحابه والمحافظة عليه والدخول من أبواب متفرقة . . . إلى آخره .
* * *
ولكنّ هذا الدور المتّسم بالحرص على بنيامين ، قد خبّأت له الأقدار حوادث مفاجأة لم تخطر ببال الإخوة قطّ .
وإذا كان الإخوةُ قد طبخوا مؤامرة خطيرة على يوسف ، فإنّ يوسف الآن يتهيّأ لطبخ مؤامرة عليهم من خلال الأخ الأصغر بنيامين ، حيث سيضع الكيل في رحل بنيامين ويتّهم الجماعة بالسرقة ، حتّى يحتفظ ببنيامين ويبقيه معه ، لأسباب نفصّلها فيما بعد ، حينما نتحدّث عن دور البطل الرئيسي يوسف (عليه السلام) .
أمّا الآن فيهمّنا أن نتحدّث عن ردود الفعل التي لحقت الإخوة في مواجهتهم ليوسف (عليه السلام) أولا وهم لا يعرفونه ، وفي ردود الفعل التي لحقتهم بعد اطلاعهم على حادثة السرقة المفتعلة ثانياً .
ثمّ يهمّنا بعد ذلك ، أن نبيّن هذا النمط من البناء الهندسي للقصة ، حيث يقوم البناء على خطوط متوازنة من طبخ المؤامرات ، ثمّ وقوع الإخوة الصغار ضحيّة هذا التآمر ، ثمّ وجود الفارق بين نمطين من التآمر ، أحدهما ينطلق من ظاهرة الحسد والنزعة العدوانية بعامّة ، مقابلا للنزعة الخيّرة التي انطوت المؤامرةُ الثانيةُ عليه ، حيث حيكت لأسباب انسانية تستهدف المصلحة الخيّرة التي ستسفر عنها كلّ الحوادث والمفاجآت في القصة .
وأخيراً يهمّنا أن نبيّن أيضاً عنصر المفاجأة في القصة وهو عنصر فنّي له خطورته الكبيرة في ميدان الشكل القصصي .
* * *
والآن نتقدّم أوّلا بتوضيح الجانب الفكري متمثّلا في ردود الفعل التي صدرت عن الإخوة تجاه يوسف (عليه السلام) عندما دخلوا عليه وهم لا يعرفونه .
وتقول النصوص المفسّرة : إنّ يوسف (عليه السلام) حينما قابلهم وهم يعتزمون الحصول على الطعام ، سألهم عن هويّتهم ، فأجابوه بأنـّهم من أرض الشام .
ولما قال لهم : أخشى أن تكونوا جواسيس على بلادنا ، أجابوه بأنـّهم أولاد نبيّ من أنبياء اللّه وهو يعقوب (عليه السلام) ، وأنّ أباهم لشخصٌ محزون .
ثمّ سألهم عن سبب حزن أبيهم ، فأجابوه بأنـّهم قد كان لهم أخ صغير صحبوه ذات يوم في الصيد ، فأكله الذئب .
هنا ، يُعنينا أن نشير إلى أنّ الإخوة مارسوا في هذا الموقف نفس السلوك السابق القائم على الكذب . وهو موقف سيترك أثره على يوسف (عليه السلام) دون أدنى شك ، حيث يقتنع تماماً بأنّ الإخوة لا يزالون عند سلوكهم السابق .
وممّا عزّز هذه القناعة ، أنّ إخوة يوسف أضافوا إلى موقفهم السابق موقفاً سلبياً جديداً يكشف عن إصرارهم على الصدور من الأعماق الحاسدة ، وإلى أنّ تنفيذهم لعملية إلقاء يوسف في البئر لم تُشف أعماقهم من الحسد . ففي حادثة افتعال السرقة للكيل وجّهوا ليوسف ـ وهم لا يعرفونه بطبيعة الحال ـ وجّهوا له تهمة السرقة عندما قال لهم : إنّ أخاهم الأصغر بنيامين قد سرق صواع الملك . هنا قال إخوةُ يوسف (عليه السلام) :
﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾
هذه الإجابة تكشف عن أنّ إخوة يوسف (عليه السلام) لا يزالون يصدرون عن موقف حاسد ليوسف بالرغم من أنـّهم تخلّصوا منه في حادثة إلقائه في البئر ، إنّهم مع ذلك كلّه يتهمونه بالسرقة دون أن يكون هناك مسوّغ لهذه التهمة .
والمهم أنّ يوسف (عليه السلام) اكتشف هذه الحقيقة ، وأنّها لحقيقةٌ بالغةُ الأهمية دون أدنى شك مادامت تفصح عن حقيقة الأعماق الحاسدة لهؤلاء الإخوة ، حتّى أ نّه صرّح بمرارة متحدّثاً مع نفسه ، قائلا :
﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً واللّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ﴾
اِمرَأةُ العَزيز
هذه الشخصية الثانوية لعبت في القصة دوراً لافتاً للانتباه ، لا يقلّ في أبعاده المأساوية عن المؤامرة التي حاكها إخوة يوسف (عليه السلام) .
إنّ كلاّ من إخوة يوسف (عليه السلام) وامرأة العزيز يجسّدان بناءً هندسياً قائماً على الموازنة الفنّية في حركة القصة ، من حيث انطواؤهما على دلالات متجانسة ، ومن حيث تأثيرهما على شخصية يوسف (عليه السلام) وتحديد المصائر التي انتهى البطلُ إليها .
وهاتان الشخصيتان في الآن ذاته تتحركان من مواقع متفاوتة ، وتفرزان دلالات متفاوتةً أيضاً ، ومن هنا يمكننا أن نستكشف خطورة الفنّ الذي يجمع بين المتضادات ، ويضاد بين الوحدات المتماثلة ، أو لنقل : الفنّ الذي يحقق عنصر التضاد من خلال التماثل ، والتماثل من خلال التضاد .
ثمة مؤامرتان : إحداهما تنطلق من دافع الحسد ، والاُخرى من الدافع الجنسي ، وهما متضادتان ، غير أنـّهما تقتادان الشخصية إلى سلوك مماثل هو : التآمر .
الاُولى يمثّلها رجال ، والثانية تمثّلها امرأة ، وهما متضادتان ، لكنهما تتماثلان في تخطيط السوء .
الاُولى ، يمثلها إخوة أقارب ، والثانية يمثّلها من الأباعد امرأة غريبة ، وهما متضادتان .
الاُولى : حادثة إلقاء في البئر ، والثانية : حادثة إلقاء في السجن ، وهما متماثلان .
الاُولى : محاولة تخلّص من يوسف . الثانية : محاولة تعلّق بيوسف ، وهما متضادتان ، وهكذا . . .
إذن ، كم هو جميلٌ وممتعٌ مثلُ هذا البناء الهندسي لنمطين من أبطال القصة الثانويين ، فيما يقوم الهيكل على عنصر التضاد ، والتماثل ، والوحدة بينهما . . .
ولكن لندع عمارة القصة فنّياً ، ولنتّجه إلى امرأة العزيز لملاحظة الدلالات الفكرية لسلوكها ، وانعكاس ذلك على شخصية البطل يوسف (عليه السلام) .
فيما يتصل بالدافع الجنسي ، لا حاجة إلى الحديث عنه بقدر ما ينبغي لفت الانتباه إلى المقارنة بين سلوك امرأة العزيز ويوسف ، حيث يمكننا أن نستخلص بسهولة إمكانية السيطرة على الدافع الجنسي من خلال سلوك يوسف ذاته ، ثمّ نتائج مثل هذه السيطرة التي حوّلت يوسف (عليه السلام) وهو عبدٌ اشترته إحدى القوافل بدراهم معدودة إلى مَلِك ، وبالمقابل تحوّلت زوجة الملك إلى امرأة بائسة ، فيما تقول النصوص المفسّرة : إنّ امرأة العزيز قالت له بعد أن التقته ملكاً ، وقد افتقرت :
الحمد للّه الذي جعل الملوك بالمعصية عبيداً ، والعبيد بالطاعة ملوكاً .
هذه الفقرة التي ذكرتها بعض النصوص ، تلقي كلمة حاسمة في تحديد نتائج التحكّم والسيطرة على الدافع الجنسي ونتائج عدم السيطرة ، فيما تجعل الملوك عبيداً بسبب من المعصية ، وتجعل العبيد ملوكاً بسبب من الطاعة ، وكفى بذلك عظةً لمن اعتبر .
إذن ، الدلالة الاُولى التي نستخلصها من هذه الشخصية ، هي : أنّ الإلتواء في السلوك الجنسي ، ومحاولة ممارسته بنحوه غير المشروع ، يقتاد الشخصية إلى نتائج ليست في صالح المُمارس ، حيث اخفقت امرأة العزيز في تحقيق الممارسة ، فضلا عن أنـّها قادتها إلى المصير البائس الذي نقلته النصوص المفسّرة .
الدلالة الثانية لهذه الشخصية ، هي : أنّ المرأة التي لا تخاف اللّه ، قد تتحوّل من شخصية مُحبّة إلى شخصية مُعادية في ساعات محدودة ـ في حالة عدم تحقيق حاجاتها غير المشروعة ـ ، حتى وصل الأمر ـ كما لاحظنا بالنسبة إلى امرأة العزيز ـ إلى أن تودع البطل في السجن ، فضلا عن تشويه سُمعته على النحو الذي سردته القصة مفصلا ، ومن هنا ندرك أهمية الحقيقة التي أشار أهل البيت (عليهم السلام) إلى ما مؤدّاه : من أنّ المرأة تصبر على الحب أعواماً ، لكنها لا تكتم كراهيتها ساعة .
حتى أنـّها لا تتورّع البتة من إيقاع الرجل في التهلكة ، سواء أكان ذلك متصلا بتشويه سمعته ، أو بإنهاء حياته .
* * *
أمّا فيما يتّصل بالإنارة التي ألقتها هذه الشخصية على البطل يوسف (عليه السلام) ،
فتتمثل في كشفها أوّلا عن نظافة يوسف ، وصبره ، وتقواه ، وإيثاره السجن على ما هو محرّم ، حتى أنـّها اضطرّت في نهاية المطاف إلى الإقرار بنزاهة يوسف (عليه السلام) ، وهو ما يشكّل قمّة الإنارة لشخصية يوسف (عليه السلام) .
وقد ترتّب على ذلك أن تحوّلت هذه الشخصية من امرأة سلبيّة إلى امرأة إيجابية أعلنت عن مفارقة سلوكها ، وأقرّت بنظافة يوسف (عليه السلام) ، أي : رُسمت هذه الشخصية حسب لغة الأدب القصصي ، شخصية نامية وليست مسطحة ، . . . شخصية بدأت في أول القصة تخاطب زوجها :
﴿ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً﴾
وانتهت بهذا الإقرار :
﴿أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ﴾
بدأت كاذبة وانتهت صادقة .
ولا يغب عن ذاكرتنا ، أنّ إخوة يوسف (عليه السلام) بدورهم بدأوا ـ في القصة ـ وهم متآمرون ، وانتهوا تائبين ، ممّا يشكّل بُعداً جديداً من عناصر التماثل الفنّي بين نمطي الشخصيات الثانوية التي سبقت الإشارة إلى صياغتها متضادة من خلال التماثل ، ومتماثلة من خلال التضاد .
والمهم أنّ دلالة التعديل في السلوك ، ينبغي ألاّ نغفلها أيضاً عبر وقوفنا على هذه الشخصية الثانوية امرأة العزيز .
نسوَة المَدِينَة
كان إخوةُ يوسف بصفتهم جزء من الأبطال الثانويين في القصة قد جسّدوا ظاهرة الحسد كما لحظنا .
ويبدو أنّ النص القصصي يُريد أن يُلفت انتباهنا إلى هذه الظاهرة بكلّ محدّداتها ، بما في ذلك الفروق بين الجنسين ، فأبرز لنا ظاهرة الحسد أو الغيرة في العنصر النسوي أيضاً في نطاق التجارب الخاصة بالمرأة .
ولنقرأ النص القصصي أوّلا :
﴿وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ﴾
﴿قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنّا لَنَراها فِي ضَلال مُبِين﴾
﴿فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾
﴿وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وآتَتْ كُلَّ واحِدَة مِنْهُنَّ سِكِّيناً﴾
﴿وَقالَتِ : اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾
﴿وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾
﴿قالَتْ : فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ولَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾
﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ولَيَكُوناً مِنَ الصّاغِرِينَ﴾
إنّ ما يُلفت الانتباه لدى نسوة المدينة ، أنّ الدافع إلى انتقادهنّ إمرأة العزيز لم يكن فيما يبدو موضوعياً نابعاً من إحساسهنّ بالفضيلة ، بل كان نابعاً من الحسد والغيرة ، حيث وجدن أنّ امرأة العزيز حظيت برجل حُرِمنَ هُنّ منه .
إنّ النص القرآني الكريم يُريد أن يُبرز في هذا الدور الثانوي لنسوة المدينة . . .
يُريد أن يبرز لنا ظاهرة كَم هو حريٌّ بالمرأة أن تلتزم بها في نطاق علاقتها بالجنس الآخر .
إنّه يُريد أن يقول للمرأة : عليكِ أن تتحرّكي في السلوك من خلال الموضوعية ، لا من خلال الذات . عليكِ أن تَنهَي عن المُنكر لأنـّه مُنكرٌ فحسب ، لا لأنـّه منكرٌ بالقياس إلى سواك ، وغيرُ منكر بالنسبة إليك .
فالمفروض أن تنتصر المرأةُ للفضيلة ، حبّاً بالفضيلة والتزاماً بأوامر اللّه سبحانه
وتعالى ، لا أن يكون الانتصارُ نابعاً من الغيرة أو الحسد . ففي مثل هذا السلوك تكون المرأةُ قد سلكت مفارقتين أو جريمتين :
الجريمة الاُولى : أنـّها لا تنهى عن المنكر إذا كان ذلك متصلا بحاجتها الذاتية .
والجريمة الثانية : أنـّها تفتعل إنكار المنكر وتلبس قناع الفضيلة زيفاً لا حقيقةً .
والدليل على ذلك كلّه ، أنّ النص القصصي قدّم لنا تجربتين إحداهما لفظية والاُخرى عمليّة ، ليُدلّل لنا على السلوك المنكر لدى نسوة المدينة .
أمّا التجربة اللفظية فتتمثّل في قول امرأة العزيز من خلال هذه الفقرة :
﴿فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾
فلقد وصفهنّ اللّه بسمة المكر على لسان امرأة العزيز وإلاّ لكان يخلع عليهنّ صفة إيجابيةً لو كنّ حقّاً نسوة يحرصن على الفضيلة .
وأمّا التجربة العملية فقد أبرزها النص أيضاً من خلال تحرّك امرأة العزيز :
﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وآتَتْ كُلَّ واحِدَة مِنْهُنَّ سِكِّيناً﴾
﴿وَقالَتِ : اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾
حيث هيّأت لهنّ وسائد ، أو أعدّت لهنّ وليمة وأمرت يوسف (عليه السلام) بالخروج عليهنّ بعد أن هيّأت أمامهنّ مجموعة من السكاكين ، حيث كانت النتيجة أن ينخلع لبُّهنّ من الإثارة إلى الدرجة التي قطّعن أيديهن انبهاراً بدلا من تقطيع الفواكه مثلا .
إنّ هذه التجربة العملية تدلّنا بدورها على أنّ نسوة المدينة لم يكن نَقْدَهُنّ لامرأة العزيز نابعاً من الفضيلة والالتزام بمبادئ السماء ، بدليل إنـهنّ وقعن في نفس السلوك المُنكر الذي صدرت عنه امرأة العزيز .
* * *
وخارجاً عن ظاهرة الحسد أو الغيرة ، فإنّ ما يمكن استخلاصُه من هذا الدور الثانوي لنسوة المدينة ، يتمثّل أيضاً في جملة من الحقائق ، لعل أبرزها هو : تجنّب عنصر الإثارة أساساً .
إنّ لقاء الرجل أساساً بالمرأة ينبغي أن يتمّ في تحفّظ بالغ المدى . والمشرّع الإسلامي ـ على سبيل المثال ـ حينما يمنع لقاء الجنسين لغير ضرورة ، إنّما يأخذ عنصر الإثارة بنظر الاعتبار ، أي أنـّه يمنع المحادثة أو النظر أو الخلوة بين الجنسين بغية تجنّب الإثارة ، وإلاّ فإنّ الإثارة تحصل بالضرورة إلاّ من عصمَ اللّه .
من هنا حصل تقطيع الأيدي مثلا ، نظراً لتوفّر عنصر الإثارة .
بل إنّ هذا العنصر دفع امرأة العزيز إلى أن تتمادى في المنكر وإلى أن تخلع قناع الخجل الذي ينبغي أن تصدر عنه بعد الفضيحة ، لكنها ركبت غيّها واعترفت قائلة :
﴿وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ﴾
بل إنّها ذهبت أكثر من ذلك ، حيث تشجّعت على أن تطالبه من جديد بممارسة المنكر ، حتى وصل الأمر إلى التهديد بإيداعه في السجن ، قائلةً :
﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ﴾
إنّ هذا الإعلان الصريح عن المنكر ، إنّما صدرت امرأةُ العزيز عنه ، لأنـّها وجدت أنّ نسوة المدينة قد قطّعن أيديهن من الإثارة ، ممّا شجّعها إلى أن تتمادى في الغيّ ، على النحو الذي أوضحناه .
إذن ، الظاهرة الاُخرى التي يمكن استخلاصها بعد الحسد أو الغيرة في الدور الثانوي لنسوة المدينة ، هي ضرورة أن يتجنّب كلٌّ من الجنسين مواطن الإثارة من محادثة ، أو نظر ، أو خلوة بينهما .
وأمّا الظاهرة الفكرية الثالثة التي ينبغي استخلاصُها أيضاً من هذا الدور الثانوي لبطلاتِ نسوة المدينة ، هي : ضرورة أن يصدر المرء عن سلوك موضوعي في تصرّفاته لا أن يتلبّس بقناع الفضيلة تحت دافع ذاتي مُلوّث يحنّ إلى الرذيلة في أعماق نفسه .
* * *
هذا كلّه من حيث القيم الفكرية لبطلات نسوة المدينة .
وأمّا من حيثُ القيمُ الجماليةُ أو الفنّية ، فإنّ هذا الدور ينطوي على إمتاع حافل بالإثارة من حيث الرسمُ الخارجي لملامح الأبطال وللبيئة التي تحرّكوا من خلالها . فقد رُسمت البيئةُ وهي مائدةُ طعام ، ووسائد ، وسكاكين لتقطيع الفواكه .
ثمّ رُسمت ملامحُ الأبطالِ الخارجية ، وهي مرأى أيد تتقطّع بالسكاكين بدلا من تقطيع الفواكه ، في غمرة مرور يوسف (عليه السلام) وفي غمرة جلوس امرأة العزيز مُراقبةً عن كثب ردود الفعل في هذا الميدان .
إنّ هذا المرأى المُمتع فنّياً ، قد اُحكم من حيث البناء الهندسي حينما نلاحظ الصلة العضوية أو التلاحم بين رسم البيئة ورسم ملامح الأبطال ، أي بين مرأى الفواكه والسكاكين ، ومرأى الأيدي التي تقطّعت بعد ذلك .
والمعروف في لُغة الأدب القصصي ، أنّ الفنّ يبلغ قمّته العالية حينما يكون ثمة ترابط أو صلة بين وصفين خارجيين : أحدهما لعنصر البيئة ، والآخر لعنصر الأبطال ، حيث يكشف الترابط بين وصف البيئة سكاكين ، فواكه ووصف الملامح الخارجية أي : تقطيع الأيدي عن إحكام هذا المبنى القصصي وما يواكبه من الإمتاع الفنّي في هذا الصدد .
البطل : العزيز ، أو ملك مصر
يتفاوت المفسّرون في تحديد شخصية «العزيز» الذي اشترى يوسف ، هل هو الملك أم وزيره؟ إلاّ أنّ نصّاً وارداً عن الإمام السجاد (عليه السلام) يذهب إلى أنَّ العزيز هو الملك نفسه .
ولا يهمّنا تحديدُ هويّته بقدر ما يهمّنا أن نتعرّف على دوره في القصة ، بصفته بطلا ثانوياً ينطوي دورُه على أفكار تستهدفها القصة ، كما ينطوي على مهمّات فنيّة في تطوير أحداث القصة .
ودور هذا البطل ينحصر في ثلاث وقائع :
أوّلها : موقفه من يوسف في صراعه مع امرأة العزيز .
الثاني : رؤياه التي فسّرها يوسف .
الثالث : توليته ليوسف على خزائن الأرض .
أمّا موقفه من يوسف في صراعه هذا الأخير مع امرأة العزيز ، فيتميّز بكونه صادراً عن شخصيّة ضعيفة لا تستطيع حسم الاُمور بقدر ما تنصاع لأوامر امرأة متحكّمة ، تستبدّ بها أهواؤها ، إلى الدرجة التي تفرضها على زوجها . بالرغم من معرفة زوجها تماماً بالمُنكر الذي صدرت امرأتُه عنه .
ويتمثّل موقفه المتميّع هذا في انصياعه لأوامر امرأته بحبس يوسف ، بالرغم من معرفته تماماً ببراءة يوسف ونظافته من التهمة الموجهة إليه .
إنّ الشاهد من أهل امرأة العزيز ، أوضح بما لا لُبس فيه أنّ يوسف كان بريئاً كلّ البراءة ، بل إنّ امرأة العزيز نفسها أقرّت ببراءته . إلاّ أنّ العزيز مع ذلك كلّه وقع تحت تأثير امرأته التي استعطفت زوجها من أنّ سمعتها ستسوء ما لم يُسجن يوسف .
وحتّى إذا انسقنا مع التفسير الذاهب إلى أنّ إيداعه يوسف في السجن لم يكن بتحريض من امرأة العزيز ، بل من قِبَل مستشاري العزيز أو أهله حيث رأوا أنّ إيداعه في السجن يشكّل إنقاذاً لسمعة امرأة العزيز . . .
أقول : حتّى مع هذا الافتراض ، فإنّ انصياع العزيز إلى مثل هذه الأوامر ، يُعدّ تعبيراً واضحاً عن شخصية ضعيفة لا تنصاع إلى الحقّ بقدر ما تنصاع إلى موقف عاطفي مُنكر ، وإلاّ كيف يسمح الإنسانُ لنفسه أن يوقع الأذى بشخصية نظيفة مثل يوسف ، بغية إنقاذ سمعة زوجته؟ كيف لا يفكّر بسمعة يوسف مع إنّه بريء ، ثمّ يفكّر بسمعة امرأته مع إنّها غير بريئة . . . ؟
إنّ مثل هذا الموقف ، يُعدّ ـ دون أدنى شك ـ نقطة ضعف كبيرة تُسجّل على العزيز .
وأهمّ ما ينبغي استخلاصه من عظة في هذا الصدد :
هو أنّ الانصياع لأوامر المرأة يُفسد الشخصية ويوقعها في سلوك منكر ، وهو أمرٌ تؤكّده السماء لنا ، حينما تطالب الرجل بألاّ ينصاع لزوجته ، بل المفروض أن تنصاع الزوجة لزوجها مادام الرجل قوّاماً عليها حسب الحكمة التي انطوى التشريعُ عليها .
أمّا العظة الثانية التي ينبغي أن نستخلصها في هذا الصدد ، هي ضرورة أن يصدر المرء في سلوكه عن الحقّ ، والتزام جانب الحيدة والموضوعية ، لا أن يسمح لعواطفه وذاتيته بالتحكم في الاُمور ، وبخاصة في مواقف قضائية خطيرة تتصل بسمعة الشخصية وشَرَفها .
* * *
الدور الثاني لشخصية الملك في هذه القصة ، هو رؤياه التي رآها عن البقرات والسنابل ، ثمّ تفسير يوسف لهذه الرؤيا بواسطة أحد السجّينين اللذين كانا مع يوسف ، حيث كان الذي نجا منهما قد تولّى مهمة التعريف بشخصية يوسف وقدرته على تأويل الأحلام .
وفعلا بعد أن فسّر يوسف لهذا الوسيط رؤيا الملك . . . حينئذ استدعى الملكُ يوسف .
إلاّ أنّ يوسف قبل أن يواجه الملك ، قال للوسيط : إرجع إلى الملك واسأله عن النسوة اللاتي قطّعن أيديهنّ . وقد نفّذ المَلكُ هذا الطلب ، وسأل النسوة عن حقيقة الأمر مع معرفته سلفاً ببراءة يوسف طبعاً . فأجبنه ببراءة يوسف . . . ممّا اضطرّ امرأة العزيز إلى الإقرار بدورها ببراءة يوسف . . .
ويبدو أنّ تنفيذ الملك لهذا الطلب ، كان بمثابة تفريج عن أزمته النفسية التي كان يعاني مرارتها دون أدنى شك ، وهو يعرف تماماً أنّ هذا الشخص البريء قد اُودع السجن ظلماً وعدواناً ، فجاء هذا الطلب تفريجاً لأزمته من جانب ، وفرصةً كبيرة لإنقاذ يوسف ، وبخاصة أنّ هذا الأمر قد اقترنَ بالإفادة من شخصية يوسف بصفتها شخصية علمية قدمت عطاءها العلمي في ميدان تفسير الأحلام وهو ميدان قد انعكست خطورتُه على الحقل الاقتصادي الذي انطوى عليه الحُلُم ، فالبلد على أبواب كارثة اقتصادية . . . وها هو يوسف يقدّم تخطيطاً إقتصادياً وبرنامجاً إدارياً دقيقاً لتلافي الكارثة .
وإذا كان الأمرُ كذلك ، فإنّ اقتران هذه الإفادة العلميّة مع إثبات براءته ـ عن طريق نسوة المدينة وامرأة العزيز ـ يُعدّان فرصةً ذهبية لإخراج يوسف من السجن والإفادة منه ، فضلا عن اقتران ذلك كلّه بتخليص الملك من أزمته النفسية التي نجمت من ظلم الملك ليوسف .
إذن ، كانت خطوة إنقاذ يوسف من السجن أوّل تغيير في سلوك الملك ، أو لنقل حسب المصطلح القصصي : أوّل خطوة في نموّ الشخصية ، وانتقالها من السلب إلى السلوك الإيجابي .
* * *
ثمّ كانت الخطوة النهائية في نموّ السلوك نحو الإيجاب ، هي تعيين الملك ليوسف خازناً على الأرض . . .
وهذه هي قمّة التقدير لشخصية يوسف والتكفير عن الخطأ السابق . . .
وهكذا ـ بهذا الدور الثالث للبطل : الملك ـ تنتهي علاقة الملك بالقصة وتبدأ الأحداث والمواقف تأخذ منعطفاً آخر في القصة يتصل بيوسف وإخوته وأبويه .
ولا جدال أنّ لهذا الدور الأخير أهمية خطيرة كلّ الخطورة ، لأنـّه دورٌ حاسمٌ في تطوير الوقائع ، والسماح لشخصيات يعقوب وبنيامين وإخوة يوسف بالتحرّك في مجالات جديدة ، فضلا عمّا ينطوي عليه من تطوير لشخصية يوسف نفسه ، ثمّ انعكاس ذلك على الحقل السياسي والاقتصادي للبلد .
البَطَل : يوسُف
تحدّثنا عن الأبطال الثانويين في قصة يوسف وعن مختلف أدوارهم بدءً بيعقوب ، فإخوة يوسف ، فإمرأة العزيز ، فنسوة المدينة . . . وانتهاءً بالعزيز .
أمّا الآن فنتحدّث عن البطل الرئيس في هذه القصة ، وهو يوسف نفسه .
وممّا لا شك فيه ، أنّ دور هذا البطل ينطوي على أفكار أو عظات بالغة الخطورة ، إذا ضممناها إلى الأفكار التي استخلصناها من الأبطال الثانويين ، ثمّ إذا فرزنا الأفكار التي استقلّ بها البطل يوسف وميّزته بشخصيته المحدّدة .
إنّ الصبر على الشدائد يجسّد سمةً بارزة في سلوك يوسف .
كما أنّ يعقوب والد يوسف قد ميّزته سمة الصبر المذكورة أيضاً . بيد أنّ الشدائد على يعقوب كانت متميّزة عن الشدائد بالنسبة إلى ولده يوسف .
كانت الشدائد بالنسبة إلى يعقوب منحصرة في دافع (الاُبوّة) وما صاحب هذا الدافع من إحباط يتصل بالمشاعر التي يفجّرها الدافعُ المذكور .
أمّا الشدائد التي تعرّض لها يوسف فإنّها متصلةً بأكثر من دافع ، فضلا عن أنـّها تجاوزت نطاق المشاعر إلى دائرة الشدائد الخارجية .
إنّ هذه الشدائد بعضها داخليٌ صرف ، وبعضها خارجيٌ يسحب آثاره على المشاعر الداخلية .
ونحن سنتجاوز الحديث عن الصدمات الداخلية الصرف التي تعرّض لها يوسف ، وهي عادةً تتمثل في تحمّل مشاعر الحسد مِن قِبل إخوته مثلا ، وفي تحمّل صدمات الفراق ، فراق والده الذي كان يحيطه برعاية خاصة ، حُرِمَ منها أمداً طويلا من الزمن .
أقول : سنتجاوز الحديث عن أمثال هذه الشدائد مع أنـّها ذات ثقل كبير في ميزان الشخصية واستجابتها لهذه المواجهة . . . نتجاوزها لنتحدّث عن شدائد رافقت رحلته مع إخوته ، ومع واقعة البئر ، ومع حادثة بيعه إلى الآخرين ، ومع حادثة امرأة العزيز ، ومع حادثة السجن ، ومع وقائع السجن نفسه ، ثمّ ما صاحب ذلك من مواقف أفرزها نمط تعامله مع السماء ومع الآخرين وما استتبع ذلك من صراع ، سحبَ شدائده النفسية الكبيرة على شخصية يوسف .
* * *
لنُلاحِظ ـ على سبيل المثال ـ موقفه من أحد صاحبيه في السجن ، حينما فسّر له رؤياه ، وعلم أ نّه سيحظى بمقابلة الملك وغيرها ، قال لصاحبه : اذكرني عند الملك . ولكن صاحبه نسِي هذا الطلب ، فلبث يوسف بعدها في السجن بضع سنين .
إنّ هذه الواقعة لا تتجسّد شدّتها في أن يمكث يوسف في السجن لبضع سنين اُخرى ، بل إنّ شدّتها تتمثّل في نمط تعامله مع السماء ومع الآخرين ، بحيث تركت آثاراً عميقة لديه ، تهون عندها قضية السجن نفسه بما ترافقه من شدائد نفسيّة وجسميّة .
إنّ لنا أن نتصوّر مبلغ الشدّة في أعماق يوسف ، عندما يُدرك أ نّه قد استعان بالبشر بدلا من الاستعانة باللّه في تخليص نفسه من السجن ، أو في إثبات براءته من التُهمة الموجهة إليه ، بحيث كلّف صاحبه بأن يتوسّط لدى المَلِك .
إنّ الشخصيات الرفيعة التي تجسّد صفوة البشر ، ليؤلمها كلّ الألم أن تقع ذات يوم في مثل هذا السلوك ، إنّها تُدرك تماماً أنّ اللّه وحده هو المهيمن على الكون كلّه ، فما قيمة مخلوق مثل المَلِك حيال اللّه خالقِ المَلكِ وسواه ؟
تقول النصوص المفسّرة نقلا عن الإمام الصادق (عليه السلام) :
جاء جبرئيل (عليه السلام) فقال : يا يوسف مَن جعلك أحسن الناس؟ قال : ربّي . قال :
فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوانك؟ قال : ربّي . قال : فمن ساق إليك السيّارة ؟ قال :
ربّي . قال : فمن صرف عنك الحجارة؟ قال : ربّي . قال : فمن أنقذك من الجبّ ؟ قال :
ربّي . قال : فمن صَرَف عنك كيدَ النسوة؟ قال : ربّي . قال : فإنّ ربّك يقول : ما دعاك إلى أن تُنزل حاجتك بمخلوق دوني ؟ إلبث في السجن بما قلت بضع سنين .
إنّ علينا أن نتصوّر مدى هذه الشدّة النفسيّة على يوسف وهو يتلقّى هذا التذكير من جبرئيل !!
لا شك أنّ هذه الشدّة تهون قبالها شدّة السجن وما يرافقها من الشدائد النفسيّة والجسديّة ، لأنـّها عملية تذكير بعلاقة العبد باللّه ، وكيفية نسيان مثل هذه العلاقة .
إنّها شدّةٌ نفسية بالغة المدى لا يمكن أن يتحسّسها إلاّ الصفوة التي محّضها اللّه حبّاً خالصاً حياله ، ولذلك كان وقعُ هذه الشدّة على يوسف كما يصفه النصُّ المفسّرُ على النحو الآتي : فبكى يوسفُ عند ذلك ، حتّى بكى لبكائه الحيطان ، فتأذّى ببكائه أهل السجن ، فصالحهم على أن يبكي يوماً ويسكت يوماً . فكان في اليوم الذي يسكُت أسوء حالا . . . .
إنّنا لو تأمّلنا هذا النص ، لأدركنا مبلغ الشدّة في أعماق يوسف ، فحتّى في اليوم الذي كان يسكت عن البكاء فيه ، إنّما كان حاله أشدّ ألماً من حاله وهو يبكي .
وهذا يعني أنّ اليوم الذي كان لا يبكي فيه ، إنّما يصرفه بالصراع وبالتوتّر وبالتمزّق وبالندم وبمعاودة التفكير . . . كلّ اُولئك أشدّ ألماً على النفس من البكاء الذي قد يختزل أو يُساهم في تفريج الألم .
* * *
هذه واحدةٌ من الشدائد النفسيّة التي كابد منها يوسف أشدّ المكابدة .
وعلينا أن نتصوّر سائر الشدائد التي صاحبت يوسف في رحلته .
والآن لنُتابع هذه الشدائد .
ولكن الأهمّ من ذلك أن نتابع الاستجابة على الشدائد ، أي الصبر على الشدائد وهو ما يستهدف النص من التشدّد عليه من هذه القصة .
تُرى ، ما هي هذه الشدائد ؟
وكيف استجاب لها بطلُنا يوسف ؟
أوّل شدّة يكابدها يوسف ، تتمثّل في شدّة بدنية ونفسية ، هي : اقتياده من قِبَلِ إخوته إلى الصحراء ، ثمّ إظهار مشاعرهم العدائية نحوه والبدء بممارسة الضرب حياله ، حتى أ نّه بدأ يستغيث بهم واحداً واحداً فلا يغيثه أحد ، بل إنّهم همّوا بقتله وهو يصرخ : يا أبتاه! . لولا أن يتدّخل أحد الإخوة فيمنعهم من قتل يوسف .
إنّ هذه الشدّة ليست بضئيلة البتّة ، بل إنّها ذات وقع كبير على يوسف دون أدنى شك . . .
ولنا أن نتصوّر أنّ أخاً صغيراً مثل يوسف وهو المدلّل لدى أبيه يُلاحظ فجأة أنّ إخوته الذين يمثّلون أقرب الأرحام يظهرون له العداء المنكر وهو وحيدٌ في الصحراء ثمّ ينهالون عليه بالضرب ، بل ويهمّون بقتله وهو يستغيث ولا يُغاث . . .
* * *
ثمّ يكبرُ حجمُ الشدائد ، حينما يصل الأمر إلى إلقائه في البئر . . .
ولنا أن نتصوّر أيضاً ، كم هو مرعبٌ ومأساويٌ مرأى أخ صغير يمسكه مجموعة من الإخوة قد انتُزعت الرحمةُ من أعماقهم ، ثمّ يدلونه في بئر . لا شك أنّه مرأىً مُرعبٌ ، رهيب ، مُدمّر .
وممّا زاد في رُعب هذا المنظر أو المرأى هو الطريقة التي استخدموها في عملية إلقائه في البئر ، فلقد جرّدوه من ثيابه وهو يستغيث : ردّوا عليّ القميص أتوارى به ، وكان جوابهم : ادعُ الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً يؤنسنك . حقّاً إنـّه لمرأىً مُرعب تزحمه مشاعر يوسف وهي في حالة الاستغاثة التي تفجّر الرحمة حتّى في الحجارة .
* * *
وتتوالى الشدائد على يوسف . . .
فها هُو يُنقَذ من البئر ، بيد أ نّه سرعان ما يشاهد إخوته يُهرعون نحو القافلة أو السيارة ، ليبيعوه بثمن بخس : دراهم معدودة . . .
وعملية البيع ذاتها تُعدّ شدّةً نفسيةً كبيرة ، كما هو واضح .
* * *
وتتوالى الشدائد من جديد على يوسف . . .
لكنها الآن تأخذ منعطفاً آخر . . .
فها هو يقع في صراع حادّ مع امرأة العزيز . . .
ثمّ يُشاهِد فجأة زوجها على الباب . . .
ثمّ يتطوّر الأمر إلى إدخاله في السجن وإلصاق التُهمة المنكرة به ، بالرغم من الأدلّة التي أثبتت براءته .
وعلينا ألاّ نمرّ عابراً على مثل هذه الوقائع وما تصاحبُها من الشدائد النفسية ، وبخاصة لدى صفوة نظيفة كلّ النظافة . . . كم تسحقُها مثلُ هذه الأنماط من الصراع ، وكم تُؤلمها مثل هذه التُهم . . .
* * *
وأخيراً تجيء شدائد السجن بنمطيها النفسي والجسمي ، ولا تعقيب لنا على مثل هذه الشدائد ، فالسجن وحده إيذاءٌ نفسي وجسدي يرشح بأكثر من مأساة . . .
لكنه مضافاً إلى ما تقدّم ، فقد واكبت حياته في السجن شدّةٌ نفسيةٌ كبيرةٌ هانت عندها شدائد السجن ، ألا وهي عتاب جبرئيل على النحو الذي تحدّثنا عنه مفصلا . . .
* * *
إنّ مكابدة يوسف لهذه الشدائد ينبغي ألاّ نتركها دون أن نلاحظ كيفية استجابته حيالها ، فالمهم ـ وهذا ما تستهدفه السماء من وراء قصّ مثل هذه الحكايات ـ أن تستجيب الشخصيةُ المؤمنة لهذه الشدائد بعملية الصبر ، وهي الاستجابة التي تصدر عنها عادة صفوة البشر .
إنّ يوسف لشخصية صابرةٌ متميّزةٌ في هذا الميدان . ويكفي أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قد ثمّن ظاهرة الصبر لدى يوسف ، حيث رُوي عنه (صلى الله عليه وآله) :
«لقد عجبتُ من يوسف وكرمه وصبره ، واللّه يغفر له حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنتُ مكانه لما أخبرتُهم حتّى اشترط أن يخرجوني من السجن . ولقد عجبتُ من يوسف وصبره وكرمه ، واللّه يغفر له حين أتاه الرسول ، فقال : ارجع إلى ربك ، ولو كنتُ مكانه ولبثتُ في السجن ما لبثت ، لأسرعت الإجابة وبادرتهم بالباب ، وما ابتغيت العذر، إنّه كان لحليماً ذا أناة» .
إنّ هذا التثمينَ من النبىّ (صلى الله عليه وآله) لموقف يوسف (عليه السلام) ، كاف في تسجيل خطورة ظاهرة الصبر لدى يوسف ، وأنـّها لشهادةٌ جديرة بالتسجيل .
إذن ، استخلاص عظة الصبر على الشدائد ، ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتحدّث عن بطل القصة يوسف .
* * *
السماح بصفته واحداً من أنماط السلوك الذي تطالبنا السماءُ به يشكّل سمةً ملحوظة في شخصيّة يوسف . . . حيث تترافق مع سمة الصبر التي وقفنا عليها .
ولو لم يكن إلاّ عفو يوسف عن إخوته الذين أذاقوه أشدّ ألوان العذاب . . . لو لم يكن في القصة إلاّ هذا الموقف من يوسف حيال إخوته ، لكفى به سمةً عظيمةً في شخصيته .
* * *
الإرادة سمةٌ ثالثة من سمات الشخصية لدى يوسف .
ولا حاجة بنا إلى التعقيب على هذه السمة العظيمة التي تميّز أسوياء الناس عن
مرضاهم ، بل تُميّز درجة السويّة بين الأسوياء أيضاً .
ويكفي أنّ يوسف قد مارس إرادته في أشدّ الدوافع إلحاحاً ، وفي أشدّ المنبّهات إثارة ، حتّى أنّه هتف قائلا :
﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾
إنّه (عليه السلام) اختار السجن الطويل من خلال ممارسته للإرادة ، وكابدَ ما كابد تحقيقاً
لمبادئ السماء التي جسّدتها ظاهرة الإرادة ، كما هو واضح .
* * *
أمّا السمات الاُخرى التي طبعت شخصية يوسف فتتمثّل في سمتين خطيرتين ، إحداهما : السمة العلمية ، والاُخرى : السمة الاجتماعية .
أمّا السمة العلمية ، فقد تحدّدت بوضوح في قدرته الفائقة على تفسير الأحلام ، بدءً بأحلام صاحبيه في السجن ، وانتهاءً برؤيا الملك . . .
وواضحٌ أنّ هذه السمة تظل جزءً من سمة مُعجزة منحتها السماء ليوسف عندما بلغ أشُدّه حيث صرّح النص القرآني الكريم بوضوح في هذا الصدد :
﴿وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوى﴾
﴿آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً وكَذلِكَ نَجْزِي الْـمُحْسِنِينَ﴾
وأمّا السمة الاجتماعية التي غلّفت شخصية يوسف (عليه السلام) ، تُعدّ تتويجاً للسمات
الأخلاقية والعلمية التي طبعت شخصيته .
لقد قال له المَلك :
﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾
وأجابه يوسف :
﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾
ثمّ عقبت السماء على ذلك :
﴿وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ﴾
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾
لقد أراد الملك أن يجعله مستشاراً خاصاً له :
﴿وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾
بيد أنّ المَلك عندما أعاد على يوسف قصّ رؤياه ، وفسّرها يوسف من جديد ، وكان ممّا اقترحه على الملك أن يجمع الطعام ، ويزرع زرعاً كثيراً في السنين المخصبة ، ويبني الخزائن للطعام بقصبه وسنبله علفاً للدواب ، وأن يرفع الناس من طعامهم الخمس ، حتّى يكفي الطعام لمصر ومَن حولها ، فيمتارون منه .
وعندها تجتمع من الكنوز ما لا يجتمع لأحد .
هنا أحسّ الملك بصعوبة تحقيق هذه الخطة الاقتصادية، قائلا : مَن لي بهذا ومن يجمعه ، أي : الطعام .
وعندها أجابه يوسف :
﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ﴾
ومنذ ذلك الحين تولّى يوسف هذه المهمّة .
ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : إنّ يوسف جمع خلال الأعوام المخصبة الطعام وكبسه في الخزائن ، ثمّ باعه في السنين المجدبة موزّعاً على سبع سنين ، كلّ سنة بقيمة تبادلية خاصة ، هي : النقد والجواهر والدواب والعبيد والعقار والمزارع والرقاب ، حتى اجتمعت لديه كلّ الأموال وفق هذه الخطة . وحتى قيل في حينه :
ما رأينا ولا سمعنا بمَلِك أعطاه اللّه من المُلك ما أعطى هذا المَلِكَ حكماً وعلماً وتدبيراً .
وقد ردّ يوسف بعد ذلك كلّ هذه الأموال إلى أصحابها بما في ذلك عتقه لمن تملّكهم ، وبما في ذلك خاتم المُلك وسريره وتاجُه ، مبيّناً للمَلِك أنّ إجراءاته الاقتصادية المذكورة لم تكن من أجل دافع التملّك أو السيطرة ، وإنّما من أجل إنقاذهم ، ولذلك فأنا أردّ إليهم كلّ الأموال وأردّ إليك سريرك ، ولكن شريطة أن تحذو حذوي في المنهج السياسي للبلد .
وعندها ثمّن المَلك هذا التوجيه السياسي وأعلن إيمانه باللّه .
* * *
إنّ ما يعنينا ممّا تقدّم ، أن نستخلص الدلالة الفكرية لهذه السمة التي طبعت شخصية يوسف من خلال اضطلاعه بتحمّل المسؤولية . . .
لقد عقّبت السماء على تولّي يوسف للمسؤولية ، بهذه الفقرات :
﴿وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ﴾
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾
فهذه الفقرات توضّح لنا أنّ منح يوسف هذه المسؤولية ، مسؤولية المُلك إنّما تشكّل عطاءً أو نعمةً في الدنيا ، فضلا عن العطاء الاُخروي :
﴿وَ لأَجْرُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾
ومعطيات هذه النعم ليست لمجرّد أنـّها تحقيقٌ لدافع التملّك أو السيطرة ، فهذان الدافعان لا قيمة لهما عند الصفوة البشرية ، بل هما وسيلة لتحقيق مصالح الآخرين ، على النحو الذي حققه يوسف فعلا ، وحيث انتهى به الأمر إلى ردّ كلّ الأموال والتخلّي عن المُلك . . .
ولا يغب عن بالنا أيضاً ، كما تشير النصوص المفسّرة ، أنّ المَلِكَ نفسه قد أعلن إيمانه ، وأنّ الآخرين أيضاً أعلنوا إيمانهم نتيجة وقوفهم على السياسة الحكيمة التي انتهجها يوسف ، وهي سياسة مستوحاة من مبادئ السماء التي ألهمته إيّاه دون أدنى شك .
إذن الشخصية المؤمنة ، الصابرة ، الشخصيّة التي كابدت ألوان المهانة ، وفقدت التقدير الاجتماعي . . . قد كافأتها السماء بتقدير اجتماعي لا يدور ببال أحد قطّ إلى الدرجة التي سيطرت بها على مصائر الجمهور ، وهذا كلّه في حساب العطاء الدنيوي .
أما العطاء الاُخروي فهو خيرٌ من ذلك ، كما أشار النص القرآني الكريم .
هذا إلى أنّ ذلك كلّه إنّما يتمّ في نطاق الالتزام بمبادئ السماء .
ثمّ ما يترتّب على هذا الالتزام من تحقيق معطيات اُخرى ، هي إرشاد الآخرين وتوجيههم إلى مبادئ السماء أيضاً . وهو ما حصل فعلا من إيمان المَلك وإيمان الجمهور .
وهذا المُعطى الأخير له قيمته الخطيرة دون أدنى شك . . . وأعني بذلك أن يكون المُلك أو الاضطلاع بأيّة مسؤولية كبيرة كانت أو صغيرة ، وسيلةً للهداية لإرشاد الآخرين نحو الإيمان باللّه ومبادئه .
* * *
وبعد ، هناك أحداثٌ ومواقف لم نتحدّث عنها في قصة يوسف وبمقدور المتلقّي أن يستخلص منها دلالات متنوعة تظلّ حائمة على الأفكار التي لحظناها في القصة بكلّ شخصياتها الثانوية والرئيسية .
كما أنّنا لم نتحدّث عن البناء الفني للقصة إلاّ عابراً .
إنّ الحديث عن البناء الفنّي للقصة يتطلّب مساحة أكبر من المساحة التي حدّدت أفكار القصة ، فكلّ دور من الأدوار التي لحقت الشخصيات الثانوية :
يعقوب ، إخوة يوسف ، أحفاد يعقوب ، امرأة العزيز ، نسوة المدينة ، الأخ الأصغر ليوسف ، العزيز ، صاحبي السجن ، الشاهد . . . كلّ دور لهذه الشخصيات قد صيغ وفق حوار وسرد مليئين بالأسرار الفنّية ، من اختزال أو تفصيل ، ومن اقتصاد لغوي ، ومن عَرض مُدهش . . .
هذا فضلا عن عناصر المفاجأة والتشويق ، وفضلا عن حركة القصة وتموّجاتها وإيقاعها ، وفضلا عن بنائها الزمني ونموّ الأحداث من خلاله بنحو مُدهش ، نجدنا قاصرين عن التحدّث عنه ، إلاّ من خلال تخصيص مساحة كبيرة لها ، عسى أن نوفق لذلك في مجال آخر .
بيد أنّ هذا لا يحتجزنا من التذكير جديداً أو الإشارة إلى أنّ أهم معالم البناء القصصي أو المادّة القصصية وصياغتها يتمثّل ـ كما ألمحنا في المقدّمة ـ في ظاهرة الحلم الذي بدأت القصةُ به ، وانتهت به أيضاً ، أي حلم يوسف في الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر ، حيث شكّل «البداية» موقفيّاً أو لفظيّاً ، وحيث تنامى عضوياً لينتهي إلى تجسيده عملياً وهو : تحقيق الحلم إلى واقع بالنحو الذي انتهت القصة به .
سورة الكهف
وأجابه يوسف :
﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾
ثمّ عقبت السماء على ذلك :
﴿وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ﴾
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾
لقد أراد الملك أن يجعله مستشاراً خاصاً له :
﴿وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾
بيد أنّ المَلك عندما أعاد على يوسف قصّ رؤياه ، وفسّرها يوسف من جديد ، وكان ممّا اقترحه على الملك أن يجمع الطعام ، ويزرع زرعاً كثيراً في السنين المخصبة ، ويبني الخزائن للطعام بقصبه وسنبله علفاً للدواب ، وأن يرفع الناس من طعامهم الخمس ، حتّى يكفي الطعام لمصر ومَن حولها ، فيمتارون منه .
وعندها تجتمع من الكنوز ما لا يجتمع لأحد .
هنا أحسّ الملك بصعوبة تحقيق هذه الخطة الاقتصادية، قائلا : مَن لي بهذا ومن يجمعه ، أي : الطعام .
وعندها أجابه يوسف :
﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأَرْضِ﴾
ومنذ ذلك الحين تولّى يوسف هذه المهمّة .
ويقول الإمام الرضا (عليه السلام) : إنّ يوسف جمع خلال الأعوام المخصبة الطعام وكبسه في الخزائن ، ثمّ باعه في السنين المجدبة موزّعاً على سبع سنين ، كلّ سنة بقيمة تبادلية خاصة ، هي : النقد والجواهر والدواب والعبيد والعقار والمزارع والرقاب ، حتى اجتمعت لديه كلّ الأموال وفق هذه الخطة . وحتى قيل في حينه :
ما رأينا ولا سمعنا بمَلِك أعطاه اللّه من المُلك ما أعطى هذا المَلِكَ حكماً وعلماً وتدبيراً .
وقد ردّ يوسف بعد ذلك كلّ هذه الأموال إلى أصحابها بما في ذلك عتقه لمن تملّكهم ، وبما في ذلك خاتم المُلك وسريره وتاجُه ، مبيّناً للمَلِك أنّ إجراءاته الاقتصادية المذكورة لم تكن من أجل دافع التملّك أو السيطرة ، وإنّما من أجل إنقاذهم ، ولذلك فأنا أردّ إليهم كلّ الأموال وأردّ إليك سريرك ، ولكن شريطة أن تحذو حذوي في المنهج السياسي للبلد .
وعندها ثمّن المَلك هذا التوجيه السياسي وأعلن إيمانه باللّه .
* * *
إنّ ما يعنينا ممّا تقدّم ، أن نستخلص الدلالة الفكرية لهذه السمة التي طبعت شخصية يوسف من خلال اضطلاعه بتحمّل المسؤولية . . .
لقد عقّبت السماء على تولّي يوسف للمسؤولية ، بهذه الفقرات :
﴿وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ﴾
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ﴾
فهذه الفقرات توضّح لنا أنّ منح يوسف هذه المسؤولية ، مسؤولية المُلك إنّما تشكّل عطاءً أو نعمةً في الدنيا ، فضلا عن العطاء الاُخروي :
﴿وَلأَجْرُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتَّقُونَ﴾
ومعطيات هذه النعم ليست لمجرّد أنـّها تحقيقٌ لدافع التملّك أو السيطرة ، فهذان الدافعان لا قيمة لهما عند الصفوة البشرية ، بل هما وسيلة لتحقيق مصالح الآخرين ، على النحو الذي حققه يوسف فعلا ، وحيث انتهى به الأمر إلى ردّ كلّ الأموال والتخلّي عن المُلك . . .
ولا يغب عن بالنا أيضاً ، كما تشير النصوص المفسّرة ، أنّ المَلِكَ نفسه قد أعلن إيمانه ، وأنّ الآخرين أيضاً أعلنوا إيمانهم نتيجة وقوفهم على السياسة الحكيمة التي انتهجها يوسف ، وهي سياسة مستوحاة من مبادئ السماء التي ألهمته إيّاه دون أدنى شك .
إذن الشخصية المؤمنة ، الصابرة ، الشخصيّة التي كابدت ألوان المهانة ، وفقدت التقدير الاجتماعي . . . قد كافأتها السماء بتقدير اجتماعي لا يدور ببال أحد قطّ إلى الدرجة التي سيطرت بها على مصائر الجمهور ، وهذا كلّه في حساب العطاء الدنيوي .
أما العطاء الاُخروي فهو خيرٌ من ذلك ، كما أشار النص القرآني الكريم .
هذا إلى أنّ ذلك كلّه إنّما يتمّ في نطاق الالتزام بمبادئ السماء .
ثمّ ما يترتّب على هذا الالتزام من تحقيق معطيات اُخرى ، هي إرشاد الآخرين وتوجيههم إلى مبادئ السماء أيضاً . وهو ما حصل فعلا من إيمان المَلك وإيمان الجمهور .
وهذا المُعطى الأخير له قيمته الخطيرة دون أدنى شك . . . وأعني بذلك أن يكون المُلك أو الاضطلاع بأيّة مسؤولية كبيرة كانت أو صغيرة ، وسيلةً للهداية لإرشاد الآخرين نحو الإيمان باللّه ومبادئه .
* * *
وبعد ، هناك أحداثٌ ومواقف لم نتحدّث عنها في قصة يوسف وبمقدور المتلقّي أن يستخلص منها دلالات متنوعة تظلّ حائمة على الأفكار التي لحظناها في القصة بكلّ شخصياتها الثانوية والرئيسية .
كما أنّنا لم نتحدّث عن البناء الفني للقصة إلاّ عابراً .
البناء الفني للقصة :
إنّ الحديث عن البناء الفنّي للقصة يتطلّب مساحة أكبر من المساحة التي حدّدت أفكار القصة ، فكلّ دور من الأدوار التي لحقت الشخصيات الثانوية :
يعقوب ، إخوة يوسف ، أحفاد يعقوب ، امرأة العزيز ، نسوة المدينة ، الأخ الأصغر ليوسف ، العزيز ، صاحبي السجن ، الشاهد . . . كلّ دور لهذه الشخصيات قد صيغ وفق حوار وسرد مليئين بالأسرار الفنّية ، من اختزال أو تفصيل ، ومن اقتصاد لغوي ، ومن عَرض مُدهش . . .
هذا فضلا عن عناصر المفاجأة والتشويق ، وفضلا عن حركة القصة وتموّجاتها وإيقاعها ، وفضلا عن بنائها الزمني ونموّ الأحداث من خلاله بنحو مُدهش ، نجدنا قاصرين عن التحدّث عنه ، إلاّ من خلال تخصيص مساحة كبيرة لها ، عسى أن نوفق لذلك في مجال آخر .
بيد أنّ هذا لا يحتجزنا من التذكير جديداً أو الإشارة إلى أنّ أهم معالم البناء القصصي أو المادّة القصصية وصياغتها يتمثّل ـ كما ألمحنا في المقدّمة ـ في ظاهرة الحلم الذي بدأت القصةُ به ، وانتهت به أيضاً ، أي حلم يوسف في الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر ، حيث شكّل «البداية» موقفيّاً أو لفظيّاً ، وحيث تنامى عضوياً لينتهي إلى تجسيده عملياً وهو : تحقيق الحلم إلى واقع بالنحو الذي انتهت القصة به .
|
|
لتجنب "بكتيريا قاتلة".. تحذير من أطعمة لا يجب إعادة تسخينها
|
|
|
|
|
الهند تنجح بإطلاق صاروخ باليستي من غواصة نووية
|
|
|
|
|
شعبة فاطمة بنت أسد تقيم برنامج زينة الحياة القرآني للأطفال
|
|
|