ابن بطوطة في الشام وكلام ابن تيميّة
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص155-157
2025-12-21
19
عند ما سافر ابنُ بطوطة إلى دمشق، التقي ابن تيميّة هناك؛ وبعد حديثه عن قضاة دمشق، يقول: حِكَايَةُ الْفَقِيهِ ذِي اللَّوْثَةِ. ثمّ قال: وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقيّ الدين بن تيميّة كبير الشام؛ يتكلّم في الفنون إلَّا أنّ في عَقْلِهِ شَيئاً.
وكان أهل دمشق يعظّمونه أشدّ التعظيم، ويعظهم على المنبر؛ وتكلّم مرّة بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر، فأمر بإشخاصه إلى القاهرة. وجُمَع القضاةُ والفقهاء بمجلس الملك الناصر؛ وتكلّم شرف الدين الزَّوَاويّ المالكيّ، وقال: أنّ هذا الرجل قال كذا وكذا، وعدّد ما أنكر على ابن تيميّة، وأحضر العقود بذلك، ووضعها بين يدي قاضي القضاة.
وقال قاضي القضاة لابن تيميّة: ما تقول؟ قال:لَا إلَهَ إلَّا اللهُ؛ فأعاد عليه، فأجاب بمثل قوله، فأمر الملك الناصر بسجنه، فسجن أعواماً؛ وصنّف في السجن كتاباً في تفسير القرآن سمّاه ب- «البحر المحيط» في نحو أربعين مجلّداً.
ثمّ أنّ امّه تعرّضت للملك الناصر، وشكت إليه، فأمر بإطلاقه، إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية؛ وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع، ويذكّرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: أنّ اللهَ يَنْزِلُ إلى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَنُزُولِي هَذَا، ونَزَلَ دَرَجَةً مِنْ دَرَجِ الْمِنْبَرِ.
فعارضه فقيه مالكيّ يعرف ب- ابنِ الزَّهْراء، وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه، وضربوه بالأيديّ والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشة حرير، فأنكروا على لباسها واحتملوه إلى دار عزّ الدين ابن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزّره بعد ذلك، فأنكر فقهاء المالكيّة والشافعيّة ما كان من تعزيره.
ورفعوا الأمر إلى ملك الأمراء سيف الدين تنكيز، وكان من خيار الأمراء وصلحائهم، فكتب إلى الملك الناصر بذلك، وكتب عقداً شرعيّاً على ابن تيميّة بامور منكرة. وبعث العقد إلى الملك الناصر، فأمر بسجن ابن تيميّة بالقلعة، فسجن بها حتى مات في السجن.[1]
يستبين لنا ممّا تقدّم بكلّ صراحة: أنّ ابن تيميّة كان يقول بالتجسيم؛ وتمثيله بنزوله درجة من المنبر يفيدنا جيّداً أنّ القصد من النزول هنا هو النزول المكانيّ تَعَإلى الله عَنْ ذَلِكَ. وفي ضوء ذلك فإنّ ما ذكره محمّد بَهْجَت الْعَطَّار في كتاب «حياة ابن تيميّة»- من أنّ ابن بطوطة عند ما كان في دمشق، كان ابن تيميّة محبوساً في قلعة دمشق، فالذي تكلّم بذلك الكلام على منبر دمشق شخص آخر غيره ظنّه ابن بطوطة أنه ابن تيميّة- كلام في غير موضعه، وتبرير لا يمكن قبوله.
إذ كيف يخفي ابن تيميّة على ابن بطوطة فلا يعرفه، ويظنّه شخصاً آخر، وهو معروف بالفراسة والكياسة والسوابق؟ هذا مع كافّة المواصفات التي ذكرها ابن بطوطة في هذه القصّة.
ناهيك عن أنّ ابن بطوطة كان رحّالة؛ وله كتاب «رحلة ابن بطوطة» حول هذه الأسفار وأمثالها. ومن المعلوم أنّ السوّاح الذين يدوّنون رحلاتهم وأسفارهم، يسجّلون مشاهداتهم اليوميّة في حينها ولا يؤخّرونها لئلّا ينسوا شيئاً منها، ويضبطون كافّة الخصوصيّات. وقد أقام ابن بطوطة مدّة في دمشق؛ ولو كانت هذه القضيّة غير مرتبطة بابن تيميّة. فإنّها لم تكن لتخفى، بل ينشر خبرها في دمشق فيسجّلها ابن بطوطة في رحلته.
وهذه الرحلة تحظى بالاهميّة عند المؤرّخين، ومع هذا كلّه فإنّ غفلة ابن بطوطة عن هذا الأمر الواضح البيّن لا تغفر له.
مضافاً إلى كلّ ما مرّ من كلام، فما هو الدافع لنا أن نقدّس ابن تيميّة إلى هذه الدرجة سالكين طرقاً وعرة ومطبّات عويصة بغية تبرير أخطائه! وهو الذي شهد بزيغه الفكريّ علماء الإسلام كافّة؛ حتى أنّ ابن بطوطة نفسه قد رأي خللًا ونقصاً في عقله، وذكره تحت عنوان الْفَقِيهُ ذُو اللَّوْثَة.
هذه أخطاء ابن تيميّة، وابن عبد الوهّاب، كلّها ناتجة عن التزمّت، والتعنّت، والجمود على الظاهر، وعدم التعقّل في آيات الله.
فلقد تعلّما كلمة واحدة وهي: لا يمكن أن نتجاوز القرآن والسنّة النبويّة؛ ولكن ما هو القرآن، وكيف يجب أن نفهمه منه؟ وكيف نفسّر القرآن، وهو كتاب للعمل ومنهج للعلم يستضيء به الحكماء وذوو الالباب في العالم حتى فناء الدنيا وقيام القيامة؟ إنّهما وأمثالهما لا يفهمون أبداً.
يقولون: وجَاءَ رَبُّكَ، أي أنّ الله يمشي ويذهب ويجيء.
[1] «رحلة ابن بطوطة» طبع دار صادر، دار بيروت، 1384 هـ، ص 95 و96.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة