الآراء و العقائد التي يتخذها الإنسان
المؤلف:
محمد حسين الطباطبائي
المصدر:
تفسير الميزان
الجزء والصفحة:
ج1 , ص350-353
24-07-2015
2147
الآراء و العقائد التي يتخذها الإنسان إما نظرية لا تعلق لها بالعمل من غير واسطة كالمسائل المتعلقة بالرياضيات و الطبيعيات و ما وراء الطبيعة، و إما عملية متعلقة بالعمل بلا واسطة كالمسائل المتعلقة بما ينبغي فعله و ما لا ينبغي، و السبيل في القسم الأول هو اتباع العلم و اليقين المنتهي إلى برهان أو حس، و في القسم الثاني اتباع ما يوصل إلى الخير الذي فيه سعادة الإنسان أو النافع فيها، و اجتناب ما ينتهي إلى شقائه أو يضره في سعادته، و أما الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقا في القسم الأول، و الاعتقاد بما لا يعلم كونه خيرا أو شرا فهو اعتقاد خرافي.
و الإنسان لما كانت آراؤه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الأشياء و الطبيعة الباعثة له إلى الاستكمال بما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأي الخرافي المأخوذ على العمياء و جهلا إلا أن العواطف النفسانية و الإحساسات الباطنية التي تثيرها الخيال - و عمدتها الخوف و الرجاء - ربما أوجبت له القول بالخرافة من جهة أن الخيال يصور له صورا يستصحب خوفا أو رجاء فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء، و لا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية، كما أن الإنسان إذا أحل واديا - و هو وحده بلا أنيس و الليل داج مظلم و البصر حاسر عن الإدراك - فلا مؤمن يؤمنه بتميز المخاطر من غيرها بضياء و نحوه فترى أن خياله يصور له كل شبح يتراءى له غولا مهيبا يقصده بالإهلاك أو روحا من الأرواح، و ربما صور له حركة و ذهابا و إيابا و صعودا في السماء و نزولا إلى الأرض، و أشكالا و تماثيل ثم لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره و حاله حاله من الخوف، ثم ربما نقله لغيره فأوجد فيه حالا نظير حاله و لا يزال ينتشر - و هو موضوع خرافي لا ينتهي إلى حقيقة -.
و ربما هيج الخيال حسن الدفاع من الإنسان أن يضع أعمالا لدفع شر هذا الموجود الموهوم و يحث غيره على العمل بها للأمن من شره فيذهب سنة خرافية.
و لم يزل الإنسان منذ أقدم أعصار حياته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم و ليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين فهي موجودة بين الغربيين مثلهم لو لم يكونوا أحرص عليها منهم.
و لا يزال الخواص من الإنسان - و هم العلماء - يحتالون في إمحاء رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حيلهم التي توجب تنبه العامة و تيقظهم في أمرها، و قد أعيا الداء الطبيب فإن الإنسان لا يخلو من التقليد و الاتباع في الآراء النظرية و المعلومات الحقيقية من جانب، و من الإحساسات و العواطف النفسانية من جانب آخر، و ناهيك في ذلك أن العلاج لم ينجح إلى اليوم.
و أعجب من الجميع ما يراه في ذلك أهل الحضارة و علماء الطبيعة اليوم! فقد ذكروا أن العلم اليوم يبنى أساسه على الحس و التجربة و يدفع ما دون ذلك، و المدنية و الحضارة تبنى أساسه على استكمال الاجتماع في كل كمال ميسور ما استيسر، و بنوا التربية على ذلك.
مع أن ذلك - و هو عجيب - نفسه من اتباع الخرافة فإن علوم الطبيعة إنما تبحث عن خواص الطبيعة و تثبتها لموضوعاتها، و بعبارة أخرى هذه العلوم المادية إنما تكشف دائما عن خبايا خواص المادة، و أما ما وراء ذلك فلا سبيل لها إلى نفيه و إبطاله فالاعتقاد بانتفاء ما لا تناله الحس و التجربة من غير دليل من أظهر الخرافات.
و كذلك بناء المدنية على استكمال الاجتماع المذكور فإن هذا الاستكمال و النيل بالسعادة الاجتماعية ربما يستلزم حرمان بعض الأفراد من سعادته الحيوية الفردية كتحمل القتل و التفدية في الدفاع عن الوطن أو القانون أو المرام، و المحرومية من سعادة الشخص لأجل وقاية حريم الاجتماع فهذه الحرمانات لا يقدم فيها الإنسان إلا عن عقيدة الاستكمال، و أن يراها كمالات - و ليست كمالات لنفسه - بل عدم و حرمان لها، و إنما هي كمالات - لو كانت كمالات - للمجتمع من حيث هو مجتمع و إنما يريد الإنسان الاجتماع لأجل نفسه لا نفسه لأجل الاجتماع، و لذلك كله ما احتالت هذه الاجتماعات لأفرادها فلقنوهم أن الإنسان يكتسب بالتفدية ذكرا جميلا و اسما باقيا على الفخر دائما و هو الحياة الدائمة، و هذه خرافة، و أي حياة بعد البطلان و الفناء غير أنا نسميه حياة، تسمية ليس وراءها شيء؟.
و مثلها القول: إن الإنسان يجب له تحمل مر القانون و الصبر على الحرمان في بعض ما يشتهيه نفسه ليتحفظ به الاجتماع فينال كماله في الباقي فيعتقد أن كمال الاجتماع كماله، و هذه خرافة، فإن كمال الاجتماع إنما هو كماله فيما يتطابق الكمالان و أما غير ذلك فلا فأي موجب على فرد بالنسبة إلى كماله أو اجتماع قوم بالنسبة إلى اجتماع الدنيا إذا قدر على نيل ما يبتغيه من آماله و لو بالجور و فاق في القوة و الاستطاعة من غير مقاوم يقاومه أن يعتقد أن كمال الاجتماع كماله و الذكر الجميل فخارة؟ كما أن أقوياء الأمم لا يزالون على الانتفاع من حياة الأمم الضعيفة، فلا يجدون منهم موطئا إلا وطئوه، و لا منالا إلا نالوه، و لا نسمة إلا استرقوه و استعبدوه، و هل ذلك إلا علاجا لمزمن الداء بالإفناء؟.
و أما ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمره باتباع ما أنزل الله و النهي عن القول بغير علم، هذا في النظر، و أما في العمل فأمره بابتغاء ما عند الله فيه فإن كان مطابقا لما يشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا و الآخرة و إن كان فيه حرمانها، فعند الله عظيم الأجر، و ما عند الله خير و أبقى.
و الذي يقوله أصحاب الحس: أن اتباع الدين تقليد يمنع عنه العلم و أنه من خرافات العهد الثاني من العهود الأربعة المارة على نوع الإنسان و هي عهد الأساطير و عهد المذهب و عهد الفلسفة و عهد العلم، و هو الذي عليه البشر اليوم من اتباع العلم و رفض الخرافات فهو قول بغير علم و رأي خرافي.
أما إن اتباع الدين تقليد فيبطله: أن الدين مجموع مركب من معارف المبدأ و المعاد، و من قوانين اجتماعية من العبادات و المعاملات مأخوذة من طريق الوحي و النبوة الثابت صدقه بالبرهان و المجموعة من الأخبار التي أخبر بها الصادق صادقة و اتباعها اتباع للعلم لأن المفروض العلم بصدق مخبرها بالبرهان، و قد مر في البحث التالي لقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، كلام في التقليد فارجع.
و من العجيب أن هذا القول قول من ليس بيده في أصول الحياة و سنن الاجتماع: من مأكله و مشربه و ملبسه و منكحه و مسكنه و غير ذلك إلا التقليد على العمى و اتباع الهوى من غير تثبت و تبين، نعم اختلقوا للتقليد اسما آخر و هو اتباع السنة الذي ترتضيه الدنيا الراقية فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم، مهجور اللفظ، مأنوس المعنى، و كان ألق دلوك في الدلاء شعارا علميا و رقيا مدنيا و عاد و لا تتبع الهوى فيضلك تقليدا دينيا و قولا خرافيا.
و أما تقسيمهم سير الحياة الإنسانية إلى أربعة عهود فما بأيدينا من تاريخ الدين و الفلسفة يكذبه فإن طلوع دين إبراهيم إنما كان بعد عهد الفلسفة بالهند و مصر و كلدان و دين عيسى بعد فلسفة يونان و كذا دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - و هو الإسلام - كان بعد فلسفة يونان و إسكندرية، و بالجملة غاية أوج الفلسفة كانت قبل بلوغ الدين أوجه.
و قد مر فيما مر أن دين التوحيد يتقدم في عهده على جميع الأديان الأخر.
الاكثر قراءة في قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة