تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
ارجاع ما خربته الضغينة
المؤلف: محمد جواد مغنية
المصدر: تفسير الكاشف
الجزء والصفحة: ج4 ، ص335-361.
18-11-2014
1843
قال تعالى : {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف : 63]
في المستقبل ، يشيرون بذلك إلى ما قاله يوسف لهم : {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي ... } [يوسف : 60]. ثم قالوا لأبيهم : ( فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) وعدوه بحفظه وصيانته كيلا يضن به عليهم ( قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) الذي فعلتم به ما فعلتم . . ثم انصرف عنهم ، والتجأ إلى اللَّه ، وقال : {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف : 64] فأنا أعتمد في صيانة ولدي على حفظ اللَّه ، لا حفظكم ، وهو يرحم ضعفي وشيخوختي . وقيل : ان اسم ولده الأصغر الذي طلبه يوسف كان بنيامين .
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} [يوسف : 65] فأسرعوا إلى أبيهم مسرورين و ( قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي ) أي ما ذا نطلب من عزيز مصر ؟ . وبأي شيء نعتذر له إذا لم نأته بأخينا ، وقد أكرمنا بما ترى من رد الثمن ؟ . ( هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) قيل : كانت نعالا وجلودا ، وقال بعض المفسرين الجدد :
انهم وجدوا بضاعتهم ولم يجدوا قمحا ، وان يوسف لم يعطهم شيئا ليضطرهم إلى العودة بأخيهم . . وهذا خطأ لأنه يتنافى مع ظاهر القرآن ، وهو قوله : {أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف : 59] بالإضافة إلى ان منع الطعام عن الأهل والأقربين مع شدة حاجتهم إليه قسوة ولؤم ، ويوسف (عليه السلام) أجلّ وأعظم ، أما قولهم : منع عنا الكيل فالمراد به منع ثانية وفي المستقبل كما أشرنا .
{وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} [يوسف : 65] نأتيهم بالميرة ، وهي الطعام ( ونَحْفَظُ أَخانا ) من كل مكروه ( ونَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ) لأن يوسف كان يعطي للرجل حمل بعير واحد اقتصادا في الطعام كي ينال منه الجميع ، فإذا صحبوا أخاهم معهم ازدادوا حملا من الطعام ( ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) أي ان زيادة الحمل ميسرة مع وجود أخينا ، أما بدونه فلا لأن العزيز لا يبيع للرجل إلا حملا واحدا في هذه الأزمة المجدبة . .
ورأى يعقوب ان الحاجة ماسة إلى الطعام ، لأن ما جاؤوا به من مصر أوشك على النفاد ، فاستسلم لضغط الحاجة ، لا لضغط أبنائه ، بالإضافة إلى ثقته بالعزيز بعد ان سمع الكثير عنه ، ورأى من صنعه مع أولاده . {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف : 66] . أذن لهم بأخيهم بنيامين على أن يعطوه عهدا أكيدا ان يرجعوه إليه سليما معافى إلا ان ينزل بهم ما لم يكن في الحسبان ( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) . فأعطوه العهد الذي أراد ، وأكدوا الايمان بأنهم يفدونه بالأرواح ، وعندها قال : اللَّه وحده هو الشاهد على عهدكم هذا ، فان وفيتم جازاكم أحسن الجزاء ، وان غدرتم كافأكم بأشد العقوبات .
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } [يوسف : 67] . بعد أن أعطوا أباهم الميثاق المؤكد أذن لهم بصحبة أخيهم ، وأوصاهم بوصيته هذه ، ويظهر منها انه قد كان للمدينة أبواب ، لا باب واحد ، وفي بعض التفاسير انها كانت أربعة . واختلف المفسرون في الغرض من وصية يعقوب أبناءه ان يدخلوا من أبواب متفرقة ، وما أتى واحد منهم بما تركن إليه النفس . . وقد يكون الغرض انهم ان دخلوا مجتمعين ، وهم أحد عشر رجلا ترامت نحوهم الأنظار ، وكثرت التساؤلات والإشارات ، أو ان الغرض ان يعرفوا أخبار المدينة ، ويطلعوا على أحوالها لعلهم يقفون على ما يومئ إلى يوسف وأخباره ، ومهما يكن فنحن غير مكلفين بالبحث عن السبب ما دامت الآية لم تشر إليه . . وفي تفسير « البحر المحيط » ان يعقوب أمر بنيه أن يبلغوا تحياته لعزيز مصر ، ويقولوا له : ان أبانا يصلي عليك ، ويدعو لك ، ويشكر صنيعك معنا ، وان يوسف بكى حين سمع هذه الرسالة . . وليس هذا ببعيد عن الموضوع وطبيعته .
( وما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) . عند تفسير الآية 40 من هذه السورة ، فقرة « لا حكم الا للَّه » بيّنا ان حكمه تعالى يطلق على حلاله وحرامه المعبّر عن كل منهما بالحكم الشرعي ، وأيضا يطلق على قضائه وقدره الذي لا مفر منه للإنسان ، وسياق الآية يدل ان هذا هو المراد بحكم اللَّه هنا ، وعليه يكون المعنى اني حريص عليكم ، ناصح لكم ، ولكن حرصي ونصحي لا يغني عن قضاء اللَّه وقدره . . وغرضه من ذلك أن يبين لأبنائه ان على الإنسان ان لا يعتمد على العمل وحده ، ولا على الايمان وحده ، بل عليه أن يعمل ويجتهد متوكلا على اللَّه ، ومعتقدا بأنه هو الذي يمده ويعينه ، ولذا قال : ( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) أي أنا مؤمن باللَّه متوكل عليه ، لا على غيره ، وعلى كل من آمن باللَّه أن يكون كذلك .
{ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} [يوسف : 68] من الأبواب المتفرقة ( ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) . اسم كان ضمير مستتر يعود إلى الدخول المستفاد من قوله : ( ولَمَّا دَخَلُوا ) والمعنى ان أولاد يعقوب دخلوا المدينة من أبواب متفرقة امتثالا لأمر والدهم ، ولكن دخولهم لم يجد نفعا ، ولم يرد بلاء كما قال يعقوب :
( وما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ) ، حيث اتهموا بالسرقة ، وأخذ منهم بنيامين ، ورجعوا إلى أبيهم منكسرين كما يأتي . ( إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها ) . اختلف المفسرون في تحديد هذه الحاجة التي قضاها اللَّه ليعقوب ، فمن قائل : ان لا يصاب أولاده بالعين عند دخولهم إلى مصر . وقائل : ان لا ينالهم العزيز بسوء الخ . . والذي نراه - استنادا إلى طبيعة الحال ، والى الآيات الدالة على حرصه ولهفته على يوسف وأخيه - ان الحاجة الأولى والأخيرة ليعقوب من هذه الحياة كانت سلامة يوسف وأخيه ، واجتماعه بهما قرير العين ، وقد أتم اللَّه له ما أراد على أحسن حال .
( وإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) . ضمير انه وعلمناه يعودان إلى يعقوب . وهو نبي ، وكل نبي يؤدبه اللَّه بآدابه ، ويعلمه من لدنه علما ، ومن تأدب يعقوب بآداب اللَّه صبره على البلاء ، وتوكله على اللَّه ، وعدم يأسه من رحمته ، ومن علمه مما علمه اللَّه إيمانه بأن فوق تدبير العباد للَّه تدبيرا ( ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ان الحكم للَّه ، وان تدبيرهم من غير عناية اللَّه وتوفيقه لا يجديهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا .
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [يوسف : 69] .
أن إخوة يوسف لما وصلوا إلى مصر دعاهم إلى طعامه ، وأجلسهم مثنى مثنى لغاية أرادها ، وهي ان يبقى أخوه بنيامين وحيدا ليجلسه معه على مائدته ، تماما كما آخى الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله)بين أصحابه مثنى مثنى ، وأبقى عليا لنفسه ، وبعد الطعام أنزل يوسف كل اثنين من إخوته في حجرة ، وبات أخوه بنيامين معه في حجرته ، وعند ما اختلى به قال له : أتحب ان أكون أخاك ؟ . فأجابه : ومن يجد أخا مثلك ؟ . ولكن لم يلدك يعقوب ، ولا راحيل ، وراحيل هي أم يوسف وبنيامين ، فعانقه وقال : أجل ، لقد ولدني يعقوب وراحيل ، فأنا أخوك ، ولا تحزن بما كان من إخوتك معي ومعك . . ففرح بنيامين للمفاجأة السارة ، وحمد اللَّه .
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [يوسف : 70] . أراد يوسف أن يفصل بنيامين عن إخوته ، ويبقيه عنده ،ولم يكن ذلك ممكنا إلا بمبرر ، وكان من شريعة آل يعقوب استرقاق السارق ، فدس غلمان يوسف بأمر منه المكيال في رحل أخيه بنيامين ، ثم نادى المنادي في أولاد يعقوب : يا أصحاب العير انكم سارقون ، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم .
فدهش أولاد يعقوب لهذه المفاجأة العنيفة {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف : 71] .
قالوا هذا وهم على يقين من براءتهم . . وهذه هي المرة الأولى التي يسمعون فيها مثل هذه التهمة . ( قالُوا » - أي غلمان يوسف - {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } [يوسف : 72] . وهذا الضامن هو الذي قال : أيتها العير انكم لسارقون على عهدة المفسرين ، وضمن بشرط ان يرجع السارق المكيال من تلقاء نفسه ، وهذه الآية تدخل في بابين من أبواب الفقه : الجعالة والضمان ، والجعالة هي الالتزام بمال معين لقاء عمل معين لأي عامل كان كقولك : من فعل كذا فله كيت . والضمان هو التعهد بالوفاء كقول المنادي : وأبا به زعيم أي ضامن للوفاء بحمل البعير من القمح ، وفي الحديث : « الزعيم غارم » .
( قالُوا » - أي أولاد يعقوب - {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف : 73] . ناقشوا وجادلوا وأقاموا الدليل على براءتهم ونزاهتهم ، وقالوا فيما قالوا : كيف تتهموننا بالسرقة ، وقد علمتم من نسبنا وسيرتنا في السفرة الأولى والثانية أنّا لم نأت إلى هذا البلد للخيانة والفساد ، وانما لنشتري الطعام لأهلنا . .
وفي كثير من التفاسير ان أولاد يعقوب لما وجدوا بضاعتهم في رحلهم بعد عودتهم إلى أهلهم في السفرة الأولى ظنوا انها وضعت فيه سهوا ، فلم يستحلوها ، بل حملوها من بلدهم إلى مصر وارجعوها إلى العزيز ، واشتهر ذلك عنهم ، حتى عرفوا بالأمانة والصلاح . . وهذا الذي ذكره المفسرون غير بعيد ، بل إليه يومئ قول أولاد يعقوب : ( تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ ) .
وتسأل كيف استحل يوسف ان يدس المكيال في وعاء أخيه ، ويوجه التهمة لإخوته ، مع علمه ببراءتهم ؟ .
الجواب : أولا ان هذه واقعة خاصة ، ولها ظروفها ومبرراتها الخاصة ، فلا يجوز القياس عليها ، ولا النقض بها . . ثانيا : ان المقصود الأول بتهمة السرقة هو بنيامين أخو يوسف لأمه وأبيه ، وقد جرى ذلك برضا منه ، والاتفاق معه لحكمة اقتضت ذلك ، وهي في نفس الوقت لا تخالف أصلا من أصول الشريعة ، كتحليل الحرام ، أو تحريم الحلال . . هذا ، إلى ان احتيال أولاد يعقوب على أبيهم لانتزاع ولده يوسف منه ، والغدر به ، وإلقاءه في الجب بقصد القتل في أبشع صورة ، ان هذا سرقة وزيادة .
سؤال ثان : كيف استباح يوسف أن يحول بين أخيه وأبيه ، ويزيده كربا على كربه ؟ .
الجواب : ان كل ما فعله يوسف كان لمصلحة أخيه وأبيه ، وهو على يقين بأن أباه يقره ، بل ويشكره عليه متى اطلع على الحقيقة . . وقد حدث ذلك بالفعل .
وبديهة ان الأمور تقاس بعواقبها لا بأسلوبها ، وفي سائر الأحوال فإن الأنبياء لا يتهمون في جانب الحق .
{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف : 74] . ضمير قالوا يعود إلى غلمان يوسف ، وضمير جزاؤه إلى السارق ، والخطاب في كنتم لأولاد يعقوب ، والغرض من هذا السؤال انتزاع الاعتراف منهم بأن السارق يؤخذ عبدا أو أسيرا جزاء على فعله . . ليكون هذا الاعتراف حجة عليهم إذا أخذ يوسف أخاه ، وضمه إليه .
{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف : 75] . فهو جزاؤه زيادة في الإيضاح ، تماما كما تقول : جزاء القاتل القتل فهو جزاؤه . . أجاب إخوة يوسف : من وجدتم الصاع في وعائه فخذوه أسيرا أو عبدا ، وهذا هو شرعنا في عقوبة السارقين ، ونحن على يقين من براءتنا ، وطهارة اعراقنا .
{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف : 76] . بدأ المفتش بأوعيتهم تغطية للحيلة ، حتى إذا انتهى إلى وعاء بنيامين استخرج المكيال منه ، وأشهره في وجوههم . وصعق أبناء يعقوب لهذه المفاجأة العنيفة . . ولكن أين هذه مما قاساه يوسف في ظلمات الجب وحيدا فريدا ؟ .
( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ) . أي أوحينا إليه بهذا التدبير ليقول إخوته من تلقائهم : ان للعزيز ان يأخذ أخاهم أسيرا أو عبدا ، وسمى هذا كيدا لأن ظاهره غير واقعه ، وجاز شرعا لأنه لا يحلل حراما ، ولا يحرم حلالا . ( ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) المراد بالملك ملك مصر ، وبدينه شرعه وقضاؤه ، والمعنى لولا هذا
التدبير لتعذر على يوسف ان يضم أخاه إليه . ذلك بأن من شرع ملك مصر وقضائه ان لا يعاقب السارق بالأسر أو الاسترقاق ، بل بعقوبة أخرى كالسجن أو الضرب ويوسف لا يريد المكروه لأخيه ، فأوحى اللَّه إليه بهذا التدبير وهو المقصود بقوله تعالى : ( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) .
والخلاصة ان الحكمة اقتضت ان لا يقول يوسف : هذا أخي ، ولا ان يأخذه بغير مبرر ، ولو ظاهرا ، وكان من شريعة آل يعقوب أن يسترق السارق ، ومن شريعة الملك وأهل مصر ان يسجن أو يضرب ، فاتخذ يوسف هذا التدبير الذي أوحاه اللَّه إليه ليلزم إخوته بما ألزموا به أنفسهم . ( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) بالعلم والنبوة ، كما رفعنا يوسف على إخوته . ( وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) حتى ينتهي إلى العلي الأعلى . وفيه إيماء إلى ان إخوة يوسف كانوا علماء ، ولكن يوسف اعلم وأكمل .
( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ) . ضمير قالوا يعود إلى أخوة يوسف ، وضمير يسرق إلى أخيه بنيامين ، أما المقصود بأخ له فهو يوسف بالذات . . وكل ما دلت عليه الآية ان أخوة يوسف ألصقوا تهمة السرقة به ، ولا إشارة فيها ولا في غيرها من الآيات إلى ان يوسف سرق في طفولته بيضة أو دجاجة أو صنما لجده أبي أمه أو منطقة لعمته أو غير ذلك . . ولكن القرآن سجل صراحة الكذب على أخوة يوسف في قولهم : أكله الذئب ، بالإضافة إلى حقدهم الذي دفع بهم إلى فعل ما فعلوا . . وعلى هذا يسوغ لنا ان نقول : انهم كانوا كاذبين في نسبة السرقة إلى يوسف حين طفولته ، وانها من عندياتهم ، وقولنا هذا وان كان مجرد استنتاج فإن فيه شيئا من المنطق ، أو هو احتمال غير بعيد - على الأقل - .
وأخذ المفسرون بقول أخوة يوسف أخذ المسلَّمات ، حتى كأن الكذب مستحيل في حقهم ، وراحوا يبحثون عن الشيء الذي سرقه يوسف ، فمن قائل : انه بيضة سرقها وأعطاها لجائع ، وقائل : بل دجاجة ، وقال ثالث : سرق صنما لجده أبي أمه وكسره ، وذهب رابع إلى ان عمته بنت اسحق كانت تحضنه صغيرا ، ولما شب أراد أبوه ان ينتزعه منها ، فاتهمته بسرقة منطقة أبيها اسحق - وهي ما يشد به الوسط - ليبقى عندها عبدا ، لأن عقوبة السارق كانت الاستعباد ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وغريب ان لا يتنبه واحد منهم إلى ان حكم الأطفال في جميع الشرائع غير حكم الكبار . . وأغرب منه قول بعض الصوفيين :
ان أولاد يعقوب أرادوا بتهمة السرقة ان يوسف سرق منهم قلب أبيهم .
( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ولَمْ يُبْدِها لَهُمْ ) . تجاهل مقالتهم حلما وكرما ، كما قال الشاعر :
ولقد أمر على اللئيم يسبني * فأعف ثم أقول لا يعنيني
( قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ) . قال هذا في سره بدليل قوله تعالى : « ولَمْ يُبْدِها لَهُمْ » .
( واللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) من نسبة السرقة إليّ والى أخي ، وانها محض افتراء .
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف : 78] . بعد ان أصبحوا تجاه الأمر الواقع ، وان العدل عندهم يقضي باسترقاق أخيهم بنيامين التجأوا إلى التماس الرحمة بالعفو والصفح ، أو أخذ الفداء والبدل ، وان يختار العزيز واحدا منهم ، وهم عشرة بين يديه ، طلبوا هذا وألحوا في الطلب ، وتشفعوا إليه ببره وصلاحه ، وبشيخوخة أبيهم ، وعظيم منزلته وقدرته ، وبضعفه وشغفه بولده بنيامين ، فعلوا هذا وأكثر منه لا حبا بأخيهم ، بل تخلصا من أبيهم ومسؤولية العهد الذي أخذه عليهم .
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف : 79]. رفض يوسف طلبهم ورجاءهم ، وأصر على أخذ أخيه لأمر أراد اللَّه ان يتمه بعد الامتحان والبلوى . . وتجدر الإشارة إلى أن يوسف عبّر أدق تعبير وأحكمه عن براءة أخيه من السرقة في قوله : « من وجدنا متاعنا عنده » حيث فهم منه أخوة يوسف من سرق متاعنا ، والمقصود منه من استخرجنا متاعنا من وعائه ، والفرق بعيد بينهما .
( فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ) . بعد ان يئس أولاد يعقوب من تخليص أخيهم اعتزلوا الناس يتشاورون فيما يعتذرون لأبيهم {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } [يوسف : 80] قال بعض المفسرين : المراد كبيرهم عقلا ، لا سنا . وقال آخرون : بل سنا وعقلا ، وهذا هو المتبادر إلى الأذهان ، ومهما يكن فان هذا الكبير قال لإخوته : ان أباكم قد أخذ عليكم عهدا ، واستحلفكم أن تأتوه بأخيكم ، فما ذا تقولون له إذا أبتم إليه من دونه ؟ . ( ومِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ) يشير إلى القائهم إياه في الجب ، وما قاساه أبوهم نتيجة لذلك .
( فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ).
قرر كبيرهم أن يبقى في جوار أخيه حياء وخجلا من أبيه ، وان لا يبرح الأرض التي فيها بنيامين الا بإذن من أبيه ، أو بفرج من اللَّه بأي نحو شاء ، ولو بالموت .
وما طال الأمد ، حتى جاء الفرج ، وانكشف الكرب عن الجميع .
المعنى :
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } [يوسف : 81] . هذا قول كبيرهم ، فهو يوصي إخوته ان لا يقولوا لأبيهم الا الحق ، وذلك بأن يخبروه بأنهم رأوا غلمان العزيز يستخرجون مكيال الملك من وعاء بنيامين ، وان العزيز أصر على أخذه . . هذا ما شاهدناه ، واللَّه أعلم بما وراء ذلك ، ولو علمنا الغيب ما سألناك ان تسمح لنا به ، ولا أعطيناك العهد بأن نرجعه إليك ، وقد بذلنا المجهود ، واعذرنا إلى اللَّه واليك .
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف : 82] أي اسأل أهل مصر ، فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة ( والْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ) واسأل أيضا القافلة التي جئنا معها من مصر ، فقد رأت ما رأينا ، وهي إلى جوارك في أرض كنعان ( وإِنَّا لَصادِقُونَ ) فيما أخبرناك ، وهم في هذه المرة يتكلمون بثقة وجرأة لأنهم على يقين من صدقهم على العكس من موقفهم الأول مع أبيهم حين أتوه بدم كذب على قميص يوسف .
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف : 83] . لما رجعوا إلى أبيهم وأخبروه بما حدث قال : كلا ، بل زينت لكم أنفسكم الكيد لولدي ، كما فعلتم من قبل بأخيه يوسف . وتساءل المفسرون : كيف اتهم يعقوب بنيه بالكيد قبل ان يتثبت من الحقيقة ، وهو نبي معصوم ؟ . ثم أجابوا بوجوه لا تستند إلى أساس ، وأحسن الوجوه التي ذكروها على ما فيه - ان مراد يعقوب أن أنفسكم صورت لكم ان بنيامين سارق ، وما هو بسارق . . وفي رأينا ان يعقوب اتهمهم بالكيد قياسا على صنيعهم مع يوسف ، ولكنه لم يجزم بقول قاطع لعدم الدليل على كذبهم ، وأيضا لم يأخذهم بالظن من حيث العقوبة لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا . . وهذا لا يتنافى مع مقام النبوة ، لأن النبي لا يعلم الغيب ، وهو كأي إنسان يحتمل ويظن ، والفرق بينه وبين غيره انه لا يرتب أثرا على ظنه كما يفعل غير المعصوم .
( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) قال هذا حين غاب عنه بنيامين ، ومن قبل قال حين غاب يوسف : ( واللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) . هذا هو شعار الصالحين ، يحزنون ، وهم في جميع الحالات على اللَّه متوكلون . كما قال سيد الأنبياء وخاتم الرسل (صلى الله عليه واله) :
تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول الا ما يرضي ربنا . ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) . وهم يوسف وبنيامين ، والأخ الثالث الذي بقي بجوار أخيه في مصر . . وفي كلمة عسى شعاع من الأمل ، وبالخصوص إذا كانت ممن يؤمن بالغيب إيمانه بالواقع الملموس كالأنبياء والصديقين ، وفي نهج البلاغة : « لا يصدق ايمان عبد ، حتى يكون بما في يد اللَّه أوثق منه بما في يده » . وفي هذا المعنى كثير من الأحاديث ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) يعلم حزني وألمي ، ويدبر الأمور على حكمته .
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف : 84] . اعتزل الناس ليندب وحده من لن ينساه أبدا ، يندبه بهذه الصرخة الحزينة : ( يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ) وزاده فراق ولده بنيامين حزنا على حزن ، وبكاء على بكاء ( وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ) .
أصيبتا بالقرحة من آثار البكاء ، فهو يتنفس منهما بالدموع ، كما يتنفس من رئتيه بالآهات والحسرات ( فَهُوَ كَظِيمٌ ) يتجرع الغيظ ويتجلد ، ولكن على حساب جسمه وأعصابه .
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف : 85] أي الميتين ، والحرض المرض أو المريض الذي لا ينتفع بنفسه ، والمعنى ان أولاد يعقوب قالوا له : لا تزال تلهج بذكر يوسف ، حتى تمرض أو تموت بلا جدوى لأن يوسف ذهب ولن يعود ( قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ) لا إليكم لأن الشكوى لمن لا يدفع ضرا ، ولا يجلب نفعا ذل وسفه . قال الإمام علي (عليه السلام) :
« اللَّه اللَّه ان تشكو إلى من لا يشّكي شجوكم - أي يزيل الشكوى - ولا ينقص برأيه ما قد أبرم لكم » . .
{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف : 86] . نكب يعقوب ، وابتلي بفراق يوسف ، ولكنه في الوقت نفسه يحسن الظن باللَّه ، ويثق به ، ولا ييأس من رحمته ، ويؤمن بأن عاقبة الصبر الفرج ، كما دل قوله لبنيه : {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف : 87] وإذا عطفنا ثقته باللَّه على رؤيا يوسف في صغره جاءت النتيجة ان يعقوب مطمئن على حياة يوسف إلى حد كبير ، ولكنه لا يعلم أين هو ؟ . وكيف حاله ؟ .وهل يعيش في عبودية أو في حرية ؟ . ومن هنا كان حزنه وقلقه .
لا تفاؤل ولا تشاؤم :
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف : 87] - أي فرجه - « إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) . اذهبوا وتحسسوا ولا تيأسوا ، قرن الأمل بالعمل ، ومعنى هذا انه إذا انتفى العمل انعكست الآية ، واقترن اليأس بالكسل ، وصحت القاعدة طردا وعكسا . وكان الأمل والرجاء مع الإهمال جهلا وسفها . . وكلمة تحسسوا توحي بوجوب العمل بكل الحواس ظاهرها وباطنها . . وهكذا العاقل إذا نزلت به نازلة دفعت به إلى الكفاح والنضال للقضاء على أسبابها ، سواء أكانت هذه الأسباب هي الأوضاع الفاسدة ، أم كان السبب يكمن في نفس الإنسان كالتقصير واللامبالاة ، وإذا أصابته حسنة - أي العاقل - خاف من ضربات الدهر وغائلته ، وتحصن بتقوى اللَّه وطاعته ، ولا يطغيه غنى ، ولا يبطره جاه ، قال تعالى : « فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ - 99 الأعراف » .
ونخلص من هذا إلى ان المتشائم الذي يقول : لا جدوى من العمل هو الشؤم بالذات ، ومثله المتفائل مع الكسل وترك العمل . . والإنسان السوي من كان بين بين ، يعمل ويناضل عند الشدة ، ولا ييأس من روح اللَّه وفرجه ، ويخاف ويحذر عند الرخاء ، ولا يأمن مكر اللَّه وبأسه .
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف : 88] أوصى يعقوب بنيه أن يعودوا إلى مصر ، فقبلوا منه ، وعادوا إليها مرة ثالثة . . ودخلوا على العزيز منكسرين مسترحمين ، وبدأوا بالشكوى من الجهد والمجاعة . . مسنا وأهلنا الضر . .
تصدق علينا . . ان اللَّه يحب المتصدقين . . وإذا جئناك ببضاعة لا تليق فلأن الدهر غير مؤات . . قالوا هذا ، وهم أحفاد إبراهيم الخليل (عليه السلام) ، ولكن الشدة بلغت غايتها . . وجاءت النتيجة فوق ما يتصورون ، وهذه هي :
{قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف : 89]. بعد ان استمع يوسف لاستعطاف إخوته وتضرعهم ، وعرف بؤس أهله وحاجتهم رقّ وتغلبت عليه عاطفة الرحم وقرابة الدم ، وقال لهم معاتبا أو واعظا : أتذكرون يوما استجبتم فيه لدعوة الشيطان فألقيتم بأخيكم يوسف في غيابة الجب ، وأذقتم أخاه بنيامين من بعده صنوف الأذى ؟ . ألم تقولوا بالأمس القريب : « ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل ؟ . وهل يفعل الجاهل أكثر من فعلكم هذا ؟ .
{قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ } [يوسف : 90] . وللمفسرين هنا كلام لا يتحمله لفظ الآية ، ولكنه يتفق مع طبيعة الموضوع ، ويساعد الاعتبار عليه ، وملخصه ان أخوة يوسف حين قال لهم ما قال تذكروا ما كانوا يعرفونه من ملامح وجهه ، ونبرات صوته ، وإشارات يده . . ومهما يكن فقد التمع في خاطرهم أو خاطر بعضهم انه يوسف ( قالُوا أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ ) . قالوا هذا وانتظروا الجواب ، فكانت المفاجأة التي لا تخطر على بال ( قالَ أَنَا يُوسُفُ وهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ) . .
وأريد من القارئ أن يقف هنا قليلا ، ويقارن بين موقفهم هذا الضعيف الذليل ، وبين موقفهم يوم ألقوا يوسف في الجب ، لا يأخذهم فيه دين ولا رحم . . ولا عجب ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهً لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) دنيا وآخرة ، والمراد بالمحسنين هنا الذين عملوا وثابروا وصبروا على الصعوبات ، وقد يهزمهم المسيئون الأشرار مرة أو مرات ، ولكن العاقبة للمتقين ، والشواهد على ذلك لا تقع تحت حصر من عهد النمرود إلى عهد هتلر . . وقد ابتليت الإنسانية اليوم بالصهيونية المتجسمة بإسرائيل ، وبالاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة أعتى عتاة الشر والفساد في هذا العصر . . ولسنا نشك إطلاقا في ان مصير الاثنتين هو مصير كل طاغ وباغ سابق ولا حق . . ولا نقول هذا لمجرد التعبير عما نحب ونرغب . .
كلا ، فإنه منطق طبيعي لتطور الحياة والتاريخ . . ان للحق أهلا يطالبون به ، ويضحون من أجله ، وان للخير قوى تناصره وتؤازره ، وستتحد في يوم من الأيام ضد الظلم والطغيان ، وتدور الدائرة على أهله وأنصاره .
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف : 91]. اعترفوا بأن اللَّه فضله عليهم علما وعقلا ، وكمالا وجمالا ، وأخيرا بالجاه والسلطان . . وأقروا بالذنب ، وطلبوا العفو والصفح ، ويوسف كريم وابن كريم ولذا {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف : 92] عفى يوسف عما مضى بلا تعنيف وتأنيب ، ودعا اللَّه ان يغفر لهم ما فرط منهم ( وهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) لمن تاب وأناب . وفي نهج البلاغة ، « لا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تلهه رحمة عن عقاب » وتواتر عن النبي الأعظم (صلى الله عليه واله)انه حين فتح مكة قال لقريش : ما تظنون اني فاعل بكم ؟
قالوا : نظن خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم كما قال أخي يوسف .
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف : 93] . وتعود بنا هذه الآية إلى الآية 17 وهي : « قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . . وجاؤوا على قميصه بدم كذب . . » .
نعود إلى هذه الآية لنقارن بين القميص الأول والقميص الثاني ، فالأول جر على يعقوب البلاء والأدواء ، أما الثاني ففيه الشفاء والهناء ، ونقارن أيضا بين موقف أبنائه حين جاؤه بالقميص الأول معزين ، وموقفهم حين أتوه بالثاني مهنئين .
وإذا سأل سائل : كيف يكون إلقاء القميص على البصر سببا لشفائه ؟ أجبنا بأنه لا نجد تفسيرا لذلك الا المعجزة الخارقة ، تماما كنار إبراهيم ، وعصا موسى ، وكلام عيسى في المهد ، فهؤلاء أنبياء ، ويوسف وأبوه نبيان.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ } [يوسف : 94] .
فصلت العير أي تحركت من المكان الذي كانت فيه ، وهو مصر ، واتجهت إلى أرض كنعان حيث يسكن يعقوب : وتفندون تنسبونني إلى الفند ، وهو الخرف . .
وظاهر الآية يدل على ان يعقوب شم رائحة القميص من مكان بعيد ، وبمجرد ان تحرك الركب من مكانه ، وقبل ان يتجاوز أرض مصر ، مع ان المسافة بين يعقوب وحامل القميص كانت مسيرة ثمانية أيام ، وقيل : عشرة . . وأبقى المفسرون اللفظ على ظاهره ، وقالوا : ان يعقوب وجد ريح القميص حقيقة على الرغم من بعد المسافة عنه ، واعتبروا ذلك معجزة خص اللَّه بها يعقوب .
وغير بعيد أن يكون الريح كناية عن الحدس المصيب الذي يقع للإنسان في بعض الأحيان بخاصة لأهل القلوب الطيبة الصافية ، وان يعقوب قد أحس قلبه بدنو اللقاء ، فعبّر عنه بريح يوسف ، ويرجح إرادة هذا المعنى ان اليأس من لقاء يوسف ما خامر قلب يعقوب لحظة واحدة ، ويشهد على ذلك قوله : فتحسسوا من يوسف وأخيه . وقوله : عسى أن يأتيني بهم جميعا . وقوله ليوسف :
يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك . . وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك . وقوله : اني اعلم من اللَّه ما لا تعلمون .
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف : 95]. ضمير قالوا يعود إلى من كان حاضرا في مجلس يعقوب حين قال : أجد ريح يوسف ، والمعنى ان الذين حضروا مجلس يعقوب قالوا له : أنت مخطئ في إصرارك وانتظارك يوسف الذي ذهب كما ذهب غيره من الأموات . {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف : 96] . . وما كان يعقوب مخطئا في حدسه ، فلقد جاء البشير يحمل قميص يوسف ، وما ان مس وجه يعقوب ، حتى عادت إليه نعمة البصر ، وسعادة الحياة ، وقيل : ان الذي حمل هذا القميص هو الذي حمل القميص الملطخ بدم كذب قبل أربعين سنة ، ليمحو السيئة بالحسنة ، وأيضا قيل لا عجب ان يرتد بصر يعقوب بمجرد البشرى « فكثيرا ما شفى السرور والفرح من الأمراض ، وتجارب الطب شاهد صدق على ذلك » .
( قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) . يشير إلى قوله في الآية 86 : « قال انما أشكو بثي وحزني إلى اللَّه واعلم من اللَّه ما لا تعلمون » وقد مر شرحها .
{ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [يوسف : 97] . ندم أخوة يوسف على فعلتهم ، وتابوا من خطيئتهم ، وسألوا أباهم ان يدعو إلى اللَّه ان يقبل منهم التوبة ، ويغفر لهم الذنب ، وشرطوا على أنفسهم ان لا يعودوا إلى معصية .
{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف : 98] . قال بعض المفسرين الجدد : « ان كلمة سوف لا تخلو من الإشارة إلى قلب إنسان مكلوم » . يريد أن قلب يعقوب ما زال فيه شيء على بنيه رغم توبتهم وطلبهم المغفرة . . وهذا اشتباه وقياس لقلوب الأنبياء على قلوب سائر الناس ، والصحيح ان يعقوب أرجأ الدعاء لهم بقبول التوبة إلى خلوته وانقطاعه إلى ربه في الظلمات والاسحار ، لأن ذلك ادعى للقبول والاستجابة ، قال سبحانه : « وبِالأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ - 18 الذاريات » . وقال : {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } [آل عمران : 17].
اجتماع يعقوب :
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [يوسف : 99] . حزن يعقوب وأرسل الدمع مدرارا على فراق يوسف ، وهو يعلم ان البكاء لا يجديه شيئا ، ولكنه كان يخفف به من لوعة البعد ، وحرقة الفراق ، وامتد حزنه أمدا طويلا لأن يوسف أقام سنوات في بيت الذي اشتراه بثمن بخس ، وسنوات في السجن ، وسنوات يدبر شؤون البلاد المصرية ، منها سبع رخاء قبل ان يلتقي مع أهله ، حيث كان اللقاء في سني الجدب ، وكان كلما طال الزمن ازداد حزن يعقوب كما يومئ قول من قال له : {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } [يوسف : 95].
وإذا عرفنا مبلغ الحزن في نفس يعقوب من ألم الفراق عرفنا مبلغ فرحته وسعادته بلقاء يوسف ، لأن الفرحة بالشفاء من الأسقام تأتي على قدر ما تركته هذه من الأوجاع والآلام ، أو تزيد أضعافا .
وقال جماعة من المفسرين : المراد بأبويه أبوه وخالته ، لأن أمه ماتت من قبل . . وابعد البعض في قوله : ان أمه ماتت ، ثم نشرت من قبرها لترى عظمة ولدها وتسجد له . . ولا طائل من هذا التحقيق وأمثاله الا تكثير الكلام .
وتسأل : ان صدر الآية لا يتفق مع عجزها ، لأن الصدر يقول : لما دخلوا على يوسف ضم أبويه إليه ، ومعلوم ان يوسف كان في مصر ، والعجز يقول :
بعد ان دخلوا عليه ، وهو في مصر قال لهم : ادخلوا مصر - كما هو الظاهر من سياق الآية - ومعنى هذا انهم بعد ان دخلوا مصر قال لهم ادخلوا مصر ؟ .
وقيل في الجواب : ان يوسف أقام لأهله سرادقات بالقرب من الحدود ، وفيها دخلوا عليه ، وضم أبويه إليه ، ولما استأنفوا السير من السرادقات متجهين إلى مصر قال لهم : ادخلوا مصر . . وهذا الجواب يحمّل لفظ الآية أكثر مما يتحمل ، وغير بعيد أن يكون مراده من ادخلوا مصر أقيموا فيها آمنين ، كما حدث ذلك بالفعل ، حيث أقطعهم الملك أرضا خصبة في مصر ، وظلت سلالة يعقوب فيها أمدا طويلا . . فقد جاء في مجمع البيان : « وانما قال لهم : آمنين .
لأنهم كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر ، ولا يدخلونها إلا بجوازهم - أي بجواز السفر كما هو المتبع في هذا العصر - قال وهب : ان آل يعقوب دخلوا مصر وهم 73 إنسانا ، وخرجوا مع موسى الذي هو من نسل يعقوب ، وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا » . . وأيضا في مجمع البيان ان بين يوسف وموسى 400 سنة .
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف : 100] أجلسهما على السرير الذي كان يجلس عليه ، وهو يدير شؤون المملكة تعظيما لهما ( وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) . ضمير خروا عائد إلى أبوي يوسف وإخوته ، وضمير له إلى يوسف ، والمراد بالسجود هنا الانحناء تعظيما وتكريما ، وكان الانحناء تحية الناس للمعظم في ذاك العصر ، كما في بعض التفاسير . وقيل : ان ضمير له عائد إلى اللَّه ، وان السجود كان شكرا له تعالى على هذه النعمة الكبرى . . وهذا القول يخالف ظاهر السياق ، ولا يتفق مع قول يوسف في الآية 4 : « رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ » ، أي له لا لغيره .
( وقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ) . يشير إلى قوله في أول السورة : {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف : 4] . وسبق الشرح والتفصيل . وفي تفسير الرازي :
« اختلفوا في مقدار المدة بين وقت اللقاء وبين الرؤيا ، فقيل : 80 سنة .
وقبل 70 . وقيل : 40 وهو قول الأكثر . . وكان عمره 120 سنة » . ونحن لا نعلم يقينا كم كان عمره حين ألقي في الجب ، ولا المدة التي أقامها في بيت الذي اشتراه ، ولا أمد سجنه وحكمه ، لأننا لم نهتد إلى أصل يصح الاعتماد عليه ، وأقوال المفسرين والرواة متضاربة . . ولكن الأكثر على انه عاش 120 سنة .
( وقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) . ان اللَّه سبحانه يبتلي الإنسان بالرخاء كما يبتليه بالشدة : {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل : 40] . وقال الإمام علي (عليه السلام) : « لم تعظم نعمة اللَّه على أحد إلا ازداد حق اللَّه عليه عظما » . وقد ابتلي يوسف بالضراء فصبر وبالسراء فشكر ، وها هو يحدث بنعمة اللَّه عليه ، ويعدد إحسانه إليه . . أخرجني من السجن ، وسما بي إلى الحكم ، وجاء بأهلي من البادية ، حيث كانوا يرعون الإبل والأغنام ، حتى هذه أهلكها الجدب والقحط ، وأصبحوا على الأرض البيضاء لا يملكون شيئا ، ويقولون للعزيز : تصدق علينا ان اللَّه يحب المتصدقين ، فأغناهم اللَّه بيوسف وكفاهم شر الفقر والعوز .
ولم يذكر إخراجه من الجب مراعاة لشعور إخوته ، وأيضا نسب ما كان منهم إلى الشيطان وقال : ( مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إِخْوَتِي ) ولم ينسبه إليهم لنفس السبب ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ) يلطف بالطيبين ، ويبلغ بهم إلى ما يشاؤه لهم من العز والكرامة ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) . والفرق بين حكمة اللَّه وعلمه ان جميع أفعاله وأحكامه تأتي على وفق الحكمة : {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران : 191] . اما علمه فلا ينفك عن المعلوم ، فمتى علم بأن في هذا الشيء حكمة وجد فورا ، وبكلمة ان علمه هو قوله للشيء كن فيكون .
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف : 101]. فاطر السماوات والأرض أي خالقهما على غير مثال سابق لهما ، وذكر السماوات بصيغة الجمع ، والأرض بصيغة المفرد لأن الإنسان يرى بعينيه سماوات كثيرة ، ولا يرى الا أرضا واحدة . أنت وليّي أي تتولى جميع أموري في الدارين . . بعد أن حدث يوسف بنعم اللَّه عليه توجه إليه تعالى شاكرا ما بسط له من الملك ، وما خصه به من النبوة ، متوكلا عليه في جميع شؤونه ، ومتوسلا إليه ان يميته على طاعته ومرضاته ، وان يلحقه بصالح من مضى من آبائه ، ويجعله من صالح من بقي من أبنائهم .
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [يوسف : 102] . بعد أن ذكر سبحانه قصة يوسف توجه إلى رسوله الأكرم محمد (صلى الله عليه واله) بهذه الآية ، والغرض منها إلقاء الحجة على من أنكر نبوته ، وملخصها ان ما قصصناه من أمر يوسف بهذا التفصيل لم يشاهده محمد بنفسه ، ولا قرأه في كتاب ، ولا سمعه من إنسان ، وانما هو وحي من اللَّه دال على صدقه ونبوته ( وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وهُمْ يَمْكُرُونَ ) .
ضميرا اجمعوا وهم يعود إلى أخوة يوسف ، والخطاب موجه إلى محمد (صلى الله عليه واله)وكل الناس يعرفون ان محمدا لم يكن حاضرا حين أجمعوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب : وحين مكروا بأبيه وقالوا أكله الذئب . . وأيضا كل الناس يعرفون ان محمدا ما قرأ كتابا ولا تتلمذ على أستاذ . . فلم يبق - إذن - من طريق إلى معرفته بهذا الغيب الا وحي السماء . . ونظير هذه الآية قوله تعالى : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } [هود : 49] .