النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا
المؤلف: الشيخ علي الكوراني
المصدر: الحق المبين في معرفة المعصومين
الجزء والصفحة: ص281-290
2024-07-15
594
بمناسبة ميلاد الصديقة الزهراء عليها السلام ، نركز نظرنا على واحدة من الروايات الشريفة ، والروايات كثيرة وأهلها كثيرون أيضاً ، لكن الدراية وأهلها قليلون !
كلام أهل البيت عليهم السلام كله نور ، وأحاديثهم تنحني العقول لارتفاعهما وعلو مطالبها ، وكما أن إدراك ما يتعلق بالله تعالى مشكل على أكثر الأذهان ( جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد ) ، فكذلك مقامات خير خلقه صلوات الله عليهم لا تستطيع فهمها إلا بعض الأذهان ! لكن لا يسقط الميسور بالمعسور .
عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ، ليلة القدر فاطمة ، ليلة القدر فاطمة ، فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر ، وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها ) . ( تفسير فرات الكوفي ص 581 ، البحار : 43 / 65 ، العوالم : 11 / 103 ، وغيرها . )
فطموا عن معرفتها . . فأي شخصية هذه التي عز مقامها عن أن ينال الخلق معرفتها ؟ ! لا بد أن نتأمل في هذا الأمر ! بل ينبغي أن يتأمل في ذلك كبار مفكري الانسانية ، من أصحاب التفكير الراقي الذي بلغ مستوى عالياً من النضج والرشد ، ويتساءلوا عن حقيقة هذه المسألة ؟ !
ليلة القدر . . ليلة تنزل القرآن : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ( سورة الدخان : 3 ) ، فما معنى أن فاطمة تفسيرٌ لهذه الليلة المباركة ؟ !
تلاحظون أن تعليل هذا المطلب جاء بتعليل تسميتها ( إنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها ) ! وكلمة الخلق أوسع نطاقاً من كلمة الناس ، فهي تشمل الإنس والجن إلى أن تصل إلى الملائكة ( الذين أسكنتهم سماواتك ورفعتهم عن أرضك ) فحتى هؤلاء فطموا عن معرفتها ! !
فما الخبر ؟ ومن هي هذه المرأة ؟ وماذا فيها من حقيقة غيبٍ هي أرفع من أن ينال معرفتها أصحاب العقول الراقية ؟ ! !
من أجل فهم هذه المسألة نحتاج إلى عقل قوي تربى بالقرآن ، واستدلال معتمد على أكثر الأدلة قطعية يعني القرآن ، بمساعدة السنة القطعية ، فلعله يستطيع أن يفتح نافذة صغيرة على هذا المطلب العظيم .
لأن الخلق فطموا عن معرفتها . . لماذا ؟
وأي سر في شخصية فاطمة عليها السلام ، فطم الخلق عن معرفته ؟ !
القرآن كتاب الحكمة الإلهية ( يس . وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) والإنسان أعلى موجود في المخلوقات ، وقد ذكر القرآن الإنسان في ثمان وخمسين مورداً ، وفي أغلب هذه الموارد جاء ذكر الإنسان معرفةً وفي بعضها ورد ذكره نكرة ، وهذا التعريف والتنكير يحمل معاني كثيرة .
وقد بين القرآن مبدأ تكوين الإنسان ومنتهاه ، فمبدؤه من علق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ( سورة العلق : 1 - 2 ) ومنتهى مساره ( خَلَقَ الإِنْسَان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) ( سورة الرحمن : 4 ) ليس هذا بيان النطق باللسان فقط ، بل هو البيان المتناسب مع تسمية القرآن بياناً في قوله تعالى هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ( سورة آل عمران : 138 ) وبياناً في قوله تعالى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَئٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( سورة النحل : 89 )
كما بيَّن مسار الإنسان في خطين ، خط صعود وخط نزول ، وقسم الناس لذلك إلى سالكين في طريق التكامل أو متسافلين ، وخص كلاً منهما بآيات . وسمى أول سورة من القرآن تتحدث عن خلق الإنسان وطغيانه ، باسم سورة العلق ! كما سمى سورة باسم سورة الإنسان ، تحدث فيها عن أعظم مراتب الكمال في الإنسان ، وأعلى قوس الصعود في تكامله ، وجمع فيها خلاصة ما أنزله عن الإنسان في البضعة وخمسين مورداً ! هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً . إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( سورة الانسان : 1 - 2 ) .
فأين الذي يقرأ القرآن بفكر ثاقب يتدبر القرآن ؟
إن سورة الإنسان تعني سورة العالم ، كل عالم الإمكان ! وهي من أكبر حجج الله على خلقه ، وهي بناء رباني يتحدث عن الإنسان ذلك الكائن العجيب الذي بناه الله تعالى بقدرته :
وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
لقد لخص الله العالم في آدم عليه السلام ، ثم فصَّل حال آدم وبنيه في تكاملهم وصعودهم ، وتسافلهم ونزولهم ! ثم لخص قضيتهم في سورة الإنسان !
ففي سورة العلق تحدث عن مبدأ خلق الإنسان من علقة .
وفي سورة الطارق تحدث عن خلق الإنسان من ماء دافق : فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ . يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ( سورة الطارق : 5 - 7 )
فتراه يتناول الموضوع من هذه الزاوية ، أو تلك ، ويجمع المفصل ، ويفصل المجمل ، أو يلخص القضايا ، أو يبسطها ، في وجوه من إعجاز القرآن وخصائصه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه !
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً . . هنا أفاض في الحديث عن الإنسان ، وذكر ما لم يذكره في مكان آخر ! فمن عادته أن يتكلم عن بدأ خلق الإنسان من نطفة ، أو علقة ، أو سلالة ، أو تراب ، أو طين ، أو صلصال ، أو ماء مهين . . لكنه هنا تحدث عما قبل ذلك فقال : ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) ؟ !
لاحظوا تسلسل آيات سورة الإنسان :
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا .
إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا .
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا .
إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا .
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا .
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا .
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا .
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا .
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا .
فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا .
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا .
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا .
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً .
ويُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوارِيرَاْ .
قَوَارِيرَاْ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا .
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً .
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً .
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا .
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا .
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا .
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا . ( سورة الإنسان : 1 - 24 )
يقول مستخرج لآلي القرآن الإمام الصادق عليه السلام : كان شيئاً ولم يكن مذكوراً .
( تفسير نور الثقلين : 5 / 469 ) ، وفيه مطالب عالية لا يتسع لها المجال .
إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاج نَبْتَلِيه . . وكل كلمة فيها تجعلك تتوقف عندها ، فهذا الهيكل مركب من لب وقشر بناه الله بقدرته على الأمشاج ، أي على التركيب والتأليف من متضادات ومتوافقات ! أمشاج نطفة الأب وبويضة الأم ، وأمشاج اللب والقشر ، وأمشاج العقل والهوى ، وأمشاج المذكر والمؤنث في تركيب البدن ، وحتى في تركيب الروح !
نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا . . إن ظاهر القرآن حق ، وباطنه حق ، ولكل أهل . وسير الإنسان يبدأ من هنا بابتلائه ، بتطويره واختباره معاً ، حتى يصل إلى : إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ .
ثم تنمو شجرته وتكبر ، لكنها تنقسم بشكل متباين فتكون شعبتين : إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ، وتذهب كل منهما في طريق !
أما فرع : شَاكِرًا ، فيكون كشجرة طيبة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( سورة إبراهيم : 24 - 25 ) .
وأما فرع كَفُورًا ( كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَالَهَا مِنْ قَرَارٍ ) . ( سورة إبراهيم : 26 )
ثم تبدأ السورة بآيات قوس النزول البشري ، وقوس الصعود الإنساني فتختصر آيات الأشرار السافلين بآية واحدة : إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا ولكنها تفصل في آيات الأبرار العالين بنحو عشرين آية :
إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا . . . الآيات !
لقد استعمل الله تعالى في آيات خلق الإنسان كلمة ( أحسن ) مرتين ، لخلق بدن الإنسان ولخلق نفسه ، في قوله تعالى : ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ . ( سورة المؤمنون : 14 )
وفي قوله تعالى : لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ( سورة التين : 4 )
أما في سورة الإنسان فقد بين تعالى كيف يصل الإنسان صاحب أحسن تقويم إلى أعلى درجات الكمال ، فما لم يصل الإنسان إلى هذه الدرجة لا يصل العالم إلى كماله .
أما أهل أعلى درجات الكمال الإنساني في سورة الإنسان فهم أصحاب : " إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا " ، فهؤلاء هم أصحاب : وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى . ( سورة الليل : 17 - 21 ) فهذا هو منتهى مسار الإنسان في قوس الصعود ، والكمال المطلق الممكن للإنسان !
وفي هذه الدرجة تنطفئ كل المصابيح ، فكل الأنوار هنا ظلمات ، ويشرق نور الله تعالى ! حيث تفنى الأنا والنحن ، وتفنى إرادة الإنسان في إرادة الله ، ويفنى فكره وعقله . . فلا ابتغاء إلا لوجه الله ، ولا وجهة إلا وجه الله !
لقد اتفقت كلمة جمع كبير من مفسري السنة على القضية التالية ، ونقلوا اتفاق مفسريهم القدامى على ذلك ، مثل قتادة ، والحسن البصري ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن جبير ، وابن مسعود ، وابن عباس .
ونحن ننقلها من تفسير الكشاف لجار الله بن محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي ، من مفسري أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس ، قال : وعن ابن عباس ( رض ) أن الحسن والحسين مرضا ، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله في ناس معه ، فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما ، إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا وما معهما شئ ، فاستقرض عليٌ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياماً ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أخذ علي ( رض ) بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، قال ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها ، وقد التصق بطنها في ظهرها ، وغارت عيناها فساءه ذلك ، فنزل عليه جبرئيل عليه السلام وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك ، فأقرأه السورة . انتهى .[1]
ما أحقر الدنيا عند الله تعالى ، حتى سمح أن يكون خيرة أوليائه بعد نبيه صلى الله عليه وآله ، الذين لو دعا أحدهم أن يملأ الله بيته ذهباً لفعل ، سمح أن يستقرضوا قوتهم وهو خبز شعير ، من يهودي !
إن هذا هو الإسلام الذي قَلَبَ الدنيا ، وهذه هي المدينة الإسلامية الفاضلة التي تهز العالم ، وهذا هو أشرف بيت فيها لا يملك قوت يومه ، ويحتاج أن يستقرض خبزه من يهودي خيبري !
فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص . . وفي الليلة الأولى جاءهم فقير مسلم ، وفي الثانية يتيم ، وفي الثالثة أجنبي مشرك فآثروه كلهم حتى الحسن والحسين تصرفا كالكبار ، ومن أولى منهما بفعل الكبار ؟
فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين . . وأقبل فاتح خيبر وقالع بابها مع طفليه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم !
فذلك الإنسان الكامل ، ملك ثمرات الوجود ، وأشجع المخلوقات وأصبرها ، الذي لا يهتز قلبه لما يهتز له العرش . . اهتز قلبه لهم وقال : ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم ! بلفظ التعجب وأفعل التفضيل !
وقام فانطلق معهم . . لأنه لما رأى حالهم ، رأى بلوغ عترته ذروة الإنسان وتحقق الثمرة من خلق الله للعالم ، فأراد أن ينظر إلى بقية عترته في أي حال ؟ فلعل فاطمة لا تستطيع الحراك أو أغشي عليها من الجوع !
فرأى فاطمة في محرابها ، رأى ثمرة الوجود في محرابها ، وقد التصق بطنها في ظهرها ، وغارت عيناها فساءه ذلك ! فنزل عليه جبرئيل عليه السلام وقال : خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك . . فأقرأه السورة !
فنزل جبرئيل ، وهنا أوجُ المطلب وسره : خذها يا محمد ، هنأك الله في أهل بيتك . . فقد أوصلت خاتمية النبوة إلى أوجها ، وقطفت ثمار شجرة الخليقة ! لقد استطعت أن تربي بيتاً بهذا المستوى ، سيرته وسريرته وظاهره وباطنه : إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا .
هنا يظهر معنى الحديث ، ويتضح أن هذا البيت النبوي الفريد فانٍ في وجه الله ، وعندما يفنى الإنسان في وجه الله ينقلب وجوده ، ويأخذ من أحكام وجه الله تعالى !
أيها الزمخشري والبيضاوي وكبار المفسرين السنيين ، هل تعقلون هذا الحديث الذي كتبته أيديكم ؟
هل عرفتم ماذا يأخذ الفاني في وجه الله ، من الوجه المفني فيه ؟
وهل عرفتم أن وجه الله لا يمكننا معرفته ، فعليٌّ لا يمكننا معرفته ، وفاطمةُ لا يمكننا معرفتها ، والحسنُ والحسين . . صلوات الله عليهم ! فهل عرفتم الآن معنى : إنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها ؟ ! !
[1] الحديث الشريف في الكشاف : 4 / 197 ، وفي طبعة أخرى : 4 / 670 ، وفي شواهد التنزيل : 2 / 393 - 414 ح 1042 - 1070 ، وفي المناقب للمغازلي ص 272 ح 320 ، وأسباب النزول للواحدي ص 296 ، والدر المنثور للسيوطي : 8 / 371 ، وذخائر العقبى ص 102 ، وتفسير البيضاوي : 5 / 165 ، وتفسير الطبري : 29 / 125 ، وتفسير الرازي : 30 / 243 . . وغيرها . وقد وردت له روايات أخرى منها في تفسير القمي : 2 / 398 قال : ( قوله وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . فإنه حدثني أبي عن عبد الله بن ميمون القداح ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان عند فاطمة عليها السلام شعير فجعلوه عصيدة ، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين ، فقال المسكين رحمكم الله أطعمونا مما رزقكم الله ، فقام علي عليه السلام فأعطاه ثلثها ، فما لبث أن جاء يتيم فقال اليتيم رحمكم الله أطعمونا مما رزقكم الله ، فقام علي عليه السلام فأعطاه ثلثها الثاني ، فما لبث أن جاء أسير فقال الأسير يرحمكم الله أطعمونا مما رزقكم الله ، فقام علي عليه السلام فأعطاه الثلث الباقي ، وما ذاقوها ! فأنزل الله فيهم هذه الآية إلى قوله : ( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) ، في أمير المؤمنين عليه السلام وهي جارية في كل مؤمن فعل مثل ذلك لله عز وجل ) .