أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-9-2020
6252
التاريخ: 14-9-2020
3883
التاريخ: 13-9-2020
3718
التاريخ: 11-9-2020
3830
|
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } [الأنبياء: 45 - 50]
{ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي: قل يا محمد إنما أنذركم من عذاب الله وأخوفكم بما أوحى الله إلي { وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} شبههم بالصم الذين لا يسمعون النداء إذا نودوا لأنهم لم ينتفعوا بالسمع والمعنى أنهم يستثقلون القرآن وسماعه وذكر الحق فهم في ذلك بمنزلة الأصم الذي لا يسمع {إذا ما ينذرون} أي: يخوفون.
لما تقدم الإنذار بالعذاب ذكر عقيبه {ولئن مستهم نفحة} أي: أصابهم طرف عن ابن عباس وقيل قليل عن ابن كيسان وقيل نصيب عن ابن جريج وقيل بعض ما يستحقونه من العقوبة عن أبي مسلم { مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: يدعون بالويل والثبور عند نزوله ثم قال سبحانه {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} أي: نضع الموازين ذوات القسط ليوم القيامة وقيل معناه نحضر الموازين التي لا جور فيها بل كلها عدل وقسط لأهل يوم القيامة أوفي يوم القيامة وقال قتادة معناه نضع العدل في المجازاة بالحق لكل أحد على قدر استحقاقه فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقه ولا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقه وقد سبق الكلام في الميزان في سورة الأعراف.
{فلا تظلم نفس شيئا} أي: لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} أي: جئنا بها والمراد أحضرناها للمجازاة بها {وكفى بنا حاسبين} أي: عالمين حافظين وذلك إن من حسب شيئا علمه وحفظه عن ابن عباس وقيل محصين والحسب العد عن السدي {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} أي: أعطيناهما التوراة يفرق بين الحق والباطل عن مجاهد وقتادة وقيل البرهان الذي فرق به بين حق موسى وباطل فرعون وقيل هو فلق البحر {وضياء} أي: وآتيناهما ضياء وهو من صفة التوراة أيضا مثل قوله {فيها هدى ونور} والمعنى أنهم استضاءوا بها حتى اهتدوا في دينهم {وذكرا للمتقين} يذكرونه ويعملون بما فيه ويتعظون بمواعظه.
ثم وصف المتقين فقال {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: في حال الخلوة والغيبة عن الناس وقيل في سرائرهم من غير رياء {وهم من الساعة} أي: من القيامة وأهوالها {مشفقون} أي: خائفون {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} أراد به القرآن أنه ذكر ثابت نافع دائم نفعه إلى يوم القيامة وقيل سماه مباركا لوفور فوائده من المواعظ والزواجر والأمثال الداعية إلى مكارم الأخلاق والأفعال لما وصف التوراة أتبعه ذكر القرآن الذي آتاه نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } استفهام على معنى التوبيخ أي فلما ذا تنكرونه وتجحدونه مع كونه معجزا .
________________
1- تفسير مجمع البيان ، الطبرسي،ج7،ص90-92.
{ قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ولا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ } . هذا مثل قوله تعالى : « وقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ » - 89 الحجر . . أمر نبيه الكريم ان يقول للمشركين : أتسخرون من قيام الساعة وأهوالها ؟ انها من وحي اللَّه لا من وحي الخيال ، واني أحذركم بأمر اللَّه ، لا بأمري ، ولكن كيف تسمعون التحذير والانذار ، وفي آذانكم وقر وصمم ؟ وكل من لا يستجيب لنصيحة اللَّه فهو أعمى وأصم ، وان كان له عينان وأذنان .
{ ولَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ } . كانوا من قبل يسخرون ويهزؤن إذا ما أنذروا بالعذاب ، حتى إذا مسهم أخفه وأدناه ذلوا وخضعوا وقالوا : « يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ) . وتقدم مثله في الآية 14 من هذه السورة .
الميزان يوم القيامة وصاحب الأسفار :
{ ونَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وكَفى بِنا حاسِبِينَ } . المراد بالموازين هنا احكام اللَّه وشريعته والمعنى ان اللَّه سبحانه يقيس أعمال العباد بأمره ونهيه ، فمن جاءت أفعاله على وفق أمر اللَّه وتروكه على وفق نهيه تعالى فهو ممن ثقلت موازينهم ، والا فهو من الذين خفت موازينهم ، سئل الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) عن الموازين القسط ؟
فقال : هم أنبياء اللَّه وأولياؤه أي احكام اللَّه الذي يبلغها الأنبياء والأولياء لعباده .
وعلى هذا الأساس يكون الجزاء ، فلا ينقص من ثواب المحسن مقدار حبة من خردل ، وقد يزاد له ، ولا يزاد في عقاب المسئ حبة كذلك ، وقد ينقص منه {وكَفى بِنا حاسِبِينَ } لا نشتبه بشيء ولا يفوتنا شيء مهما بلغ العدد ، قال الملَّا صدرا في كتاب الأسفار : « في قدرة اللَّه ان يكشف للخلائق جميع أعمالهم ، وميزان حسناتهم وسيئاتهم وثوابها وعقابها في لحظة واحدة ، وهو أسرع الحاسبين » .
ولو تنبه لهذه الآية من يحاول تطبيق القرآن على العلم الحديث لقال : ان المصدر الأول لفكرة العقل الألكتروني هو القرآن . . انظر القرآن والعلم الحديث في أول سورة البقرة .
وتكلم صاحب الاسفار عن معنى الميزان يوم القيامة وأطال الكلام ، وبالنظر إلى مكانة المؤلف في فلسفة العقيدة وغيرها نقتطف من عباراته ما يلي مع ضرب من التصرف في التعبير بقصد الإيضاح :
« ان ميزان الآخرة هو ما يعرف به صحة العلم والايمان باللَّه وصفاته وأفعاله ، وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر ، وهذا الميزان هو القرآن الذي أنزله المعلم الأول ، وهو اللَّه على المعلم الثالث وهو الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) بواسطة المعلم الثاني وهو جبريل ، فبأحكام القرآن يقاس علم الإنسان وعقله وجميع أقواله وأفعاله ، وتعرف حسناته من سيئاته ، فإن كان الرجحان للحسنات فصاحبها من أهل السعادة ، وان كان للسيئات فصاحبها من أهل الشقاوة ، ومع تساوي الحسنات والسيئات فصاحبهما موقوف حتى يحكم اللَّه فيه بالعذاب أو العفو ، ولكن جانب الرحمة أرجح لأن اللَّه عفوّ رحيم . ثم قال صاحب الاسفار - في مكان آخر - لكل شيء ميزان الا قول : لا إله إلا اللَّه لأن كلمة التوحيد لا يقابلها إلا الشرك ، وليس للشرك ميزان - وقال في مقام ثالث - ان القرآن بمنزلة مائدة فيها أنواع الأطعمة من لباب الأغذية إلى التبن والقشور ، فاللباب هي الحكمة والبراهين ، وتختص بأولي الألباب والبصائر ، أما التبن والقشور فللعوام الذين هم كالأنعام ، كما قال تعالى : مَتاعاً لَكُمْ ولأَنْعامِكُمْ » .
وقد يظن للوهلة الأولى ان التعبير بالتبن والقشور جرأة على كتاب اللَّه وقداسته .
ولكن صاحب الاسفار فوق الظنون والشبهات ، ومن تأمل كلامه يعلم أن مراده بالتبن والقشور هم أهل التبن والقشور كالظاهرية الذين يقفون عند الظاهر ، ولا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم بدليل ما قاله في فصل تحقيق قول النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) : ان
للقرآن ظهرا وبطنا ، فقد شرح هذا الحديث بكلام طويل ، جاء فيه : « ان للقرآن درجات ومنازل كالإنسان الذي منه قشري ولبّي ، والإنسان القشري كالظاهرية الذين لا يدركون إلا القشور ، أما روح القرآن وسره فلا يدركه إلا أهل العقول والبصائر » . فالتقسيم - إذن - لفهم الناس للقرآن ، لا للقرآن نفسه .
{ ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى وهارُونَ الْفُرْقانَ وضِياءً وذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ }. المراد بالفرقان هنا التوراة كما أنزلها اللَّه على موسى ، وكل كتاب سماوي هو فرقان لأنه يفرق بين الهدى والضلال ، وهو ضياء يبدد ظلام الجهل والكفر ، وهو ذكر لمن طلب التقوى لأنه يذكر باللَّه ويبين حلاله وحرامه { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ }. هذا تحديد للمتقين بأنهم الذين يخافون اللَّه في السر والغيب عن أعين الناس كما يخافونه في العلانية لأنهم يؤمنون بيوم القيامة والحساب والجزاء ، ويخافون منه ، ويعملون له .
{وهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ }. هذا إشارة إلى القرآن ، وهو ذكر لمن يتذكر ، وعظة لمن يتعظ ، وخير وبركة على من ائتمر بأمره ، وانتهى بنهيه { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } وقد وضحت محجته ، وقامت دلائله ؟
____________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 280-282.
قوله تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}أي إن الذي أنذركم به وحي إلهي لا ريب فيه وإنما لا يؤثر فيكم أثره وهو الهداية لأن فيكم صمما لا تسمعون الإنذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه.
قوله تعالى:{ وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } النفحة الوقعة من العذاب، والمراد أن الإنذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء يحتاجون إلى نفحة من العذاب حتى يضطروا فيؤمنوا ويعترفوا بظلمهم.
قوله تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} القسط العدل وهو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف والتقدير الموازين ذوات القسط، وقد تقدم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير سورة الأعراف.
وقوله:{ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}الضمير في{وإن كان} للعمل الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي وإن كان العمل الموزون مقدار حبة من خردل في ثقله أتينا بها وكفى بنا حاسبين وحبة الخردل يضرب بها المثل في دقتها وصغرها وحقارتها، وفيه إشارة إلى أن الوزن من الحساب.
قوله تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } رجوع بوجه إلى تفصيل ما أجمل في قوله سابقا وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} الآية بذكر ما أوتي النبيون من المعارف والشرائع وأيدوا بإهلاك أعدائهم بالقضاء بالقسط.
والآية التالية تشهد أن المراد بالفرقان والضياء والذكر التوراة آتاها الله موسى وأخاه هارون شريكه في النبوة.
والفرقان مصدر كالفرق لكنه أبلغ من الفرق، وذكر الراغب أنه على ما قيل اسم لا مصدر وتسمية التوراة الفرقان لكونها فارقة أولكونها يفرق بها بين الحق والباطل في الاعتقاد والعمل، والآية نظيرة قوله:{ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون:}البقرة: 53 وتسميتها ضياء لكونها مضيئة لمسيرهم إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وتسميتها ذكرا لاشتمالها على ما يذكر به الله من الحكم والمواعظ والعبر.
ولعل كون الفرقان أحد أسماء التوراة هو الموجب لإتيانه باللام بخلاف ضياء وذكر، وبوجه آخر هي فرقان للجميع لكنها ضياء وذكر للمتقين خاصة لا ينتفع بها غيرهم ولذا جيء بالضياء والذكر منكرين ليتقيدا بقوله:{للمتقين}بخلاف الفرقان وقد سميت التوراة نورا وذكرا في قوله تعالى:{فيها هدى ونور:}المائدة: 44 وقوله:{فاسألوا أهل الذكر}الآية: 7 من السورة.
قوله تعالى:{ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}الإشارة بهذا إلى القرآن وإنما سمي ذكرا مباركا لأنه ثابت دائم كثير البركات ينتفع به المؤمن به والكافر في المجتمع البشري وتتنعم به الدنيا سواء عرفته أو أنكرته أقرت بحقه أو جحدته.
يدل على ذلك تحليل ما نشاهد اليوم من آثار الرشد والصلاح في المجتمع العام البشري والرجوع بها القهقرى إلى عصر نزول القرآن فما قبله فهو الذكر المبارك الذي يسترشد بمعناه وإن جهل الجاهلون لفظه، وأنكر الجاحدون حقه وكفروا بعظيم نعمته، وأعانهم على ذلك المسلمون بإهمالهم في أمره، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
_______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص239-242.
ثمّ تقرّر الآية حقيقة أنّ وظيفة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إنذار الناس عن طريق الوحي الإلهي، فتوجّه الخطاب إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} وإذا لم يؤثّر في قلوبكم القاسية، فلا عجب من ذلك، وليس ذلك دليلا على نقص الوحي الإلهي، بل السبب هو {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}.
إنّ الاُذن السميعة يلزمها أن تسمع كلام الله، أمّا الآذان التي أصمّتها حجب الذنوب والغفلة والغرور فلا تسمع الحقّ مطلقاً.
موازين العدل في القيامة:
بعد أن كانت الآيات السابقة تعكس حالة غرور وغفلة الأفراد الكافرين، تقول الآية الأُولى أعلاه: إنّ هؤلاء المغرورين لم يذكروا الله يوماً في الرخاء، ولكن: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}.
كلمة (نفحة) تعني برأي المفسّرين وأرباب اللغة: الشيء القليل، أو النسيم اللطيف، وبالرغم من أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في نسمات الرحمة والنعمة غالباً، إلاّ أنّها تستعمل في مورد العذاب أيضاً(2).
وعلى قول تفسير الكشّاف فإنّ جملة {ولئن مسّتهم نفحة ...} تتضمّن ثلاثة تعابير كلّها تشير إلى القلّة: التعبير بالمسّ، والتعبير بالنفحة، من ناحية اللغة، ومن ناحية الوزن والصيغة أيضاً(3).
والخلاصة: إنّ ما يريد أن يقوله القرآن الكريم هو: إنّ هؤلاء الذين عميت قلوبهم يسمعون كلام النّبي ومنطق الوحي سنين طويلة، ولا يؤثّر فيهم أدنى تأثير، إلاّ أنّهم عندما تلهب ظهورهم سياط العذاب ـ وإن كانت خفيفة يسيرة ـ سيصرخون {إنّا كنّا ظالمين} ألا ينبغي لهؤلاء أن ينتبهوا قبل أن تصيبهم سياط العذاب؟
ولو انتبهوا حينئذ، فما الفائدة؟ فإنّ هذه اليقظة الإضطرارية لا تنفعهم، وإذا ما هدأت فورة العذاب واطمأنّوا فإنّهم سيعودون إلى ما كانوا عليه!
أمّا الآية الأخيرة التي نبحثها فتشير إلى حساب القيامة الدقيق، وجزائها العادل، ليعلم الكافرون والظالمون أنّ العذاب على فرض أنّه لم يعمّهم في هذه الدنيا، فإنّ عذاب الآخرة حتمي، وسيحاسبون على جميع أعمالهم بدقّة، فتقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ }.
«القسط» يعني أحياناً عدم التبعيض، وأحياناً يأتي بمعنى العدالة بصورة مطلقة، وما يناسب المقام هو المعنى الثّاني.
وممّا يلفت النظر أنّ «القسط» هنا ذكر كصفة للموازين، وهذه الموازين دقيقة ومنظّمة إلى الحدّ الذي تبدو وكأنّها عين العدالة(4).
ولهذا تضيف مباشرةً: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} فلا ينقص من ثواب المحسنين شيء، ولا يضاف إلى عقاب المسيئين شيء.
إلاّ أنّ نفي الظلم والجور هذا لا يعني عدم الدقّة في الحساب، بل {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
«الخردل» نبات له حبّة صغيرة جدّاً يضرب المثل بها في الصغر والحقارة.
وجاء نظير هذا التعبير في موضع آخر من القرآن بتعبير {مثقال ذرّة}(الزلزال،7).
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّه قد عُبّر في ستّ مواضع من القرآن بـ(مثقال ذرّة)وفي موضعين بـ(مثقال حبّة من خردل). وفي الحقيقة فإنّ الآية آنفة الذكر مع التعابير الست المختلفة تأكيد على مسألة المحاسبة الدقيقة في يوم القيامة.
إنّ كلمة «موازين»، وبصيغة الجمع، وبعدها ذكر وصف «القسط»، وبعده التأكيد على نفي الظلم {فلا تظلم نفس شيئاً} وبعد ذلك ذكر كلمة «شيئاً» ثمّ التمثيل بحبّة الخردل، وأخيراً جملة {وكفى بنا حاسبين} كلّ هذه أدلّة على أنّ حساب يوم القيامة دقيق جدّاً، وخال من أي نوع من الظلم والجور.
أمّا ما المراد من الموازين؟
بعض المفسّرين ظنّوا أنّ هناك موازين كموازين هذه الدنيا تُنصب، ثمّ فرضوا بعد ذلك أنّ لأعمال الإنسان هناك وزناً وثقلا ليمكن وزنها بتلك الموازين.
إلاّ أنّ الصحيح هو أنّ الميزان هنا يعني وسيلة قياس الوزن، ومن المعلوم أنّ لكلّ شيء مقياس وزن متناسب معه، كميزان الحرارة، وميزان الهواء، والموازين الاُخرى الذي يتناسب كلّ منها مع الموضوع الذي يريدون قياسه بها.
ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ موازين الحساب في القيامة هم الأنبياء والأئمّة والصالحون الذين لا توجد نقطة سوداء في صحيفة أعمالهم(5). فنقرأ: «السلام على ميزان الأعمال»! وتجد التوضيح والتفصيل بصورة أوسع حول هذا الموضوع ذيل الآية (8) من سورة الأعراف.
إنّ ذكر الموازين بصيغة الجمع لعلّه إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، لأنّ رجال الحقّ كلّ منهم ميزان لأعمال البشر، فمضافاً إلى أنّ جميعهم ممتازون، فإنّ لكلّ منهم إمتيازاً خاصّاً بحيث يعتبر في تلك المرتبة مقياساً ومثلا. وبتعبير آخر: فإنّ كلّ من يشبه هؤلاء إلى حدّ ما، وتنسجم صفاته وأعماله وصفات وأعمال العظماء، فإنّ وزنه سيثقل بذلك المقدار، وكلّما إبتعدت وإختلفت فسيخفّ وزنه.
لمحة من قصص الأنبياء:
ذكرت هذه الآيات وما بعدها جوانب من حياة الأنبياء المشفوعة باُمور تربوية بالغة الأثر، وتوضّح البحوث السابقة حول نبوّة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)ومواجهته المخالفين بصورة أجلى مع ملاحظة الاُصول المشتركة الحاكمة عليها.
تقول الآية الأُولى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ }.
«الفرقان» يعني في الأصل الشيء الذي يميّز الحقّ عن الباطل، وهو وسيلة لمعرفة الإثنين. وقد ذكروا هنا تفاسير متعدّدة في المراد من الفرقان في هذه الآية.
فقال بعضهم: إنّ المراد التوراة.
والبعض إعتبره إنشقاق البحر لبني إسرائيل، والذي كان علامة واضحة على عظمة الحقّ وأحقّية موسى. في حين أنّ البعض إعتبره إشارة إلى سائر المعجزات والدلائل التي كانت بيد موسى وهارون(عليهما السلام).
غير أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها مطلقاً، لأنّ من الممكن أن يكون الفرقان إشارة إلى التوراة، وإلى سائر معجزات ودلائل موسى (عليه السلام).
وقد أطلق الفرقان في سائر الآيات على نفس القرآن أيضاً، مثل: {تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}(الفرقان)
وأحياناً يعبّر عن الإنتصار الإعجازي الذي ناله النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال في شأن معركة بدر: {يوم الفرقان}(الأنفال)
أمّا كلمة «الضياء» فتعني النور الذي ينبع من ذات الشيء، ومن المسلّم أنّ القرآن والتوراة ومعجزات الأنبياء كانت كذلك(6).
«الذكر» هو كلّ موضوع يبعد الإنسان عن الغفلة، وهذا أيضاً من آثار الكتب السماوية والمعجزات الإلهيّة الواضحة.
إنّ ذكر هذه التعابير الثلاثة متعاقبة ربّما كان إشارة إلى أنّ الإنسان من أجل أن يصل إلى هدفه يحتاج أوّلا إلى الفرقان، أي أن يشخّص الطريق الأصلي عند مفترق الطرق، فإذا شخّص طريقه يحتاج إلى ضياء ونور ليتحرّك في ذلك الطريق ويستمرّ فيه، وقد تعترضه موانع أهمّها الغفلة، فيحتاج إلى ما يذكره ويحذّره دائماً.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه ورود لفظ «الفرقان» معرفةً، وورود كلمتي
[ضياءً وذكراً] نكرتين في الآية محلّ البحث، وعُدّ أثرهما خاصّاً بالمتّقين، ولعلّ هذا التفاوت إشارة إلى أنّ المعجزات والخطابات السماوية تضيء الطريق للجميع، إلاّ أنّ من ينتفع من الضياء والذكر ليس جميع الناس، بل الذين يحسّون بالمسؤولية،وعلى جانب من التقوى.
ثمّ تعرف الآية التالية المتّقين بأنّهم {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}.
ولكلمة «الغيب» هنا تفسيران: الأوّل: إنّه إشارة إلى ذات الله المقدّسة، أي مع أنّ الله سبحانه غائب عن الأنظار، فإنّ هؤلاء آمنوا به بدليل العقل، ويحسّون بالمسؤولية أمام ذاته المقدّسة.
والآخر: إنّ المتّقين لا يخافون الله في العلانية وبين المجتمع فقط، بل يعلمون أنّه حاضر وناظر إليهم حتّى في خلواتهم.
وممّا يلفت النظر، أنّه عبّر عن الخوف أمام الله بالخشية، وفي شأن القيامة بالإشفاق، إنّ هذين اللفظين وإن كان كلاهما بمعنى الخوف، إلاّ أنّ «الخشية» ـ على قول الراغب في المفردات ـ تقال في موضع يمتزج فيه الخوف بالإحترام والتعظيم، كخوف الابن من أبيه الموقّر، وبناءً على هذا فإنّ خوف المتّقين ممتزج بالمعرفة.
وأمّا «الإشفاق» فيعني الإهتمام والحبّ المقترن بالخوف، وهذا التعبير يستعمل أحياناً في شأن الأولاد أو الأصدقاء الذين يحبّهم الإنسان، إلاّ أنّه يخاف عليهم في الوقت نفسه من تعرّضهم للبلايا والأمراض مثلا. وفي الواقع فإنّ المتّقين يحبّون يوم القيامة، لأنّه مكان الثواب والرحمة، إلاّ أنّهم في الوقت نفسه مشفقون من حساب الله فيه.
ويمكن أن تستعمل هاتان الكلمتان أيضاً في معنى واحد.
وقارنت الآية الأخيرة بين القرآن وباقي الكتب السابقة: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}؟ ولماذا الإنكار؟ لأنّه ذكر لكم ومصدر وعيكم ويقظتكم وتذكيرهم؟ ألأنّه مصدر البركة وفيه خير الدنيا وخير الآخرة، ومنبع الإنتصارات والسعادات؟ فهل يُنكر مثل هذا الكتاب الذي يستبطن أدلّة أحقّيته فيه، وقد سطعت نورانيّته، والذين يسيرون في طريقه سعداء منتصرون؟!
ولكي نعرف مدى أثر القرآن في التوعية وما له من البركات، فيكفي أن نرى حال سكّان جزيرة العرب قبل نزول القرآن عليهم، إذ كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفقر وتعاسة وتفرّق وتمزّق، ثمّ نرى حالهم بعد نزول القرآن حيث أصبحوا اُسوة ومثلا حسناً للآخرين، ونرى كذلك حال الأقوام الآخرين قبل وصول القرآن إليهم وبعده.
______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص268-274.
2ـ تفسير الفخر الرازي، تفسير في ظلال القرآن، ومفردات الراغب ذيل الآية مادّة (نفحة).
3ـ المصدر السابق.
4ـ مع أنّ «موازين» جمع، و «قسط» مفرد، إلاّ أنّ (القسط) مصدر، والمصدر لا يجمع، فليس هنا إشكال.
5- بحار الأنوار، ج7، ص252.
6- لقد أوضحنا الفرق بين «الضياء» و «النور» بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (5) من سورة يونس.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|