x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

الأدب الــعربــي : النقد : النقد القديم :

الخلاف بين البحتريِّ وأصحاب التَّصنيع

المؤلف:  شوقي ضيف

المصدر:  الفن ومذاهبه في الشعر العربي

الجزء والصفحة:  ص193-196

4-10-2015

3555

كان البحتري يستخدم أحيانًا بعض أدوات التصنيع ولكن في يسر وسهولة ودون أن يعقد فيها كما نرى عند جماعة المصنعين، فهو من أصحاب الصنعة وهو لذلك لا يستطيع أن ينهض بشعره إلى الغاية التي حققها أصحاب التصنيع، فقد كانوا لا يكتفون -على نحو ما سنرى عند أبي تمام- باستخدام أدوات هذا التصنيع استخدامًا ساذجًا؛ بل هم يحققون لها صورًا غريبة من التعقيد؛ وهم لا يكتفون أيضًا بذلك؛ إذ نراهم يدخلون ألوانًا ثقافية قاتمة، سرعان ما تتحول عنده إلى ألوان فنية زاهية.
لم يعد التصنيع في القرن الثالث على الصورة التي خلَّفها مسلم، ونحن نجد تصنيعه يتسرب إلى أصحاب الصنعة ويسقط إليهم دون تجديد فيه أو تعقيد؛ فهم يستخدمون -كما يستخدم البحتري- التصوير والجناس والطباق؛ ولكنه استخدام ساذج يخالف ما سنجده عند أبي تمام. ويتبين ذلك في وضوح إذ قارنا بين أهم لون كان يستخدمه البحتري وهو لون الطباق وبين نفس هذا اللون عند أبي تمام، واقرأ هذه الأبيات التي تذيع سر المهنة عند البحتري.
مني وصلٌ ومنك هجرٌ ... وفي ذلُّ وفيك كِبر
وما سواءٌ إذا التقينا ... سهل على خلَّة ووعر
قد كنت حرًّا وأنت عبدٌ ... فصرت عبدًا وأنت حرُّ
برَّح بي حبك المعنَّى ... وغرني منك ما يغرُّ
أنت نعيمي وأنت بؤسي ... وقد يسوء الذي يسرُّ
فإنك تجد فيها هذا الطباق الذي عرف به البحتري؛ ولكنه طباق ساذج لا تعقيد فيه ولا تعب ولا عناء ولا مشقة، طباق ضحل بسيط، هو أشبه ما يكون بتداعي المعاني، فلا خيال ولا عمق ولا فكرة؛ إنما وصل وهجر، وذلٌّ وكبر، وسهل ووعر، وعبد وحر، ونعيم وبؤس، وإساءة وسرور، ولكن هل تحس في هذه المعاني المتقابلة شيئًا من اللذة سوى ما فيها من تقطيع صوتي يدفعها عن السقوط؟
ونفس بناء هذه الأبيات ليس فيه مشقة ولا صعوبة، فالبحتري لم يكن يعرف -كما يعرف المصنعون- أن الشعر نحت وصقل وألوان معقدة؛ إذ كان يقف عند ظاهر هذا العمل فينقل الشكل، وقلما نفذ إلى الباطن وما يتغلغل فيه من تفكير بعيد، وما يستغرقه من خيال معقد وصور مركبة، لم يكن البحتري ليستطيع التعمق في فهم المذهب الجديد، فهو بدوي، وهو لذلك لا يحسن فهم أدوات الصناعة كما يفهمها صناع المدن في القرن الثالث، فإن استعمل أداة منها استعملها استعمالًا ساذجًا لا صعوبة فيه ولا تركيب، كما نرى في هذا الطباق؛ فإنه لم يكد يخرج به إلى صورة معقدة؛ إذ هو يفهم الطباق هذا الفهم البسيط الذي لا يضيف إلى الشعر جمالًا عقليًّا خاصًّا، ولكن انظر إلى استخدام هذا الطباق عند أبي تمام، فإنك تراه يستخرج منه أصباغًا تحيِّر وتعجب، واقرأ لأبي تمام هذا البيت الذي يصف فيه بعيره وما أصابه من نحول وسقم لكثرة أسفاره؛ إذ يقول:
رعته الفيافي بعد ما كان حِقْبَةً ... رعاها وماءُ الرَّوضِ ينهلُّ ساكبُهْ
فإنك تحس غرابة في الأداة، وكأنها تخالف مخالفة تامة تلك الأداة من الطباق التي رأيناها عند البحتري؛ ذلك أن أبا تمام لا يلجأ إلى المطابقة والمقابلة بين الأشياء، كما توحي الذاكرة بل هو يعود إلى عقله وفلسفته فيعمل فكره، ويُكدُّ ذهنه، حتى يستخرج هذه الصورة الغريبة من التضاد؛ فإذا بعيره يَرعى ويُرعى، يرعى الفيافي، وهو رعي غريب استحوذ على جهد عنيف من الشاعر، حتى استطاع أن يستخرج هذه الصورة المتناقضة أو المتضادة، والتي يحسُّ الإنسان بإزائها إحساسًا واضحًا أنها من نوع آخر غير طباق البحتري؛ فطباقه ليس فيه فلسفة وليس فيه عمق وليس فيه تفكير بعيد؛ هو طباق ساذج لا صعوبة فيه ولا تعقيد، هو طباق الذاكرة إن صح هذا التعبير؛ فهو يذكر الوصل فيأتي الهجر، وهو يذكر الذل فيأتي الكبر، وهو يذكر السهل فيأتي الوعر. وعلي هذا النظام ما يزال يصوغ طباقه فلا تحس فيه جمالًا إلا حين يخرج به إلى الملاءمة بين الأصوات؛ غير أننا إذا رجعنا إلى أبي تمام رأينا صبغًا حديثًا من الطباق على هذا النحو الذي رأينا فيه دابته تَرعى وتُرعى رعيًا غريبًا، وهي طباق فلسفي إن صح هذا التعبير، بل لقد كان أبو تمام -كما سنرى- يفصله عن الطباق القديم ويسميه: نوافر الأضداد، وقد استخرج هذه النوافر من ثقافته الفلسفية، وذهب يستخدمها استخدامًا فنيًّا واسعًا في شعره.
كان أبو تمام يستخدم الطباق استخدامًا فلسفيا، وهذا ما يفرق بين طباقه وطباق البحتري، بل هو نفسه الذي يفرق بين مواد الصناعة عند كل منهما.
فأبو تمام يدخل الفلسفة في العمل الفني على أنها شيء أساسي؛ فالشعر لا يخاطب الشعور فقط بل هو يخاطب العقل قبل كل شيء، وهو لذلك قد يعدل في أدوات التصنيع التي يستخدمها غيره، وهو تعديل يرضينا ويرضي عقولنا، ومن لا يروعه هذا الطباق الفلسفي الذي يقيمه أبو تمام على قانون الأضداد المعروف في الفلسفة؛ فإذا هو لا يعتمد على العبث اللفظي ولا على هذه المعاني التي تتوالي في الذهن حين نذكر الليل فيأتي النهار أو الضوء فيأتي الظلام أو غير ذلك من مقابلات تخرج من وعاء الذاكرة، بل هو يعقد هذا الطباق ويجعله عملًا عقليًّا واسعًا؛ ففيه خيال وفيه تناقض وتضاد، وفيه هذه الدابة التي لا تزال تَرعى وتُرعى، ترعى الفيافي وترعاها الفيافي! .