التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
ملوك الحيرة
المؤلف: الشيخ احمد مغنية
المصدر: تاريخ العرب القديم,
الجزء والصفحة: ص70-88.
12-11-2016
625
أخبار العرب بالعراق في الجيل الأول وهم العرب العاربة فلم يصل إلينا تفاصيلها وشرح حالها، إلا ان قوم عاد والعمالقة ملكوا العراق.
وأما في الجيل الثاني وهم العرب المستعربة فلم يكن لهم به دور فعال، وإنما كان ملكهم به بدوياً، ورئاستهم في اهل الظواعن. وكان ملك العرب ـ في التبابعة من أهل اليمن، وكانت بينهم وبين فارس حروب، وبما غلبوهم على العراق أو بعضه. لكن اليمن لم يغلبوا ثانياً على ما ملكوا منه.
وكان في سواد العراق وأطراف الشام والجزيرة الأرمانيون من بني إرم بن سام، ومن كان من بقية عساكر ابن تبع، من جعر طيء، وكلب، وتميم، وجرهم، ومن نزل معهم بعد ذلك من تنوخ، ونمارة بن خم، وقنص بن معد. وكان ما بين الحيرة والفرات إلى ناحية الأنبار مواطن لهم، وكانوا يسمون عرب الضاحية، وكان أول من ملك منهم في زمن الطوائف: مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن قضاعة. وكان منزله مما يلي الأنبار. وملك بعده أخوه عمرو، ثم صهرهما جذيمة الأبرش.
فلما تفرق الأزد على المواطن نزل بنو زهران بالشراة وعمان، وصار لهم مع الطوائف ملك. وكان مالك بن فهم هذا من ملوكهم، وكان بشاطئ الفرات من الجانب الشرقي عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة من ولد السميدع بن هوثر من بقايا العمالقة. فكان عمرو بن الظرب على مشارف الشام والجزيرة، وكان منزله بين الخابور وقرقيسا، فكانت بينه وبين مالك بن فهم حروب، هلك عمرو في بعضها، وقامت بملكه من بعده ابنته الزباء، واسمها نائلة، عند الطبري. وميسون، عند ابن دريد.
ولم تزل الحرب بين مالك بن فهم والزباء بنت عمرو إلى أن ألجأها إلى أطراف مملكتها. وكان يغير على ملوك الطوائف حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم. ومالك هذا هو أول من نصب المجانيق، وأوقد الشموع، وملك ستين سنة. ولما هلك قام بأمره من بعده جذيمة كما قال أبو عبيدة.
فلما ملك جذيمة بقيت الحالة بينه وبين الزباء كما هي حرب وسلم، ثم إن الزباء رأت أنها لا تقدر عليه إلا بالحيلة، فكتبت إليه أنها لم تجد ملك النساء إلا قبحاً في السماع، وضعفاً في السلطان، وأنها لم تجد لملكها موضعاً، ولا لنفسها كفؤاً غير جذيمة، وأنهت الرسالة بقولها >فأقبل إليّ لأجمع ملكي إلى ملكك، وأصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك< تريد بذلك الغدر. وكان جذيمة ببقة على الجانب الشرقي من الفرات. فلما أتى كتابها مع رسلها، استخف جذيمة ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، فجمع أهل الحجا والرأي من ثقاته، فعرض عليهم ما عرضته عليه، فاجتمع رأيهم بأن يسير إليها فيستولي على ملكها، وكان فيهم (قصير) وكان عاقلاً أديباً حازماً، أثيراً عند جذيمة، فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: رأي فاتر، وغدر حاضر. فذهبت كلمته مثلاً. ثم قال لجذيمة: الرأي أن تكتب إليها، فإن كانت صادقة في قولها فلتقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في حبالتها وقد وترتها وقتلت أباها. فلم يوافق جذيمة ما أشار به، فقال قصير:
إني امرؤ لا يميلُ العجزُ ترويتي
إذا أتت دون شيء مرة الوذم
فقال جذيمة: لا، ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح. فذهبت كلمته مثلاً. ودعا جذيمة عمرو بن عدي ـ ابن أخته ـ فاستشاره، فشجعه على المسير، وقال: إن قومي مع الزباء، ولو قد رأوك صاروا معك. فأحب جذيمة ما قاله عمرو، وعصى قصيراً، فقال قصير: لا يطاع لقصير أمرٌ. فذهبت كلمته مثلاً. واستخلف جذيمة عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه، وجعل عمرو بن عبد الجن معه على جنوده وخيوله، وسار جذيمة في وجوه أصحابه، فأخذ على شاطئ الفرات من الجانب الغربي، فلما نزل دعا قصيراً فقال: ما الرأي يا قصير؟ فقال قصير: ببقة خلفت الرأي. فذهبت مثلاً. قال وما ظنك بالزباء؟ قال: القول رداف، والحزم عثراته تخاف. فذهبت مثلاً. واستقبل رسل الزباء جذيمة بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطبٌ يسير في خطب كبير ـ فذهبت مثلا ـ وستلقاك الجيوش، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك وأحاطت بك من خلفك فالقوم غادرون بك، فاركب العصا فإنه لا يشق غباره ـ فذهبت مثلاً، وكانت (العصا) فرساً لجذيمة لا تجارى ـ وإني راكبها ومسايرك عليها. فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة على متن العصا مولياً فقال: ويل أمه جزماً على متن العصا. فذهبت مثلاً. وجرت العصا بقصير إلى غروب الشمس، ثم نفقت، وقد قطعت أرضاً بعيدة، فبنى عليها برجاً يقال له: برج العصا. وقالت العرب: خيرٌ ما جاءت به العصا، فذهبت مثلاً. وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيل حتى دخل على الزباء، فلما رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الأسب، فقالت: يا جذيمة أدأب عروس ترى؟ فذهبت مثلاً. فقال جذيمة: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدرٍ أرى. فذهبت مثلاً. ودعت بالسيف ثم قالت: إن دماء الملوك شفاء من الكلب. فأمرت بطست من ذهب قد أعدته له، وسقته الخمر حتى سكر وأخذت الخمر منه مأخذها، فأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطس طلب بدمه، وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق إلا في القتال تكرمةً للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك. فقال جذيمة: دعوا دماً ضيعه أهله. فذهبت مثلاً. فهلك جذيمة، وجعلت الزباء دمه في ربعة لها.
أما قصير فخرج من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أثائر أنت؟ قال: بل ثائر سائر. فذهبت مثلاً. ووافق قصير الناس وقد اختلفوا، فصارت طائفة مع عمرو بن عدي اللخمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا، وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي، فقال قصير لعمرو بن عدي: تهيأ واستعد ولا تطلن دم خالك. قال: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلاً.
وكان الزباء سألت كاهنةً لها عن هلاكها، فقال: أرى هلاكك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو ن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك. فحذرت الزباء عمراً، واتخذت لها نقاً من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني. ودعت رجلاً مصوراً من أجود أهل بلاده تصويراً، وأحسنهم عملاً، فجهزته وأحسنت إليه، وقالت له: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكراً، فتخلو بحشمه، وتنضم إليهم وتخالطهم، وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور، ثم اثبت لي عمرو بن عدي معرفة، فصوره جالساً وراكباً وقائماً ومتفضلاً ومتسلحاً بهيئته ولبسته ولونه، فإذا أحكمت ذلك فأقبل إليَّ. فانطلق المصور حتى قدم على عمرو بن عدي، وصنع الذي أمرته به الزباء، وبلغ من ذلك ما أوصته به، ثم رجع إلى الزباء بعلم ما وجهته له من الصور على ما وصفت. وأرادات أن تعرف عمراً فلا تره على حال إلا عرفته، وحذرته، وعلمت علمه.
ما قصير فقال لعمرو بن عدي: اجدع أنفي، واضرب ظهري، ودعني وإياها. فقال عمرو: ما أنا بفاعل، وما أنت لذلك مستحقاً عندي. فقال قصير: خل عني إذن، وخلاك ذم. فذهبت مثلاً. فقال له عمرو، فأنت أبصرُ. فجدع قصير أنفه، وأثر آثاراً بظهره. فقالت العرب: لمكر ما جدع قصير أنفه، وفي ذلك يقول المتلمس الشاعر:
وفي طلب الأوتار ما حزّ أنفه
قصير ورام الموت بالسيف بيهسُ
ثم خرج قصير كأنه هارب، وأظهر أن عمراً فعل به ذلك، وأنه زعم أنه مكر بخاله جذيمة، وغره من الزباء فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إن قصيراً بالباب. فأمرت به فأدخل عيها، فإذا أنفه قد جدع، وظهره قد ضرب، فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني قد غررت خاله، وزينت له المصير إليك، وغششته، وما لأتكِ، ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك، وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك. فأكرمته وأصابت عنده من الحزم والرأي ما أرادت، فلما عرف أنها استرسلت إليه، ووثقت به، قال: إن لي بالعراق أموالاً كثيرة، وطرائف، وثياباً، وعطراً، فابعثيني إلى العراق لأحمل مالي، وأحمل إليك من بزوزها وطرائفها وثيابها وعطرها،، وتصيبين في ذلك أرباحاً عظيمة، وبعض ما لا غنى للملوك عنه. وكان أكثر ما يطرفها من التمر الصرفان، وكان يعجبها فلم يزل قصير يزين ذلك حتى أذنت له، ودفعت إليه أموالاً، وجهزت معه عبيداً، فسار قصير حتى قدم العراق، وأتى الحيرة متنكراً، فدخل على عمرو وأخبره الخبر وقال: جهزني بصنوف البز والأمتعة، لعل اله يمكن من ازباء فتصيب ثأرك، وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء، فأعجبها ما رأت وسرها، وازدادت بقصير ثقة، وجهزته ثانية فسار حتى قدم على عمرو، فجهزه، وعاد إليها، ثم عاد في المرة الثالثة وقال لعمرو: اجمع لي ثقاة أصحابك، وهيئ الغرائر والمسوح، واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها، وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيف، ففعل عمرو ذلك، وحمل الرجال في الغرائر بالسلاح، وسار يكمن النهار ويسير الليل، فلما صار قريباً من مدينتها تقدم قصير فبشرها وأعلمها بما جاء من المتاع والطرائف وقال لها: آخر البز على القلوص. فأرسلها مثلاً. وسألها أن تخرج فتنظر إلى ما جاء به وقال لها: جئت بما صاء وصمت. فذهبت مثلاً.
ثم خرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقال: يا قصير
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلاً يحملن أم حديد
أم صرفاناً تارزاً شديدا
فقل قصير في نفسه:
بل الرجال قبضاً قعودا
فدخلت الإبلُ المدينة حتى كان آخرها بعيراً مرَّ على بواب المدينة وكان بيده منخسة، فنخس بها الغرارة، فأصابت خاصرة الرجل الذي فيها فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت، ودل قصير عمراً على باب النفق الذي كانت الزباء تدخله وكان قصير قد عرفه من الزباء نفسها إذ لما وثقت به تمام الثقة أرته على الباب وعرفته خبره ـ وخرجت الرجال من الغرائر، فصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح، وقام عمرو على باب النفق، وأقبلت الزباء تريد النفق، فأبصرت عمراً، فعرفته بالصورة التي صورت لها، فمصت خاتمها وكان فيه السم، وقالت: بيدي لا بيد ابن عدي. فذهبت كلمتها مثلاً. وتلقها عمرو فجللها بالسيف وقتلها، وأصاب ما أصاب من المدينة وأهلها، وانكفأ راجعاً إلى العراق. ـ يقول الطبري: إن عمرو قدم على الزباء بأربعة آلاف رجل، محملين بالصناديق، على ألفي جمل ـ .
قال الطبري: وكان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغاراً، وأشدهم حزماً، وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وسرى بالجيوش، وكان به برص، فكنوا عنه بالوضاح إجلالاً له. وكانت منازله بين الحيرة والأنبار وهيت وعين التمر وأطراف النبر إلى العمق والقطقطاينة وجفنة. وكانت تجبى إليه الأموال، وتفد علي الوفود، وغزا في بعض الأيام طسماً وجديساً في منازلهم باليمامة، وكان أكثر غزو جذيمة للعرب العاربة. وكان قد تكهن، وادعى النبوة، وعمل صنمين يقال لهما: الضيزنان.
قصة مولد عمرو بن عدي فهي:
كانت منازل إياد بعين أباغ ـ سميت باسم رجل من العمالقة نزل بها ـ وكان جذيمة كثيراً ما يغزوهم حتى طلبوا مسالمته. وكان بينهم غلام من لخم من بني أختهم واسمه: عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحرث بن مسعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم. وكان له جمال وضرب، وطلبه منهم جذيمة فامتنعوا من تسليمه إليه، فألح عليهم بالغزو، وبعثت إياد من سرق لها الضيزنان ـ الصنمين ـ وعرفوه ان الصنمين عندهم، وأنهم يردونهما بشريطة رفع الغزو عنهم، فأجابهم إلى ذلك بشريطة أن يبعثوا مع الصنمين عدي بن نصر فكان ذلك. ولما جاء عدي استخلصه لنفسه وولاه شرابه، وهويته رقاش، وأحبته حباً جماً حتى راسلته، فدافعها وامتنع عنها بحجة أنه يخاف من جذيمة، فقالت له: اخطبني منه إذا أخذت الخمر منه واشهد عليه القوم، ففعل، وتزوجها من ليلته، ثم اعلم جذيمة الخبر، فعض على يديه آسفاً، وهرب عدي فلم يظهر له أثر، ثم سأل جذيمة رقاش في أبيات شعر معروفة، فأخبرته بما كان منه، فعرف عذرها وكف. وأقام عدي عند أخواله إياد إلى أن هلك. وولدت رقاش منه غلاماً، وسمته عمراً، وربي عند خاله جذيمة وكان يستظرفه. وكان من أمره مع الزباء ما فصناه.
قال الطبري: وعمرو بن عدي أول من اتخذ الحيرة منزلاً من ملوك العرب، وأول من تجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر. ولم يزل عمرو ملكاً حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، مستبداً منفرداً يغزوهم ويغنم، وتفد عيه الوفود، ولا يدين لملوك الطوائف ولا يدينون له. وملوك اليمن لم يكن لهم ملك مستفحل، وإنما كانوا طوائف على المخاليف، يغير كل واحد على صاحبه إذا استغفله، ويربع خوف الطلب. حتى كان عمرو بن عدي فاتصل له ولعقبه الملك على من كان بنواحي العراق وبادية الحجاز، فاستعمله ملوك فارس على ذلك إلى آخر أمرهم.
ثم ملك بعد عمرو امرؤ القيس بن عمرو خمساً وثلاثين سنة.
ثم ملك أخوه الحارث بن عمرو سبعاً وثمانين سنة.
ثم ملك عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي أربعين سنة.
ثم ملك المنذر بن امرئ القيس، وهو محرق، وإنما سمي محرقاً لأنه أخذ قوماً حاربوه فحرقهم، فسمي لذلك محرقاً.
ثم ملك النعمان بن امرئ القيس، وأمه شقيقة بنت ربيعة بن ذهل بن شيبان، وهو صاحب الخورنق. ويقول بن خلدون: إن سبب بنائه إياه أن يزدجرد الأثيم دفع إليه ابنه بهرام جور ليربيه، وأمره ببناء هذا الخورنق مسكناً له وأسكنه إياه. ويقال: إن الصانع الذي بناه كان اسمه سنمار، وإنه لما فرغ من بنائه ألقه من أعلاه فمات، من أجل محاورة وقعت، اختلف الناس في نقلها واله أعلم بحصتها. وذهب ذلك مثلاً بين العرب في قبح الجزاء.
وكان النعمان هذا من أفحل ملوك آل نصر، وكانت له سنانان إحداهما للعرب والأخرى للفرس. وكان يغزو بهما بلاد العرب بالشام ويدوخها. وبينما هو جالس يوماً ينظر من الخورنق إلى ما بين يديه من الفرات وما عليه من النخل والأجنة والأشجار، إذ ذكر الموت فقال: وما ينفع هذا مع نزول الموت وفراق الدنيا! فتنسك، واعتزل الملك. وإيه عني عدي بن زيد بقوله:
وتفكر رب الخورنق إذ اشـ
ـرف يوماً وللهدى تفكيرُ
سره حاله وكثرة ما يمـ
ـلك والبحرُ معرضٌ والسديرُ
فارعوى قلبه وقال وما غبـْ
ـطةُ حي إلى الممات يصير؟
وملك بعده المنذر بن النعمان ثلاثين سنة.
ثم ملك عمرو بن المنذر، وهو الذي قتل الحارثُ بن ظالم عنده خالد بن جعفر بن كلاب، فنذر دمه، وطلبه، فطلب الحارث ابنه، وكان مسترضعاً في آل سنان، فقتله.
ثم ملك عمرو بن المنذر الثاني، وهو ابن هند، وكان يلقب مضرط الحجارة، وكان قد جعل الدهر يومين، ويماً يصيد فيه، ويوماً يشرب، فإذا جلس لشربه أخذ الناس بالوقوف على بابه، حتى يرتف مجلس الشراب، فقال فيه طرفة بن العبد:
فيت لنا مكان الملك عمرو
رغوثاً حول حجرتنا تخورُ
قسمت الدهر في زمن رخي
كذاك الدهر يعدل أو يجورُ
من الزمرات أسبل قادماها
فضرتها مركنة درورُ
لعمرك ن قابوس بن هندٍ
ليخلط ملكه نوكٌ كثيرُ
لنا يومٌ وللكروان يومٌ
تطيرُ البائسات ولا نطيرُ
فما يومهنّ فيومُ سوءٍ
تطاردهن بالخسف الصقورُ
وما يومنا فنظل ركباً
وقوفاً لا نحلّ ولا نسيرُ
ولم يزل طرفة يهجوه ويهجو أخاه قابوساً، ويذكرهما بالقبيح، ويشبب بأخت عمرو، ويذكرها بالعظيم، فكان مما قال فيهما:
إن شرار الملوك قد علموا
طراً وأدناهم من الدنس
عمروٌ وقابوس وابن أمهما
من يأتهم للخنا بمحتبس
يأت الذي لا تخاف سبتهُ
عمرو وقابوس قينتا عرُس
يصبح عمرو على الأمور وقد
خضخض ما للرجال كالفرس
وكان المتلمس حليفاً لطرفة، فكان يساعده على هجائه، فقل لهما عمرو: قد طال ثواكما، ولا مال قبلي، ولكن قد كتبت لكما إلى عاملي بالحبرين يدفع لكل واحد منكما مائة ألف درهم، فأخذ كل واحد منهما صحيفة، فاستراب المتلمس بأمره، فلما صارا عند نهر الحيرة لقيا غلاماً عبادياً فقال له المتلمس: أتحسن ن تقرأ؟ قال: نعم! قال: اقرأ هذه الصحيفة! فإذا فيها: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه، فطرح الصحيفة وقال لطرفة: في صحيفتك مثل هذا، قال: ليس يجترئ على قومي بهذا، وأنا بذلك البلد أعز منه. فمضى طرفة إلى عامل البحرين، فلما قرأ صحيفته قطع يديه ورجليه وصلبه.
ثم ملك أخوه قابوس بن المنذر.
ثم ملك المنذر بن المنذر أربع سنين، وكان هؤلاء الملوك من قبل الأكاسرة، يؤدون إليهم الطاعة، ويحملون الخراج. وكانت قبائل معد مجتمعة عليهم، وكان أشدها امتناعاً غطفن وأسد بن خذيمة، وكان يأتيهم الرجل من معد على جهة الزيارة، فيحيونه، ويكرمونه، وكان ضمن إياهم من رؤساء القبائل الربيع بن زياد العبسي، والحارث بن ظالم المري، وسنان بن أبي حارثة، والنابغة الذبياني الشاعر، وكانت الموك تعظم الشعراء، وترفع أقدارهم، لما يبقون لهم من المح والذكر، فكان النابغة مقدماً عند ملوكهم، ثم شبب بامرأة المنذر في قصيدته التي يقول فيها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
فنذر المنذر دمه، فهرب إلى الشام إلى ملوك غسان ثم اعتذر إليه.
وكان مع المنذر أهل بيت من بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تيم، وكان من أهل هذا البيت عدي بن زيد العبادي، وكان خطيباً شاعراً قد كتب بالعربية والفارسية، وكان المنذر قد جعل عندهم ابنه النعمان، فأرضعوه، وكان في حجورهم، فكتب كسرى إلى المنذر أن يبعث له بقوم من العرب يترجمون له الكتب، فبعث بعدي بن زيد وأخوين له، فكانوا في كتاب كسرى يترجمون له.
فلما مات المنذر، قال كسرى لعدي بن زيد: هل بقي أحد من أهل هذا البيت يصلح للملك؟ قال: نعم! إن للمنذر ثلاثة عشر ولداً، كلهم يصلح لما يريد الملك، فبعث فأقدمهم، وكانوا من أجمل أهل بيت المنذر، إلا النعمان فكان أحمر أبرش قصيراً. فأنزلهم عدي بن زيد كل واحد على حدة، وكان يكرم ويفضل أخوة النعمان عليه، ويريهم أنه لا يرجوه، ويخلو بهم رجلاً رجلاً ويقول لهم: إن سألكم الملك هل تكفوني العرب؟ فقولوا له: لن نكفيكهم إلا النعمان. وقال عدي للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك فقل: إن عجزت عنهم فأنا عن العرب أعجز.
وكان من بني المنذر رجل يقال له: الأسود، وكانت أمه من بني الربا، وكان من الرجال، وكان يحضنه أهل بيت من الحيرة يقال لهم: بنو مينا، كانوا أشرافاً، وفيهم رجل يقال له: عدي بن أوس بن مرينا، كان مراداً شاعراً، فقال للأسود بن المنذر ـ أخي النعمان ـ : إنك قد عرفت إني لك راج، وإن طلبتي إليك ورغبتي أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله ما ينصحك أبداً. فلم يلتفت الأسود إلى قوله. فلما أمر كسى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم رجلا رجلاً، فكان كسرى يرى رجالاً ما رأى مثلهم فإذا سألهم: هل تكفوني ما كنتم تكفون؟ قالوا: لن نكفيك العرب إلا النعمان. فلما دخل عليه النعمان رأى رجلاً وسيماً، فكلمه فقال: هل تستطيع أن تكفيني العرب؟ قال: نعم! قال: فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز! فملكه، وكساه، وألبسه اللؤلؤ، فلما خرج وقد ملك، قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود: دونك قد خالفت الرأي.
ثم إن عدي بن أوس أمر قوماً من أصحاب النعمان وخاصته أن يذكروا عدي بن زيد عنده ويقولوا: إنه يزعم أن الملك عامله، وإنه هو ولاه، ولولاه ما ولي، وكلاماً نحو هذا، فلم يزالوا يتكلمون بحضرة النعمان حتى أحفظوه وأغضبوه على عدي بن زيد، فكتب النعمان إلى عدي: عزمت عليك إلا زرتني! فاستأذن كسرى وقدم عليه، فلما وصل حبسه النعمان في حبس.
وكان لعدي أخوان يقال لأحدهما أبي والآخر سمي، وكانا عند كسرى، وأحدهما كان يحب صلاحه، والآخر يسره هلاكه. وجعل عدي يقول الشعر في محبسه ويستعطف النعمان، ويذكر له حرمته، ويعظه بذكر الملوك المتقدمين، فلم ينفعه ذلك. وجعل أعداؤه من آل مرينا يحرضون النعمان عليه ويقولون له: إن أفلت قتلك، وكان سب هلاكك، فلما يئس عدي أن يجد عند النعمان خيراً كتب إلى أخيه:
أبلغ أبياً على نأيه
وهل ينفع المرء ما قد علمْ
بأن أخاك شقيق الفؤا
دِ وكنت به والهاً ما سلمْ
لدى ملك موثق بالحديـ
ـدِ إما بحق وإما ظلمْ
فلا تلفين كذاك الغلا
م إلا تجد عارماً يعتزم
فأرضك أرضك إن تأتنا
تنم نومةً ليس فيها حلمْ
وكتب إلى ابنه عمرو بن عدي، وكانت له ناحية من كسرى:
لمن ليل بذي قبس طويلُ
عظيمٌ شقه حزنٌ دخيلُ
وما ظلم امرئ في الجيد غل
وفي الساقين ذو حلق طويلُ
ألا هبلتك أمك عمرو بعدي
أتقعد لا أفك ولا تصولُ
ألم يحزنك أن أباك عانٍ
وأنت مغيبٌ غلتك غولُ
تغنيك ابنةُ القين ابن جسرٍ
وفي كلب فيصحبك الشمولُ
فلو كنت الأسير ولا تكنه
إذا علمت معد ما أقولُ
وإن أهلك قد أبليت قومي
بلاء كله حسن جميلُ
وما قصرت في طب المعالي
فتقصرني المنية أو تطولُ
فقام أخوه وابنه ومن معهما إلى كسرى، فكلموه في أمر عدي، فكتب كسرى إلى النعمان يأمره بتخلية سبيله، ووجه ي ذلك رسولاً، فسأل أبي بن زيد الرسول أن يبتدأ بعدي. فابتدأ الرسول به، فقال عدي: إنك إن فارقتني قتلت! قال: كلا! إنه لا يجترئ النعمان على الملك. فبلغ النعمان مصير رسول كسرى إلى عدي، فلما خرج من عنده، وجه النعمان إلى عدي من قتله، فوضع على وجهه وسادة حتى مات، ثم قال النعمان للرسول، أن عدياً قد مات، وأعطاه وأجازه، وتوثق منه ألا يخبر كسرى إلا أنه وجده ميتاً، وكتب النعمان إلى كسرى أن عدياً مات.
وكان عمرو بن عدي يترجم الكتب لكسرى. وطلب كسرى جارية، ووصف صفتها، فلم توجد له، فقال له عمرو: أيها الملك! عند عبدك النعمان بنات له وقرابات على أكثر مما يطلب الملك، ولكنه يرغب بنفسه عن الملك ويزعم أنه خير منه، فوجه كسرى إلى النعمان يأمره أن يبعث إليه ابنته ليتزوجها، قال النعمان: أما في عين السواد وفارس ما بلغ الملك حاجته؟ فلما انصرف الرسول خبر كسرى بقول النعمان، فقال كسرى: وما يعني بالعين؟ قال عمرو بن عدي بن زيد: أراد البقر، ذهاباً بابنته عن الملك. فغضب كسرى وقال؛ رب عبد قد صار إلى أكبر من هذا.
وأمسك عنه كسرى شهراً، ثم كتب إليه بالقدوم عي، فعلم النعمان ما أراد، فحمل سلاحه وما قوي عيه، ولحق بجبلي طي، وكانت سعدى بنت حارثة عنده، فسأل طيئاً أن يمنعوه من كسرى! فقالوا: لا قوة لنا به. فانصرف عنهم، وجعلت العرب تمتنع من قبوله حتى نزل ببطن ذي قار، في بني شيبان، فلقي هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، فدفع إليه سلاحه، وأودعه بنته وحرمته، ومضى إلى كسرى، فنزل ببابه، فأمر كسرى به فقيد، ثم وجه به إلى خانقين، فلقيه عمرو بن عدي بن زيد، فقال: يا نعيم ـ تصغيراً به وتحقيراً له ـ لقد شددت لك أواخي لا يقلعها إلا المهر الأرن. فقال: أرجو أن تكون قد قرنتها بقارح. ثم طرحه إلى الفيلة فداسته، وقرب للأسود فأكلته.
ووجه كسرى إلى هانئ بن مسعود: أن أبعث إليّ ما عبدي الذي عندك وسلاحه وبناته، فلم يفعل هانئ، فوجه إليه كسرى بجيش، فاجتمعت ربيعة، وكانت وقعة ذي قار الشهيرة، فمزقت العرب العجم، وكان أول يوم ظفرت فيه العرب بالعجم. وكانت سنة ثلاثة من البعثة.
ويروى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنه قال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا.
وذكر البيهقي: أن دين بني نصر كان عبادة الأوثان، وأول من تنصر منهم النعمان بن الشقيقة. وقيل: بل النعمان الأخير. وملكت العرب بتلك الجهات ابنة المنذر، فقتله جيش أبي بكر.
وفي تواريخ الأمم: ن جميع ملوك الحيرة من بني نصر وغيرهم خمسة وعشرون ملكاً، في نحو ستمائة سنة، والله أعلم.