1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

الفضائل

الاخلاص والتوكل

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة

الايمان واليقين والحب الالهي

التفكر والعلم والعمل

التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس

الحب والالفة والتاخي والمداراة

الحلم والرفق والعفو

الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن

الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل

الشجاعة و الغيرة

الشكر والصبر والفقر

الصدق

العفة والورع و التقوى

الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان

بر الوالدين وصلة الرحم

حسن الخلق و الكمال

السلام

العدل و المساواة

اداء الامانة

قضاء الحاجة

فضائل عامة

آداب

اداب النية وآثارها

آداب الصلاة

آداب الصوم و الزكاة و الصدقة

آداب الحج و العمرة و الزيارة

آداب العلم والعبادة

آداب الطعام والشراب

آداب الدعاء

اداب عامة

حقوق

الرذائل وعلاجاتها

الجهل و الذنوب والغفلة

الحسد والطمع والشره

البخل والحرص والخوف وطول الامل

الغيبة و النميمة والبهتان والسباب

الغضب و الحقد والعصبية والقسوة

العجب والتكبر والغرور

الكذب و الرياء واللسان

حب الدنيا والرئاسة والمال

العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين

سوء الخلق والظن

الظلم والبغي و الغدر

السخرية والمزاح والشماتة

رذائل عامة

علاج الرذائل

علاج البخل والحرص والغيبة والكذب

علاج التكبر والرياء وسوء الخلق

علاج العجب

علاج الغضب والحسد والشره

علاجات رذائل عامة

أخلاقيات عامة

أدعية وأذكار

صلوات و زيارات

قصص أخلاقية

قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)

قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم

قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)

قصص من حياة الصحابة والتابعين

قصص من حياة العلماء

قصص اخلاقية عامة

إضاءات أخلاقية

الأخلاق والأدعية والزيارات : الفضائل : الحلم والرفق والعفو :

الحلم والغضب

المؤلف:  الشيخ ناصر مكارم الشيرازي

المصدر:  الأخلاق في القرآن

الجزء والصفحة:  ج3/ ص337-366

2025-02-13

194

تنويه :

(الغضب) من أخطر الحالات والانفعالات في الإنسان التي إذا لم يتصدّ الإنسان لضبطها والسيطرة عليها فإنّها قد تظهر بشكل جنوني على سلوكيات الفرد وتفقده أيّة سيطرة على أعصابه ، وحتى أنّ الكثير من السلوكيات الخطرة والجرائم الكثيرة في حركة الإنسان في حياته الاجتماعية تكون بدافع الغضب ويترتب عليه دفع كفّارة وضريبة ، وبعكسه ، نرى صفة الحلم وهي من الصفات الاخلاقية الحميدة ، ونرى القرآن الكريم قد اهتم بهذه الصفة أيما اهتمام ، وقد وردت في الآية 134 من سورة آل عمران يصف فيها المتقين حيث ذكرت بعد صفة الانفاق ، لما لهذه الصفة من آثار ايجابية على وضع الفرد والمجتمع. إنّ حالة الغضب كالنار المحرقة التي قد تأتي على الأخضر واليابس من حياة الإنسان وتكفي شرارة صغيرة منها إلى إحراق بيوت ومدن كاملة وتحويلها إلى رماد.

وإذا تصفّحنا التاريخ البشري فإننا نجد أنّ المشكلات الكثيرة التي ابتلت بها المجتمعات البشرية كانت بدافع من قوّة الغضب هذه حيث تسببت في الكثير من الحوادث المؤلمة والأزمات الخطيرة والخسارة الهائلة على المستوى الفردي والاجتماعي.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها دورساً وعبراً في خطر هذه الرذيلة الأخلاقية وكذلك بركات الحلم وآثاره الإيجابية في النقطة المقابلة لها :

1 ـ (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)([1]).

2 ـ (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)([2]).

3 ـ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)([3]).

4 ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)([4]).

5 ـ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)([5]).

6 ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)([6]).

7 ـ (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)([7]).

8 ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)([8]).

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» من الآيات محل البحث التي تتحدّث عن أوصاف طائفة من المؤمنين الصادقين الذين شملهم الله تعالى برحمته وعنايته الخاصة ، فتقول بعد أن تذكر إيمانهم وتوكّلهم على الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ).

وبعبارة اخرى : أنّ هؤلاء عند ما تشتعل في نفوسهم نار الغضب يتحرّكون على مستوى ضبطها والسيطرة عليها ولا يسمحون لأنفسهم بالتلّوث بأنواع الخطايا والذنوب لأجل ذلك.

إنّ ذكر هذه الصفة بعد مسألة التوقّي من الذنوب والآثام الكبيرة لعله بسبب أنّ حالة الغضب تقود النفس إلى التحرر من قيود العقل وتفكّ عن قوى الشر جميع الضوابط الأخلاقية والشرعية لتتحرّر وتنطلق في كل اتجاه.

ومن الملفت للنظر أنّ هذه الآية لا تقول : إنّ هؤلاء لا يغضبون ، لأنّ الغضب في مواجهة المصاعب اللاملائمات والتحدّيات هو حالة طبيعية لدى الإنسان ، بل تقرر أنّ هؤلاء في حال الغضب يتحركون من موقع السيطرة على حالة الغضب هذه وأن لا يخضع الإنسان لإيحاءات هذه القوة في نفسه وخاصة أنّ قوّة الغضب لا تقع دائماً في جانب الشرّ في الإنسان ولا تمثّل عنصراً سلبياً في دائرة السلوك المخرّب ، فأحياناً تكون قوّة مثمرة وبنّاءة كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد بإذن الله تعالى.

وتأتي «الآية الثانية» وبعد أن تستعرض وعد الله تعالى للمتّقين بالجنّة التي وسع عرضها السموات والأرض لتتحدّث عن أوصاف هؤلاء ، وأوّل صفة تذكرها لهؤلاء هي صفة الانفاق وتقول : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ثمّ تضيف الآية (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) وفي النتيجة : (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) فمن يعيش هذه الحالات الايجابية والقيم الأخلاقية فهو من المحسنين الذين تقول عنهم الآية في ذيلها : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها وعدت هؤلاء بعفو الله ومغفرته في حال صدور الخطأ منهم ، وأنّهم عند ما يتحرّكون صوب الانحراف وارتكاب الخطأ يتذكّرون الله تعالى ويستغفرونه فيشملهم الله بعفوه ومغفرته.

وهذا إشارة إلى أنّ هؤلاء كما أنّهم يتحرّكون في تعاملهم مع الآخرين من موقع العفو والصفح عن أخطاء الغير فإنّ الله تعالى كذلك يعفو عنهم ويصفح عن أخطائهم.

وعلى أيّة حال فإنّ (كظم الغيظ) في هذه الآية ورد بعنوان أحد الصفات الإيجابية المرموقة لهؤلاء المتّقين.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن حالة الغضب التي عاشها أحد الأنبياء الإلهيين ، وهو النبي يونس (عليه‌ السلام) تجاه امّته وقومه ، وهو الغضب المقدس في ظاهره ، ولكنّه في الواقع صادر من التسرع والاستعجال وعدم إدراك بواطن الامور ، ولهذا فإنّ الله تعالى قد جعله يواجه ظروفاً صعبة بسبب تركه للأولى وأخيراً فإنّ هذا النبي الكريم قد تاب من ترك الاولى ، وتقول الآية : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

وهكذا وبعد تحمّل صعوبات هائلة وقاسية قبل الله توبته ولم تستطع الحوت أن تهضمه في بطنها ، بل قذفته إلى الساحل بجسم نحيف وضعيف وهزيل ، أمّا ما هي المدّة التي مكث فيها يونس (عليه‌ السلام) في بطن الحوت؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين بين من يقول أربعين يوماً ، ومن يقول اسبوعاً واحداً وثلاثة أيّام ، وطبقاً لرواية عن الامام علي (عليه‌ السلام) أنّ المدّة تسع ساعات ، وعلى أيّة حال فإنّ هذه المدّة مهما طالت أو قصرت فإنّها ممّا لا تطاق حتى للحظة واحدة.

ولكن ما ذا هو ترك الأولى الذي ارتكبه النبي يونس (عليه‌ السلام) حتى استحق هذه العقوبة الشديدة ، رغم أننا نعلم أنّ الأنبياء معصومون عن الزلل والذنب؟

إنّ ما يتبادر إلى الذهن في البداية أنّ يونس (عليه‌ السلام) غضب على قومه الضالّين الذين لم يقبلوا دعوته الإلهية وتحرّكوا في مقابله من موقع العناد واللجاجة ، فمن الطبيعي أن يغضب يونس (عليه‌ السلام) لذلك ، ولكن هذا الغضب بالنسبة لنبي كبير مثل يونس (عليه‌ السلام) كان يعدّ من الترك للأولى ، أي كان الأولى له بعد اطّلاعه على وقت نزول العذاب الإلهي على قومه أن يبقى معهم إلى آخر لحظة ولا ييأس من هدايتهم ، فلو أنّ يونس (عليه‌ السلام) لم يغضب هناك فلعل قومه يسمعون لكلامه ويلبّون دعوته في آخر اللحظات ، والتجربة تؤيد هذا المعنى حيث انتبه قومه في اللحظات الأخيرة وتابوا إلى الله تعالى فقبل الله توبتهم وأزال عنهم العذاب.

فمثل هذا الغضب ليونس (عليه‌ السلام) (والذي لم يكون بدون دليل أيضاً) فإنّ الله تعالى لم يغفر لنبيّه ذلك وعاقبه بتلك العقوبة ، فكيف الحال فيما لو كان الغضب الذاتي للإنسان بدافع الحقد والانتقام والحسد والدوافع الرذيلة الاخرى؟

ومن البديهي أنّ المراد من غضب يونس (عليه‌ السلام) هنا هو غضبه على قومه الظالمين والفاسقين ، والمراد من العبارة (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) هو أنّ يونس (عليه‌ السلام) تصوّر أنّ تركه لقومه لم يكن عملاً سيئاً بحيث يستلزم كل تلك العقوبة والتوبيخ ، والمقصود من اعتراف يونس (عليه‌ السلام) بظلمه هو ظلمه لنفسه الذي قاده إلى هذه النتيجة الصعبة.

وأمّا الآيات التي تستعرض الحلم من موقع الثناء والتمجيد والمدح فهي كالتالي :

«الآية الرابعة والخامسة» من الآيات محل البحث يستعرض القرآن الكريم حالات النبي إبراهيم (عليه‌ السلام) من موقع وصفه بعنوان : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) و (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ، فالعبارة الاولى وردت في واقعة رفض آزر (عم إبراهيم) لدعوة إبراهيم للتوحيد ورفض الأصنام واستغفار إبراهيم (عليه‌ السلام) له ، والثانية وردت في قصّة إخبار الملائكة لإبراهيم عن العذاب الإلهي النازل على قوم لوط وطلب إبراهيم الخليل (عليه‌ السلام) من الله تعالى أن يخفّف عذابهم أو يمهلهم أكثر من ذلك.

«أوّاه» تأتي بمعنى الرحيم والحنون ، والذي يتحرّك قلبه لهداية قومه وامّته.

وعلى أيّة حال فإنّ ما ورد في القرآن الكريم من وصف النبي إبراهيم (عليه‌ السلام) ب «أواه حليم) و (أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) يبيّن الرابطة الوثيقة بين هاتين الصفتين ، ويدلّ على أنّ كظم الغيظ والسيطرة على الغضب والتحرّك من موقع الحلم والمحبّة تجاه الآخرين حتّى لو كانوا مجرمين والسعي لإنقاذهم من الخطيئة والعقوبة كل ذلك يعدّ من الصفات الإيجابية البارزة للأنبياء الإلهيين.

إنّ النبي إبراهيم (عليه‌ السلام) لم يكن حليماً تجاه عمّه آزر فحسب ، بل حتى بالنسبة إلى قوم لوط (عليه‌ السلام) الذين كانوا قد غرقوا في ذلك الوحل العفن من الخطيئة حيث نرى إبراهيم (عليه‌ السلام) ينطلق من قلب متحرّك ليرفع عنهم العذاب أو يؤجله إلى إشعار آخر كيما يتسنى لهم الخلاص من ادران هذه الخطيئة وترك ذلك السلوك الشائن ويسيروا في خط الإيمان والتقوى والانفتاح على الله.

ولكنّ الأمر الإلهي كان قد صدر بحقهم رغم أنّ إبراهيم (عليه‌ السلام) قد أظهر هذه الرحمة والشفقة تجاه عمّه أو قوم لوط لأنّهم لم يكونوا قابلين للهداية وخاصة ما كان عليه قوم لوط من الخطيئة المزمنة حيث أصابهم العذاب الإلهي أخيراً.

«الآية السادسة» تستعرض إحدى المواهب الإلهية الكبيرة على إبراهيم وتقول : إنّ الله تعالى قد استجاب لإبراهيم (عليه‌ السلام) دعائه : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ).

واللطيف أنّ من بين جميع الصفات الإيجابية الكبيرة للإنسان ، فإنّ هذه تشير فقط إلى صفة الحلم لدى هذا الغلام العزيز لإبراهيم (عليه‌ السلام).

ويقول الراغب في مفرداته بأنّ : الحلم بمعنى ضبط النفس عند هيجان الغضب ، وبما أنّ هذه الحالة ناشئة من العقل فإنّه كلمّا وردت كلمة الحلم فإنّها قد يراد بها العقل أيضاً.

وهذه البشارة تحقّقت بالنسبة إلى إسماعيل (عليه‌ السلام) عند ما بلغ سن الرشد ووهبه الله العقل والحلم والنضج الكبير ، وذلك عند ما صدر الأمر الإلهي لإبراهيم بذبح ابنه اسماعيل كما تتحدّث الآيات التي بعد هذه الآية وتقول على لسان إسماعيل (عليه‌ السلام) : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) فنرى حالة التسليم المطلق أمام الأمر الإلهي ، وفي مقابل الذبح الذي صدر لإبراهيم.

وتأتي «الآية السابعة» لتبيّن صفات (عباد الرحمن) البارزة ، وتستعرض ضمن الحديث عن إثني عشر صفة من الصفات الكبيرة الأخلاقية وهذه الصفة خاصة وتقول : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً).

أي إذا واجههم الأشخاص الذين يعيشون الحمق والجهل والحقد بكلام غير مسؤول وألفاظ ركيكة فإنّ جوابهم لا ينطلق من موقع الانفعال والرد بالمثل ، بل يمرّون على كلامهم ذلك من موقع الحلم وسعة الصدر ورغم أنّ كلمة (حلم) لم ترد في هذه الآية ، ولكن المفهوم من مجموع الآية هو أنّ عباد الرحمن لا ينطلقون من موقع الانفعال والغضب للجاهلين الحوادث غير الملائمة وخاصة الكلمات غير المسؤولة للجاهلين والحاقدين ويجنبوا أنفسهم شرّ النزاع والصراع مع هؤلاء الأشخاص بأداة الحلم وسعة الصدر.

وقد ورد في الحديث الشريف في تفسير هذه الآية عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال يوماً لأصحابه (مضمون الحديث) : «هؤلاء جماعة من امّتي احبُّهُم وَيُحبُّونني سيأتون بعدكُم (ثم أخذ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) بذكر أوصافهم) ومن ذلك صفة الصبر والحلم وأنّهم يسلكون طريق الرفق والمداراة.

فقيل له : يا رسول الله هل يرفقون بغلمانهم؟

فقال (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : ليس لهم غلمان ، وإنّما يرفقون مع الجهّال والسفهاء : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)([9]).

والمراد من كلمة (سلام) هنا هو أنّهم يتعاملون مع الآخرين من موقع المسالمة لا من موقع الخشونة والتحدّي والرد بالمثل ولا يواجهون كلمات غير مسؤولة لأولئك الجاهلين إلّا من موقع عدم الاعتناء واللّامبالاة وكأنّما لم يسمعوها أصلاً.

«الآية الثامنة» والأخيرة من الآيات مورد البحث من سورة الأعراف تتحدّث عن ثلاثة أوامر مهمّة في خطابها للنبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) (باعتباره اسوة لجميع المؤمنين) وتقول : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

ومن الطبيعي أنّ الأعراض عن الجاهلين يأتي بمعنى الحلم والصفح وترك أي شكل من أشكال الخصومة والشجار ، بل يمكن القول أنّ الجملتين السابقتين في هذه الآية من الأمر بالعفو وقبول العذر والدعوة إلى الأخلاق الحسنة هي نوع من أنواع الحلم كذلك ، وبالتالي تدلّ وتشير إلى هذا المعنى أيضاً وأنّ سيرة النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) كانت كذلك في مقابل الجاهلين والمعاندين حيث كان يظهر أمامهم منتهى الصبر وسعة الصدر والتحمّل والحلم ، ولا يتملكه الغضب اطلاقاً مقابل ما يسمعه منهم من كلمات غير مؤدّبة وعبارات غير مسؤولة.

والآية التي تلي هذه الآية تقول : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)([10]).

يمكن أن تكون إشارة اخرى إلى هذا المعنى أيضاً وهو أنّ نار الغضب ما هي إلّا نزغ من نزغات الشيطان وعلى كل مؤمن أن يستعيذ بالله من هذه الحالة الشائنة.

والشاهد على ذلك ما ورد في الرواية الشريفة في تفسير روح البيان في ذيل هذه الآية وأنّه عند ما نزلت الآية السابقة وأمرت بالعفو والحلم أمام الجاهلين قال النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : «كَيفَ يا رَبِّ والغَضبُ» ([11]).

فنزلت الآية التي بعدها وأمرت النبي أن يستعيذ بالله من شرّ الشيطان الرجيم.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) يقول : إنّ أجمع آية من آيات القرآن لمكارم الأخلاق هي هذه الآية.

وهو كذلك واقعاً ، لأنّ هذه الآية تتضمّن العفو والصفح أمام جهل الآخرين وتدعو الناس جميعاً لفعل المعروف ، وكذلك مواجهة الجاهلين بالإعراض عنهم وعدم مجادلتهم والتحدّث معهم من موقع الانفعال ، فهذه التعاليم الثلاثة تعد ثلاث برامج مهمّة فيما يتعلّق بالحياة الاجتماعية للإنسان في حركة الحياة بحيث لو تسنى لأفراد المجتمع أن يترجموا هذه الدساتير الثلاثة على أرض الواقع ويجسّدوها في سلوكياتهم وأعمالهم فإنّ أكثر المشكلات الاجتماعية وما يترتب عليها من سلبيات اخرى ستجد طريقها إلى الحل.

ومن مجموع الآيات المذكورة آنفاً يتجلّى لنا أهميّة الحلم كفضيلة أخلاقية سامية ، وكذلك العواقب الوخيمة المترتبة على حالة الغضب الانفعالي والشيطاني.

الغضب في الروايات الإسلامية :

ونقرأ في الروايات الإسلامية تعبيرات عجيبة ومثيرة بالنسبة إلى الآثار السلبية للغضب وأضرار هذه الرذيلة الأخلاقية على حياة الإنسان الفردية والاجتماعية ، وقد اخترنا من بين الأحاديث الكثيرة اثني عشر حديثاً :

1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «الغَضَبُ جَمرَةٌ مِنَ الشّيطانِ» ([12]).

2 ـ وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أيضاً أنّه قال : «الغَضَبُ يُفسِدُ الإِيمانَ كَما يُفسِدُ الصَّبرُ العَسَلَ» ([13]).

3 ـ ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) يقول : «أَعدَى عَدُوٍّ لِلمَرءِ غَضَبُهُ وَشَهوَتُهُ ، فَمَنْ مَلَكَهُما عَلَتْ دَرَجَتَهُ وَبَلَغَ غايَتَهُ» ([14]).

4 ـ وفي حديث آخر عن الإمام (عليه‌ السلام) نفسه قال : «الغَضَبُ نارٌ مُوقَدَةٌ مَنْ كَضَمَهُ أَطفَأَها وَمَنْ أَطلَقَهُ كانَ أَوَّلُ مُحتَرقٍ بِها» ([15]).

5 ـ وفي عبارة ناطقة وردت في حديث آخر عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) أنّه قال : «لَيسَ لإِبلِيسَ جُندٌ أَشَدُّ مِنْ النِّساءِ والغَضَبِ» ([16]).

6 ـ وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) في عبارة عميقة المعنى قوله : «الغَضَبُ مِفتاحُ كُلِّ شِرٍّ» ([17]).

7 ـ ونقرأ في أحد الأدعية المعروفة للصحيفة السجادية في بيان الإمام زين العابدين (عليه‌ السلام) لأخطار وأضرار الغضب وأنّها إلى درجة من الشدّة بحيث أنّ الإمام نفسه يستجير بالله منها ويقول : «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِكَ مِنْ هَيجانِ الحِرصِ وَسُورَةِ الغَضَبِ وَغَلَبَةِ الحَسَدِ وَضَعُفِ الصَّبرِ وَقِلَّةِ القَناعَةِ» ([18]).

8 ـ ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إِيَّاكَ وَالغَضَبَ فَأَوَّلُهُ جُنُونٌ وَآخِرُهُ نَدَمٌ» ([19]).

9 ـ وورد عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) في عبارة عميقة اخرى تتعلّق بالتقاطع بين الغضب والعقل ويقول : «عِندَ غَلَبَةِ الغَيظِ وَالغَضَبِ تُختَبَرُ حِلمُ الحُلُماءِ» ([20]).

10 ـ وأيضاً ورد في كلمات أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) عن عواقب الغضب الأليمة قوله : «عُقُوبَةُ الغَضُوبِ وَالحَقُودِ وَالحَسُودِ تَبدَءُ بِأَنفُسِهِم» ([21]).

11 ـ وورد عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّه قال : «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَورَتَهُ» ([22]).

12 ـ ونختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) ، رغم وجود أحاديث كثيرة عن المعصومين في هذا الباب : «أَي شيءٍ أَشَدُّ مِنَ الغَضَبِ إِنَّ الرَّجُلَ إِذا غَضَبَ يَقتُلُ النَّفسَ وَيَقذِفُ المُحصَنَ» ([23]).

الآثار السلبية والمخرّبة للغضب :

إننا قلّما نجد صفة من الصفات الرذيلة تتضمّن عناصر الشر والتخريب مثلما لرذيلة الغضب، ولو أننا كتبنا تفصيلاً عن الآثار السلبية للغضب لاتّضح لدينا أنّها أكثر من الرذائل الأخلاقية الاخرى ومن ذلك :

1 ـ ينبغي الالتفات قبل كل شيء إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ حالة الغضب تقع ضمن أعداء الإنسان حيث أنّه يفقد عقله تماماً في ثورة الغضب ويتحوّل إلى كائن غير منسجم التصرفات والحركات بحيث يتعجّب منه من حوله من الناس ، بل إنّ الإنسان نفسه وبعد هدوء هيجان الغضب يتعجّب من تصرفاته وسلوكياته الشائنة أثناء هذه الحالة ، وفي تلك الحال قد يهجم الشخص على أقرب المقرّبين إليه من دون أن يتعقّل ما ذا يفعل ، وقد يتسبب في تلوث يده بدماء الأبرياء أيضاً ، فيقتل ويحطّم ويسرق ويخرّب وكأنّه مجنون تماماً.

ولذلك ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قوله : «الغَضَبُ يُفسِدُ الألبابَ وَيُبعِدُ مِنَ الصَّوابِ» ([24]).

ولهذا السبب ورد في الروايات الإسلامية أنّه إذا أردتم أن تختبروا عقل الأشخاص وحنكتهم ورأيهم فعليكم بالنظر إليهم في حالة الغضب ومدى سيطرتهم على أنفسهم من شرّ هذه القوّة الهائجة ، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «لا يَعرِفُ الرَّأيُ عِندَ الغَضَبَ» ([25]).

2 ـ إنّ الغضب يؤدّي إلى اضمحلال إيمان الشخص وتلاشيه ، لانّ الشخص عند ما تمتلكه الحدّة فلا يرتكب الذنوب الكبيرة فقط بل يخرج من الإيمان أيضاً لأن هذه الحالة تتقاطع تماماً مع الإيمان الصحيح والعميق ، بل أحياناً يتجرّأ هذا الشخص على الله تعالى أو يعترض على حكمه وتقديره للأمور ، وهذه المرحلة من أخطر المراحل التي تمر بالإنسان في حالة سورة الغضب.

وقد قرأنا الأحاديث السابقة أنّ رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قال : «الغَضَبُ يُفسِدُ الإِيمانَ كَما يُفسِدُ الصَّبرُ العَسَلَ».

3 ـ إنّ الغضب يعمل على تخريب منطق الإنسان وكلامه الموزون ، ويقوده إلى التلفظ بالباطل والكلمات اللّامسؤولة ، وعند ما يستند الغاضب مسند القضاء فإنّ حكمه سيكون غير سليم قطعاً ، ولذلك نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال: «شِدَّةُ الغَضَبِ تَغَيِّرُ المَنطِقَ وَتَقطَعُ مادَةَ الحُجَّةِ ، وَتَفَرِّقُ الفَهمَ» ([26]).

وقد ورد التصريح في آداب القضاء في الكتب الفقهية هذا المعنى أيضاً وأنّ القاضي لا ينبغي أن يجلس على كرسي القضاء في حالة الغضب.

وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قوله : «مَنْ ابتَلى بِالقَضاءِ فلا يَقضِي وَهُوَ غَضبان».

4 ـ والآخر من الآثار السلبية لحالة الغضب هو إشهارها لعيوب الإنسان الخفيّة ، لأنّ هذا الشخص في حالاته العادية يتحرّك من موقع السيطرة على قواه النفسية ، فلا تتجلّى عيوبه ونقاط ضعفه للآخرين ، بل تبقى مستورة ويحفظ بذلك سمعته وماء وجهه في أنظار الناس ، ولكن عند ما تستعر في نفسه نار الغضب ، فإنّها تزيل السواتر والأقنعة عن واقع الإنسان وتكسر قيود العقل وتظهر عيوب صاحبها الخفيّة وتؤدّي إلى سقوط شخصيته ومكانته بين الناس.

ولذلك ورد في درر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قوله : «بئسَ القَرِينُ الغَضَبُ يُبدِي المَعايبَ وَيُدنِي الشَّرَّ وَيُباعِدُ الخَيرَ» ([27]).

5 ـ إنّ الغضب بإمكانه أن يفتح طريق الشيطان للإنسان ويوقعه في شراكه ومصائده ، لأنّ الإيمان والعقل يعتبران مانعين مهمّين يصدّان هجمات الشيطان ، ولكنّهما في حالات الغضب سينكمشان ويدركهما الضعف وعدم الحيلة وبذلك ترتفع الموانع أمام الشيطان لينفذ بسهولة ويصل إلى قلب الإنسان ويحكم سيطرته على قواه ، ويفعّل عناصر الشر في نفسه وباطنه.

ونقرأ في الحديث المعروف : «أنّ نوح (عليه‌ السلام) لمّا دعا ربّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلى قَومِهِ أَتاهُ إِبلِيسُ لَعنَهُ اللهُ فَقالَ : يا نُوحُ إِنَّ لَكَ عِندِي يَداً ارِيدُ أَن اكافِيكَ عَلَيه ، فَقالَ لَهُ نُوحٌ (عليه‌ السلام) : إِنَّهُ لَيبغَض إِليَّ أَن يَكُونَ لَكَ عِندِي يد فَما هِي؟ قالَ : بلى دَعوتَ اللهَ عَلى قَومِكَ فَأَغرَقتَهُم فَلم يَبقَ أَحدٌ أَغويهِ فأَنا مُستَريحٌ حتّى يَنسقَ قرنٌ آخر وَاغويهِم ، فَقال نُوحٌ (عليه‌ السلام) : ما الّذِي تُريدُ أَن تُكافِينِي بهِ؟ قالَ : اذكُرنِي فِي ثَلاثِ مَواطِن فَإنّي أَقرَبُ ما أَكُونُ إِلى العَبدِ إذا كان في أحدهن : اذكُرنِي إِذا غَضِبتَ ، اذكُرنِي إِذا حَكَمتَ بَينَ اثنَينِ ، اذكُرنِي إِذا كُنتَ مَعَ امرأَةٍ خالياً لَيسَ مَعَكُما أَحَداً» ([28]).

ونقرأ في حديث آخر : «عَن ذي القَرنَين أَنّه لَقى مَلَكاً مِنَ المَلائِكَةِ فَقالَ عَلِمنِي عِلماً أَزدادُ بِهِ إِيماناً وَيَقِيناً ، قالَ : لا تَغضَبْ فإنَّ الشَّيطانَ أَقدَرُ ما يَكُونُ عَلى ابنِ آدمَ حِينَ الغَضَبِ» ([29]).

ولا شك أنّ الغضب مضافاً إلى هذه الآثار السيئة على المستوى المادي والاجتماعي والأخلاقي فإنّه تترتب عليه آثار معنوية سيئة كثيرة أيضاً بحيث يستفاد من الروايات المختلفة أنّ الشخص الذي يسيطر على غضبه ويكظم غيظه له ثواب الشهداء ([30]) ويحشر يوم القيامة مع الأنبياء ([31]) ويملأ قلبه من نور الإيمان ([32]).

أسباب ودوافع الغضب :

إنّ الغضب باعتباره ظاهرة روحية معقّدة له عوامل وأسباب مختلفة ، ومعرفة هذه العوامل والدوافع ضرورية في عملية الوقاية من أخطار هذه الحالة السلبية ، ومن جملة العوامل والأسباب لتفعيل هذه الحالة في نفس الإنسان وظهور آثارها السلبية الخطيرة هي :

1 ـ التسرع في الحكم : إنّ كل إنسان في حياته الفرديّة والاجتماعية يسمع يومياً بعض الأخبار غير المسّرة وقد يحكم عليها مباشرة من موقع حالة الغضب المستعرة في قلبه ، وقد يتصرف تصّرفاً أحمقاً ويرتكب بعض الأعمال الخطيرة وما أكثر ما يتبيّن عدم صحة الخبر أو على الأقل عدم مطابقته للواقعيات تماماً لدى التحقيق والتأنّي ، وبالتالي فلا مبرر له على الغضب والحدّة.

أجل فإنّ التسرّع في الحكم في مثل هذه المسائل يعدّ عاملاً مهمّاً لبروز حالة الحدّة والغضب على طول التاريخ وترتّب العواقب الوخيمة عليه.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قوله : «مَنْ طبائِعِ الجُّهالِ التَّسَرُّعُ إِلى الغَضَبِ فِي كُلِّ حالٍ» ([33]).

2 ـ ضيق الافق : إنّ الأشخاص الذين يعيشون سعة الصدر وكبر الروح وقوّة الشخصية وسعة الفكر فإنّهم يتحمّلون الحوادث الصعبة ويواجهون تحدّيات الواقع المرّة بكامل الوقار وحفظ النفس ، ولكنّ الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق فإنّهم ينفعلون بأقل حادثة غير ملائمة وأحياناً يخرج زمام امورهم من أيديهم ويتصرّفون تصّرفاً طائشاً.

والحديث الذي قرأناه آنفاً من أنّ سرعة الغضب والحدّة من أخلاق الجهّال هو إشارة إلى هذه الحقيقة أيضاً.

3 ـ التكبّر والغرور : إنّ الأشخاص الذين يعيشون روح التكبّر والغرور ، ويرغبون دائماً في أن يحفظ لهم الآخرون احترامهم ولا يتجاوزوا حدودهم ويقومون لهم حين دخولهم المجلس إكراماً لهم واحتراماً يرون لأنفسهم امتيازات خاصة على سائر الناس ، ولكن إذا لم يحصلوا على هذه التوقّعات ولم يجدوا في الناس ذلك الاحترام والإكرام فسوف تتحرّك فيهم حالة الغضب والحدّة ، في حين أنّ عنصر الشر موجود في باطنهم والعامل الأساس لشقائهم موجود في ذواتهم ولا ذنب للآخرين.

ونقل في الرواية عن السيد المسيح (عليه‌ السلام) ضمن بيانه لأسباب الغضب أنّه عدّ التكبّر والعجب والغرور من العوامل لذلك ([34]).

ونقرأ في حديث آخر عن السيد المسيح (عليه‌ السلام) أيضاً أنّ الحواريين قالوا له : «يا مُعَلمَ الخَيرِ ، عَلِّمنا أَيّ الأَشياءِ أَشَدُّ؟

فَقَالَ (عليه‌ السلام) : أَشَدُّ الأشياء غَضَبُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالُوا : فَبِمَ يُتَّقى غَضَبُ الله؟ قَالَ : بِأَنْ لا تَغضَبُوا.

قَالُوا : وَما بدء الغَضَبِ؟ قال (عليه‌ السلام) : «الكِبرُ والتَّجبُّرُ وَمَحقَرَةُ النّاسِ» ([35]).

4 ـ الحسد والحقد : إنّ الأشخاص الذين يعيشون الحسد والحقد تجاه الآخرين فإنّ المواد الأولية لهذه الحالات الذميمة موجودة في باطنهم كما يخزن البارود والديناميت في مخازن ولا يحتاج إلّا إلى شرارة خفيفة من الخارج حتى ينفجر بركان الغضب ويستولي على جميع كيانهم ، وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) يقول : «الحِقدُ مَثارُ الغَضَبِ» ([36]).

5 ـ الحرص وحبّ الدنيا : إنّ الأشخاص الذين يهيمون بحبّ الدنيا ويملأ وجودهم الحرص على تحصيل زخارفها وزبارجها ، فإنّهم لا يتحمّلون أن يجدوا أيّة مزاحمة وخسارة محتملة لمنافعهم الدنيوية ، ولذلك نجدهم يثورون لأتفه الأسباب فيما لو تعرّضوا لبعض الخسائر الطفيفة ، وبما أنّ الحياة الاجتماعية لا تخلو من أمثال هذه المزاحمات والمضايقات ، بل يمكن القول أنّ هذه المزاحمات والمضايقات جزء من كل يوم من أيّام الدنيا ، ولذلك نجد مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغضب والحدّة باستمرار وفيما لو لم يستطيعوا إبراز غضبهم في بعض الحالات فإنّ نار الغضب تستقر في ذواتهم وتحرق طاقاتهم الخيّرة وإمكاناتهم الإيجابية في عالم النفس.

وكما ورد في ذيل الحديث المذكور آنفاً عن السيد المسيح (عليه‌ السلام) أنّه أشار إلى هذا العامل : «وَشِدَّةُ الحِرصِ عَلى فُضُولِ المَالِ وَالجاهِ».

علاج الغضب :

ونظراً إلى أنّ الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لحالات الغضب والحدّة كثيرة وخطرة جدّاً وأحياناً تؤدّي إلى تدمير حياة الإنسان على كل المستويات والصعد ، لذلك كان من الضروري بذل الجهد لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية ، وإلّا فإنّ الندم ينتظر هؤلاء الأشخاص ، وقد ذكر كبار علماء الأخلاق في هذا الباب أبحاثاً مهمّة وكثيرة ، والأهم من ذلك ما ورد من التعليمات الدينية في النصوص الإسلامية التي ذكرت إرشادات مؤثّرة لإطفاء نار الغضب في واقع الإنسان ، ونختار منها ما يلي :

1 ـ أن يقوم الشخص الحاد المزاج بالتفكّر بآثار الغضب السلبّية وعواقبه السيئة قبل أن تستعر نيران الغضب في قلبه وتلتهم كيانه ، فيتحرك على مستوى التلقين والإيحاء لها بأنّ الغضب هو في الحقيقة نار يمكنها أن تأتي على الأخضر واليابس وتحرق إيمانه وسعادته ووجوده ، وتسعّر غضب الله عليه في الدنيا والآخرة ، وأنّ هذه الحالة الذميمة تبعد الناس من حوله وتفرّق عنه أصدقاءه وتكون ذريعة بيد أعدائه ، وللغضب آثار وخيمة على أعصاب الإنسان ويؤدي إلى قصر العمر ويهدد سلامة الشخص البدنية أيضاً ، ويمنعه من الصعود في مدارج الكمال الدنيوي والاخروي.

بخلاف حالة الحلم وسعة الصدر التي هي رمز موفقّية الإنسان وتقدّمه وتفوّقه وصحّته الروحية والبدنية والتي تمنحه الاحترام والمودّة في قلوب الناس وتوجب له رضا الله تعالى والابتعاد عن الشيطان ، وكذلك يتفكر في الثواب الإلهي لمن يعيش الحلم وسعة الصدر ، والعقاب الإلهي المترتب على من يعيش الحدة وسرعة الغضب.

وهذه الامور لا يتفّكر فيها الإنسان في حال الغضب فحسب بل عليه أن يتفّكر فيها قبل ذلك ويلقّن نفسه باستمرار لكي لا يتورّط في هذه الحالة الذميمة.

2 ـ أن يفكّر في عواقب الغضب والحدّة ، وهذه المسألة مجربة تماماً ، وإذا لم يجرّبها الإنسان نفسه فقد جرّبها الآخرون وهي أنّ كل تصميم على عمل معيّن يتّخذه الإنسان في حال الغضب فأنّه يكون زائفاً وسخيفاً وغالباً ما يوجب له الندم ، فما أحسن أن يتذّكر هذه العبارة المعروفة عن أحد العلماء ، وهي أنّه في حالة الغضب لا ينبغي عليه التصميم ولا التوبيخ ولا العقوبة.

3 ـ ومن الطرق المهمّة لعلاج حالة الغضب والتي ورد التأكيد عليها في الروايات الشريفة هو (ذكر الله) وقد ورد في بعض الروايات أنّ من ثارت فيه الحدّة عليه بقول : «أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ» ([37]).

وورد في رواية اخرى أن يقول في هذه الحالة : «لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِاللهِ العَلِّي العَظِيمِ» ([38])، لتهدأ سورة الغضب في أعماقه.

وجاء في بعض الروايات أيضاً أنّه ينبغي أن يضع خدّه على الأرض أو يسجد لله تعالى.

ويقول أبو سعيد الخدري نقلاً عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : «أَلا إنَّ الغضَبَ جَمرَةٌ فِي قَلبِ ابنِ آدمَ ، أَلا تَرَونَ إِلى حَمرَةِ وَانتفاخِ أَودَاجِهِ فَمَن وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيئاً فَليلصَقِ خَدَهُ بِالأرِضِ» ([39]).

ومن المعلوم أنّ كل شخص يسلك في حالة الغضب في خط العمل لهذه التوصيات والتعليمات الدينية ويلتجأ إلى الله تعالى من شرّ الشيطان فإنّ غضبه سيهدأ قطعاً.

ومعلوم أيضاً أنّ ذكر الله مؤثّر جدّاً في مثل هذه الأحوال ، ولكنّ ذكر الله بالكيفية المذكورة آنفاً أكثر تأثيراً من علاج هذه الحالة.

وقد أورد الشيخ الحر العاملي في كتاب وسائل الشيعة باباً تحت عنوان (باب وجوب ذكر الله عند الغضب) في أبواب جهاد النفس ، حيث يدلّ على أهميّة هذا الموضوع بالذات ([40]).

4 ـ تغيير الحالة الفعلية للشخص إلى حالة اخرى حيث تكون مؤثرة في علاج الغضب أيضاً كما ورد في الروايات الإسلامية أنّ الشخص إذا تملّكه الغضب وكان جالساً فعليه أن يقوم ، وإذا كان قائماً عليه أن يجلس ، أو يعرض بوجهه عن مواجهة الحدث ، أو يستلقي على الأرض ، أو إذا أمكنه أن يبتعد عن محل الحادثة ، أو يشغل نفسه بأمر آخر.

وهذا التغيّر في الحالة الفعلية يوثر كثيراً في تهدئة الغضب والحدّة فنقرأ في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قوله : «كانِ النَّبِيّ إذا غَضِبَ وَهُوَ قائِمٌ جَلَسَ وَإذا غَضِبَ وَهُوَ جالِسٌ اضطَجَعَ فَيَذهَبُ غَيضُهُ» ([41]).

وقد ورد في بحار الانوار عن الإمام الباقر (عليه‌ السلام) قوله : «وَأَيُّما رَجُلٍ غَضِبَ وَهُوَ قائِمٌ فَليَجلِس فَإِنَّهُ سَيَذهَبُ عَنهُ رِجزُ الشَّيطانِ وَإِنْ كانَ جالِساً فَليَقُم» ([42]).

وجاء في ذيل هذا الحديث الشريف أنّه إذا غضب الإنسان على أحد أرحامه فعليه أن يلمس بدنه ليثير في نفسه عواطف الرحم ممّا يقوده إلى الهدوء وعودة حالته الطبيعية.

5 ـ الوضوء ، أو شرب الماء البارد وغسل الرأس والوجه ، وكلّها تؤثر حتماً في تهدئة الإنسان وزوال حالة الغضب عنه ، بل ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «إذِا غَضِبَ أَحَدُكُم فَليَتَوضأ» ([43]).

ويستفاد من هذا التعبير أنّ الوضوء مستحب في حالات الغضب ومؤثر في تسكينه وزواله.

وقد ذكر العلّامة المجلسي (قدس ‌سره) في تحليله المختصر لهذا الحديث الشريف أنّ : «سَببُ الغَضَبِ الحَرارَةُ وَسَببُ الحَرارَةِ الحَرَكَةُ إذ قالَ (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : إنَّ الغَضَبَ جَمرَةٌ تَتوقَدُ أَلم ترَ إِلى انتِفاخ أَودَاجِهِ وَحُمرَةُ عَينَيهِ؟ فإِن وَجَدَ أَحِدُكُم مِنْ ذَلِكَ شَيئاً فَليَتَوضأ بِالماءِ البارِدِ وَليَغسِل فَإِنَّ النِّارَ لا يُطفِئُها إِلّا الماءُ ، وَقَد قالَ (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : إِذا غَضِبَ أَحَدُكُم فَليَتوضأ وَليَغتسلِ فَانَّ الغَضَبَ مِنَ النَّارِ» ([44]).

فإذا عمل الإنسان على ضمّ هذه الامور العملية إلى ما تقدّم من ضرورة التفكّر في الآثار الخطرة للغضب في الدنيا والآخرة وما يترتب عليه من العقوبات الإلهية فإنّ ذلك من شأنه أن يطفأ نار الغضب بالتأكيد ، ولكنّ المشكلة تبدأ من أنّ الإنسان ، لا يرغب في تغيير حالته والعمل بالتوصيات المذكورة لإزالة حالة الغضب عن نفسه ، وحينئذٍ فالنجاة والخلاص من الآثار السلبية المترتبة على هذه الحالة الذميمة يكون عسيراً للغاية ، بل غير ممكن أحياناً.

أقسام الغضب :

إنّ حالة الغضب ليست سلبية دائماً ، بل قد تترتب عليها آثار إيجابية على المستوى المادي والمعنوي في حياة الإنسان وأحياناً تكون ضرورية ولازمة ، وعليه يمكننا تقسيم الغضب إلى إيجابي وسلبي ، أو ممدوح ومذموم ، فإذا ضممنا إليها الغضب في دائرة الالوهية تحصّلت لدينا ثلاثة أقسام للغضب :

1 ـ غضب الله تعالى : حيث ورد الحديث عنه في الكثير من الآيات القرآنية الشريفة وخاصة بالنسبة إلى بني اسرائيل حيث تشير الآيات إلى أنّ الله تعالى غضب عليهم ، بل ورد (المغضوب عليهم) حيث ذكر جماعة من المفسّرين أنّ المقصود بهذه العبارة هم بنو اسرائيل الفاسقون في كل زمان ومكان حيث سوّدوا صفحة التاريخ البشري بذنوبهم وأعمالهم الأثيمة.

ولا شك أنّ الغضب بمعنى الانفعال النفسي المقترن مع حبّ الانتقام والذي يتجلّى في ظاهر الوجه على شكل احمرار الوجه واحتقان الدم وأمثال ذلك لا يرد قطعاً في مفهوم الغضب في دائرة الالوهية ، لأنّ الله تعالى منزّه عن الجسم والجسمانية والتغير والتبدّل في الحالات ، فلا مفهوم لها بالنسبة إلى الذات المقدّسة ، كما أنّ الانتقام بمعنى إرضاء حالة الغضب وتهدئة حرقة القلب الذي يصطلح عليه بالتشفّي المقترن مع تعذيب العدو وإلحاق الضرر به كذلك لا معنى ولا مفهوم بالنسبة إلى الذات الإلهية المقدّسة.

ومن ذلك فإنّ المفسّرين ذهبوا إلى أنّ غضب الله تعالى بمعنى إنزال العقوبة العادلة بالمذنبين والمجرمين في الدنيا والآخرة.

يقول الراغب في مفرداته بصراحة : أنّه عند ما يراد بالغضب صفة من الصفات الإلهية فإنّ المقصود هو الانتقام والعقاب من المجرمين.

فقد أشارت الأحاديث الإسلامية أيضاً إلى هذا المعنى ، كما نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام (عليه‌ السلام) الباقر (عليه‌ السلام) عن سؤال حول غضب الله تعالى ما ذا يعني؟ فقال : «غَضَبَ اللهُ تعالى عِقابَهُ يا عُمرَو ([45]) مَنْ ظَنَّ يُغَيِّرُهُ شَيءٌ فَقَدْ كَفَرَ» ([46]).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّ غضب الله تعالى هو عقابه كما أنّ رضا الله هو ثوابه (لا أنّ الغَضَبَ حالَةٌ نفسيّة فِي الذَّاتِ المُقَدَّسةُ تِقتَضِي التَّغَيُّرَ وَالتَّبَدُّلَ الُّذي نَراهُ فِي صِفاتِ المُمكِناتِ).

وخلاصة الكلام أنّ الآيات والروايات الشريفة التي تتحدّث عن غضب الله وسخطه لا تتعلّق بحالة الغضب لدى المخلوقين ولا تشبهها بشكل من الأشكال ، بل هي في الواقع إنزال العقاب العادل في حق المجرمين ولغرض تربية الإنسان وايصاله إلى كماله اللّائق.

2 ـ الغضب السلبي والمخرب ، الذي تقدّم البحث فيه بالتفصيل في الاحاديث السابقة ورأينا الأضرار الكبيرة المترتبة على هذه الحالة النفسية وبحثنا أسبابها وطرق علاجها بما لا حاجة إلى توضيح أكثر.

3 ـ الغضب الإيجابي للإنسان : ومعلوم أنّ هذه القوّة لدى الإنسان لم تخلق من دون غرض وحكمة ، فلو تصوّر شخص أنّ هذه القوّة فد خلقها الله تعالى وجعلها في الإنسان لغرض التخريب والشر فإنّه لم يدرك جيداً حكمة الله تعالى في خلقه ، وفي الحقيقة أنّ توحيده الأفعالي ناقص.

فمن المحال أن يخلق الله تعالى عضواً من أعضاء بدن الإنسان أو قوّة في نفسه وروحه ليس لها فائدة ومنفعة في حياة الإنسان ومن ذلك قوّة الغضب.

عند ما يعيش الإنسان حالة الغضب وتسيطر عليه هذه القوّة فإنّها تعمل على تعبئة جميع طاقاته وقواه الفكريّة والجسدية تجاه الخطر وأحياناً تتضاعف قدرته أضعاف ما كانت عليه في الحالات العاديّة ، والحكمة الوجودية لهذه الحالة في الواقع هي الدفاع عن الإنسان ومنافعه في نفسه وماله وعرضه تجاه الخطر وتحدّيات الظروف الخارجية ، وهذه نعمة وموهبة إلهية كبيرة جدّاً.

إننا نرى الحيوانات أو الطيور أيضاً عند ما يشعرن بالخطر يتحرّكن ويلذن بالفرار بعيداً عن منطقة الخطر ، ولكنّ هذه الحيوانات عند ما يتعرّض أطفالهن إلى الخطر فإنّها تتصدّى إلى هذا الخطر وتدافع بنفسها عن أولادها ممّا يثير تعجّب الكثيرين ، وأحياناً قد يرى طائر جبان الخطر على فراخه فيهجم باتّجاه الخطر ويتصدّى إلى المهاجمين ويبعدهم عن أطفاله ويلحق بهم الهزيمة وحتى بعض الحيوانات كالقط إذا رأى نفسه محبوساً في غرفة وتعرّض للهجوم فإنّه يتصدّى أيضاً للدفاع عن نفسه ويتبدّل إلى حيوان متوحّش وخطر حيث يهجم أحياناً على الإنسان ويلحق به أضراراً كثيرة.

وعليه فإنّ قوّة الغضب هي في الحقيقة قوّة مفيدة ومهمّة في عملية الدفاع عن النفس وما يتعلّق بالإنسان من الامور المادية والمعنوية ، ولذلك فهي ضرورية في بقاء واستمرار الحياة وتكامل الإنسان بشرط أن تستخدم في مكانها وفي الغرض التي خلقت لأجله بدون افراط وتفريط.

ونقرأ في الآيات والروايات الإسلامية موارد كثيرة تتحدّث عن الغضب المقدّس الإيجابي والغضب الإلهي كذلك ، ومنها :

1 ـ نقرأ في قصّة موسى (عليه‌ السلام) أنّه عند ما توجّه إلى جبل الطور لاستلام الوحي الإلهي والتوراة ، فإنّ السامري قد استغل هذه الفرصة في غياب موسى (عليه‌ السلام) وصنع العجل الذهبي لبني اسرائيل ودعاهم إلى عبادته وقد أخبر الله تعالى موسى (عليه‌ السلام) بهذا الحدث العظيم وهو في جبل الطور ممّا جعل موسى (عليه‌ السلام) يغضب لذلك ويحزن ويعود إلى قومه وهو غارق في الهم ويعتصره الألم ، فألقى الألواح التي كتبت فيها التوراة والأحكام الإلهية وأخذ برأس أخيه وبلحيته موبّخاً إيّاه على تساهله مقابل ما صنعه السامري من اضلال بني اسرائيل وحتى أنّه وبّخه كما تقول الآية : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ([47]).

هذه الحالة المثيرة والغضب الشديد الذي استعر في قلب موسى (عليه‌ السلام) تجاه ما صنعه بنو اسرائيل من عبادة العجل قد أثر أثره الكبير في قلوب اليهود وهزّهم من أعماقهم فانتبهوا من غفلتهم وأدركوا سوء تصرّفهم في انحرافهم عن التوحيد وسلوكهم في خط الشرك وعبادة الوثن.

ومعلوم أنّ مثل هذا الغضب الشديد في مقابل ظاهرة انحراف الناس وضلالهم هو من الغضب الإيجابي والبنّاء وله بعد إلهي في حركة حياة الإنسان المعنوية.

وهكذا الحال في جميع أشكال الغضب لدى الأنبياء الإلهيين في مقابل أقوامهم المنحرفين والضالّين.

ومن اليقين أنّ موسى (عليه‌ السلام) إذا كان قد واجه هذه الظاهرة من موقع برودة الأعصاب وعدم تثوير حالة الغضب في نفسه فإنّ بني اسرائيل يستوحون من هذا السلوك امضاءاً واعترافاً من موسى (عليه‌ السلام) بأفعالهم وسلوكياتهم الخاصة ، وبالتالي فإنّ مواجهة هذا الانحراف قد يكون مشكلاً فيما بعد ، ولكنّ غضب موسى (عليه‌ السلام) وهيجانه قد أثر أثره الإيجابي الكبير في رجوع بني اسرائيل عن خط الانحراف.

2 ـ ونقرأ في سيرة النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه أحياناً يتملكه الغضب الشديد تجاه بعض الحوادث والوقائع بحيث تظهر آثار الغضب على محياه ووجه المبارك.

من قبيل ما ورد في قصّة صلح الحديبية أنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قد غضب بشدّة لبعض مقترحات (سهيل بن عمر) (وكيل قريش لعقد معاهدة الصلح مع النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) وكان غضبه حول بعض الموارد المقرّرة لمكتوب الصلح بين الطرفين بحيث ذكر المؤرّخون أنّ آثار الغضب ظهرت على وجهه وسيماهُ (وهذا الأمر تسبب في سحب سهيل اقتراحه وعدم ذكره في بنود الصلح) ([48]).

3 ـ وورد في سيرة أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه غضب بشدة على أحد المسلمين الذي أضرّ بزوجته وهدّدها بالحرق ، فما كان من الإمام علي (عليه‌ السلام) إلّا أن تأثر بشدّة لذلك وسحب سيفه على هذا الرجل وقال : «آمرُكَ بِالمَعرُوفِ وَأَنهاكَ عَنْ المُنكَرِ وَتَردُ المَعروفَ؟ تُب وَإِلّا قَتَلتُكَ. (ولما علِم الشابُ أَنّه أَمير المؤمنين (عليه‌ السلام)) قالَ : يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ اعفُ عَنِّي عفا اللهُ عَنكَ وَاللهِ لأَكُوننَ أَرضاً تَطأني ، فَأَمرها بِالدُخُولِ إِلى مَنزِلِها وانكفأ وَهُو يَقُولُ : لا خَيرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجواهُم إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعرُوفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ» ([49]).

ومن اليقين أنّ مثل هذ الغضب مقدّس وإلهي حيث يوثّر كثيراً على مستوى سوق الشخص المذنب باتّجاه الحق والعدالة والسير في خط الإيمان.

4 ـ ونقرأ في حالات أبي ذر رضى الله عنه عند ما لم يتحمل عثمان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أمر بتبعيده ونفيه إلى صحراء الربذة في أسوأ الظروف والحالات ، فما كان من الإمام علي (عليه‌ السلام) إلّا أن حضر لتوديعه وقال له : «يا أَبا ذَر إِنَّكَ غَضِبتَ للهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فَارْجُ مَنْ غَضِبتَ لَهُ إِنَّ القَومَ خافُوكَ عَلى دُنياهُم وَخِفتَهُم عَلى دِينِكَ ، فَاترُكْ فِي أَيدِيهِم ما خافُوكَ عَلَيهِ وَاهرُب مِنهُم بِما خِفتَهُم عَلَيهِ» ([50]).

وبديهي أنّ غضب أبي ذر رضى الله عنه كان بالنسبة إلى ما يراه من التلاعب بأموال المسلمين وبيت المال وما يشاهده من الظلم والجور بحق سائر المسلمين فإنّ مثل هذا الغضب يقع في دائرة الغضب الإلهي المقدّس.

وفي كلام آخر لأبي ذر رضى الله عنه أيضاً عند ما أمر معاوية بنفيه عن الشام وابعاده عنه لشدّة انتقاداته اللاذعة وجرأته وشجاعته في الله حيث خاف معاوية على مقامه وسمعته بين أهل الشام ، فما كان من أبي ذر رضى الله عنه إلّا أنّ خاطب المسلمين من أهل الشام الذين جاءوا لتوديعه وقال : «أَيُّها النّاسُ اجمعوا مَعَ صَلاتِكُم وَصَومِكُم غَضَباً لله عَزَّ وَجَلَّ إِذا عُصِيَ فِي الأَرضِ» ([51]).

5 ـ ونقرأ في حديث شريف عن سيرة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه‌ السلام) عند ما جاء إلى والي المدينة الوليد بن عتبة : «فَقَد كانَتْ بَينَ الحُسينِ (عليه‌ السلام) وَبَينَ الولِيد بنِ عَقبةِ مَنازَعَةٌ فِي ضَيعَةٍ فَتَناوَلَ الحُسَينِ (عليه‌ السلام) عَمامَةَ الوليدِ عَنْ رَأَسِهِ وَشَدَّها فِي عُنقِهِ وَهُوَ يَومَئِذٍ والٍ عَلَى المَدينَةِ ، فَقالَ مَروانُ : بِاللهِ ما رَأَيتُ كَاليَومِ جُرأَةَ رَجُلٍ عَلى أَمَيرهِ ، فَقالَ الوَلِيدُ : وَاللهِ ما قُلتَ هذا غَضَباً لِي وَلَكِنَّكَ حَسَدتَنِي عَلى حَلمِي عَنهُ وَإِنّما كَانَتِ الضَّيعَةُ لَهُ ، فَقالَ الحُسَينُ (عليه‌ السلام) : الضَّيعَةُ لَكَ يا وَلِيدُ وَقامَ» ([52]).

وهذه إشارة إلى أنّ غضبه (عليه‌ السلام) لم يكن للدنيا وحطامها بل لإثبات عجز الوليد عن فرض رأيه بالقوة.

6 ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) عند ما بعث بمالك الأشتر والياً على مصر فارسل معه كتاباً إلى أهل مصر يقول فيه : «مِنْ عَبدِ اللهِ عَليِّ أَمِيرِ المُؤمِنِينَ (عليه‌ السلام) إلَى القَومِ الَّذِينَ غَضِبُوا للهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرضِهِ وَذُهِبَ بِحَقِّهِ» ([53]).

7 ـ وورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّ الله تعالى أوحى لأشعياء النبي (عليه‌ السلام) : «إِنِّي مُهلِكٌ مِنْ قَومِكَ مائَةَ أَلفٍ ، أَربَعينَ أَلفاً مِنْ شِرارِهِم وَسَتِّينَ ألفاً مِنْ خيارِهِم، فقالَ (عليه‌ السلام) : هَؤلاءِ الأَشرارِ فما بالُ الأَخيارِ؟ فَقالَ : داهَنُوا أَهلَ المَعاصِي فَلَم يَغضَبُوا لِغَضَبِي» ([54]).

هذه وأمثالها من الروايات الواردة في المصادر الإسلامية غير قليلة وتتحدّث جميعها عن الغضب المقدّس الذي يكون لله تعالى وللدفاع عن الحق مقابل الظالمين وقوى الانحراف وأصحاب البدع والضلالة.

أمّا الفرق بين الغضب المقدّس والمذموم هو أولاً : إنّ الغضب المقدّس يقع تحت سيطرة العقل والشرع ولا يتجاوز هذه الدائرة ويكون بهدف تعبئة جميع قوى الإنسان لمواجهة العمل المنكر الذي يراد ارتكابه لمنع وقوعه وارتكابه ، وأمّا الغضب الشيطاني فإنّه ليس فقط لا يقع تحت دائرة العقل والشرع ، بل يكون بوحي من الأهواء والشهوات والنوازع الذاتية التي تقود الإنسان في خط الانحراف والباطل.

ثانياً : إنّ الغضب المقدّس يتّجه لتحقيق أهداف مقدّسة ويتقارن مع المنهجية والنظم في دائرة السلوك والعمل ، في حين أنّ الغضب المذموم والشيطاني لا يهدف إلى تحقيق شيء مفيد ومقدّس ويفتقد كذلك إلى البرمجة والنظم.

ثالثاً : إنّ الغضب المقدّس له حدود معيّنة لا يتجاوز عنها ، في حين أنّ الغضب الشيطاني لا يعرف حدّاً معيّناً ، وعلى سبيل المثال يمكننا بيان ما تقدّم من الفرق بين هذين النحوين من الغضب بالقول بأنّ الغضب المقدّس حاله حال السيل النازل من الجبال والمجتمع خلف السد حيث يتمّ الاستفادة منه بشكل منظّم ومحسوب ، مياهه تجري في قنوات خاصة وتتسبب في عمران المنطقة وزيادة البركة والخير العميم ، في حين أنّ الغضب الشيطاني حاله حال السيول المخرّبة التي تسيل من الجبال ولا تجد أمامها مانعاً من الموانع وبالتالي فإنّها تدّمر كل شيء تجده أمامها.

ونختم هذا الحديث بكلام عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) حيث يقول : «إِنَّما المُؤمِنُ الَّذِي إِذا غَضَبَ لَم يَخرُجهُ غَضَبُهُ مِنْ الحِقِّ وَإِذا رَضَيَ لَم يَدخُلهُ رِضاهُ فِي باطِلٍ» ([55]).

الحلم وسعة الصدر :

النقطة المقابلة لحالة الغضب والحدّة المذمومة هي الحلم وضبط النفس وسعة الصدر كما ورد عن الإمام الحسن (عليه‌ السلام) عند ما سئل عن معنى الحلم فقال : «كَظمُ الغَيظِ وَمِلكُ النَّفسِ» ([56]) ، ومن علاماته حسن التعامل مع الناس والمعاشرة بالمعروف مع الآخرين كما ورد عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قوله : «لَيسَ بِحَليمٍ مَنْ لَمْ يُعاشِرِ بِالمَعرُوفِ مَنْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعاشَرَتَهُ» ([57]).

أمّا الأشخاص الذين يتحلّمون بسبب عجزهم وعدم قدرتهم على إشهار الغضب وممارسته فهم يفتقدون في الواقع لفضيلة الحلم وسعة الصدر ، لأنّهم كلّما وجدوا القدرة على ممارسة غضبهم وإخراجه إلى دائرة العمل يتحرّكون فوراً للانتقام من الطرف الآخر كما ورد هذا المعنى في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) حيث قال : «لَيسَ الَحلِيمُ مَنْ عَجَزَ فَهُجِمَ وإِذا قَدَرَ انتَقَمَ إِنَّما الحَلِيمُ مَنْ إِذا قَدَرَ عَفى» ([58]).

وعلى أية حال فإنّ الحلم وضبط النفس يعدّ من أفضل وأكرم القيم الأخلاقية وخاصة للرؤساء والمدراء والأولياء على العوائل حيث يتسبب في تكاملهم المعنوي وقوّة مديريّتهم وجذب القلوب إليهم وبالتالي بإمكانه أن يحل لهم الكثير من المشكلات ويهوّن عليهم المصاعب ، أمّا بالنسبة إلى أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية فنختار في هذا المضمون عدّة روايات واردة في هذا الباب :

1 ـ ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «أَلا اخبِرُكُم بِأشبَهَكُم بِي أَخلاقاً؟ قالُوا : بَلى يا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ : أَحسِنَكُم أَخلاقاً وَأَعظَمَكُم حِلماً وَأَبَرَّكَمُ بِقَرابَتِهِ وَأَشَدَّكُم إِنصافاً مِنْ نَفسِهِ فِي الغَضَبِ وَالرِّضا» ([59]).

2 ـ ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أيضاً قوله : «ما جُمِعَ شَيّءٌ إِلى شَيّءٍ أَفضَلَ مِنْ حِلمٍ إِلى عَلمٍ» ([60]).

3 ـ وورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «أَشجَعُ النَّاسِ مَنْ غَلَبَ الجَهلَ بِالحِلمِ» ([61]).

ويشبه هذا المعنى ما ورد أيضاً عن الإمام (عليه‌ السلام) أنّه قال : «أَقوَى النّاسِ مَنْ قَوى عَلى غَضِبِهِ بِحِلمِهِ» ([62]).

4 ـ ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إِنَّ أَفضَلَ أَخلاقِ الرَّجالِ الحِلمُ» ([63]).

5 ـ وفي حديث شيّق عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «إِنَّ المُؤمِنَ لَيُدرِكَ بِالحِلمِ واللِّينِ دَرَجَةَ العابِدِ المُتَهَجِّدِ» ([64]).

وهذا تعبير في الحديث الشريف يبيّن بوضوح أنّ الحلم وضبط النفس يعدّ من العبادات المهمّة في دائرة القرب الإلهي.

6 ـ وجاء في حديث آخر عميق المعنى عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «مِنْ أَحَبَّ السَّبِيلِ إِلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ جُرعَتانِ جُرعَةَ غَيطٍ تَرُدُها بِحِلمٍ وَجُرعَةُ مُصِيبَةٍ تَرُدُّها بِصَبرٍ» ([65]).

7 ـ وسمع الإمام علي (عليه‌ السلام) يوماً رجلاً يشتم خادمه قنبر وكأنّ قنبر أراد أن يجيبه فقال له الإمام : «مَهلاً يا قَنبَر ، دَع شاتِمَكَ ، مُهاناً ، تَرضي الرَّحمنَ ، وَتُسخِطُ الشَّيطانَ ، وَتُعاقِب عَدوَّكَ ، ، فَوَ الَّذِي خَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرأَ النَّسَمَةَ ما أَرضى المُؤمِنُ رَبَّهُ بِمِثلِ الحِلمِ ، وَلا أَسخَطَ الشَّيطانَ بِمثلِ الصَّمتِ ، وَلا عُوقِبَ الأَحمَقُ بِمثلِ السُّكُوتِ عَنهُ» ([66]).

8 ـ وورد عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «مَنْ كَظَمَ غَيظاً وَهُوَ قادِرٌ عَلى إِنفاذِهِ وَحَلُمَ عَنهُ أَعطاهُ اللهُ أَجرَ شَهيدٍ» ([67]).

9 ـ وورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه‌ السلام) أنّ أباه علي بن الحسين (عليه‌ السلام) قال : «إنَّهُ لَيُعجِبُنِي الرَّجُلُ أَنْ يُدرِكُهُ حِلمُهُ عِنَدَ غَضَبِهِ».

10 ـ ونختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) (رغم وجود روايات كثيرة في هذا الباب) ورد في هذا الحديث عن حفص ابن أبي عائشة قال : بعث أبو عبد الله (عليه‌ السلام) (الصادق) غلاماً له في حاجة فأبطأ ، فخرج أبو عبد الله (عليه‌ السلام) على أثره لمّا أبطأ ، فوجده نائماً ، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه ، فلمّا تنبّه قال له أبو عبد الله : «يا فلان واللهِ ما ذَلِكَ لَكَ ، تَنامُ اللّيلَ وَالنَّهارِ ، لَكَ اللّيلُ وَلَنا مِنكَ النّهارُ» ([68]).

هذا السلوك الممعن في المحبّة والتواضع والحلم للإمام (عليه‌ السلام) يمكنه أن يكون اسوة للأشخاص الذين يعيشون حالة الغضب والحدّة وأنّهم في مثل هذه الموارد عليهم أن يسدلوا الستار على غضبهم ويسلكوا طريق الحلم وضبط النفس.

وهنا ينبغي استعراض بعض الامور المهمّة في هذا الباب :

1 ـ إنّ الحلم وضبط النفس له آثار إيجابية كثيرة في حياة الناس على المستوى الفردي والاجتماعي ، ومن ذلك :

إنّه يحفظ الإنسان من أخطار الغضب التي قد تدمّر حياته وتجعله يعيش الندم إلى آخر عمره.

والآخر أنّ الحلم يورث الإنسان العزّة وقوّة الشخصية والشرف ، لأنّ جميع الناس يرون أنّ الحلم وضبط النفس في مقابل الأشخاص الجهلاء والحاقدين دليل على عظمة النفس وقوّة الشخصية ورجحان العقل ، ولذلك ورد في بعض الروايات عن الإمام علي (عليه‌ السلام) أنّه قال : «مَن حَلُمَ سادَ» ([69]).

مضافاً إلى ذلك أنّ الحلم في مقابل الجهلاء يتسبب في أنّ الناس يهرعون لنصرة الحليم ضدّ الجاهل ، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إنَّ أَوّلُ عِوَضِ الحَليمِ مِنْ خِصلَتِهِ أَنَّ النَّاسَ كُلُّهُم أَعوانُهُ عَلى خَصمِهِ» ([70]).

ومضافاً إلى أنّ الحلم يورث الإنسان العزّة وماء الوجه في حين أنّ الغضب العجين بالجهل يتسبب في إراقة ماء الوجه وهتك حرمة الإنسان ، كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «ما عَزَّ اللهُ بِجهلٍ قَطُّ وَلا أَذَلَّ بِحلمٍ قَطُّ» ([71])

والخلاصة أنّ فضيلة الحلم وضبط النفس وسعة الصدر لها بركات وإيجابيات كثيرة في حياة الإنسان ، وأفضل ما قيل في هذا الباب ما ورد عن الرسول الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : «فَأَمّا الحِلمُ فَمِنهُ رُكُوبُ الجَمِيلِ ، وَصُحبَةُ الأَبرارِ ، وَرَفعٌ مِنَ الضِّعَةِ ، وَرَفعٌ مِنَ الخَساسةِ وَتَشهِّي الخَيرِ ، وَيُقَرِّبُ صاحِبَهُ مِنْ مَعالِي الدَّرَجاتِ ، وَالعَفوَ وَالمَهلِ وَالمَعرُوفِ والصَّمتِ ، فَهذِا ما يَتَشَعَّبُ لِلعاقِلِ بِحِلمِهِ» ([72]).

2 ـ إنّ الحلم وضبط النفس حاله حال سائر الصفات الأخلاقية للإنسان من حيث الدوافع والأسباب المتعددة التي تقود الإنسان باتّجاه هذه الفضيلة ، ويمكننا استعراض بعض هذه الأسباب والدوافع :

ا) إنّ التسلط على النفس وضبط القوى والنوازع النفسية يتسبب في أن يصمد الإنسان أمام المصاعب والأزمات فلا ينهار أمامها ، وبالتالي لا يخضع أمام قوّة الغضب والانفعال ، كما ورد عن الإمام علي (عليه‌ السلام) في تعريف الحلم الإشارة إلى هذا المعنى حيث قال : «كَظمُ الغيظِ ومِلكُ النَّفسِ» ([73]).

ونفس هذا المعنى ورد أيضاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه‌ السلام) ([74]).

ب) ومن الامور التي تمنع الإنسان من الانهيار والخضوع أمام الغضب وتقوّي في واقعه فضيلة الحلم هو علو الطبع وعلو الهمّة وقوّة الشخصية في الإنسان والتي لا تدعه يواجه الغضب والحدّة من موقع الانفعال ويسلك سلوك الجهلاء كما يقول أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) : «الحِلمُ وَالأَناةُ تَوأَمانِ يَنتُجُهُما عُلوُ الهِمَّةِ» ([75]).

ج) ومن الأسباب الاخرى في تقوية هذه الفضيلة الأخلاقية في واقع الإنسان وقلبه هو الإيمان بالله تعالى والتوجّه إلى الذات المقدّسة من موقع الذوبان في صفاته وأسمائه الحسنى ومنها صفة الحلم الإلهي مقابل العصاة والمجرمين من عباده كما ورد عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) قوله : «الحِلمُ سِراجُ اللهِ يَستَضيء بِهِ صاحِبُهُ إِلى جَوارِهِ وَلا يَكُونُ حَليماً إِلّا المَؤيَّدُ بِأَنوارِ اللهِ وَبِأَنوارِ المَعرِفَةِ وَالتَّوحِيدِ» ([76]).

د) ومن العوامل الاخرى لتفعيل هذه الفضيلة هو مطالعة آثارها الإيجابية ونتائجها الحميدة على حياة الإنسان وكذلك مطالعة الآثار السلبية للغضب والحدّة بإمكانه الحدّ من قوّة هذه الحالة النفسية والتقليل من أضرارها ، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قوله : «الحِلمُ نُورُ جُوهَرَهُ العَقلَ» ([77]).

وقال (عليه‌ السلام) أيضاً في حديث آخر : «بِوُفُورِ العَقلِ يَتَوَفَّرُ الحِلمُ» ([78]).

ونقرأ أيضاً في حديث آخر عن هذا الإمام (عليه‌ السلام) قوله : «عَلَيكَ بِالحِلمِ فَإِنَّهُ ثَمَرَةُ العِلمِ» ([79]).

3 ـ موارد الاستثناء ، رغم أنّ الحلم يعدّ من الفضائل الأخلاقية البارزة في حياة الإنسان وسلوكه ، ولكن هناك بعض الموارد في حركة التفاعل الاجتماعي لا يكون فيها الحلم فضيلة أخلاقية ، ومثل هذه الاستثناءات موجودة في سائر الفضائل الأخلاقية أيضاً ، مثلاً في الموارد التي يتسبب فيها الحلم وضبط النفس زيادة الجرأة لدى الجهلاء والمتعصبين الذين يستغلون الخُلق السامي لدى الطرف الآخر فيتعاملون معه من موقع العقدة والخصومة وزيادة العدوان ، فهنا يكون الحلم غير مؤثّر في التأثير على الجاهل بل ينبغي استعمال طرق اخرى لإسكاته وكبح جماحه وردعه عن غيّه.

وكذلك في الموارد التي يؤدّي فيها الحلم إلى الإضرار بالمجتمع أو بالمذهب والدين فهنا من الخطأ استخدام صفة الحلم وسعة الصدر والسكوت.

وكذلك من الموارد الاخرى هو ما إذا كان سلوك طريق الحلم يحسب من علامات الضعف والذلّة في صاحبه.


[1] سورة الشورى ، الآية 37.

[2] سورة آل عمران ، الآية 134.

[3] سورة الأنبياء ، الآية 87.

[4] سورة التوبة ، الآية 114.

[5] سورة هود ، الآية 75.

[6] سورة الصافات ، الآية 101.

[7] سورة الفرقان ، الآية 63.

[8] سورة الاعراف ، الآية 199.

[9] تفسير منهج الصادقين ، ج 6 ، ص 417 ، طبقاً لنقل تفسير الاثني عشري في ذيل الآية المبحوثة ؛ وتفسير روح البيان ، ج 6 ، ص 241 أيضاً ذيل الآية المبحوثة.

[10] سورة الاعراف ، الآية 200.

[11] تفسير روح البيان ، ج 3 ، ص 298 في ذيل الآية المبحوثة.

[12] بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 265.

[13] المصدر السابق.

[14] غرر الحكم.

[15] المصدر السابق.

[16] آثار الصادقين ، ج 15 ، ص 452.

[17] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 303.

[18] الصحيفة السجادية ، الدعاء 8.

[19] غرر الحكم.

[20] المصدر السابق.

[21] المصدر السابق.

[22] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 293.

[23] سفينة البحار ، مادة الغضب.

[24] غرر الحكم.

[25] بحار الانوار ، ج 75 ، ص 113.

[26] بحار الانوار ، ج 68 ، ص 428.

[27] جامع أحاديث الشيعة ، كتاب الجهاد ، ج 13 ، ص 428.

[28] بحار الانوار ، ج 11 ، ص 318.

[29] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 293.

[30] جامع أحاديث الشيعة ، ج 13 ، ص 479.

[31] المصدر السابق.

[32] المصدر السابق ، ص 478.

[33] غرر الحكم.

[34] محجة البيضاء ، ج 5 ، ص 304.

[35] سفينة النجاة ، مادة غضب.

[36] غرر الحكم.

[37] سفينة البحار ، مادة الغضب ، المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 307.

[38] جامع الأحاديث ، ج 13 ، ص 427.

[39] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 308.

[40] وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 291 (باب 54 من أبواب جهاد النفس).

[41] المحجة البيضاء ، ج 5 ، ص 308 ؛ بحار الانوار ، ج 70 ، ص 272.

[42] بحار الأنوار ، ج 70 ، ص 272.

[43] المصدر السابق ، ج 77 ، ص 312.

[44] المصدر السابق ، ج 70 ، ص 272.

[45] إشارة إلى عمرو بن عبيد المعتزلي الذي جاء مع جماعة إلى مجلس الإمام الباقر (عليه‌ السلام) لاختباره ، ولكنهم رجعوا خائبين.

[46] بحار الانوار ، ج 4 ، ص 68.

[47] سورة طه ، الآية 92 و 93 ؛ سورة الاعراف ، الآية 150 و 151.

[48] بحار الانوار ، ج 20 ، ص 360.

[49] بحار الانوار ، ج 40 ، ص 113.

[50] نهج البلاغة ، الخطبة 130.

[51] ميزان الحكمة ، ج 3 ، ص 2270.

[52] بحار الانوار ، ج 44 ، ص 191.

[53] نهج البلاغة ، الرسالة 38.

[54] بحار الانوار ، ج 14 ، ص 161.

[55] بحار الانوار ، ج 64 ، ص 354.

[56] المصدر السابق.

[57] كنز العمال ، ج 3 ، ص 130 ، ح 5815.

[58] غرر الحكم.

[59] بحار الانوار ، ج 74 ، ص 152 وورد مثلها مع تفاوت يسير في وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 211.

[60] المصدر السابق ، ص 212.

[61] غرر الحكم.

[62] المصدر السابق.

[63] المصدر السابق.

[64] مستدرك الوسائل ، ج 11 ، كتاب الجهاد .

[65] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 110 ، ح 9.

[66] سفينة البحار ، مادة الحلم.

[67] جامع الأحاديث ، ج 13 ، ص 479 ، ح 12.

[68] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 112 ، ح 7.

[69] بحار الانوار ، ج 74 ، ص 208 ، ح 1.

[70] المصدر السابق.

[71] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 112.

[72] تحف العقول ، ص 19.

[73] تحف العقول ، ص 19.

[74] بحار الانوار ، ج 75 ، ص 102.

[75] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 460.

[76] بحار الانوار ، ج 68 ، ص 422 ، ح 61.

[77] غرر الحكم.

[78] المصدر السابق.

[79] غرر الحكم.

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي