أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-8-2020
3817
التاريخ: 14-8-2020
6993
التاريخ: 11-8-2020
2053
التاريخ: 11-8-2020
16165
|
قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوكَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل: 38 - 42]
حكى سبحانه عن المشركين نوعا آخر من كفرهم فقال: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي: حلفوا بالله مجتهدين في أيمانهم والمعنى أنهم قد بلغوا في القسم كل مبلغ { لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} أي: لا يحشر الله أحدا يوم القيامة ولا يحيى من يموت بعد موته ثم كذبهم الله تعالى في ذلك فقال { بلى } يحشرهم الله ويبعثهم { وعدا } وعدهم به { عليه } إنجازه وتحقيقه من حيث الحكمة { حقا } ذلك الوعد ليس له خلف إذ لولا البعث لما حسن التكليف لأن التكليف إنما يحسن لإثابة من عوض به { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} صحة ذلك لكفرهم بالله وجحدهم نبوة أنبيائه وقيل لا يعلمون وجه الحكمة في البعث فلا يؤمنون به { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } هذا بيان من الله تعالى إنه إنما يحشر الخلائق يوم القيامة ليبين لهم الحق فيما كانوا فيه يختلفون فيه في دار الدنيا لأنه يخلق فيهم العلم الضروري يوم القيامة الذي يزول معه التكليف { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } في الدنيا في قولهم إن الله لا يبعث أحدا بعد موته وإذا تعلق اللام قوله { ولقد بعثنا } فالمعنى بعثنا إلى كل أمة رسولا ليبين لهم ذلك الرسول ما يختلفون فيه ويهديهم إلى طريق الحق وينبههم عليه { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قد ذكرنا تفسيره في سورة البقرة والمراد به هاهنا بيان أنه قادر على البعث لا يتعذر عليه ذلك فإنه إذا أراد شيئا كونه .
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} معناه: والذين فارقوا أوطانهم وديارهم وأهليهم فرارا بدينهم واتباعا لنبيهم في الله أي في سبيله لابتغاء مرضاته من بعد ما ظلمهم المشركون وعذبوهم بمكة وبخسوهم حقوقهم { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } أي: بلدة حسنة بدل أوطانهم وهي المدينة عن ابن عباس وقيل: لنعطينهم حالة حسنة وهي النصر والفتح وقيل: هي ما استولوا عليه من البلاد وفتح لهم من الولايات { ولأجر الآخرة أكبر } مما أعطيناهم في الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي: لوكان الكفار يعلمون ذلك وقيل: معناه لوعلم المؤمنون تفاصيل ما أعد الله لهم في الجنة لازدادوا سرورا وحرصا على التمسك بالدين { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هذا وصف لهؤلاء المهاجرين أي: صبروا في طاعة الله على أذى المشركين وفوضوا أمورهم إلى الله تعالى ثقة به.
_____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص157-158.
{ وأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } . في الآية 20 من هذه السورة قال تعالى للمشركين : انكم تعبدون مخلوقا غير خالق ، وفي الآية 24 حكى عنهم القول : انهم يصفون القرآن بأساطير الأولين ، وفي الآية 35 ذكر سبحانه انهم أسندوا شركهم وشرك آبائهم إلى اللَّه ، وقال تعالى في الآية التي نفسرها : ان المشركين ينكرون البعث ، ويقسمون الايمان المغلظة ، ويجتهدون فيها انه من مات فات لأن الشيء متى تفرقت أجزاؤه فلن يعود ثانية كما كان . .
وتكلمنا عن ذلك فيما سبق مرات . أنظر : طرق متنوعة لاثبات المعاد ج 2 ص 396 .
والماديون والحياة بعد الموت عند تفسير الآية 5 من سورة الرعد .
{ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } . كان المشركون يؤمنون بوجود اللَّه ووجود الشركاء له ، وينكرون البعث ، ولأنهم يؤمنون بوجود اللَّه جاء الرد عليهم بأن البعث واقع لا محالة ، لأن اللَّه الذي يؤمنون به هو الذي وعد بالبعث ووعده الحق وقوله الصدق . . أما جمع الأجزاء بعد تفرقها فأهون عليه من خلقها وإيجادها ، لأن من أوجد شيئا من لا شيء فبالأولى أن يوجده من أجزاء متفرقة .
{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } . ان في البعث حكما عديدة : منها تمييز الخبيث من الطيب ، والمحسن من المسئ ، وجزاء كل بما يستحق ، ومنها ان اللَّه سبحانه يبين للخلائق الحق الذي اختلفوا فيه كالتوحيد والنبوة والحلال والحرام { ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ } ومنها أيضا أن يعلم الذين أقسموا ان اللَّه لا يبعث أحدا ، ان يعلموا ويتأكدوا انهم كانوا كاذبين في ايمانهم .
{ إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . بدأ اللَّه الخلق بكلمة كن ، ويعيده أيضا بهذه الكلمة : « وهُو أَهْوَنُ عَلَيْهِ ولَهُ الْمَثَلُ الأَعْلى فِي السَّماواتِ والأَرْضِ وهُوالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - 27 الروم » .
{ والَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً } . هذه الآية تنطبق تماما على المهاجرين من صحابة رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرته ، وفارقوا الدنيا والأهل والمال فرارا بدينهم ، واتباعا لنبيهم ابتغاء مرضاة اللَّه ورسوله ، أما الحسنة التي منحهم اللَّه إياها في الدنيا قبل الآخرة فهي ديارهم وأملاكهم الجديدة بالمدينة فإنها خير وأفضل من ديارهم بمكة { ولأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } من الدنيا وما فيها { لَو كانُوا يَعْلَمُونَ } . ضمير كانوا ويعلمون يعودان إلى المشركين الذين أنكروا البعث ، أما المؤمنون وبخاصة صحابة الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) فإنهم يعلمون علم اليقين ان ثواب الآخرة أكبر وأعظم . وتكلمنا عن الهجرة والمهاجرين في ج 2 ص 419 وما بعدها ، وعن المهاجرين والأنصار في ج 3 ص 510 وما بعدها .
{ الَّذِينَ صَبَرُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . ان للمؤمن الحق صفات وعلامات ، وأهمها انكار الذات ، والتضحية في سبيل اللَّه ، والصبر على تحمّل الأذى والمشاق من أجل إحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، والتوكل على اللَّه وحده ، لا على المال والجاه والأنساب تماما كما كان صحابة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) .
_____________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 514-515.
قوله تعالى:{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى} إلى آخر الآية، قال في المفردات: الجهد - بفتح الجيم وضمها - الطاقة، والمشقة أبلغ من الجهد بالفتح، قال: وقال تعالى:{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى.
وقال في المجمع في معنى قوله:{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي بلغوا في القسم كل مبلغ. انتهى.
وقولهم:{ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} إنكار للحشر، والجملة كناية عن أن الموت فناء فلا يتعلق به بعده خلق جديد، وهذا لا ينافي قول كلهم أوجلهم بالتناسخ فإنه قول بتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر إنساني أوغير إنساني وعيشها في الدنيا، وهو قولهم بالتولد بعد التولد.
وقوله:{ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} أي ليس الأمر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقا أي إن الله سبحانه أوجبه على نفسه بالوعد الذي وعد عباده، وأثبته إثباتا فلا يتخلف ولا يتغير.
وقوله:{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون أنه من الوعد الذي لا يخلف والقضاء الذي لا يتغير لإعراضهم عن الآيات الدالة عليه الكاشفة عن وعده وهي خلق السماوات والأرض واختلاف الناس بالظلم والطغيان والعدل والإحسان والتكليف النازل في الشرائع الإلهية.
قوله تعالى:{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} اللام للغاية والغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم إلخ، والغايتان في الحقيقة غاية واحدة فإن الثانية من متفرعات الأولى ولوازمها فإن الكافرين إنما يعلمون أنهم كانوا كاذبين في نفي المعاد من جهة تبين الاختلاف الذي ظهر بينهم وبين الرسل بسبب إثبات المعاد ونفيه وظهور المعاد لهم عيانا.
وتبين ما اختلف فيه الناس من شئون يوم القيامة، وقد تكرر في كلامه هذا التعبير وما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين الاختلاف معرفا لهذا اليوم الذي ثقل في السماوات والأرض وعلى ذلك يتفرع ما قصه الله سبحانه في كلامه من تفاصيل ما يجري فيه من المرور على الصراط وتطاير الكتب ووزن الأعمال والسؤال والحساب وفصل القضاء.
ومن المعلوم - وخاصة من سياق آيات القيامة - أن المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحوذكورة وأنوثة وطول وقصر وبياض وسواد بل ما يوجد في دين الحق من الاختلاف في اعتقاد أوعمل.
وقد بين الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة وبلسان أنبيائه بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة آيات:{ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ }: الآية: 64 من السورة.
ومن هنا يظهر للمتدبر أن البيان الذي يخبر تعالى عنه ويخصه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور والوضوح غير ما يتمشى من الكتاب والنبوة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، وليس إلا العيان الذي لا يتطرق إليه شك وارتياب ولا يهجس معه خطور نفساني بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى:{ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }: ق: 22، وقوله:{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ }: النور: 25.
فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينية الحقة والأعمال الصالحة وما أخلدوا إليه من الباطل ويفصل بينهم بظهور الحق وانجلائه.
قوله تعالى:{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هو نظير قوله في موضع آخر:{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }: يس: 82، ومنه يعلم أنه تعالى يسمي أمره قولا كما يسمي أمره وقوله من حيث قوته وإحكامه وخروجه عن الإبهام وكونه مرادا حكما وقضاء، قال تعالى:{ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ }: يوسف: 67، وقال:{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ }: الحجر: 66، وقال:{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }: البقرة: 117، وكما يسمي قوله الخاص كلمة، قال تعالى:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ }: الصافات: 172، وقال:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }: آل عمران: 59، ثم قال في عيسى (عليه السلام):{وكلمة ألقاها إلى مريم وروح منه}: النساء: 171.
فتحصل من ذلك كله أن إيجاده تعالى أعني ما يفيضه على الأشياء من الوجود من عنده – وهو بوجه نفس وجود الشيء الكائن – هو أمره وقوله حسب ما يسميه القرآن وكلمته لكن الظاهر أن الكلمة هي القول باعتبار خصوصيته وتعينه.
ويتبين بذلك أن إرادته وقضاءه واحد، وأنه بحسب الاعتبار متقدم على القول والأمر فهوسبحانه يريد شيئا ويقضيه ثم يأمره ويقول له كن فيكون، وقد علل عدم تخلف الأشياء عن أمره بألطف التعليل إذ قال:{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ }: الأنعام: 73، فأفاد أن قوله هو الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجية التي هي فعله فلا معنى لفرض التخلف فيه وعروض الكذب أوالبطلان عليه فمن الضروري أن الواقع لا يتغير عما هوعليه فلا يخطىء ولا يغلط في فعله، ولا يرد أمره، ولا يكذب قوله ولا يخلف في وعده.
وقد تبين أيضا من هذه الآية ومن قوله:{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} إلخ، أن لله سبحانه إرادتين إرادة تكوين لا يتخلف عنها المراد، وإرادة تشريع يمكن أن تعصى وتطاع، وسنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء إن شاء الله.
الآيتان تذكران الهجرة وتعدان المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والآخرة، وباقي الآيات تعقب حديث شركهم بالله وتشريعهم بغير إذن الله، وهي بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عد المشركين الدعوة النبوية إلى ترك عبادة الآلهة وتحريم ما لم يحرمه الله أمرا محالا كما أشير إليه في قوله:{وقال الذين أشركوا} إلخ.
قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وعد جميل للمهاجرين وقد كانت من المؤمنين هجرتان عن مكة: إحداهما إلى حبشة هاجرتها عدة من المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإذن من الله ورسوله إليها ولبثوا فيها حينا في أمن وراحة من أذى مشركي مكة وعذابهم وفتنتهم.
والثانية هجرتهم من مكة إلى المدينة بعد مهاجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والظاهر أن المراد بالهجرة في الآية هي الهجرة الثانية فسياق الآيتين أكثر ملاءمة لها من الأولى وهو ظاهر.
وقوله:{في الله} متعلق بهاجروا، والمراد بكون المهاجرة في الله أن يكون طلب مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال: سافر في طلب العلم وخرج في طلب المعيشة أي لا غاية له إلا طلب العلم ولا بغية له إلا طلب المعيشة، والسياق يعطي أن قوله:{من بعد ما ظلموا} أيضا مقيد بذلك معنى، والتقدير: والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه، وإنما حذف اختصارا وإنما اكتفى به قيدا للمهاجرة لأنها محل الابتلاء فتخصيصه بإيضاح الحال أولى.
وقوله:{لنبوئنهم في الدنيا حسنة} قيل: أي بلدة حسنة بدلا مما تركوه من وطنهم كمكة وحواليها بدليل قوله:{لنبوئنهم} فإنه من بوأت له مكانا أي سويت وأقررته فيه.
وقيل: أي حالة حسنة من الفتح والظفر ونحوذلك فيكون قوله:{لنبوئنهم} إلخ، من الاستعارة بالكناية.
والوجهان متحدان مآلا فإنهم إنما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعا إسلاميا طيبا لا يعبد فيه إلا الله، ولا يحكم فيه إلا العدل والإحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أووعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع الصالح، ولوحمدوا البلدة التي يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الإسلامي المستقر فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة التي يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء أريد بالحسنة البلدة أوالغاية.
وقوله:{ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} تتميم للوعد وإشارة إلى أن أجر الآخرة أفضل من هذا الأجر الدنيوي لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم فيها من النعم فإن فيها سعادة من غير شقاء وخلودا من غير فناء ولذة غير مشوبة بألم وجوار رب العالمين.
قوله تعالى:{ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لا يبعد أن يستفاد من سياق الآيتين أن جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والآخرة من غير نظر إلى الإخبار بتحقق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى الاشتراط: من يهاجر في الله فله كذا وكذا، وتكون العناية في قوله:{الذين صبروا} إلخ بتوصيف المهاجرين بالصبر والتوكل من غير نظر إلى ما تحقق منهم من ذلك أيام توقفهم في أوطانهم بين المشركين قبال أذاهم وفتنتهم.
والعناية بالتوصيف إنما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة التي وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مر الجهاد وأظهروا الجزع عند هجوم العظائم ولم يتأيدوا بالتوكل على الله واعتمدوا على أنفسهم الضعيفة أحيط بهم ولم يتهيأ لهم المستقر وفرقهم العدوالمصر على عداوته بددا وتلاشى المجتمع الصالح الذي أقاموه في مهاجرهم هذا في الدنيا، وأما أمر الآخرة ففساده بفساد المجتمع أوتلاشيه أوضح.
ولوكان المراد وعد المهاجرين الذين تحقق منهم الهجرة قبل نزول الآية تطييبا لنفوسهم وتسلية لهم عما أخرجوا من ديارهم وأموالهم وقاسوا الفتن والمحن كان قوله:{ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} مدحا لهم بما ظهر منهم أيام إقامتهم بمكة وغيرها من الصبر في الله على أذى المشركين والتوكل على الله فيما عزموا عليه من الإسلام لله.
______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج12،ص201-208.
المعادو .. نهاية الإِختلافات:
تعرض الآيات أعلاه جانباً من موضوع «المعاد» تكميلا لما بحث في الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء.
فتقول الآية الأُولى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}.
وهذا الإِنكار الخالي من الدليل والذي ابتدؤوه بالقسم المؤكّد، ليؤكّد بكل وضوح على جهلهم، ولهذا يجيبهم القرآن بقوله: { بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }.
إِنّ الكلمات الواردة في المقطع القرآني مثل «بلى»، «وعداً»، «حقّاً» لتظهر بكل تأكيد حتمية المعاد.
وعموماً ـ ينبغي مواجهة مَنْ ينكر الحقّ بحجم ما أنكر بل وأقوى، كي يمحو الأثر النفسي السيء للنفي القاطع، ولابدّ من إِظهار أن نكران الحق جهل حتى يمحى أثره تماماً { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }.
ثمّ يتطرق القرآن الكريم إِلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة اللّه عزَّوجلّ على ذلك، ليرد الإِشتباه القائل بعدم إِعادة الحياة بعد الموت، أو بعبثية المعاد..
فيقول: { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} في إِنكارهم للمعاد وبأنّ اللّه لا يبعث مَنْ يموت!
لأنّ ذلك عالم الشهود، عالم رفع الحجب وكشف الغطاء، عالم تجلي الحقائق، كما نقرأ في الآية (22) من سوره ق: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }.
وفي الآية (9) من سورة الطارق: {يوم تبلى السرائر} أيْ تظهر وتعلن.
وكذا الآية (48) من سورة إِبراهيم: { وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }.
ففي يوم الشهود وكشف السرائر وإِظهارها لا معنى فيه لاختلاف العقيدة، وإِنْ كان من الممكن أن يقوم بعض المنكرين اللجوجين بإِطلاق الأكاذيب في بعض مواقف يوم القيامة لأجل تبرئة أنفسهم، إِلاّ أنّ ذلك سيكون أمراً استثنائياً عابراً.
وهذا يشبه إِلى حد ما إِنكار المجرم لجريمته ابتداءاً عند المحاكمة، ولكنّه سرعان ما ينهار ويرضخ للحقيقة عندما تعرض عليه مستمسكات جريمته المادية التي لا تقبل إدانة غيره أبداً، وهكذا فإنّ ظهور الحقائق في يوم القيامة يكون أوضح وأجلى من ذلك.
ومع أنّ أهداف حياة ما بعد الموت (عالم الآخرة) عديدة وقد ذكرتها الآيات القرآنية بشكل متفرق مثل: تكامل الإِنسان، إجراء العدالة الإِلهية، تجسيد هدف الحياة الدنيا، الفيض واللطف الإلهيين وما شابه ذلك.. إِلاّ أنّ الآية مورد البحث أشارت إِلى هدف آخر غير الذي ذكر وهو: رفع الإِختلافات وعودة الجميع إِلى التوحيد.
ونعتقد أنّ أصل التوحيد من أهم الأصول التي تحكم العالم، وهو شامل يصدق على: ذات وصفات وأفعال اللّه عزَّوجلّ، عالم الخليقة والقوانين التي تحكمه، وكل شيء في النهاية يجب أن يعود إِلى هذا الأصل.
ولهذا فنحن نعتقد بوجود نهاية لكل ما تعانيه البشرية على الأرض ـ الناشئة من الإِختلافات المنتجة للحروب والصدامات ـ من خلال قيام حكومة واحدة تحت ضلال قيادة الإِمام المهدي «عجل اللّه تعالى فرجه الشريف» لأنّه يجب في نهاية الأمر رفع ما يخالف روح عالم الوجود (التوحيد).
أمّا اختلاف العقيدة فسوف لا يرتفع من هذه الدنيا تماماً لوجود عالم الحجب والأستار، ولا ينتهي إِلاّ يوم البروز والظهور (يوم القيامة).
فالرجوع إِلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد الذي أشارت إِليه الآية مورد البحث.
وثمّة آيات قرآنية كثيرة كررت مسألة أنّ اللّه عزَّ وجلّ سيحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(3).
ثمّ يشير القرآن إِلى الفقرة الثّانية من بيان حقيقة المعاد، للرد على مَنْ يرى عدم امكان إِعادة الإِنسان من جديد إِلى الحياة من بعد موته: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
فمع هذه القدرة التامّة.. هل ثمّة شك أو ترديد في قدرته عزَّوجلّ على إِحياء الموتى؟!
ولعل لا حاجة لتبيان أنَّ «كن» إِنّما ذكرت لضرورة اللفظ، وإِلاّ لا حاجة في أمر اللّه لـ «كن» أيضاً، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقيق ما يريد.
ولو أردنا أن نضرب مثلا صغيراً ناقصاً من حياتنا (و لله المثل الأعلى)، فنستطيع أنْ نشبهه بانطباع صورة الشيء في أذهاننا لمجرد إِرادته، فإِنّنا لا نعاني من أية مشكلة في تصور جبل شامخ أو بحر متلاطم أو روضة غناء، ولا نحتاج في ذلك لجملة أو كلمة نطلقها حتى نتخيل ما نريد، فبمجرّد إِرادة التصور تظهر الصورة في ذهننا.
ونقرأ سويةً الحديث المروي عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام).. إِنّ صفوان بن يحيى سأله: أخبرني عن الإِرادة من اللّه تعالى ومن الخلق، فقال: «الإِرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمّا من اللّه عزَّوجلّ فإِرادته إِحداثه لا غير ذلك، لأنّه لا يُرَوّي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق، فإِرادة اللّه تعالى هي الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنّه بلا كيف»(3).
ثواب المهاجرين:
قلنا مراراً: إِنّ القرآن الكريم يستخدم أُسلوب المقايسة والمقارنة كأهم أُسلوب للتربية والتوجيه، فما يريد أن يعرضه للناس يطرح معه ما يقابله لتتشخص الفروق ويستوعب الناس معناه بشكل أكثر وضوحاً.
فنرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة، وينتقل الحديث في الآيات مورد البحث إِلى المهاجرين المخلصين، ليقارن بين المجموعتين ويبيّن طبيعتهما..
فيقول أوّلاً: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } أمّا في الآخرة { وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }.
ثمّ يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين، فيقول: { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
___________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج7،ص58-63.
2 ـ راجع الآيات: (55) آل عمران، (48) المائدة، (164) الأنعام، (92) النحل و(69) الحج.
3 ـ أصول الكافي ،ج1،ص109،باب الارادة،ح3.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|