التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
المأمون وبيعة الامام الرضا
المؤلف: كمال السيّد
المصدر: الطريق إلى خراسان
الجزء والصفحة: ص44- 80
27-8-2017
1048
جلس «الفضل بن سهل» مسترخياً بين الارائك الوثيرة مستمتعاً بدفء شمس خريفية، ويحتسى على مهل وتلذذ عصير الرّمان بعد تلك الرحلة الممتعة في مراعي «مرو» مرو التي غدت عاصمة الدولة المترامية الأطراف.
وفي كل مرّة يتناول فيها عصير الرمّان يشعر بحيوية شاب في الثلاثين بالرغم من اطلالته على الستين.
أوقد خادم تركي النار في الموقد لإشاعة الدفء، فنسائم الخريف تبشّر بشتاء قارس.
راح الفضل يحدّق في ألسنة النار، وداخله شعور بالرهبة والخضوع!
أعاده صوت الحارس الى نفسه:
ـ إنّ أمير المؤمنين ينتظر.
نهض بسرعة لا يريد أن يتأخر، فالمأمون ينوي الذهاب الى الحمام على التقاليد الفارسية، وقد تقرّر أن يتخلّى المأمون اليوم عن الزيّ الأسود مستبدلاً اياه بالأخضر وسيكون لهذه الخطوة صداها ليس في مرو بل في البلاد من أقصاها الى أقصاها؛ وقد يبقى صداها في التاريخ أيضاً!
شعر بالغرور وهو يلقي نظرة على صفّين من الحرس وقفوا كالتماثيل، سوف يضرب ضربته بهؤلاء الذين لا يعرفون سوى الطاعة.. السمع والطاعة. ان الفشل البرمكي لن يتكرر هذه المرّة... مرو ليست بغداد.
والفضل بن يحيى ليس كالفضل بن سهل...
في الطريق كان يفكر في المناسبة التي يمكنه أن يثير فيها الحديث عن فكرة المعتزلة في خلق القرآن التي بدأت افكارها تهبّ شرقاً وغرباً.
إن الهاء الأمّة بمعارك فكرية يسهل في السيطرة عليها واقتيادها.
غادر المأمون الحمام في موكب مهيب، وبدا بزيّه الاخضر ملكاً فارسياً جليلاً، واحتفت الجماهير حوله تتطلع.
كان الفضل يتطّلع الى الخليفة السابع كما يتطلّع الصائغ الى قلادة ذهبية صاغها قبل قليل، أو نحات الى تمثال ربّما سيُبعد غداً!
كل شيء يمضي على ما يرام ان طائر السعد قد حطّ على كتفه سوف تسقط الدولة كلّها في قبضته كتفاحة ناضجة.
وفي تلك الليلة وقد مضى شطر من الليل جلس المأمون مجلسه المسائي مع وزيره ذي الرئاستين.
أحضر خادم صندوقاً من خشب الاپنوس، يحوي بيادق مصنوعة من عاج فيلة هندية.
كان المأمون يراقب الخادم وهو يصفّ الجنود والقلاع والفيلة وقد انتصب الملكان والوزيران استعداداً للمواجهة.
وبدا واضحاً منذ البداية أن الفضل كان يجنب الوزير المواجهة المباشرة، وكان يكتفي بتحريك بيادقة من فيلة وقلاع والجنود.
سعى المأمون أن تبدو لهجته عادية عندما قال:
ـ هل من أخبار جديدة.
قال الفضل متصنّعاً ابتسامه:
ـ ليس هناك الا الخير يا أمير المؤمنين.. لقد استوت لك الخلافة.. كل شيء يمضي على ما يرام.
رمق المأمون بطرف عينيه:
ـ أنت لا تنظر الا الى بغداد.
ـ إذا دانت لك بغداد يا سيدي دانت لك الدنيا.
ـ أنا لا أخشى بني العباس.. كل ما أخشاه هم أبناء علي.
ـ لقد أخمد الرشيد أنفاسهم.. وبالأمس رأيت محمد بن جعفر كيف يخلع نفسه ذليلاً في مكة ويعترف لك بالفضل.
ـ والمدينة؟!
ـ ليس فيها أحد!
ـ وعلي بن موسى؟!
ـ لم اسمعه يتحدّث بشأن يخيفنا.. إنّه ساكت.
قال المأمون وهو يحرّك وزيره:
ـ ان سكوته يرعبني!
ـ لا أفهم ما تقول!
ـ أنت لا تدري من هو! ما زلت اتذكّر كيف هبّ الرشيد لإستقبل أبيه.. لقد اعترف لي بأنه أحق بالخلافة والملك منّا.
ـ ولكن هذا لا يعرف أحد!
ـ كثيرون يعرفون ذلك نحن وهم وكثير من الناس.. حتى هؤلاء المعتزلة الذي تطريهم... يتقربون يوماً بعد يوم من القول بأفضلية علي بن أبي طالب وحقّه وهذا يعني الكثير.
انتهت اللعبة كالعادة لا غالب ولا مغلوب، تثاءب المأمون ونهض الفضل مستأذناً، خمد بريق عينيه، لكأن شيئاً يتهاوى في أعماقه إن هذا الشاب الذي أعدّه سُلماً لمجده يفاجئه هذه الليلة بعقل جبّار ودهاء أين منه دهاء أبيه الرشيد وجدّه المنصور؟!
لم ينم المأمون تلك الليلة، كان يفكّر.. يفكّر في أولئك المشرّدين من ابناء علي وفاطمة، كل رجل منهم يحمل مشروعاً للثورة، لكأنهم شظايا ملتهبة، تتناثر من بركان خفي.. بركان يشبه قلب يتفجّر بعواطف لا نهاية لها..
ما يزال يتذكر ثورة «ابن طباطبا»، التي كادت تطوي بساط العباسيين الى الأبد.
هتف المأمون من أعماق نفسه:
ـ النار تحت الرماد!! ما ذا أفعل.. يا للقدر.. يا لقدر السابع من «ولد العباس»!
من يرى المأمون تلك الليلة وهو يطلّ من خلال النافذة على حدائق القصر يحسبه شبحاً من أشباح الليل.. كان يفرغ كأساً من النبيذ في أعماقه، وقد سرى دبيب خدر كقوافل من النمل لا نهاية لها...
تمتم كأنه يحدّث نفسه، ولعلّه كان يخاطب شخصاً يتخيّله:
ـ هؤلاء الحمقى لا يفهمون ما أفعله.. يظنون بغداد كل الدنيا لا يعرفون ماذا يجري في المدينة ومكّة والبصرة والكوفة وفي خراسان!!
لا أحد يعرف ماذا يموج في قلب المأمون... ذلك الشاب الذي وجد نفسه بالرغم من كثرة جيوشه وحيداً، لقد خسر الفوز بثقة العرب بعد مقتل الأمين، فالناس لا يغفرون لقاتل الأخ فكيف إذا كان المقتول ابن زبيدة العربية العباسية؟!
كان يعاني هواجس مدمّرة، فبالرغم من مصرع الأمين ولكن أحداً لا يعترف به خليفة، بغداد ما تزال غاضبة والكوفة ترنو الى ثائر علوي آخر والمدينة ومكة والبصرة مترددة والشام يترقّب.
لقد اهتز الحق العباسي في الحكم وارتفعت همسات تدعو الى أهل البيت... في ظلّهم تتحقق عزّة الاسلام والعرب.
لم تبق سوى خراسان أملاً، فهذا النسب الضعيف من أمّه قد ينفع في وقوف خراسان الى جانبه..
خراسان مخزن الرجال الاشدّاء.
ولكنّ هؤلاء الفرس ذائبين في حبّ آل بيت الرسول، وقد بدأوا يدركون أكثر فأكثرهم من هم آل الرسول؟ ولد العباس عم النبي بفضائحهم؛ أم أبناء علي وفاطمة ابنة النبي عليه السلام؟
ما تزال ذاكرة الأبناء عن الأجداد تحمل صوراً مشرقة عن رحمة علي وعدله.. عن انسانيته.. وهاهم أولاده يحملون تراثه الانساني.. أفكاره نبله وشجاعته.
وما تزال دعوة «الرضا من آل محمد» تلوّن أحلام المقهورين في كلِّ شبر من الأرض الاسلامية.
فحبّ علي وابنائه أضحى عاطفة اسلامية، حتى زبيدة كانت تتعاطف معهم فاقسم الرشيد أن يطلقها!
نهض متجها الى خزانة خاصة لا يفتحها غيره ولا يعرف ما فيها أحد سواه.. أخرج دواة وقرطاساً ليكتب.. لا يدري أحد لمن يكتب؟!
ـ «أخبرني الرشيد عن آبائه، وعمّا وجده في كتاب الدولة إنّ السابع من الولد العباس، لا تقوم لبني العباس بعده قائمة، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته».
وفي تلك الليلة الطويلة وعندما أغمض المأمون عينيه رأى في عالم الرموز والأطياف كثيراً من الأشياء تخطف أمامه كالأشباح الغامضة أمّا هو فكان يهودي في متاهات غارقة في ظلمة كثيفة... ظلمة تشبه بحراً لا قرار له ولا انتهاء.
ورأى نفسه في قارب متهرئ الأشرعة تعصف به الريح من كل مكان ورأى حبلاً ممدوداً من السماء الى الأرض فتعلّق به ليتجه به لا إلى السماء ولكن الى الشاطئ الصخري القريب... وانتبه من نومه على شمس أيلول ترسل اشعتها من وراء التلال البعيدة.
فكان أول شيء خطر في ذهنه المتيقظ وهو يحشر نفسه في عالم يضجّ بالوقائع اسم علي.. علي بن موسى..
هتف المأمون بصوت فيه آثار سهر طويل:
ـ ألم يحضر هرثمة بعد؟
وجاء جواب حارس من وراء ستائر مخملية:
ـ هو يتنظر منذ الفجر.
ـ عليَّ به!
ـ الآن يا سيّدي؟!
صرخ متضايقاً:
ـ أجل الآن!
وبرقت عينا المأمون حتى شعر هرثمة أن أشعة نفّاذة إن تغوص في عظامه قال متخاذلاً:
ـ السلام على أمير المؤمنين عبد الله المأمون...
ـ ... ماذا يغضب سيدي؟
ـ كفى هراءً.. إنّني اعرف كل الاعيبك.
ـ لا أدري ماذا تقول؟
ـ تظنّني غافلاً عنك.. ان لي عيوناً تبحلق في الظلام.. أم تظنني لا أعرف ما قلته للمخلوع؟ وهل أن أبا السرايا قد ثار لوحده.. إنّها دسيستك.
شعر هرثمة أن وراء هذه الإتهامات مؤامرة يحوكها الفضل بن سهل فقال مدافعاً.
ـ أن لهذه الاتهامات جواباً يا سيّدي.
صرخ وهو يشير الى الحرس:
ـ لا أريد أن اسمع كلمة واحدة.. خذوه.
سقطت الذبابة في بيت العنكبوت ليس هناك من أمل في الخلاص، سار هرثمة في خطى متخاذلة الى سجن حقير في مرو ليقضي في زواياه المظلمة آخر أيام حياته.
وبرقت في خاطره صوراً ملوّنة يوم كان حاكماً في افريقيا ويوم كان أميراً للخراسان، ويوم وقف الخليفة الأمين أمامه بخضوع يطلب منه التوسط لدى أخيه في انقاذ حياته.. وها هو الآن اسيرٌ في بيت العنكبوت.. لن يهبّ لنجدته أحد ولن ينقذه أحد..
وصادفه الفضل في طريقه الى قصر المأمون فأراد أن يبصق في وجهه ولكنه تظاهر بالشجاعة فرفع رأسه عالياً.
دخل الفضل قصر الخليفة السابع وقلبه يرقص فرحاً لقد انتهى أمر هرثمة وبقي طاهر بن الحسين أن له يوماً ليس ببعيد وبعدها يضرب ضربته القاضية.
منذ شهور وهو يفكر في خطّة سرّية لا يعرفها حتى أخيه «الحسن» وها هو المأمون يفكّر فيما يسهل عليه مهمته..
انبعث بريق مخيف من عينيه سرعان ما تبدد مع أول ابتسامة يتصنّعها أمام المأمون.
هبّ الخليفة الشابّ لاستقباله بابتسامه متصنّعة أيضاً لا تقل عن ابتسامة الوزير مكراً.
وعندما أخذ الفضل مجلسه قرب الخليفة بدأت اللعبة، وكلاهما ماهر فيها.
قال المأمون لينفذ في قلب وزيره:
ـ كفيتك امر هرثمة وهو الآن في السجن.
ـ انه لا يخلص لك كما قلت.. أعرف نوايا هؤلاء القادة.
ـ ولكنّ العلويين لا يكفون عن اثارة القلاقل.. وقد سمعت أن أبراهيم بن موسى الكاظم قد ثار بمكة، ونقل لي الجواسيس أنه في طريقه الى اليمن.
وبعد صمت استأنف المأمون حديثه حذراً:
ـ لقد فكرت كثيراً في الأمر.. ان الخطر الحقيقي يكمن هنا.. في هؤلاء العلويين.. الناس يحسبونهم انبياء ويتناقلون قصصاً عجيبة عن زهدهم.. اتعرف لماذا يا فضل؟
ـ ؟!.
ـ لأنهم يعيشون في الخفاء.. لأنهم يعيشون بعيداً عن الانظار... فلو ظهروا اكتشف الناس عيوبهم، ولعرفوا أنهم لم يرفضوا الدنيا الا لأن الدنيا رفضتهم.
تظاهر الوزير بالبراءة:
ـ ولكن يا أمير المؤمنين انهم لم يظهروا، وكيف يظهرون وقد فعل الرشيد بهم ما فعل.. شرّدهم في بقاع الأرض وها نحن نحصد ما زرعه الآباء.
ركز المأمون نظره:
ـ أعرف كيف اجعلهم يظهرون.. أمنحهم الأمان.
ـ أنهم لن ينخدعوا بذلك ولن يصدّقوا أبداً.
ـ فاذا جعلت أحدهم وليّ عهدي.
انتفض الوزير كمن لسعته عقرب.
ـ ماذا؟! ماذا أسمع؟
ـ أجل لقد قررت أن اجعل أحدهم وليّاً لعهدي فاذا فعلت ذلك اطمأنوا وظهروا.
ـ ولكن هذا يا سيدي ينطوي على كثير من المخاطرة ان بني العباس لم يغفروا لك قتلك أخيك فكيف تريد أن تقضي على ملكهم وخلافتهم؟!!
ـ أنني افعل ذلك من أجلهم.. ألا ترى العلويين يثورون في كل مكان.. الناس معهم.. ثم ألا ترى عواطف أهل خراسان؟ انهم يحبوننا لأنهم لا يفرقون بيننا وبين بني عمّنا... أتنسى
مناحات خراسان على يحيى بن زيد؟ ألم تستمر سبعة أيام بلياليها ولم يلد مولود ذكر ذلك العام الا سموه يحيى!!
سكت الفضل فيما كان المأمون يتحدث بلا انقطاع:
ـ أنني اصطاد عشرة غزلان بسهم واحد.. وهذا يتوقف أيضاً على فطنتك.
تطلّع الفضل حذراً:
ـ؟!!
ـ ألا ترى الخليفة كيف يزهد في الدنيا.. يسند ولاية العهد الى أحد أبناء علي؟!
أجاب الفضل وقد اكتشف خطته:
ـ أجل أرى ذلك!
ـ ثم ألا ترى كيف أن الخليفة عرف الحق وهو يريد إعادته لأهله؟!
ـ أجل ارى ذلك!!
توقف عقل سهل لكأنما اصيب بشلل مفاجئ لم يعد يبرق ذهنه.. انطفأت افكاره في حفرة ابن الرشيد وحفيد المنصور.. ولكنه قال حتى لا يظهره بصورة الاحمق:
ـ ومن سينتخب الخليفة لولاية عهده يا ترى؟!
ـ علي بن موسى بن جعفر الصادق بن...
انتفض ملدوغاً:
ـ ماذا؟؟ علي بن موسى؟! الرجل الذي قتل أبوك أباه؟!
ـ وما في ذلك؟
اعتصم الفضل فوجئ... أنه لا يعرف ماذا يقول... كان يودّ لو أن المأمون نفذ خطته مع غير علي بن موسى، صحيح أنه لا يعرف عنه شيئاً ولكن جهله بهذا الرجل جعله يتوجس مما يقدم عليه المأمون.
قال الخليفة قاطعاً خيوط افكاره:
ـ إذا لم نفعل ذلك فان كثيراً من آباء السرايا سيظهرون هنا وهناك مادام يوجد علويّ يرفع راية الثورة.
ـ!!!
ـ ماذا يا فضل ما عهدت عنك السكوت؟!
ـ الخليفة المأمون يعرف ماذا يفعل!!
ـ وإذن فأنت موافق يا وزيري العزيز؟!
ـ أن هذا يثقل أوزاري عند أهل بيتك في بغداد!
ـ ولكنّه يزيد في شأنك لدى أهل خراسان. لا تنسى هذا يا ابن سهل!
استغرق المأمون في بحر من أفكار لا نهاية له، فاطرق ينظر الى سجّاده فارسية زاخرة بالنقوش والألوان وأدرك الفضل أن عليه أن ينسحب تاركاً الخليفة مع غزله الجديد!
ولم ينقض ذلك اليوم حتى أدرك رجاء بن الضحاك طبيعة مهمته القادمة في المدينة المنورة!
منذ مصرع «الجعد» الذي ذُبح في عيد الاضحى، وحركة التأويل والتفسير تأخذ طريقاً جديداً.. طريقاً بعيداً عن روح الكلمات... وراح الذين جاءوا ببعده يستنطقون ظاهر القرآن وحده أمّا روحه.. أما الاعماق... فقد ظلت بعيدة عمّن يسبرها، ويغوص فيها.. وتلك محنة النص القرآني ان الذين تلقوا كلمات الله تلقّوها شرارة للروح وجمرة متوقدة في الذهن، ومضت أجيال وأجيال، وجاء جيل لم ير من القرآن سوى كلمات وحروف، لا روح، ولا جوهر ولا مكنون.
كان منظر الغروب سخيّاً بألوانه الشفافة، برتقالي ذهبي، وأحمر متوقد كموقد شتائي يزخر بالجمر... والمشهد السماوي يبدو ساكناً غير أن السحب المتناثرة في سماء زرقاء كانت تتحرك على هون كزوارق غافية في بحيرة هادئة.
الرياح الخريفية تجوس خلال البيوت وتبشّر بشتاء قارس طويل.
كانت فاطمة تتأمل وجه شقيقها، انها لم تره مهموماً كهذا المساء، لكأنه ينوء بجبال من الحزن، لا تدري لماذا توهجت مشاهدة قديمة.. قديمة جداَ، يوم أخذوا أباها، وأدركت حينها انها لن تراه بعد اليوم... ربما عرفت ذلك في وجه شقيقها الذي بدا في تلك اللحظات سماءً مثقلة بمطر حزين.
كانت الرسالة التي استلمها الامام اشبه شيئاً بعسل مداف بسم، ملساء كأفعى مترعة بسموم قاتلة.
الفضل بن سهل يعرف كيف يروغ بين السطور ورسالة محيّرة من أكبر مسؤول في الدولة تطلب منه مغادرة يثرب على وجه السرعة لتسلّم مسؤوليته في الخلافة!
وتساءلت فاطمة عن سرّ هذا الحزن؟ كانت تعي لواعج الانسان الذي يفكّر في المديات البعيدة حيث تتجسد كل آلام الانبياء وأحلامهم. ان المأمون ولا شك قد عرف مصدر التحدّي الحقيقي، فوجد في شخصية مثل الامام سوف تكشف للرأي العام مدى الانحطاط الاخلاقي للحاكمين، كما ان بعد المدينة المنورة عن «مرو» سيوفر للامام قدراً من الحرّية، وفي هذا خطر على مؤسسات الحكم القلقة التي ما تزال تهتز تحت وقع الاضطرابات والثورات.
فاستدعاء الامام الى مرو يعني أن المأمون يضرب عشرات العصافير بحجر واحد.
تمتم الامام بصوت فيه حزن الميازيب في مواسم المطر:
ـ ان المأمون يريد أن يقول للناس أن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا، وانما الدنيا هي التي زهدت به أرأيتم كيف يسرع الى «مرو» لما عرضت عليه الدنيا؟!
ولكن هيهات لا أقبل شيئاً من عروضه!
أدركت فاطمة أن أخاها يواجه ثعلب بني عباس، ليس هناك من يفوقه مراوغة ومكراً.. عرفت ذلك من حزن الامام، ومما تسمعه من الأخبار.
ان لأخيها من المحبة في خراسان وأطرافها ما ليست لغيره، فلو جعله المأمون في الحكم فان ذلك سيضمن له ولاء كثير من الاقاليم؛ وسيكون المأمون قد اثبت للأمّة أنه قد حقق أعزّ أمانيها.
وطرق خادم باب الحجرة:
ـ ان رجلاً يقول انه رجاء بن الضحاك يروم لقاءك الساعة.
التفت الامام الى اخته:
ـ هذا رجل بعثه المأمون فيما لا أحب.. انا لله وانا اليه راجعون.
ونهض الامام لاستقباله ونهضت فاطمة لتغادر حجرة تفوح فيها رائحة الفردوس.
لم يكد رجاء يستوي في جلسته حتى قدّم رسالة مختومة من المأمون، فضها الامام والقى نظرة وعلت جبينه مسحة من الحزن، كان ضوء القنديل كافياً لكي يكتشف رجاء في وجه علي عمق محنته، تظاهر بالبشر:
ـ هنيئاً لك يا سيدي.
أجاب الامام وهو ينظر الى الأفق البعيد:
ـ لا تفرح إنّه شيء لا يتم!
واعتصم رجاء بالصمت فهذا العلوي يختلف كثيراً عما صادفه من أولئك الثائرين إنّه أمام رجل يقرأ صفحات غامضة من المستقبل بل لعلّه يدرك ما يموج في نفسه، فرجاء يعرف نوايا المأمون وأسراراً كثيرةً من خطّته! من أجل هذا نهض على عجل متظاهراً بالارتياح لأدائه مهمّته.
قال وهو ينحني اجلالاً:
ـ كل شيء سيكون جاهزاً بعد غد.
ـ إذا كان ولابدّ، فمكّة أولاً ثم مرو!
ـ كما تشاء يا سيدي!
واكتسى الوجه الاسمر مسحة من حزن سماوي، ان شيئاً ما يضطرم في أعماقه... شيء ينبيء عن تمزّق جذور وردة في أعماق تربة طيّبة.
ليس هناك ما هو أكثر مرارة من اجتثاث شجرة من جذورها... هكذا كان حزن الرجل الذي مسّته السماء، ان جذوره في هذه الأرض الطيبة تمتد الى عشرات السنين الى تلك اللحظة التي حطّ رسول السماء قدمه في يثرب..
ما تزال آثار جبريل في هذه الربوع.. مبارك نخلها، ومسجدها وجبلها الحبيب.
وانطوى علي على فجيعته، وكان قنديل يلفظ آخر أنواره الواهنة.
لم يكن الرجل المدني قد انتبه من استغراق عميقة عندما ولج الحجرة صبي في السابعة من عمره؛ كان يحمل إناءً فيه زيت فالقنديل على وشك أن يخبو وينطفئ، وراح «محمد» يسكب الزيت في القنديل... وتنفس الضوء، واتسعت دائرة النور أكثر فأكثر.
وانتبه الأب الى وجود ابنه، الذي ولج الحجرة على أطراف اصابعه احتراماً لاستغراقة والده.
نهض الأب وقد تألفت في سماء عينيه عشرات النجوم.
ـ مرحباً بأبي جعفر.
وانحنى الإبن مقبّلاً يد والده، الذي لم يترك له الفرصة فاحتضنه كما تحتضن الأوراق برعماً يستقبل الربيع.
كان القنديل قد استعاد شبابه وراح يرسل نوره ويشيع قدراً من الدفء في الحجرة الصغيرة.
قال الأب وقد مضى شطر من الليل:
ـ تهيّأ يا ولدي للرحيل.
ـ الى أين يا أبي؟!
ـ الى البيت العتيق.
وأراد الصبي أن يبدد عن قلب أبيه همّاً يعتصره:
ـ أحج أم عمرة؟
ـ يا أبي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
ونهض محمد كما دخل على أطراف أصابعه تاركاً أباه الذي عاد الى استغراقه مرّة أخرى.
من يراقب عينيه المتألقتين، ويلاحق في غوريهما تكسّرات النور سيدرك سرّ ذلك الحزن السماوي؛ لكأن ذهنه المتوقد يسبح في الآفاق البعيدة، الى طوس حيث يستنشق «جابر» بن حيان الكوفي آخر انفاسه في المساء، والى حيث صلب «أبي السرايا» على الجسر ببغداد، والى ضفاف دجلة حيث جلس «معروف الكرخي» يتأمل الأمواج المتدافعة ويودّع الدنيا.
بل لعلّه يراقب «معركة النهر» على شواطئ «أرون» أو يهوي في بطون الأدوية مع أخيه «إبراهيم» الذي فرّ الى اليمن وانقطعت أخباره.
إنّ أحداً لا يعرف هموم الرجل المدني... هموم بثقل جبال «تهامة» و«الحجاز» و«نجد».
فهناك في مرو تنسج العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت.
بدت المدينة ذلك الصباح الغائم اشباحاً، فقدت البيوت ظلالها، وغمرت الأزقة كآبة... خاصّة ذلك الزقاق حيث بركت النوق لتحمل الذين أزمعوا الرحيل قهراً.
ولج الرجل الذي يخطو نحو الخمسين مسجد النبي ومعه ابنه يتبعه كظلّه، كانت السماء تنوء بالغيوم، ودموع تتجمع في عيني الرجل المدني.
وقف إزاء القبر الذي يضم آخر الانبياء، مثل غيمة حزينة بدا الرجل الذي يرتدي ثياباً بيضاء.
الذين حضروا اللقاء بهرتهم دموع حفيد محمد! لكأن الحزن ساقية تنساب في خريف الزمن... كان علي يستنشق عبير النبوّات، تماسك لينهض، وخطا خطوة للوراء ثم هوى الى المكان الطاهر مرّة أخرى، لكأن جذوره في تلك التربة حيث أغمض عينيه محمد بسلام.
وتقدّم رجل من سجستان:
ـ هنيئاً لك يا سيّدي ما تصير اليه.
ـ ذرني.. فأني أخرج من جوار جدّي فأموت في غربة وذهل الرجل، وانبعث في اعماقه قرار بأن يرافق الرجل ليرى بنفسه كيف تتحقق النبوءات.
وضع محمد كفه الصغيرة الدافئة على كتف أبيه، ونهض الأب لكأن دماءً جديدة تنبعث في أعماقه، وأملاً يتجدّد في كيانه.
كانت فاطمة تراقب ما يجري، وشيء ما يشدّها الى شقيقها ليست مشاعرة الأخوّة فقط، بل أنها تعيش فجيعة يُتْمها قبل عشرين سنة يوم أخذو أباها ولم يعد، وتوفيت أمّها وهي لم تزل طفلة بعد.
وقفت فاطمة وقد تجسّدت أمامها فجائع الزمن الرديء كيف يُختطف أحبّتها لكأن السنين والأيام ذئاب مجنونة تتخطّف ما شية أحلامها، وهي ترعى في الوادي الأخضر بسلام.
وتفجّر غضب مقدّس في قلبها.. في ذلك الجزء النابض الذي يختصر العالم بأسره.
ونهض الامام يمس المرقد الطاهر بكفّه ويحتضن ابنه وقد آتاه الله الحكم صبياً:
ـ أمرت جميع وكلائي، وحشمي بالسمع والطاعة لك، وقد عرّفتك لأوثق اصحابي.
نهضت النوق، وانتظمت القافلة، وقد يممت سفن الصحراء وجوهها جنوباً شطر المسجد الحرام.
وعندما اجتازت القافلة ثنيّات الوداع قال الرجل المدني لابنه وهو يحاوره:
ـ «صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله».
«أفضل العقل معرفة الانسان نفسه».
«من علامات الفقه: الحلم والعلم والصمت: ان الصمت باب من أبواب الحكمة... ان الصمت يكسب المحبّة... انه دليل على كلَّ خير».
وتقدّم ياسر وكان يعمل خادماً فسمع الامام يقول:
ـ «أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواضع: يوم ولد الى الدنيا، ويخرج المولود من بطن امّه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في الدنيا، وقد سلّم الله على يحيى في هذه المواطن وآمن روعته فقال: «وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا».
وهبّت نسائم شمالية حملت دندنة راع يشكو الزمان.
وراحت القافلة تطوي الصحراء حتى إذا وصلت «غدير خم» القى المسافرون رحالهم قريباً من عين ينبجس ماؤها من أسفل صخرة ثم يسيل في واد فسيح، وقد نبتت بعض أشجار النخيل إثر توقف المسافرين وتناولهم التمر في الوادي.
أشرق القمر بدراً من فوق الربى البعيدة، وأشار الرجل الذي يخطو نحو الخميس بأصبع سمراء:
ـ ذلك موضع قدم رسول الله حيث قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».
وانبعثت الذكريات، وغمرت المسافرين حالة من الخشوع لكأنهم يسمعون هتاف رسول السماء في هذا المكان. ما تزال الكلمات المقدّسة تدور في الفضاء، ما يزال شذى جبريل وهو يتلو كلمة الله: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا».
والتفت علي الى شقيقته التي كانت تنظر الى القمر وقد استقر فوق الروابي البعيدة:
ـ لقد سمعت أبي يروي عن جدّي الصادق: «ان لله حرماً وهو «مكّة» وان للرسول حرماً وهو «المدينة» وان لأمير المؤمنين حرماً وهو «كوفة» وإن لنا حرمّا وهو بلدة اى «قم»، وستدفن امرأة من أولادي تسمى فاطمة من زارها فله الجنّة».
ونظر الصبي الى عمته كانت ما تزال تتأمل القمر وقد استغرقت في حالة تشبه الصلاة، وقد جمدت في مكانها فيما كانت نسائم المساء تداعب أطراف ثوبها الذي يلامس سمرة الصحراء.
وفي تلك البقعة المباركة من دنيا الله انبثق شلال من الصلاة، وكانت كلمات الحمد والثناء لله خالق الأرض والسماء، تتألق في ظلمة الغروب الحالمة، وشيئاً فشيئاً ظهرت النجوم في السماء.
وانصرف بعضهم الى جمع الحطب، وكان صوت تكسّر الاغصان الجافّة يكسر معه صمت الليل.
ولم يمض غير وقت قصير حتى أضاء في الظلمة موقدان؛ موقد للطبخ وآخر للنور والدفء وانطلق صبية الى كثيب رملي نحتته الرياح، ليتخذوا منه مسرحاً للهو بريء.