أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-8-2017
1414
التاريخ: 13-9-2017
6924
التاريخ: 13-9-2017
3385
التاريخ: 21-4-2018
764
|
قد يلتبس مفهوم (الفصحى) الذي نشير اليه في دراستنا، وذلك النمط من الأساليب البلاغية الذي يعلو ما سواه، ويمثل قيمة أسلوبية عليا تتدرج بعدها مستويات الكلام الى ان تكون قاب قوسين أو ادنى مما هو إشارة غير إنسانية التعبير، وإنما ينتمي الى عالم الكائنات الأخرى التي تتفاهم بأصواتٍ لا تنتظم انتظام لغتنا بطبيعة الحال (1)، لذا فمجالنا يتركز في الجانب اللغوي ومادته، لا في الجانب البلاغي.
والمشكلة الدلالية إنما تستبين في شكلين من أشكال الوجود، الأول: سكوني أي ماهية المعاني وكيفية عمليها الدلالي، ويرس ههنا اللفظ والمدلول وضربهما، والثاني: تطوري ويقصد به التغير الطارئ على الدلالات والمدلولات من زمن الى اخر، او من بيئة الى بيئة اخرى، ولا يخفى أن الاستفادة من معطيات العلوم الأخرى تعد ضرورة للبحث: الصرف، النحو. ونحن نتخذ من نقد الشعر في القرن الرابع مادة نبحث فيها وجوه مشكلة الدلالة، فننتقل إذن الى العربية الفصحى فهي اللغة المكتوب بها الشعر المدروس. لنعرض أولاً ماهية هذه (الفصحى) وتكونها، فعلى هذا الأساس تبنى الاحكام التالية، أو لأقل إني أرتب القضايا والأحكام الدلالية وفق مفهومات محددة للفصحى، والعود الى أوليات الدراسة في (العربية) ليس تبسيطاً للمسائل بل هو سبيل الى التأصيل أراه، وهو على كل حال اجتهاد يحتمل النقاش والمحاورة. ذلك أن الكلام في التطور اللغوي يأخذ لدى بعض الباحثين الأجانب وجهة تغفل روح الفصحى
ص115
الذي تعيش به، وينكرون الحفاظ على القوالب القديمة، وينحون باللائمة على أصحاب الجهود اللغوية منذ صنفت المؤلفات في التاريخ العربي الإسلامي، لأنهم لم يسايروا حقيقة التغير الحاصل في حياة لغة الناس، والتفتوا الى كم محدود وهيكل قديم يسكبون مدادهم في تزيينه وتلميعه، أي أنه ينبغي أن تتساير التغيرات كما هو الشأن في اللغات الأوربية الناشئة والمتولدة عن أصلها اللاتيني – على سبيل المثال – إذ كانت لهجات للغة واحدة، فتبدلت المجتمعات ونطق أهلها بشكول عدة، فقعدت لها القواعد الى أن استوت لغة جديدة معبرة عن هذه الجماعة الجديدة هنا أو هناك (2).
ولقد تابع هؤلاء المستشرقين نفر من أصحاب المؤلفات العربية المحدثة، وأعتقد أن الخوض في التطور والنمو لابد أن يكون تالياً لوعي بخصائص العربية الفصحى، فلا في شراكٍ تبنى على مغالطة (علمية وتاريخية)، تحول دون فهم اللغة العربية وبالتالي تؤدي الى نتائج لغوية غير مجدية في التطبيق، لأنها توصل في نهاية الشوط الى إمحاء لمعالم العروبة والعربية.
ولدى تعريف (العربية الفصحى) نجد أن ثمة تقارباً في التعبير يجمع الباحثين عرباً وأجانب في العصر الحديث، فهم يلتقون على أنها: هي المتمثلة في نصوص التراث الأدبي العربي في العصر الجاهلي السابق على الإسلام – وقد شهد أعلام الشعراء الجاهليين ومن داناهم – وكذلك بعد الإسلام. والعربية: هي التي نزل القرآن الكريم بها، وهي اللغة المستخدمة في الاعمال الأدبية في الآماد التالية للانتشار الإسلامي (3).
ص116
ونرى كذلك أن سمة هامة من سمات العربية قد تبينها عدد من هؤلاء الباحثين ؛ فإنها” اللغة المشتركة الأدبية النموذجية، والتي اصطنعت في الأمور الجدية” (4). و” المقصود أن هذه اللغة لم تكن مجرد لغة أدبية بل كانت أيضا لغة للتعامل الراقي، ولغة التعامل بين القبائل المختلفة” (5)، وتتجاوز الفروق في المصطلح بين اللغة واللهجة في حديث باحث يقول:” إن هذه اللهجة الفصحى تقرب الى لهجة عربية فتكون أدنى إليها من غيرا من ا للهجات، فالفصحى لكونها لغة العرب جميعاً ثم نموها في المجتمع العربي في عمومه، لا في قبيلة بعينها” (6).
ونستخلص بدورها عدداً من الافكار المتصلة بهذه التعريفات، أولها أن العربية الفصحى لغة اختيارية انتقائية، وهذا ما يفيده مصطلح (مشتركة)، فثمة عملية تصفية واجراءات مدققة لتخرج من إهابها صورة من التعبير عالية السوية. ويناقش بعضه تسمية الفصحى بالقرشية نسبة الى قريش، حيث كان ملتقى العرب في عباداتهم – إذ يطوفون بالكعبة المشتملة ساحتها على أصنامهم وأنصابهم، وفيها ذكرى النبوة القديمة لإبراهيم – وتجارتهم المتجهة شمالاً الى بلاد قيصر وأتباعه من آل غسان، وجنوباً نحو ديار حمير والتبابعة، والمسافرة الى أرجاء شتى من فارس الساسانية، والحبشة وأطراف بحر القلزم، وكذلك بحر العرب، فقد كانت للهجة القرشية الأساس الذي ارتقى وألف بين أفضل السمات والخصائص اللغوية للهجات الأخرى. ويحاول هذا الباحث (7) أن يستشهد بكلام لفندريس” فاللغات المشتركة تقوم دائماً على اساس لغة موجودة حيث تتخذ هذه
ص117
اللغة الموجودة لغة مشتركة من جانب أفراد مختلفي التكلم” (8)، ولكن اللهجات العربية ليست متباينة اللغات تباين التي يتحدث عنها (فندريس)، لذا فالأمر عندنا هو أن القرشية (9) صفة للخصائص المشتركة العليا بأكثر مما هي فيصل بين لغة خاصة ولغات أخرى مغايرة. واللهجات تتفق في بنية اللغة ولم تكن لتفترق بعضها عن بعض في الأسس والأركان، ووقوفنا هنا تنعكس نتيجته في طبيعة الاحتجاج وترسيخ العربية الفصحى تدويناً تقعيداً، فالأخذ من قبائل أو ديار متعددة له تفسيره في انتشار الفصحى، فهي تصفى وتنقى ثم ترتد الى أرجاء الجزيرة، ونحن ننفى عن العربية الفصحى الجانب السلبي الذي يفهم من قول سليقية، لأن معنى السليقة هو أن تتكلم لغة من اللغات بغير شعور بما لها من خصائص... وهذا لا يتوفر للفصحى، فالروايات عديدة على وقوع الخطأ من العرب قبل الإسلام” (10). فالعرب كانوا يستعملون اللغة بالسليقة، وإن التحسين الذي يطرأ بالاحتكاك والالتقاء في مكة والأسواق، لا يعني تعلماً للعربية كما سيكون الشأن في الأزمنة المتأخرة حين تغدو العربية لغة تتقن بصناعة النحو والصرف وما إليها (11).
أما ثانية الأفكار المستخلصة فهي أن مجال استعمال الفصحى المشتركة هو الأدب في صورته الشعرية وفي خطابته، وكذلك فيما يروى من أخبار العرب
ص118
ولقاء الفصحاء في المحافل والمنتديات، وأن الاستعمال الحي المنصوص عليه أيضا هو التعامل في كل ما جمع طوائف أو أفراداً من قبائل متباعدة الأوطان في الجزيرة، فهؤلاء وأولئك يتخلصون مما يشوب بعض اللهجات من انحرافات صوتية، أو استخدام لمفردات غير شائعة لدى الطرف الآخر المتحدث إليه.
ولقد سجل لنا الديوان الشعري العربي القديم المرحلة الناضجة للعربية – وهي التي نسميها الفصحى – والدرجة الرفيعة (12) التي وصلت إليها عبر تغيرات وتحسينات ونمو مطرد. وإن التفاعل المستمر في المواسم الدينية والأسواق كان يسهم في هذه العمليات، ولكن ارتباط الفصحى بالعقيدة الإسلامية أثر في محافظتها على هيئتها المتكاملة ونضجها، وجعل مسألة المعيار الصوابي ركناً يدفع عنها خطر التشتت والتفرق الى ألسنة عدة ؛ فإثر هذا التحقيق العالي لصورة مشتركة للعربية بين القبائل، بطونها وأفخاذها وسائر تقسيماتها، في شمال الجزيرة وجنوبها، وفي المشرق والمغرب منها كان من المحتمل (علمياً) أن تنفصل اللغة المشتركة الى لغيات وتبتعد اللهجات بعضها عن بعض.
إن نزول القرآن كان باللغة المشتركة أي بالعربية الفصحى، ويعدّ هذا ارتفاعاً بها الى مصاف القدسية، التي تستدعي المحافظة على قدر جوهري من كيان اللغة المعتمدة ؛ فنشر الرسالة الدينية يقترن بلغتها، وإن اختلافاً يسمح به في مركز الدائرة لاشك سيغدو أكبر خطراً مع الحركة نحو أطراف المحيط زماناً ومكاناً.
ولكن هيمنة معيار الصواب والخطأ وتتبع الخطأ وتسمية اللحن، كل هذا رافق التوزع الذي شهدته جموع المسلمين، إذ خرجوا من الجزيرة ناشرين للدعوة
ص119
في الشام والعراق وفارس ومصر، ثم سائر ما عرفته العربية من ديار، فكانت للفصحى مكانتها الأدبية والرسمية وكذلك كان لها شأن في المحافل العامة، ولقاءات عديدة في المجتمعات الجديدة، ووجدت التباينات في استخدامات لغوية بسبب الفروق الطفيفة التي أشرنا إليها في لهجات الجزيرة، إضافة الى التأثيرات الحادثة من لقاء أهل البلاد المفتوحة، رغم أن بعضاً من هؤلاء ذو اصل عربي قديم.
كان هذا توجيه الفصحى للأنظار وجهة المعيار الصوابي وتأكيدها لقيمة، ولكن متابعتنا لها في رحلتها التي تدخل حيز المؤلفات العلمية لعلوم العربية المختلفة، يطلعنا على قدرات توجيهية تولدت بسبب كيانها الذي وصفنا – الانتقائية والسوية الخاصة – في الفقرات السالفة.
وقد أخذ مصطلح (الاحتجاج) يشيع يتبلور مع النهضة العلمية في القرون الهجرية الأولى، بعد أن اتسعت البلاد الإسلامية واختلطت الألسنة، وإثر الإحساس بالحاجة الى استيعاب أفضل للعربية كما يتعمق المنضمون الى الدين الجديد في فهم عقيدتهم. وانطلق الرواة يجمعون اللغة مفردات وأشعاراً من البوادي، ويلتقون بالأعراب القادمين الى أمصار البصرة والكوفة (أساساً) وسواهما من الأمصار. ويراد بالاحتجاج هنا” إثبات صحة قاعدة أو استعمال كلمة أو تركيب بدليل نقلي صح سنده الى عربي فصيح سليم السليقة” (13). ونلجأ الى نص متأخر يبين لنا العلوم والاستشهاد فيها ؛ فالبغدادي يذكر في (الخزانة) أن” علوم الأدب ستة: اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع، والثلاثة الأولى لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب (يريد القدماء) دون الثلاثة الأخيرة، فإنه يستشهد عليها بكلام المولدين لأنها راجعة الى المعاني، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم إذ هو أمر راجع الى العقل، ولذلك قبل من أهل هذا العصر
ص120
الاستشهاد بكلام البحتري وأبي تمام وأبي الطيب” (14). ونعود الى القرن الرابع وما قبله لنرى أن ثمة قواعد تعورف عليها في الاحتجاج. ولقد حددت قبائل بأعيانها وأماكن محددة لا تتجاوز، وإننا سنعرضها، وسنتناول أيضا التحديد الزمني، وبعد ذلك تكون وقفة لنربط بين هذه المفهومات وتحديد مقاييس الصواب والخطأ في الدرس اللغوي وبعده الدلالي ؛ فالفارابي (اللغوي) يخبرنا” أن الذين نقلت عنهم اللغة العربية وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسانُ العربي من قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم (هذيل) وبعض كنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم عن حضري ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ من لخم ولا من جذام ؛ فإنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس، لا من عبد القيس ؛ لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أزد عمان ؛ لمخالطتهم الهند والفرس، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من حاضرة الحجاز ؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغة العرب، قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم” (15).
ص121
ويقيم البغدادي في الخزانة حدوداً زمنية اتخذت شكل طبقات للشعراء، فمنهم من يصح الاستشهاد بشعره ومنهم من لا يسوغ للدارس ذلك في شعره. فقد قسم العلماء الشعراء على طبقات، الأولى: الشعراء الجاهليون، وهم قبل الإسلام كامرئ القيس والأعشى. والثانية المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كلبيد وحسان. والثالثة المتقدمون ويقال لهم الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق، والرابعة المولدون، ويقال لهم المحدثون، وهم من بعدهم الى زماننا – القرن الحادي عشر الهجري – كبشار وابي نواس. فالطبقتان الأوليان يستشهد بشعرها إجماعاً. وأما الثالثة فالصحيح صحة الاستشهاد بكلامها، وقد ان أبو عمرو بن العلاء، عبد الله بن أبي إسحاق، والحسن البصري، وعبد الله بن شبرمة يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم. أما الرابعة فالصحيح أنه لا يستشهد بكلامها مطلقاً، وقيل يستشهد بكلام من يوثق به منهم (16).. ونقل ثعلب عن الأصمعي” ختم الشعراء بابن هرمة” (17).
إن هذين القطبين في تقويم العربية الفصيحة – المكان والزمان – ليسا ممثلين لتحكم غير عملي كما يتصور بعض المحدثين، بل إن العلماء الموصلين لدرس العربية تطلعوا الى تدوين الصورة المثلى للغتهم، ولذا فهم يلتمسون أنقى البيئات وينصون على إطار زمني ترتضى فيه عربية الشعراء وهم لا يقصدون الى ان كل ما عدا ذلك مخالف ما ارتضوه بشكل جوهري، فقديماً كانت الفصحى نمطاً عالياً من العربية تصونه الهيئة الاجتماعية العامة في المحافل والأسواق وفي الحيز الأدبي
ص122
وكان يكون ترخص محدود في الاصوات وبعض المفردات، أو الاساليب المحصورة هنا وهنالك كلما ظهرت عوارض من بعد وتطرف في المكان او التقاء متصل بالأعاجم، وعبد الإسالم، وانتشار أهل الجزيرة في ارجاء شتى واختلاط الأعاجم والروم وخلائق من الامم الاخرى فكان لابد من الاحتراز ولم يسمع الرواة والنحويين وأصحاب اللغة عامة أن يقبلوا كل ما يجلبه الاعراب، أو كل ما يسمعونه في اطراف البادية، وفي أعماقها. فانهم يستهدفون حفظ العربية الفصحى: عربية القرآن والحديث أي لغة الاسلام اذ ختم نزول القران مرحلة النضج والاكتمال للعربية، ولا يحاكم عملهم وفق قوانين لغوية محدثة، فإن الدارسين المحدثين المتأثرين بدراسات اجنبية حديثة يفترضون في مرحلة جمع اللغة العربية وتقعيد قواعدها، وترتيب مفرداتها: القيام بمسح – إذا جاز لنا هذا التعبير – لغوي تستنفذ فيه كل اللهجات الممكنة، وعلى اساس هذا الاستقراء غير المقيد تستخرج اسس النحو والصرف وتؤطر المفردات إلخ...، واني اعتقد ان هذا القياس بعيد عن الصواب لإغفاله العنصر الجوهري في الفصحى تاريخياً وضرورة الحفاظ على سمتها الانتقائية المتميزة عن لجهات قد تبعد عنها بدرجات بسيطة في العصر الجاهلي، وبدرجات كبيرة عبد ان دب الفساد والاختلاط والتداخل البشري بعد الإسلام (18).
ولا يفوتنا ان نشير الى قضية مصادر الاستشهاد، ومدى الأخذ بها أو ببعضها دون بعضها الآخر، فالقرآن الكريم هو أعلى نص عربي قيمة اسلوبية وسلامة لغوية وتوثيقاً في النقل، ثم هناك الأحاديث النبوية، وبعدها تكون
ص123
الاشعار العربية القديمة بحسب التحديد الزمني، وهو منتصف المئة الهجرية الثانية لشعراء الحضر، والمئة الرابعة للبداة من الشعراء، إضافة الى ما صحت نسبته وتوثق نصه من مأثور الخطب والأخبار والكلمات المشهورة لفصحاء العرب وأصحاب اللسن منهم (19).
ولكن المفارقة في هذا الشأن تكمن في آن أصحاب التآليف (النحوية) انصرفوا عن الاستشهاد بالنصوص القرآنية – على الأقل بصورة أساسية – وخاصة القراءات الشاذة، وكذلك الأحاديث النبوية – مع تسليمهم بها كأنماط عليا من العربية (20) – وانفقوا جهدهم في تتبع الاشعار المروية عن الجاهليين وأهل الاحتجاج بعدهم، وثمة تعليلات أبرزها أنهم كانوا يتحرجون دينياً من استخدام الآيات وتأويلها، وكذلك الأحاديث مع زيادة ان ثمة احاديث نقلت بالمعنى لا باللفظ، وهناك من يرى أن الرواة والنحاة قد افرغوا جل طاقتهم وجهدهم في الاشعار فلم يبق للأطراف الاخرى من جهد كافٍ (21) حتى قال ثعلب كان علي بن المبارك الأحمر يحفظ أربعين ألف شاهد في النحو كما يذكر السيوطي في بغية الوعاة (22).
واذا ما اردنا تخصيص القول في مجال الدراسة الدلالية، فلا بد أن نصل بين فكرة الاحتجاج وما يتبعها من قوانين وتفصيلات، وبين الروح العلمي في مباحث هي المنطق لما يمكن أن يكون – في اعتقادي – الدراسة الدلالية في إهابها
ص124
القديم (ولقد أطلق المؤلفون العرب على الاشتغال بالمفردات اللغوية جميعاً وتأليفاً عدة مصطلحات أقدمها مصطلح اللغة)، ويعد كل من الأصمعي والخليل وابن دريد صاحب (جمهرة اللغة) والأزهري صاحب (تهذيب اللغة) لغوياً (23)، ولقد جمعت ألفاظ اللغة ودونت مع أواخر القرن الأول الهجري، في الزمن الذي نشط فيه رواة الحديث والأدب كذلك وأخذت مصنفات نوعية للألفاظ تظهر وتمهد لمعاجم التي ستبنى من مجموع رسائل الأصمعي وأبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة وأبي مسحل وابن الأنباري وسواهم، كتاب المطر، اللبأ اللبن، النخيل، خلق الإنسان إلخ... ويقول يوهان فُك:” كان الأصمعي قبل كل شيء هو الذي لم يكتف بجمع كنز المادة اللغوية عند البدويين وترتيبه فحسب، بل شرع كذلك في تنظيم الاستعمال اللغوي الدقيق بوساطة تحديدات معنوية غاية في الدقة” (24)، وإن هذه المؤلفات كانت تدور في محيط هو عصر الاحتجاج ثم بنيت عليها كتب أخرى مركبة منها وموضحة بشروح، وبالطبع تمثل المعاجم أبرز الإنجازات في هذا الحيز إضافة الى كتب الإبدال، والترادف، والمشترك، والمثلثات، وظل العلماء يسيرون على نهج متشدد يحده الاحتجاج، ولكن أصحاب المعاجم كانوا أقل فئاتهم تشدداً، فالاستشهاد بالحديث النبوي امر طبيعي. ونظرة الى (تهذيب اللغة) للأزهري، والصحاح للجوهري، و (المجمل) و (مقاييس اللغة) لابن فارس (25)، كافية للبرهنة على اتساع الاستفادة من هذا المصدر الذي تحرج منه أهل النحو إلا المتأخرين منهم – ابن مالك صاحب الألفية، وابن هشام صاحب المغني – أما ابن جني فهو من أهل اللغة أكثر منه نحوياً، وهو صاحب فكرة الأخذ عن صحيحي السليقة حتى القرن الرابع.
ص125
ويحاول دارس محدث أن يعطي هذا الترخص البادي في صنيع المعجميين مفهوماً عصرياً فيقول:” إن علماءنا فرقوا في الاستشهاد بالحديث بين المستوى الوظيفي والمستوى المعجمي فرفض الأول وقبل الثاني” (26). وقد شمل الاهتمام بالشعر الصحيح النسبة الى أهل الاحتجاج رجال الأدب وغدا لديهم كذلك مكان بارز لهذه القيمة، فابن قتيبة يصرح في مقدمة كتابه: الشعر والشعراء قائلاً:” وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جُلّ أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو، وفي كتاب الله عز وجل وحديث الرسول (صلى الله عليه وآله)” (27) ويؤكد ما يذهب إليه الجاحظ في (البيان والتبيين) فهو يقول” لم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب. أو معنى صعب يحتاج الى الاستخراج، ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل” (28)، فأصحاب رواية الشعر يبحثون في تجوالهم وتنقلهم بين البوادي والأعراب عن الطريف والغريب الذي يحيج الى المزيد من التنقيب عن المعاني وتوثيقها والاستشهاد عليها، ورواة الأخبار يجمعون أيضا ما يتضمن الشواهد، وإن هؤلاء جميعاً ليوضحون في مسعاهم – والأطر التي تحيط به – فكرتنا عن سيطرة بنود الاحتجاج والسلامة اللغوية على التفكير العلمي وعلى أصحاب الجهود والتصنيفات في العربية.
ونصل الى مسألة اللحن والكتب المعالجة له فهذا باب من أكثر أبواب الدراسة الدلالية وضوحاً، ونحن نرى فيه الحكم الذي يقف بين طرفين واحد منهما هو الصحيح وفيه إصابة الهدف، والآخر خاطئ ينبغي ان يعود الى الصواب المتعارف عليه في مدونات اللغة، وما سمع من أصحاب الاحتجاج المسلم لهم من
ص126
عامة الدارسين والباحثين في العربية وقد بدأ العلماء يحسون بالحاجة الى مصنفات تعالج هذه الظاهرة الحادثة في صورتها المستشرية، فإنهم رووا قديماً أحاديث عن اللحن في الجاهلية، ولكنها من القلة بحيث لا تلفت النظر، ويورد السيوطي في المزهر روايات لأحاديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله) تشتمل على مصطلح (اللحن) ؛ ويعقب” يوهان فك” عليها بعد نقلها قائلاً بأنها ضعيفة مثل” أنا أفصح من نطق بالضاد، أو أنا من قريش ونشأت في بني سعد فأنى لي اللحن (29)”، وقد يفسر الخطأ ههنا بأنه راجع الى اختلاف المستوى بين الفصحى العالية تلك اللهجات المتباعدة.
ولكن التدفق الذي شهدته البلاد المفتوحة من أهل الجزيرة ما لبث ان انجاب عن تغير لغوي في البنية والتركيب والإعراب الدلالة، ذلك أن هذا الكم البشري وطبيعة الحياة الجديدة التي لم تستقر بالناس إلا بعد أمد طويل فرضا هذا التطور في الألسنة العربية فاللغات عديدة – رغم أن بعضاً منها يلتقي في أصول الأولى مع العربية كعربية المناذرة والغساسنة وسريانية أهل الشام – والامتزاج في العلاقات الاجتماعية كان واسعاً لم تلاحقه حركة التعلم اللغوي فظل هناك الحديث الأدبي والموقف الرسمي واللغة المكتوبة من جهة ولغة التداول اليومي من جهة أخرى. وهذه هي التي تباعدت شيئاً فشيئاً عن الأصل الصحيح الفصيح، ومنذ بدت ملامح الانحراف سارع الدارسون الى تأليف المبادئ النحوية ثم الكتب ونشطت الحركة العلمية في العربية ولكن التركيز فيما بعد جعل بعض العلماء يخصصون القول في قضايا الدلالة ضمن سلسلة من المصنفات سميت (بكتب اللحن).
أما التعريف الدقيق لمصطلح لحن” فهو مخالفة العربية الفصحى في
ص127
الأصوات او في الصيغ أو في تركيب الجملة، وحركات الإعراب، او في دلالة الألفاظ. وهذا هو ما كان يعنيه كل من ألف في لحن العامة من القدامى والمحدثين (30)”. وقد ذكر صاحب اللسان عدة معانٍ لكلمة (لحن) جمعها ابن بري هو: الخطأ في الإعراب، واللغة والغناء، الفطنة، والتعريض، والمعنى (31). وإننا إذا ما عدنا الى أمالي أبي علي القالي وهو من رجال القرن الرابع الهجري وجدنا فيها محاولة لحصر ما تدل عليه المادة اللغوية (لحن) هي الأصل لما صنف اللسان بعد ذلك، ونلحظ ان مفهوم الخطأ لم يكن قد تمت له الغلبة والبروز على سائر المعاني في القرن الأول الهجري فمعاوية بن أبي سفيان يلتبس الأمر عليه فالأصمعي يروي عن عيسى بن عمر” قال معاوية للناس كيف ابن زياد فيكم ؟ قالوا: ظريف إلا أنه يلحن قال: فذاك أظرف له”. ويعلق القالي” ذهب معاوية الى اللحن الذي هو الفطنة، وذهبوا الى اللحن الذي هو الخطأ (32)”.
ولكن يبدو ان تقدم الزمن اقترن بوضوح اكبر فينقل ابن قتيبة في عيون الأخبار وقولة مسلمة بن عبد الملك” اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه” (33) وقوله عبد الملك بن مروان” اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس” ويؤكد يوهان فك عروبة البيت الاموي اي نزعتهم للمحافظة على الشخصية العرية من خلال أبرز سماتها: العربية الفصحى، وذلك باهتمامهم هذا الذي نراه في الطبقات العليا من الخلفاء وكبار المسؤولين منه، ويسمى فك هذا الاتجاه بمبدأ (تنقية العربية) (34) الذي يتجسد كذلك في المؤلفات العلمية المهتمة،
ص128
إلا اننا لا نسمع بأسماء كتب اللحن إلا أواخر القرن الثاني الهجري إذ ألف الكسائي علي بن حمزة (127 هـ) – ما تلحن فيه العامة – وتلاه الفراء (207 هـ) وأبو عبيدة (210 هـ)، وابن السكيت (244 هـ)، وثعلب (291هـ)، وأبو بكر الزبيدي محمد بن الحسن (370هـ) وأبو هلال العسكري (395هـ) وعدد آخر من المصنفين.
وقد عنيت هذه المؤلفات بالألفاظ وأخطاء العامة فيها بأكثرها مما وجهت الجهد نحو قضايا الإعراب والنحو، وقد يفسر التخصيص توفر الدارسين والعلماء على قدر وافر م التآليف النحوية في الأمد الذي شهد دراسة اللحن، وثمة احتمال هو أن التركيز على المشكلات الصرفية والدلالية يعود الى أن العامة يترخصون بطبيعة الحال في تحقيق الإعراب في أحاديثهم اليومية العادية، ومراجعة سريعة للتاريخ الجيد الذي قام به يوهان فك في (العربية) تطلعنا على أن استعمال الفصحى (35) لغة للحوار اليومي قد أخذ ينحسر بالتدريج عن فئات المجتمع حتى أولئك النحاة والرواة والمتأدبين، وكذلك الحكام في القصور العباسية، ودور الولايات بعد أن طغى العسكر التركي والعناصر الغريبة في وقت (36) ضعفت الشخصيات العربية الحاكمة. إذن فالمطلوب في قسم من العمل التصحيحي للغة هو أن تسلم الألفاظ بنية ودلالة ويبعد الخطأ، أما الإعراب فهو مما يصحُ مع التعلم، والارتقاء إليه مستطاع ؛ أما الانحراف بمادة اللغة العربية فهذا أشد خطراً.
وعندما تتوجه كتب (اللحن) الى عامة العلماء والباحثين والمتأدبين، فيكون الهدف المبتغى هو الإلحاح على جوانب لا تفيها حقها الجهود النحوية إذ هو باب آخر – الألفاظ والدلالة بوجه الخصوص – لابُد من استيفائه.
ص129
ونكتفي بإيضاح جانب التصويب في قسم من أقسام دراسة العربية وهو مباحث (اللحن) وسنتناول تفصيلات المواد المدروسة في الفصل المخصص لمشكلة (التطور) في اللغة عند نقاد القرن الرابع. ونرى أن هنالك فارقاً كبيراً بين اتجاه يقيم ميزاناً يفصل بين صواب وخطأ، واتجاه آخر يتجرد عن هذا الفصل ويلتمس الظواهر المختلفة بعيداً عن المعيارية الخاصة، ليستخرج قوانينها وقواعدها، ولا نريد أن نتهم القدماء ونرفض عملهم بل قصدنا جلاء الملامح، فقد سبق أن قلنا إن كل عمل علمي يجعل اللغة العربية وكدة لابد له من مراعاة سمات (الفصحى) وشروطها، فتقبل الطرائق الدراسية بحسب ملاءمتها لهذه السمات والشروط.
ص130
_________________
(1) الإيضاح في علوم البلاغة. جلال الدين القزويني، 8-1 طبعة مكتبة صبيح بالقاهرة 1971 م / 1390 هـ.
(2) من هؤلاء (برجستراسر) في كتابه (التطور النحوي)، وينظر كتاب (لحن العامة)، رمضان عبد التواب 31، القاهرة دار المعارف 1967 ط 1.
(3) اللهجات العربية. إبراهيم أنيس 217، ط الأنجلو / القاهرة 1972 العربية الفصحى، هاري فليش 30-31، ط الكاثوليكية 1965 بيروت، علم اللغة العربية: محمود فهمي حجازي 234 الكويت 1973، اللغة بين المعيارية والوصفية: تمام حسان الأنجلو / القاهرة 60-62، 1958 م، فصول في فقه اللغة، رمضان عبد التواب 64 ط دار التراث، القاهرة 1973 م.
(4) اللهجات، أنيس 217.
(5) علم اللغة العربية. حجازي 234.
(6) اللغة بين المعيارية والوصفية. حسان 61-62، وينظر كذلك في كلام رمضان عبد التواب في (فصول في فقه اللغة) 64.
(7) رمضان عبد التواب في (فصول في فقه اللغة) 69.
(8) اللغة. فندريس 328 ترجمة عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، ط الانجلو القاهرة 1951 م.
(9) إن يرادنا هذا المصطلح (القرشية) إنما هو لمتابعة الفكرة، ونحن نقول (بلغة مشتركة) تحمل خصائص عليا من اللهجات جميعاً.
(10) من أسرار اللغة، إبراهيم أنيس 36-37.
(11) انظر في هذا الفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام 8/624 فصل: العربية الفصحى. (نثر دار العلم للملايين – بيروت، ومكتبة النهضة – بغداد. الطبعة الثانية 1978).
(12) ينظر في هذا المجال في كتاب جرجي زيدان: الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية 108، حيث يصف حالة العربية إبان جمعها، والرقي الذي بلغته، ط دار الهلال 1969 م بعناية مراد كامل.
(13) في أصول النحو، سعيد الأفغاني 6.
(14) خزانة الأدب (1/5)، عبد القادر بن عمر البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر. القاهرة 1967 م / 1387 هـ.
(15) المزهر للسيوطي (1/212)، تحقيق محمد أحمد جاد المولى، علي البجاري، محمد أبي الفضل إبراهيم. دار احياء الكتب العربية بالقاهرة. والاقتراح للسيوطي 56 – 57 تحقيق أحمد محمد قاسم، القاهرة 1968 م.
(16) خزانة الأدب للبغدادي (1/5-6).
وينظر بعض الأخبار في الموشح للمرزباني ط البجاوي. القاهرة 1965 – دار نهضة مصر 302، 284.
(17) خزانة الأدب للبغدادي 8.
(18) يقول محمود حجازي:” إن كتب اللغة والنحو لم تقدم قطاعاً صغيراً محدوداً من الحياة اللغوية حتى القرن الثاني الهجري. وهذا القطاع هو بعض لهجات البدو”، علم اللغة العربية 224 ويستخدم إبراهيم أنيس مصطلح (ديكتاتورية الزمان والمكان)، اسرار العربية 36-37 ط الأنجلو 1973 القاهرة، ويتناول محمد فرج عيد هذا الامر في رسالته (مستوى الصواب والخطأ) 159.
(19) ينظر ما سبق تفصيله قبل، وكذا (في اصول النحو) سعيد الافغاني، 64-65.
(20) ينظر المزهر (1/209) للسيوطي. قال ابن خالويه 370 هـ:” قد أجمع الناس جميعاً على أن اللغة اذا وردت في القرى، فهي أفصح مما في غير القرآن ولا خلاف في ذلك”.
(21) ينظر في هذا المجال في أصول النحو للأفغاني 28، 31، 46، 48، 58، ومستوى الصواب والخطأ لمحمد عيد 118، 121، 123، 128، 130، 131، 135.
(22) بغية الوعاة في أخبار اللغويين والنحاة للسيوطي (2/159)، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ط عيسى الحلبي القاهرة 1965 م.
(23) علم اللغة العربية حجازي 65.
(24) (العربية) يوهان فك، ترجمة عبد الحليم النجار، ط لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1951 م 90.
(25) أصول النحو، الأفغاني 48-49.
(26) مستوى الصواب والخطأ، محمد عيد 134.
(27) الشعر والشعراء، ابن قتيبة (1/59)، تحقيق أحمد شاكر – القاهرة 1966 م، دار المعارف بمصر.
(28) البيان والتبيين. الجاحظ (4/24)، تحقيق عبد السلام هارون ط 3، مكتبة الخانجي 1968.
(29) المزهر للسيوطي (1/209).
(30) لحن العامة، رمضان عبد التواب 9.
(31) اللسان، مادة (لحن).
(32) الأمالي لأبي علي القالي (1/28)، ط دار الكتب المصرية بالقاهرة (مصورة 1975).
(33) يورد هاتين الكلمتين ابن قتيبة وسواهما تحت عنوان (الإعراب واللحن)، عيون الأخبار (2/158)، ط دار الكتب المصرية (مصورة 1973).
(34) العربية. فك 26-27.
(35) ينظر يوهان فك، اللغة ص 40.
(36) فك، اللغة 128 – 130، 208.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|