التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبناء الكعبة.
المؤلف: محمد لطفي جمعة.
المصدر: ثورة الإسلام وبطل الأنبياء.
الجزء والصفحة: ص 443 ــ 449.
2023-06-24
1376
ومما يُساق مساق الكلام في تكوين أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يُعرف بالأمين، وكان يُحتكم إليه فيحكم بالحق ويفض الخصومات؛ ففيه سجية العدل والاستعداد للقضاء، وهما من صفات الزعماء في الجماعات الفطرية، وقد ورثتها الحضارة الحديثة فصار معظم رؤساء الحكومة في الأقطار ممن درسوا الشرائع ومارسوا صنعة القضاء. وفعله في بناء الكعبة الذي حسم به النزاع بين العشائر كان حكمًا أصدره وقام بتنفيذه فورًا، وإن كانت تلك الواقعة وقعت في نصف العقد الرابع من عمره إلا أنها تنصب على تكوينه وتظهر ناحية من عقله وخلقه؛ فما زال بعيدًا عن البعثة بخمس سنين وعن النجاح الذي لقيته دعوته بثمانية عشر عامًا؛ لأن نجاحه في رأينا يبدأ بالهجرة إلى المدينة. فقد حدث في العام الخامس من القرن الثامن المسيحي وقبل الهجرة بثمانية عشر عاما أن جاء سيل من فوق الردم الذي صنعوه لمنع السيل عن الكعبة، فدخلها الماء وصدع جدرانها بعد توهينها من الحريق الذي أصابها من نار بخور أطلقته امرأة، فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها، فخافوا أن تذهب بها السيول بالمرة. وكل حريق يحدث في ريف مصر منذ ألوف السنين سببه شرارة تطير من فرن امرأة فلاحة أو من قدر تغليه وحتى أستار الكعبة وجدرانها لم تسلم من رعونة أنثى من بنات حواء، سواء أكانت تخبز رغفانًا أم تطهى طعامًا أم تقدم بخورًا في معبد... وكان ارتفاع الكعبة عند حدوث الغرق والحريق تسع أذرع؛ أي نحوًا من سبعة أمتار، ولم يكن لها سقف، وكان بابها بمستوى الأرض فيدخلها من شاء ويلقي فيها الناذرون نذورهم من حلي ومتاع وطيب وقراريط (اسم النقود في عهدهم)(1) فتقع في خزانة الكعبة (صندوق النذور) وهي بئر عند بابها على يمين الداخل، وطالما سرقها اللصوص كما فعلوا بالسلاح والحلي التي عثر عليها عبد المطلب عند حفر ،زمزم، فأرادت قريش هدم الكعبة وإعادة بنائها وأن يشيدوها ويرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاء وا؛ وإذن تعد سنة 605م بداية عهد جديد للكعبة؛ لأن أصحابها أرادوا أن يقيدوا الدخول إليها ويمنعوا كل طارق، ولعلهم جعلوا على الدخول أجرًا ولو قليلا ليزيدوا كسبهم، فربطوا فكرة التقييد بالتجديد والتعلية، وأعدوا لذلك نفقة اشترط أبو وهب خال عبد الله أبي محمد وهو من أشرافهم وعقلائهم أن لا يدخل النفقة مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس. وهذا يدل على أنهم ترقوا درجة في تقديس الكعبة ببنائها بمال مما وصفه الإسلام بعد ذلك بأنها مال حلال، وقد يكون لحلف الفضول بعض الأثر في التمييز بين السحت والحلال؛ لأنه أول عهدهم بالعدل القومي الذي يشمل قريشًا، وغيرها، ولا سيما الغرباء والوافدين. وقد جمعوا المال بالاكتتاب في دار الندوة شأنهم في كل ما كان له مساس بالمال الذي ينفق في المنافع العامة. واجتمعت القبائل والمعقول أن القبائل أوفدت أفرادا تمثلها؛ لأنه لا يُقبل أن تترك القبائل بأسرها أعمالها لتنقطع لهذا العمل؛ فكانوا يجمعون الحجارة، وبلغ منهم رغبة التفرد وإبراز الشخصيات أن كل قبيلة كانت تجمع الحجارة على حدة، وكان محمد صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة، شأنه في التعاون مع قومه في السلم والحرب، ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر؛ لأنهم هابوا هدمها وفَرَقُوا منه خشية أن يغضب رب البيت فيسبب لهم بلاءً، حتى زعموا أن الله أرسل إليها أفعى كبيرة تحرسها وهو من الوهم وتمسك الجاهلية بمبدأ « لا مساس» تابو (انظر كتاب سيجموند فرويد الطوطم ولا مساس عند الأمم القديمة). ولم تكن الكثرة فيهم تميز بين الهدم للإزالة وبين الهدم للإصلاح، حتى تقدم الوليد بن المغيرة أحد أذكيائهم وقال لهم عندما بدا رعبهم وجمدت أيديهم دون المعاول: «الله لا يُهلك المصلحين أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها. وقال يخاطب الكعبة وهو يضرب بالفأس: «اللهم لم ترع فلا نريد إلا الخير). ثم هدم من ناحية الركنين وقد بُهت الجمع من جرأته، وما زالت المخاوف تساورهم فتربصوا تلك الليلة وقالوا ننظر، فإن أصيب الوليد بن المغيرة بسوء فلن نهدم شيئًا ونردها كما كانت. فأصبح الوليد من ليلته غاديًا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى بهم الهدم إلى الأساس الذي وضعه إبراهيم. فكان حذرهم أكبر من أن يزول بالمشاهدة، بل صبروا ليلة ليروا أثر «المساس» في الاقتصاص من الوليد أو العفو عنه، فيكون علامة على الرِّضَى من رب البيت. وروى المؤرخون أنهم عثروا في أساس الكعبة بمكتوب ومحفور على حجارة فدعوا رجالًا من يهود وحمير لفك الخطوط التي كانت عبرية وثمودية ويمنية؛ فترجموا بعضها وكتموا البعض، وقال أحد الكاتمين: «إن فيها لحرفًا لو حدثتكموه لقتلتموني.» فكتموه ولعل الرجل جهل الخط فاخترع العذر لينجو من تهمة الجهل، أما قول من قال إن فيه ذكر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبعيد. وجدت قريش في البحث عن الخشب حتى وجدت سفينة جانحة بساحل الشعبية. وهو أقرب السواحل إلى مكة قبل اتخاذ جدة ثغرًا. فابتاعوا الخشب واستخدموا يواقيم الرومي النجار أو البناء الذي وجدوه على قيد الحياة بجوار السفينة المحطمة، وما زال شاطئ البحر الأحمر طوال أرض الحجاز قاسيًا حافلا بالشعب والصخور التي تصدم السفن فتحطمها، وكان إدخال الخشب في البناء بدعة؛ لأنهم أرادوا تسقيفها وجعل بعضه يتخلل مداميك العمارة. ولا ندري ما يصنع المكيون لو لم يعثروا على الخشب والنجار الرومي، فطاوعهم وقبل مقاولة العمل، ولا ريب أنه كان يعرف العربية أو أن فيهم من كان يتكلم الرومية كصهيب، ثم عاد أبو وهب عمرو بن عائذ خال والد النبي عبد الله بن عبد المطلب فقال: أرى أن تقسموا أربعة أرباع فكان شق الباب لعبد مناف وزهرة وما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل قريش، وظهر الكعبة لبني جمع وبني سهم ابني عمرو، وشق الحجر (الذي فيه الحجر الآن) لبني عبد الدار وبني أسد وبني عدي. ويفيدنا هذا التعداد أمرين: رغبة القبائل في تقسيم الشرف والبركة والنفوذ في بناء الكعبة كما ساهموا بالمال والعمل وسرد العشائر والبيوت والأسباط ذات النفوذ في مكة وبطحائها في أوائل القرن الثامن الميلادي قبل بعثة النبي بخمس سنين، وقد أورد المقريزي بيانًا آخر فقال: ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر: لعبد مناف.
والحجر كله لأسد وعبد الدار.
دبر البيت لمخزوم.
ما بين اليماني إلى الركن الأسود: لسائر قريش.
وأمروا يواقيم أن يجعل البناء على طراز الكنائس؛ لأن له عهدًا بتلك المعابد المسيحية في بلاده، ولكن لا من حيث التصميم وشق المحراب على هيئة صليب له قائم وجناحان، ولكن من حيث نوع بناء صميم الكعبة، فجعلها مدماكا من خشب الساج وآخر من الحجارة، وزادوا فيها تسعة أذرع فصار ارتفاعها أربعة عشر مترًا بارتفاع بيت حديث من ثلاث طبقات. وكان في جزيرة العرب مبانٍ أرفع منها كالحصون والقصور وبعض الكنائس، ولعل قصر بني عبد شمس وقصر عبد الله بن جدعان كانا يدانيانها في العلو، وصنعوا لبابها سلمًا فلا يُصعد إليها إلا في درج. ثم ظهر شح قريش؛ فقد ضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر، وهم الذين جمعوا ألف دينار دفعة واحدة ليعدوا جيشًا لمحاربة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك ببضع سنين! ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا؛ كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدوا للقتال، مفخرة تجمعهم وأخرى تفرقهم فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم وقد حدث مثله في حلف المطيبين. ولعق الدم ولعق النار والاحتكام إلى البشعة وهو الحديد المحمي؛ كلها من خصائص الأمم المتوحشة وذكر سبنسر الدم في توثيق العرى بين المتوحشين وفي تقديمه قربانًا للأرباب وشربه ولعقه (ص 265، ج6، من كتابه في فلسفته التحليلية فصل الاجتماع، طبع لندن 1893)، وقد سُميت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية آكلة الأكباد، كما سُمي بنو عبد الدار وبنو عدي (لعقة الدم). ودام النزاع بين القبائل أربع أو خمس ليال، ثم اجتمعوا في المسجد الحرام وكان أبو أمية بن المغيرة زعيم السن في قريش وهو والد أم سلمة إحدى زوجات النبي ومن عقلائهم وكرامهم ومات مشركًا فقال يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم (وهو باب بني عبد شمس في الجاهلية والآن باب السلام)، فعلق قضاءه على النصيب والحظ والمصادفة المحض، وجعل الفصل في الخلاف مكتوبًا لمن يسعده الحظ بحسمه، فكان أول داخل منه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلما رأوه قالوا: «هذا الأمين رضينا به، هذا محمد» لأنهم كانوا يتحاكمون إليه لأنه كان لا يداري ولا يماري فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: هَلُمَّ إليَّ ثوبًا. فأتوا به فأخذ الحجر الأسود ووضعه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بزاوية من الثوب ثم ارفعوه جميعًا. ففعلوا، فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وفي الثاني، زمعة، وفي الثالث أبو حذيفة بن المغيرة نفسه، وفي الرابع قيس بن عدي، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه محمد. وإن لم يكن محمد صاحب الاقتراح في التحكيم إلا أنه أظهر بديهة نادرة كما فعل كولومبوس في لغز وقف البيضة على عقبها ولم يخطر الحل ببال أحد من دهاة العرب، لا الوليد بن المغيرة ولا أخوه أبو أمية الذي وكل القضاء لأول من يدخل من باب المسجد. وكان الحق في شرف لمس الحجر وتركيزه لصاحب التفكير في الحل، وهكذا فاز محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتراف قريش بأمانته وذكائه وعدله وارتبط اسمه بالكعبة من ذلك الوقت. وهنا يذكر الرواة قصة إبليس الذي تجسد في صورة شيخ نجدي ليلقي بالفتنة بين القبائل بعد فوات الفرصة كما فعل في دار الندوة بعد ذلك بثماني عشرة سنة، والدليل على أن هذا الخبر موضوع أنه لم يكن موفقًا في إحدى المرتين، ولعل سبب وضعه حديث منسوب للنبي قيل في نجد «هناك الزلازل والفتن وفيها يطلع قرن الشيطان» (ج 1، ص 162، سيرة برهان الدين). والله أعلم بمكانة هذه النبوة من التحقيق؛ فإنها تشمل بقعة كبيرة من الجزيرة ولها في التاريخ شأن يُذكر. فلما فرغت قريش من البناء أعادوا الصور التي كانت في حيطان الكعبة وهي صور الأنبياء بأنواع الأصباغ، ومن بينهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام وإسماعيل وهو يستقسم وصور الملائكة وصورة مريم وعيسى. وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل. لو لم يكن بناء الكعبة على أيدي قريش خبرًا تؤيده التواريخ والأسماء وتبادل الآراء وجنوح السفينة الرومية وشخوص يواقيم إلى مكة واختلاف القبائل وتعدادها، لزعم المبطلون أن كل هذا الوصف الطويل وسرد الواقعات إنما وضعه المحبذون والمادحون بعد الإسلام ليفوزوا بوصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه «الأمين» بإقرار الزعماء، وبأنه صاحب الفكر الوقاد الذي حل معضلة الحجر الأسود وشرف وضعه بيده. وهؤلاء المبطلون يعرفون الحق أو يمارون فيه ويشككون الناس أو يتعالمون عليهم ويناقضون الواقع لغاية أو غير غاية ولكن يخونهم المنطق وتفلت من بين أيديهم قرائن قوية ترقى أحيانًا إلى درجة الأدلة التاريخية، من ذلك ذكر القبائل وتعدادها والتدقيق في وصف مخاوف العرب من لمس الكعبة والتعدي عليها بالهدم وإقدام أحد شجعانهم في الرأي (الوليد بن المغيرة)، ولو كانت غاية المحبذين مدح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورفع ذكر ما وصفوه في نفس الخبر بأنه «أقلهم مالا في بلد يتفاخر أهله بالمال، ولم يكن الفقر فيه موضعًا للمجد أو الإعجاب حتى لو كان صاحبه عبقريا. ولا ننسى أن محمدًا كان إلى هذا الوقت مفترضًا في نظر قومه أنه على دين آبائهم وإن يكن يضمر نقيض ذلك ويستره، ولم تكن نشبت بينه وبين قومه تلك الخصومة الأبدية على تغيير المعتقدات والتضحية بماضيهم في سبيل الدين الجديد؛ فقد حدث ذلك كله بعد عشرين عامًا. ولو أن النبي بقي على هذه الصورة لما ناصبه العداء أحد، ولعلهم كانوا يسوِّدونه لعقله وشرفه، وكان لا شك يخلف أبا طالب على زعامة بني هاشم أو بني عبد المطلب. فالخبر في رأينا، صحيح، وإن كانت تنقصه المدونات، وما كان أسهل أن توضع في جدار الكعبة لوحة بتاريخ تجديدها وأسماء من اشتركوا في بنائها بعد هدمها، ولكن الجماعة كانوا أميين بإجماع المؤرخين ولم نعثر لهم على سجل لتقييد حساب متاجرهم أو قوانينهم العرفية ولا تاريخ حروبهم، إلا ما حفظوه في صدورهم من أنسابهم وأخبارهم، حتى بنود حلف الفضول ونصوصه لم تدوّن في ورقة، مع أن الورق والكاغد كانا معروفين لهم بدليل وصف طرفة بن العبد خد ناقته بقرطاس الشامي؛(2) فلا قيد للمواليد ولا للوفيات ولا للقضاء ولا رصد للمال أو الضرائب ولا كتب مخطوطة البتة؛ فلا غرابة إذا هم لم يتركوا دليلًا كتابيًّا على هدم الكعبة ، وبنائها ، وحتى الحجارة أو الألواح أو الكاغد التي عثروا عليها في أساس الكعبة وفيها كلمات على لسان لها لم يحتفظوا بها دليلًا على قداسة معبدهم. نعم، إنها تخالف دينهم الجديد لأنها من آثار الحنيفية دين إبراهيم(عليه السلام)، ولكنها لا تزيد عن كونها إثباتًا لوحدة الله وبناء الكعبة وقسمة أرزاقها وتعيين اللبن واللحم والماء بالبركة والوفور، وهو ما دعا به إبراهيم(عليه السلام) لأهل الحجاز من نسل ابنه إسماعيل، ولو أن المعاصرين عثروا عليها وأرادوا الاحتفاظ بها لدرست وعفى عليها القدم بمضي الزمن، ولكن العنعنة ما زالت محفوظة لديهم كما كان شأن جواهر الشعر والنثر التي أدلى بها الرواة والحفاظ إلى الأجيال اللاحقة وإن شككنا في صحة الأقوال والأفعال لشككنا أيضًا في شخصيات الجاهلية، مع أن أمثالهم يقولون ويفعلون مثل ما قالوا وفعلوا. ونؤكد أن كثيرًا مما ورد في أخبار العرب وجدنا ما يؤيده في كتب المؤرخين القدماء من اليونان والرومان والمصريين والبابليين واليهود، وقد أشرنا إلى كل حادث في مكانه. ومن أهم المراجع غير سترابون وبلين، وبلوطار خوس، كتاب جيبون الذي لم يدخر وسعا في غربلة المراجع ونخلها وتنقيتها وتصفيتها. إن المكذبين والمرتابين ينسبون وضع الروايات عن الرسول زيادة في فضله أو رفعة في قدره ولا يقصدون إلا مؤرخي العرب وهم مسلمون، وهؤلاء المؤرخون المسلمون يعلمون أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.» فليس من العقل والمنطق أن يتزلف مؤرخ لمقام الرسول بخبر كاذب أو رواية موضوعة ليتبوأ مقعده من النار، وإن نسوا الحديث الأول فإليهم الحديث الثاني من حدَّث عني بحديث يرى آ أنه كذب فهو أحد الكاذبين. وإذن يكون المكذبون والمرتابون وهم يعلمون مداخل الأمور ومخارجها إنما يراودون الناس فيها عن عقولهم وإيمانهم لينقادوا لهم في الرِّضَى بها والمتابعة عليها. وإننا حين نتناول أصغر صغيرة في سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفعل ذلك بتدقيق نرجو أن يصحبه التوفيق، ونحن نشعر بأننا نتناول إنسانية وحدها لم يخلق الله على غرارها قد جعلها الله بمنزلة فوق منازل سائر البشر، ويمنعنا أن نقول فوق سائر الأنبياء ميل القرآن الكريم إلى المساواة بين المرسلين وذكرهم على لسان الرسول بوصف الإخوة مهما تفاوت عهدهم. وإن هذه المنزلة العليا لم تخرج عن منزلة البشر في أعراض الحياة، وما يكون فيها وما يأتي منها كالفقر والغنى والضعف والقوة والصحة والمرض والحب والبغض ما عدا الخلال التي نزهه الله عنها وعصمه منها. وتزداد ضرورة التدقيق والتحقيق لدينا لأن إنسانية الرسول ومن سبقه من الرسل هي التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها؛ لأن نقيض ذلك كله أو بعضه يخرج بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الذي عملوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا وتزهر دائمًا وتبقى على امتداد الدهر روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذا العالم وما يتلوه من العوالم.
................................................
1- قوله عليه الصلاة والسلام: «كنت أرعى بقراريط.»
2- ملحوظة لأرنست رينان ص 20، ج 1، تاريخ بني إسرائيل.