تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
نظرية الكم وبنية المادة
المؤلف:
فيرنر هايزنبرج
المصدر:
الفيزياء والفلسفة ـ ثورة في العلم الحديث
الجزء والصفحة:
ص145
2025-05-15
29
طرأ على مفهوم المادة في تاريخ الفكر البشري تغيرات كبيرة، كما قدمت الأنساق الفلسفية المختلفة تفسيرات متباينة لهذا المفهوم كل هذه المعاني المختلفة لهذه الكلمة أعني المادة" ما زالت قائمة، بدرجات متفاوتة في عصرنا الحاضر.
في سعي الفلسفة اليونانية القديمة، بدءا من طاليس وانتهاء بفلاسفة الذرة نحو مبدأ يوحد كل الأشياء في متغير كلي، شكّل مفهوم المادة الكوني جوهر العالم، الذي نختبر به كل هذه التحولات، من هذا الجوهر تصدر كل الأشياء الفردية وتتحول إليها ثانية. وقد تم تحديد هذه المادة جزئيا، وجزئيا فقط، بمادة محددة مثل الماء والهواء أو النار، لأنها ليس لديها أي خاصية أخري كونها هي المادة التي يصنع منها الأشياء.
كان التفكير في المادة، بعد ذلك، وبخاصة في فلسفة أرسطو، من خلال العلاقة بين الصورة والمادة. فكل ما ندركه حسيا في هذا العالم من ظواهر حولنا هو مادة اتخذت صورة ما فالمادة ذاتها ليست واقعا بل هي ممكنة فقط "بالقوة" فوجودها يتحدد من خلال الصورة أما الجوهر" في العملية الطبيعية، كما يطلق عليها أرسطو، يتحول من مجرد وجود ممكن بالقوة عبر الصورة إلــى وجــود بالفعل. إن المادة عند أرسطو ليست بالتأكيد مادة محددة مثل الماء أو الهواء، وليست مجرد مكان فارغ بسيط، بل هي نوع من القوام المادي غير المحدد، الذي يجسد إمكانية التحول إلى الوجود بالفعل عن طريق الصورة، والأمثلة النموذجية لهذه العلاقة بين المادة والصورة في فلسفة أرسطو تكمن في العمليات البيولوجية حيث تتشكل المادة لتصبح كاننا حيا، وتبني وتشكل نشاط الإنسان. إنها بمثابة تمثال من الرخام قبل أن ينحته النحات.
بدءا من فلسفة ديكارت ، بعد ذلك، تم التفكير في المادة على أنها مقابل العقل. فقد كان ثمة وجهان متممان للعالم "المادة" و"العقل"، أو كما وضعها ديكارت "الشيء الممتد" و "الشيء المفكر"، ولما كانت المبادئ المنهجية الجديدة للعلوم الطبيعية، ولا سيما الميكانيكا، قد استبعدت رد أي من الظواهر المادية إلى قوة روحية، فلا يمكن النظر في المادة باعتبارها حقيقة مستقلة عن العقل أو عن أي قوة خارقة للطبيعة. كانت المادة" في هذه الحقبة مادة قد تم تشكيلها، فضلاً عن تفسير عملية التشكل تلك على أنها سلسلة من التفاعلات الآلية. وبالتالي فقدت كل علاقة يمكن أن تقوم بينها وبين النفس النامية في الفلسفة الأرسطية، وبالتالي أصبحت ثنائية المادة والصورة، حيث لم تعد تربط بينهما أية علاقة. هذا هو مفهوم المادة الذي يمثل الأساس في استخدامنا الحالي لكلمة " المادة".
وأخيرا لعبت ثنائية أخري دورا ما في العلوم الطبيعية للقرن التاسع عشر، ثنائية بين المادة والقوة، فالمادة هي ما تعمل عليه القوة، أو المادة يمكن أن تنتج قوى، فالمادة تنتج مثلا قوة الجاذبية، وهذه القوة تعمل على المادة. فالمادة والقوة وجهان للعالم ولكنهما متمايزان بعضهما عن بعض. أما بالنسبة لاحتمال أن تكون القوة مجرد قوى صورية، فإن هذا التمييز يقترب من التمييز الأرسطي بين المادة والصورة من جهة أخري، لم يعد لهذا التمييز بين المادة والقوة وجود في التطورات المعاصرة للفيزياء الحديثة، لأن كل مجال من مجالات القوة يحتوي على طاقة، وهي التي تشكل المادة حتى الآن، فلكل مجال من مجالات القوى يوجد نوع معين من الجسيمات الأولية التي لها خصائص كل الوحدات الذرية الأخري للمادة نفسها.
عندما تبحث العلوم الطبيعية في مشكلة المادة، فإنها تقوم بذلك فقـط مــن خلال دراسة صورة المادة. إن التنوع اللانهائي والتغير الذي لحق صورة المادة يجب أن يكون موضوعا مباشرا للبحث، ولا بد أن توجه الجهود نحو إيجاد بعض القوانين الطبيعية، وتوحيد بعض المبادئ التي يمكن أن تكون بمثابة دليل أو مرشد في هذا المجال الهائل. لذا ركزت العلوم الطبيعية، لا سيما الفيزياء، جل اهتمامها فترة طويلة على تحليل بنية المادة والقوة المسؤولة عن هذه البنية.
كانت التجربة تمثل المنهج الأساسي للعلوم الطبيعية منذ عصر جاليليو. هذا المنهج مكننا من الانتقال من الخبرة العامة إلى الخبرة النوعية، ومكننا أيضا من أن نختار من بين الوقائع المميزة في الطبيعة التي يمكن دراسة قوانينها بشكل مباشر مقارنة بالخبرة العامة. فإذا ما أردنا دراسة بنية المادة فعلينا أن نجري تجارب على المادة ذاتها علينا أن نعرض المادة لشروط قاسية من أجل دراسة تحولاتها على أمل أن نعثر على السمات الجوهرية للمادة التي تظل قائمة تحت كل التغيرات الظاهرة
كان هذا هو موضوع الكيمياء في العهود الأولى للعلوم الطبيعية الحديثة، وقد أدى هذا المسعى في وقت مبكر نسبيا إلى مفهوم العنصر الكيميائي، فقد كان يسمي الجوهر الذي لا يمكن أن يحل أو يتحطم بأي من الوسائل المتاحة للكيميائي - الغليان والحرق والذوبان، والمزج بجواهر أخري، وما إلى ذلك، تسمي عنصرا، وكان تقديم هذا المفهوم خطوة أولى نحو فهم بنية المادة. لقد تم رد التنوع الهائل للجواهر، على الأقل، إلى عدد أقل نسبيًا من جواهر أكثر أولية، أو عناصر، وبالتالي أمكن إقامة نوع من النظام بين الظواهر المتباينة للكيمياء، وبناء على ذلك، استخدمت كلمة "ذرة للدلالة على أصغر وحدة من المادة تنتمي إلى العنصر الكيميائي، أما أصغر جسيم من المركب الكيميائي فيمكن تصوره على أنه مجموعة صغيرة من ذرات مختلفة، فأصغر جسيم لعنصر الحديد، مثلا، هو ذرة ،الحديد، وأصغر جسيم للماء هو جزيء الماء، ويتكون من ذرة أكسجين وذرتين هيدروجين.
أما الخطوة التالية التي تكاد تقترب في أهميتها من الخطوة الأولى، فهي اكتشاف حفظ الكتلة في العملية الكيميائية. فعندما يتم حرق عنصر الكربون إلى ثاني أكسيد الكربون، فإن كتلة هذا الأخير تساوي حاصل جمع كتلتي الكربون والأكسجين قبل عملية الاحتراق، وكان هذا هو الاكتشاف الذي أضفى معنى على مفهوم المادة: يمكن قياس المادة عن طريق كتلتها بعيدا عن الخصائص الكيميائية.
خلال الفترة التالية، لا سيما في القرن التاسع عشر، تم اكتشاف عدد قليل من العناصر الكيميائية الجديدة، وقد بلغ عدد العناصر الآن في عصرنا الحاضر مائة عنصر. وقد أظهر هذا التطور بوضوح تام أن مفهوم العنصر الكيميائي لـم يصل بعد إلى النقطة التي يمكن من خلالها أن نفهم وحدة المادة، لم يكن هذا مرضيا للاعتقاد بوجود أنواع كثيرة جدا من المادة تختلف بطريقة نوعية، دون أية رابطة تربط بينها.
أما في بداية القرن التاسع عشر، فقد ظهرت بعض الأدلة على وجـود علاقة تربط بين العناصر المختلفة، وقد تم العثور على هذه العلاقة في حقيقة أن الأوزان الذرية للعناصر المختلفة كثيرا ما تبدو في أغلب الأحيان، مضاعفات صحيحة لوحدة صغرى تقترب من الوزن الذري للهيدروجين. كان ثمة ملمح آخر يشير إلى تشابه في السلوك الكيميائي لبعض العناصر تؤدي إلى الاتجاه نفسه، لكن الأمر يتطلب فقط اكتشاف للقوى أكبر بكثير من تلك المطبقة في العمليات الكيميائية، قبل أن نثبت العلاقة بين العناصر المختلفة ومن ثم تؤدي إلى توحيد للمادة بحيث أصبحت أكثر انغلاقا.
تم العثور بالفعل على هذه القوى في العملية الإشعاعية التي اكتشفها بيكريل Becquerel عام 1896، وقام كل من كوري وروزفورد وغيرهم، بأبحاث متعاقبة أوحت بتحول العناصر في العملية الإشعاعية تنبعث جسيمات ألفا في هذه العمليات كشظايا من الذرات لها طاقة تبلغ نحو مليون ضعف طاقة جسيم ذري واحد مفرد في عملية كيميائية. لذا، يمكن استخدام هذه الجسيمات أدوات جديدة لبحث البنية الداخلية للذرة. وكانت النتيجة النموذج النووي للذرة الذى قدمه روز فورد عام 1911 نتيجة تجاربه على استطارة أشعة ألفا. كانت أهم سمة من سمات هذا النموذج الشهير فصل الذرة إلى قسمين مختلفين اختلافا واضحا، نواة الذرة وقشرة الإلكترونات المحيطة، ولا تحتل النواة في منتصف الذرة سوي جزء صغير للغاية من المساحة التي تشغلها الذرة (فقطرها أصغر مائة ألف مرة من قطر (الذرة ولكنها تشتمل على كتلة الذرة تقريبا، وتحدد شحنتها الكهربائية الموجبة وهي تساوي أضعافا صحيحة لما يسمي بالشحنة الأولية، وهي التي تحدد عدد الإلكترونات المحيطة. فالذرة ككل يجب أن تكون محايدة كهربائيا ، كما تحدد شكل مداراتها.
أدى هذا التمييز بين نواة الذرة وقشرتها الإلكترونية على الفور إلى تفسير صحيح لحقيقة أن العناصر الكيميائية في الكيمياء، هي الوحدات الأخيرة للمادة، وأن تحول العناصر لبعضها بعضا يحتاج إلى قوى شديدة للغاية. أما الرابطة الكيميائية التي تربط بين ذرتين متجاورتين وتفاعل القشرات الإلكترونية، وطاقة هذا التفاعل، فهي صغيرة نسبيا. فالإلكترون الذي يتم تعجيله في أنبوب تفريغ بجهد لا يزيد على بضع فولتات له من الطاقة ما يكفي لإثارة القشرة الإلكترونية لأن ينبعث عنها ،شعاع أو للقضاء على الرابطة الكيميائية في جزيء. لكن السلوك الكيميائي للذرة، رغم كونه يتألف من سلوك القشرات الإلكترونية، فإنه يتحدد بشحنة النواة، فإذا ما رغبنا في تغيير النواة، علينا أن نغير الخصائص الكيميائية، وهذا يتطلب طاقات أكبر من مليون ضعف تقريبا.
على أن النوذج النووي للذرة، على أية حال، ليس قادرا على تفسير ثبات الذرة، إذا ما اعتقدنا في نظام يخضع لميكانيكا نيوتن كما أشرنا في الفصل السابق، فتطبيق نظرية الكم على هذا النموذج من خلال عمل بور، هو وحده مـــا يفسر حقيقة أن ذرة الكربون، مثلا، بعد تفاعلها مع ذرات أخرى، أو بعد أن ينبعث منها شعاعا تبقي في نهاية المطاف ذرة كربون لها القشرات الإلكترونية نفسها التي كانت لها من قبل. يمكن تفسير هذا الثبات، ببساطة، عبر تلك الخصائص في نظرية الكم، والتي تحول دون أن نصف بنية الذرة وصفا موضوعيا بسيطا في المكان والزمان.
بهذه الطريقة أصبح لدينا في النهاية أساسا واحدًا لفهم المادة. فمن الممكن أن نفسر الخصائص الكيميائية للذرات وغيرها من الخصائص، عبر تطبيق النهج الرياضياتي لنظرية الكم على القشرة الإلكترونية، يمكن على هذا الأساس أن نحاول توسيع مجال تحليل بنية المادة في اتجاهين متضادين، فمن الممكن دراسة التفاعل بين الذرات وعلاقاتها بالوحدات الأكبر مثل الجزيئات أو البلورات الكائنات البيولوجية، وإما أن نحاول من خلال البحث في نواة الذرة ومكوناتها، النفاذ إلى الوحدة النهائية للمادة. وقد سار البحث في كلا الاتجاهين خلال العقود الأخيرة وسنحاول في الصفحات التالية أن نوجه مزيدا من الاهتمام بدور نظرية الكم في هذين المجالين.
إن القوي بين ذرتين متجاورتين هي، في المقام الأول، قوي كهربائية، حيث تتجاذب الشحنات المتضادة وتتنافر الشحنات المتماثلة. فالإكترونات تنجذب نحو النواة وتتنافر عن بعضها بعضا . لكن هذه القوى لا تعمل وفقا لقوانين الميكانيكا النيوتونية، بل وفقا لقوانين ميكانيكا الكم.
وهذا يقودنا إلى نوعين مختلفين من الروابط بين الذرات. في النوع الأول يمر الإلكترون من ذرة إلى أخرى، مثلاً، يملأ فراغ في قشرة الكتـرون مغلقة تقريبا، وفي هذه الحالة تصبح الذرتان مشحونتين وتشكلان ما يطلق عليه الفيزيائيون الأيونات. فلما كانت شحنتاهما متضادتين فإنهما يتجاذبان.
أما النوع الثاني فإن الإلكترون ينتمي إلى كلتا الذرتين، وهذا ما يميز نظرية الكم. فإذا ما استخدمنا صورة مدار الإلكترون، يمكننا القول إن الإلكترون يدور حول النواتين مستغرفًا الوقت نفسه في كلا الذرتين. وهذا النوع الثاني من الارتباط يتطابق مع ما أطلق عليه الكيمائيون رابطة التكافؤ .
هذان النوعان من القوي، قد يحدثان في أي خليط ، ويتسببان في تشكيل تجمعات مختلفة من الذرات ويبدو أنهما مسؤولان في نهاية المطاف عن البنى المعقدة للمادة التي يتم دراستها في الفيزياء والكيمياء. وتتشكل المركبات الكيميائية عبر مجموعات صغيرة مغلقة من الذرات المختلفة، كل مجموعة منها تمثل جزيئا واحدًا من جزيئات المركب. أما تكوين البلورات فيرجع إلى ترتيب الذرات في نظام شبكي. وتتشكل المعادن عندما تعبأ الذرات بإحكام، بحيث يمكن لإلكتروناتها الخارجية أن تترك قشرتها وتجول خلال البلورة بأكملها، كما أن المغناطيسية ترجع إلى حركة دوران الإلكترون، وهلم جرا.
في كل هذه الحالات ما زالت الثنائية بين المادة والقوة باقية، لأننــا مــن الممكن أن نعتبر النواة والإلكترونات شظايا من مادة حفظتها القوى الكهرومغناطيسية معا بهذه الطريقة وصلت الفيزياء و الكيمياء معا إلى وحدة تكاد تكون كاملة بالنسبة لعلاقتهما ببنية المادة. في حين تتعامل البيولوجيا مع بني من نوع أكثر تعقيدا وتختلف بعض الشيء. صحيح أنه على الرغم من كمال الكائن الحي فمن المؤكد أننا لا يمكن أن نضع حدا فاصلا بين المادة الحية وغير الحية. وقد قدم لنا تطور البيولوجيا عددا كبيرا من الأمثلة التي تمكنا من رؤية وظائف بيولوجية معينة تميز جزيئات خاصة كبيرة للغاية، أو مجموعات أو سلاسل من هذه الجزيئات، وأن ثمة اتجاها متزايدا في مجال البيولوجيا الحديثة لتفسير العمليات البيولوجية باعتبارها نتائج لقوانين الفيزياء والكيمياء. لكن هذا النوع من الثبات الذي تظهره الكائنات الحية هو من طبيعة مختلفة نوعا ما عـن ثبات الذرات أو البلورات. فهو ثبات العملية أو الوظيفة أكثر من ثبات الصورة، لا شك أن قوانين نظرية الكم تلعب دورا مهما للغاية في الظواهر البيولوجية، فمثلا تلك القوي الكمومية النظرية الخاصة التي توصف، بشكل غير دقيق، عبر مفهوم التكافؤ الكيميائي، ضرورية لفهم الجزيئات العضوية وانماطها الهندسية المختلفة، وقد بينت إلى حد ما، التجارب التي أجريت على الطفرات البيولوجية الناتجة عن الإشعاع مدي أهمية القوانين الكمومية النظرية الإحصائية، ووجود آليات مبالغ فيها. إن التشابه الوثيق بين عمل جهازنا العصبي وأداء الحاسبات الإلكترونية الحديثة يؤكد مرة أخرى أهمية العمليات الأولية الفردية في الكائنات الحية. لكن كل هذا لا يثبت بعد أن الفيزياء والكيمياء، جنبا إلى جنب مع مفهوم التطور، ستقدم يوما ما وصفا كاملا للكائنات الحية. وعلى هذا يجب على العالم الذي يجري تجارب على العمليات البيولوجية، أن يكون حذرا مقارنة بنظرائه في الفيزياء والكيمياء. وكما أشار إلى ذلك بور فإنه يبدو صحيحا أننا لا نستطيع أن نقدم وصفا للكائنات الحية يكون من وجهة نظر الفيزيائي كاملا، لأن هذا يتطلب تجارب تتداخل بقوة، مع الوظائف البيولوجية. وصف بور هذا الوضع بقوله إننا نهتم في البيولوجيا بمظاهر الاحتمالات في الطبيعة التي نحن جزء منها أكثر من اهتمامنا بنتائج التجارب التي من الممكن أن نؤديها بأنفسنا، ووضع التتام الذي تلمح له هذه الصيغة يتمثل باعتبارها اتجاها في مناهج البحث البيولوجي الحديث، الذي يستغل كل نتائج الفيزياء والكيمياء، وعلى الجانب الآخر ، يستند على مفاهيم تشير إلى سمات الطبيعة العضوية التى ليست واردة في الفيزياء أو الكيمياء باعتبارها مفهوم الحياة ذاتها.
تابعنا حتى الآن تحليل بنية المادة في اتجاه واحد من الذرة إلى بني أكثر تعقيدا مؤلفة من عدة ذرات من الفيزياء الذرية إلى فيزياء الأجسام الصلبة، من الكيمياء إلى البيولوجيا. علينا الآن أن ننتقل إلى الاتجاه المعاكس فنتابع خط البحــث من الأجزاء الخارجية للذرة إلى الأجزاء الداخلية من النواة إلى الجسيمات الأولية.
وهذا الخط الذي ربما يقودنا إلى فهم وحدة المادة، ولا يلزم هنا أن نخشى من تجاربنا أن تقوض بنياتنا المميزة. وعندما يتعين علينا مهمة اختبار الوحدة النهائية للمادة، ربما تعرض المادة إلى أشد قوى ممكنة، إلى أقسى الظروف، من أجل معرفة ما إذا كان من الممكن أن تتحول أي مادة في نهاية المطاف إلى أي مادة أخري. كانت الخطوة الأولي في هذا الاتجاه هي التحليل التجريبي لنواة الذرة. ففي المرحلة الأولى لهذه الدراسات، والتي استغرقت العقود الثلاثة الأولى تقريبا من القرن العشرين كانت الأدوات الوحيدة المتاحة لإجراء تجارب على النواة هــي جسيمات ألفا المنبعثة من الأجسام المشعة. وقد نجح روز فورد في عام 1919 في تحويل نواة العناصر الخفيفة، فقد تمكن مثلاً، من تحويل نواة النيتروجين إلى نواة أكسجين وذلك بإضافة جسيم ألفا إلى نواة النيتروجين، مما أدى إلى إخراج بروتون واحد في الوقت نفسه، وكان هذا أول مثال لعمليات على نطاق النواة تذكرنا بالعمليات الكيميائية، ولكنه أدى إلى التحول الاصطناعي للعناصر. وكان التقدم الجوهري، كما هو معروف، يتمثل في التعجيل الاصطناعي للبروتونات بأجهزة ذات معدلات عالية من الجهد إلى طاقات تكفي لإتمام التحول النووي. وهذا يتطلب جهد يبلغ نحو مليون فولت، وقد نجح كل من كوكروفت Cockcroft و والتون Walton في أولى تجاربهما الحاسمة في تحويل نوى عنصر الليثيوم إلى نوى هليوم، وقد فتح هذا الاكتشاف مجالا جديدا تماما من البحث والذي يمكن أن نطلق عليه الفيزياء النووية بالمعنى الصحيح، والذي سرعان ما أدى إلى فهم نوعي لبنية نواة الذرة.
إن بنية النواة، في حقيقة الأمر، بنية بسيطة للغاية. فنواة الذرة تتألف من نوعين فقط من الجسيمات الأولية، أحدهما البروتون الذي هو، في الوقت ذاته، نواة ذرة هيدروجين، أما الآخر فيسمي النيوترون، وهو جسيم له كتلة قريبة من كتلة البروتون ولكنه ليس لديه شحنة كهربائية. وتتميز كل نواة بعدد البروتونات والنيوترونات التي تتألف منها. فنواة الكربون العادية مثلا تتكون من 6 بروتون و 6 نيوترون، وهناك نوى كربون أخرى أقل تكرارا في العدد (تسمي نظير الكربون)، والتي تتألف من 6 بروتون و 7 نيوترون وهلم جراء لقد وصلنا أخيرًا إلى وصف للمادة يتضمن ثلاث وحدات أساسية بدلاً من العناصر الكيميائية المختلفة، وهي: البروتون والنيترون والإلكترون. تتكون المادة من ذرات وبالتالي قامت المادة على هذه اللبنات الثلاث الأساسية، لكن لم يكن هذا يمثل وحدة المادة، بيد أنه بالتأكيد يمثل خطوة كبيرة نحو التوحيد والتبسيط، ولعل خطوة التبسيط تلك أكثر أهمية. كان الطريق الذي يتعين السير فيه ما زال طويلاً حيث معرفة لبنيتين من لبنات بناة النواة يمكننا من فهم كامل لبنيتها. لكن المشكلة هنا كانت مختلفة بعض الشيء عن مشكلة التطابق في القشور الخارجية للذرة التي تم حلها في منتصف العشرينيات. فقد كان معلوم لدنيا أن في القشور الإلكترونية قوي على درجة عالية من الدقة بين الجسيمات، وكان يتعين علينا العثور على قوانين الديناميكا، وقد تم العثور عليها في ميكانيكا الكم، بيد أن القوى بين الجسيمات لم تكن معروفة مسبقا، فكان من الضروري أن تشتق من الخصائص التجريبية للنواة إلا إن هذه المشكلة لم تحل حتى الآن بشكل كامل. يبدو أن هذه القوي ليست لها الصورة البسيطة التي للقوى الكهروستاتيكية في القشرات الإلكترونية، وبالتالي ثمة صعوبة رياضية لحساب الخصائص من القوى وعدم دقة التجارب، أدي هذا إلى أن أصبح التقدم أمرا عسيرا، لكن من المؤكد أننا توصلنا إلى فهم نوعي لبنية النواة.
المعقدة، تبقى إذن المشكلة الأخيرة، هي وحدة المادة، فهل تعد اللبنات الأساسية للبناء - البروتون والنيوترون والإلكترون - وحدات للمادة غير قابلة للتلف، أي الذرات بالمعنى الذي استخدمه ديمقريطس دون أية علاقة سوي علاقة القوى التي تعمل بينها، إم إنها مجرد صور مختلفة لنوع المادة نفسه؟ و هل يمكن أن تتحول بعضها إلى البعض مرة أخري أو ربما أيضا لصور أخري من المادة ؟ إن المعالجة التجريبية لهذه المشكلة تتطلب قوى وطاقات تركز على الجسيمات الذرية أكبر بكثير من تلك التي تلزم للبحث في النواة الذرية. ولما كانت الطاقات المخزونة في النوي الذرية ليست بالضخامة ما يكفي لتوفر لنا أداة لمثل هذه التجارب، فبات بالنسبة للفيزيائيين إما أن يعتمدوا على قوى ذات أبعاد كونية أو على براعة ومهارة المهندسين.
حدث تقدم فعلى في كلا المجالين. ففي الحالة الأولى استخدم الفيزيائيون مــا يسمى بالإشعاع الكوني. فالمجالات الكهرومغناطيسية على سطح النجوم الممتدة فوق مساحات هائلة، قادرة تحت ظروف معينة على تعجيل إلكترونات ونوي ذرية مشحونة، إلا إن النوي، بسبب قصورها الذاتي الهائل لديها فرصة أفضل للبقاء في مجال التعجيل المسافة أطول، فإذا ما تركت في نهاية المطاف سطح النجم إلى الفضاء الفارغ، تكون قد انتقلت بالفعل خلال جهد يبلغ عدة آلاف من ملايين الفولتات. وقد يكون هناك المزيد من التعجيل في المجالات المغناطيسية بين النجوم وعلى أية حال يبدو أن النوي تظل في فضاء المجرة لفترة طويلة بفضل تنوع المجالات المغناطيسية، لتملأ في نهاية المطاف، هذا الفراغ بما يسمى الإشعاع الكوني. هذا الإشعاع يصل إلى الأرض من الخارج ويتألف عمليا مــن نـــوي كل الأنواع، الهيدروجين والهليوم والعديد من العناصر الأقل، هذه النوي لها طاقات تبلغ ما يقرب من مئة مليون إلكترون فولت أو ألف مليون، وقد تصل في حالات نادرة إلى أكبر من ذلك بمليون مرة. وعندما تخترق جسيمات هذا الإشعاع الكوني الغلاف الجوي للأرض فإنها تصطدم بذرات النيتروجين أو ذرات الأكسجين في الغلاف الجوي أو تصطدم بالذرات في أي أجهزة تجريبية تتعرض للإشعاع.
أما المجال الآخر من البحث فهو تشييد ماكينات ضخمة للتعجيل، كان نموذجها الأول هو ما يسمى بالسيكلوترون الذي شيده لورانس في كاليفورنيا أوائل الثلاثينيات. كانت الفكرة الكامنة وراء هذه الماكينات هى الحفاظ على الجسيمات المشحونة عبر مجال مغناطيسي ضخم في حالة دوران في حلقة مفرغة أكبر قدر ممكن من المرات، لكنها تدفعها مرارا وتكرارا مجالات كهربائية في طريقها. هناك ماكينات تصل طاقاتها إلى وضع مئات من الملايين من الإلكترون فولت قيد الاستخدام في بريطانيا العظمى، وقد تم تشييد ماكينة ضخمة في جنيف والتي نأمل أن تصل طاقاتها إلى 25000 مليون إلكترون فولت وذلك من خلال التعاون مع اثنتي عشرة دولة أوروبية، وقد كشفت التجارب التي استخدمت الإشعاع الكوني أو المعجلات الضخمة سمات جديدة ومهمة للمادة. بالإضافة إلى اللبنات الثلاث الأساسية للمادة - البروتون والنيوترون والإلكترون إذا تم اكتشاف جسيمات أولية جديدة يمكن أن تنشأ عن تلك العمليات ذات طاقات عالية، وتختفي مرة أخري بعد فترة وجيزة. هذه الجسيمات الجديدة لها خصائص تشبه خصائص الجسيمات القديمة باستثناء عدم ثباتها، حتى الجسيمات الأكثر ثباتا لا يزيد عمرها على جزء من مليون جزء من الثانية، في حين يبلغ أعمار الجسيمات الأخري واحد على ألف أصغر، وقد عرف في وقتنا الحاضر نحو خمسة وعشرين جسيما أوليا جديدًا مختلفا، كان آخرها هو البروتون السالب.
تبدو هذه النتائج، للوهلة الأولى، بعيدة تماما عن فكرة وحدة المادة، حيث إن عدد الوحدات الأساسية للمادة قد ازدادت من جديد إلى قيم مماثلة لعدد من العناصر الكيميائية المختلفة. ولكن هذا لا يمكن أن يكون تفسيرا صحيحا، حيث أظهرت التجارب، في الوقت ذاته، أنه لا يمكن أن تنشأ الجسيمات من جسيمات أخرى أو ببساطة من الطاقة الحركية لمثل هذه الجسيمات وبالتالي يمكن أن تنحل مرة ثانية إلى جسيمات أخرى، وقد أظهرت النتائج بالفعل الطبيعة التحولية الكاملة للمادة. فكل الجسيمات الأولية تستطيع، إذا ما توفر لها طاقات عالية بالقدر الكافي، أن تتحول إلى جسيمات أخرى، أو يمكن لها أن تنشأ من الطاقة الحركية، ويمكن أن تفنى متحولة إلى طاقة أو إلى شعاع مثلاً. لذا نحن هنا فعليا لدينا برهان نهائي على وحدة المادة. فكل الجسيمات الأولية مصنوعة من الجوهر نفسه، لذا يمكن أن نطلق على هذا الجوهر الطاقة أو المادة الكونية، إنها مجرد صورتين مختلفتين يمكن للمادة أن تظهر بهما.
وإذا ما قمنا بمقارنة هذا الوضع مع المفاهيم الأرسطية للمادة والصورة، يمكننا القول إن مادة أرسطو، هي مجرد مادة بالقوة، وينبغي أن نقارنها بمفهومنا للطاقة، تلك التي تصبح واقعا عبر الصورة عندما تنشأ الجسيمات الأولية.
بطبيعة الحال لم ترض الفيزياء الحديثة عن هذا الوصف النوعي للبنية الأساسية للمادة، وكان يتعين عليها أن تحاول الوصول إلى صيغة رياضياتية للقوانين الطبيعية تحدد "صورة" المادة، والجسيمات الأولية وقواها على أساس تجريبي. لم يعد ثمة تمييز واضح بين المادة والقوة في هذا الجزء من الفيزياء لأن الجسيم الأولي لا يقتصر على إنتاج بعض القوى ولا تؤثر فيه بعض القوى، في حين أنه يمثل في الوقت ذاته مجالا معينا من القوة. فالثنائية النظرية الكمية للموجات والجسيمات قد جعلت الوجود ذاته يظهر باعتباره مادة وقوة.
إن كل محاولات العثور على وصف رياضياتي للقوانين المتعلقة بالجسيمات الأولية حتى الآن، تبدأ من نظرية الكم للمجالات الموجية. فقد بدأ البحث النظري في مثل هذه النظريات في أوئل الثلاثينيات، إلا إن البحوث الأولى في هذا المجال كشفت عن صعوبات خطيرة تكمن جذورها في الجمع بين نظرية الكم ونظرية النسبية الخاصة. قد يبدو للوهلة الأولى أن النظريتين، نظرية الكم ونظرية النسبية، تشيران إلى جوانب مختلفة للطبيعة بحيث لا نجد عمليا أية علاقة بينهما، وأنه من السهولة بمكان أن نفي بمتطلبات النظريتين في صورية واحدة، على أننا إذا أمعنا الفحص سيظهر أن النظريتين تتداخلان في نقطة واحدة، وأن الصعوبات جميعها تنشأ
عن هذه النقطة. كشفت نظرية النسبية الخاصة عن بنية المكان والزمان والتي تختلف بعض الشيء عن البنية التي افترضتها بشكل عام الميكانيكا النيوتونية. أما السمة المميزة لهذه البنية المكتشفة الجديدة هي وجود سرعة قصوى لا يمكن لأي جسم. متحرك أو إشارة متحركة أن تتجاوزها هذه السرعة هي سرعة الضوء. ونتيجة لهذا، إذا وقع حدثان في نقطتين متباعدتين ولا تجعمعهما أية رابطة سببية مباشرة، فإذا ما وقعا في وقت واحد وانطلقت إشارة ضوئية فور وقوع أحدهما عند نقطة ما، فإن هذه الأشارة لا تصل إلى النقطة الأخرى إلا بعد وقوع الواقعة الأخري، والعكس أيضا صحيح في هذه الحالة يمكن أن نقول إن الواقعتين متزامنتان. ولما كان من غير الممكن لأي فعل أيا كان نوعه أن يصل من واقعة عند نقطة ما في زمان ما إلى الواقعة الأخرى عند النقطة الأخرى فإن الواقعتين لا ترتبطان بأي فعل سببي.
لهذا السبب، فإن أي فعل من هذا النوع على مبعدة، مثل قوى الجاذبية في الميكانيكا النيوتونية، لا يتوافق مع نظرية النسبية الخاصة. فكان على النظرية أن تحل محل هذا الفعل من نقطة إلى أخرى من نقطة معينة فقط إلى نقاط في الجوار المتناهي الصغر. كانت التعبيرات الرياضياتية الأكثر طبيعية لمثل هذا الفعل هي المعادلات التفاضلية للموجات أو الحقول الثابتة لتحويل لورنتز، فمثل هذه المعادلات التفاضلية المختلفة تستبعد أي فعل مباشر بين الوقائع المتزامنة". لذا تسم التعبير عن بنية المكان والزمان في نظرية النسبية الخاصة بحيث يقتضي ضمنا حذا صارمًا للغاية بين منطقة التزامن والتي لا يمكن أن ينتقل فيها أي فعل، والمناطق الأخري حيث يمكن أن ينتقل فعل مباشر من واقعة إلى واقعة أخرى.
من جانب آخر، نجد أن علاقات اللايقين في نظرية الكم قد وضعت حدا واضحا للدقة التي يمكن أن نقيس بها بشكل متزامن المواضع وكمية الحركة، أو الزمان والطاقة، ولما كانت الحدود الفاصلة تعني الدقة اللانهائية فيما يتعلق بالموضع في المكان والزمان، فلا بد من أن تبقى كمية الحركة أو الطاقات غير محددة تماما. أو في حقيقة الأمر لا بد لكمية الحركة والطاقات العالية من أن تحدث باحتمالية غامرة، لذا فإن أية نظرية تحاول الوفاء بمتطلبات كل من النسبية الخاصة ونظرية الكم ستؤدي إلى تناقضات رياضياتية، واختلافات في منطقة الطاقات وكمية الحركة العالية للغاية، قد لا يبدو هذا التسلسل من الاستنتاجات ملزما تماما، لأن أي صورية من هذا القبيل الذي يهمنا معقدة للغاية وربما وفرت بعض الاحتمالات الرياضياتية لتجنب الصدام بين نظرية الكم والنسبية. لكن حتى الآن كل الأنظمة الرياضياتية التي تم تجريبها في الواقع تؤدي إما إلى اختلافات، أعني تناقضات رياضياتية، أو لا تستوفي شروط النظريتين، وقد كان من السهل أن نرى أن الصعوبات تأتي بالفعل من النقطة التي ناقشناها.
كانت الطريقة التي تم بها مقاربة النهوج الرياضياتية للوفاء بمتطلبات نظريتي النسبية والكم مثيرة للاهتمام حقا، فأحد تلك النظم، مثلاً، عندما نحاول تفسيره بمصطلحات الوقائع الفعلية في المكان والزمان، فإنه يقود إلى نوع من ارتداد الزمان والتنبؤ بعمليات تنشأ فيها فجأة جسيمات في نقطة ما في المكان، وتتم توفير الطاقة لها فيما بعد عبر عملية تصادم أخرى بين الجسيمات الأولية في نقطة ما أخرى. كان الفيزيائيون على قناعة من تجاربهم أن عمليات من هذه القبيل لا تحدث في الطبيعة، أو على الأقل لا تحدث إلا إذا تم الفصل بين العمليتين بمسافات قابلة للقياس في المكان والزمان. ثمة نهج رياضياتي آخر حاول أن يتجنب الاختلافات من خلال عملية رياضيائية تسمي إعادة التطبيع، إذ بدا من الممكن الدفع باللامتناهيات إلى المكان في الصورية، بحيث لا نتمكن من التدخل في إقامة علاقات واضحة المعالم بين تلك الكميات التي يمكن ملاحظتها مباشرة. وقد أدى هذا النظام، في حقيقة الأمر، إلى إحراز تقدم كبير للغاية في الديناميكا الكهربائية الكمية، لأن هذا النظام يبدي بعض التفاصيل المثيرة للاهتمام فيما يتعلق بطيف الهيدروجين الذى لم يكن مفهوما من قبل. إن التحليل الدقيق لهذا النهج الرياضياتي، جعل، مع ذلك، إمكانية أن تكون تلك الكميات التي يتم تفسيرها في نظرية الكم العادية مجرد احتمالات، أن تصبح تحت ظروف معينة سلبية في صورية إعادة التطبيع. وهذا من شأنه الحيلولة دون استخدام الصورية لوصف المادة.
لم نعثر بعد على الحل النهائي لمثل هذه الصعوبات. وسوف يظهر حلا يوما ما من مجموعة تجريبية أكثر دقة عن الجسيمات الأولية المختلفة، عن نشأتها واندثارها، عن القوى بينها . ربما ينبغي لنا أن نتذكر في البحث عن الحلول الممكنة لهذه الصعوبات، أنه من غير الممكن تجريبيا، أن نستبعد انعكاس الزمان الذي ناقشناه من قبل، إذا ما وقعت فقط داخل مناطق صغيرة للغاية من المكان والزمان خارج نطاق أدواتنا التجريبية الحالية بطبيعة الحال سنتردد في قبول مثل هذه العمليات من انعكاس الزمان إذا ما كان هناك إمكانية، في مرحلة لاحقة في الفيزياء أن نتعقبها تجريبيا بالمعنى نفسه الذي نتعقب به الوقائع الذرية العادية. إلا إن تحليل نظريتي الكم والنسبية ربما يساعدنا مرة أخري على أن تنظر للمشكلة من منظور جديد.
ترتبط نظرية النسبية بثابت كوني في الطبيعة هذا الثابت يحدد العلاقة بين المكان والزمان، ومن ثم فهو يوجد ضمنا في أي قانون طبيعي يحقق متطلبات ثابت لورنتز، إن لغتنا الطبيعية الدارجة ومفاهيم الفيزياء الكلاسيكية تنطبق فقط على الظواهر التي تعتبر سرعة الضوء، من الناحية العملية، لا نهائية.
عندما نقترب من سر عة الضوء في تجاربنا علينا أن نكون مستعدين نتائج لا يمكن تفسيرها بهذه المفاهيم.
ترتبط نظرية الكم بثابت كوني آخر في الطبيعة، وهـو كـم فعل بلانك Plank's Quantum of Action. إن الوصف الموضوعي للوقائع في المكان والزمان ممكن فقط إذا ما تعاملنا مع الأشياء أو العمليات على نطاق واسع نسبيا.
حيث يمكن اعتبار ثابت بلانك متناه في الصغر . فإذا ما اقتربنا بتجاربنا من هذه المنطقة التي يصبح فيها كم الفعل أساسيًا، فإننا نصل إلى تلك الصعوبات مع المفاهيم المعتادة التي ناقشناها في الفصول السابقة من هذا الكتاب. لا بد من وجود ثابت كوني ثالث في الطبيعية. هذا يبدو واضحا لأسباب خالصة تتعلق بالأبعاد. فالثوابت الكونية هي التي تحدد ميزان الطبيعة، والكميات المميزة التي لا يمكن ردها إلى كميات أخري. نحن في حاجة إلى ما لا يقل عن ثلاث وحدات أساسية لتشكيل وحدة كاملة من السهولة بمكان أن نفهم ذلك من المصطلحات التي اتفق عليها الفيزيائيون لنظام (س. ج. (ث) (سينتميتر - جرام - ثانية) فوحدة الطول ووحدة الكتلة ووحدة الزمان تكفي لتشكيل مجموعة كاملة، بل لا بد من أن يكون لدينا ثلاث وحدات على الأقل. ويمكننا أن نستبدل بها وحدات للطول والسرعة والطاقة وهلم جراء بيد أنه يلزم على الأقل وجود ثلاث وحدات أساسية. والآن، فإن سرعة الضوء وثابت بلانك للفعل يقدمان فقط وحدتين من الوحدات الثلاث الأساسية، ومن ثم كان لا بد من وجود الوحدة الثالثة، وإن أية نظرية يمكن أن تتضمن هذه الوحدة الثالثة لا يمكنها أن تحدد ما أمكن كتل وخصائص أخري للجسيمات الأولية. فإذا ما انطلقنا في الحكم من معرفتنا الحالية لهذه الجسيمات فإن أنسب طريقة لتقديم هذا الثابت الكوني الثالث هي افتراض وجود طول كوني قيمته نحو 10سم ، أي أقل قليلا من نصف قطر النواة الذرية للضوء. عندما نشكل مثل هذه الوحدات الثلاث فإن هذا سيكون تعبيرا عن تطابق مع أبعادها الكتلة ، وأن مرتبتها من نفس مرتبة حجم كتل الجسيمات الأولية.
إذا افترضنا أن قوانين الطبيعة تشتمل على ثابت كوني ثالث له بعد الطول و مرتبته 310 سم، عندئذ يمكن أن نتوقع مرة أخري أن مفاهيمنا المعتادة يمكن أن تنطبق على المناطق من المكان والزمان التي هي من الضخامة مقارنة بالثابت الكوني. ينبغي إذن أن نكون على استعداد مرة أخرى لظواهر ذات طابع نوعي جديد، وأن نقترب بتجاربنا من مناطق في المكان والزمان أصغر من أنصاف أقطار النواة. أما ظاهرة انعكاس الزمان والتي ناقشناها والتي نتجت فقط عن اعتبارات رياضياتية باعتبارها احتمالا ،رياضياتيا، ربما تنتمي إلى هذه المناطق بالغة الصغر. إذا كان ذلك كذلك، فإنه يتعذر علينا أن نلاحظها بطريقة تسمح لنا بوصفها باستخدام المفاهيم الكلاسيكية. ربما هذه العمليات التي تخضع للترتيب الزمني المعتاد يمكن ملاحظتها ووصفها بقدر ما، بالمصطلحات الكلاسيكية. لكن كل هذه المشكلات هي موضوع بحث مستقبلي في الفيزياء الذرية. وقد يحدونا الأمل في أن الجهود المشتركة للتجارب في مجال الطاقة العالية مع التحليل الرياضياتي، سيؤديان يوما إلى فهم كامل لوحدة المادة، وأعني بعبارة "فهم كامل" أن صور المادة في الفلسفة الأرسطية ستبدو ،نتائج وحلولا للنهج الرياضياتي المغلق الذي يمثل القوانين الطبيعية للمادة.