x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الفضائل

الاخلاص والتوكل

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة

الايمان واليقين والحب الالهي

التفكر والعلم والعمل

التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس

الحب والالفة والتاخي والمداراة

الحلم والرفق والعفو

الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن

الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل

الشجاعة و الغيرة

الشكر والصبر والفقر

الصدق

العفة والورع و التقوى

الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان

بر الوالدين وصلة الرحم

حسن الخلق و الكمال

السلام

العدل و المساواة

اداء الامانة

قضاء الحاجة

فضائل عامة

آداب

اداب النية وآثارها

آداب الصلاة

آداب الصوم و الزكاة و الصدقة

آداب الحج و العمرة و الزيارة

آداب العلم والعبادة

آداب الطعام والشراب

آداب الدعاء

اداب عامة

حقوق

الرذائل وعلاجاتها

الجهل و الذنوب والغفلة

الحسد والطمع والشره

البخل والحرص والخوف وطول الامل

الغيبة و النميمة والبهتان والسباب

الغضب و الحقد والعصبية والقسوة

العجب والتكبر والغرور

الكذب و الرياء واللسان

حب الدنيا والرئاسة والمال

العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين

سوء الخلق والظن

الظلم والبغي و الغدر

السخرية والمزاح والشماتة

رذائل عامة

علاج الرذائل

علاج البخل والحرص والغيبة والكذب

علاج التكبر والرياء وسوء الخلق

علاج العجب

علاج الغضب والحسد والشره

علاجات رذائل عامة

أخلاقيات عامة

أدعية وأذكار

صلوات و زيارات

قصص أخلاقية

قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)

قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم

قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)

قصص من حياة الصحابة والتابعين

قصص من حياة العلماء

قصص اخلاقية عامة

إضاءات أخلاقية

الاعتدال في أعمال الدنيا والآخرة.

المؤلف:  الشيخ علي حيدر المؤيّد.

المصدر:  الموعظة الحسنة

الجزء والصفحة:  ص 483 ـ 502.

2023-03-14

924

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): "يا علي لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلّا في ثلاثٍ: مرمةٍ لمعاش، أو تزوّدٍ لمعاد، أو لذةٍ في غير محرم" (1).

أعمال العقلاء وغاياتها:

في الحديث الشريف بيان لبعض الأمور التي ترتكز عليها أعمال العقلاء: أن يكون ظاعناً أي سائراً في ثلاثة أمور وهي مرمة لمعاش أو تزود لمعاد، أو لذة في غير محرم، وعلى الرغم من قصر الحديث لفظاً فإنّه قد جمع الغاية من الخلق من المبدأ إلى المعاد فجميع المخلوقات في هذه الحياة تعمل من أجل بقائها، فأيّ نوع من العمل يختار العاقل؟ ولماذا يعمل؟ أي ما هي الغاية من عمله؟ أمّا نوع العمل فقد حدّده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لوصيّه بثلاثة أمور:

1 - ما يدخل في توفير المعاش.

2 - ما يدخل في التزود للمعاد (الآخرة).

3 - ما يدخل في العون على سلامة الدنيا والآخرة معاً (لذة في غير محرم)، وسيأتي الكلام عن هذه الثلاثة في بيان الحديث الشريف بعد بيان مقدمة:

ما هي الغاية من العمل للمعاش والمعاد وحفظ النوع؟

الحكماء قسّموا الغايات إلى أقسام عديدة منها ما يرتبط بالخالق تعالى كغاية الغايات والغاية الأوّليّة وغاية الإيجاد والغاية بالذات وغيرها، ومنها ما يرتبط بالمخلوقات كالغاية البسيطة مثل الشبع في الأكل والغاية المركّبة كالتجمّل وإزالة الأوساخ وما شابه كلبس اللباس النظيف وهناك الغاية الشوقيّة والغاية الشهويّة والغاية الغضبيّة والغاية العقليّة.

والحكماء ينسبون الغاية إلى كلّ موجود في هذه الدنيا.

 قال السبزواري (ره):

وكلّ شيء غايةً مستتبع *** حتّى فواعل هي الطبائع

إذ مقتضى الحكمة والعناية *** إيصال كلّ ممكن لغاية (2)

وفي معنى ذلك في شرح المنظومة جاء:

«كلّ فاعل - حتّى الفاعل بالطبع - يستتبع غاية ومقصداً، فالإنسان الذي يريد بسيره غاية هي ملاقاة الصديق، أو قوة العضلات أو ما أشبه، والحجر الهابط يستتبع الوصول إلى الأرض، وهكذا. وإليه أشار بقوله: (وكلّ شيء) في فعله (غاية) مفعول مقدم (مستتبع) أي يستتبع ويطلب غاية من الغايات (حتى فواعل هي الطبائع) أي الطبائع التي تفعل الفعل بطبعها - كهبوط الحجر إلى الأرض - إنّما يستتبع غاية ومقصداً» (3).

أمّا قوله:

ومقتضى الحكمة والعناية *** إيصال كلّ ممكن لغاية

فإنّ الله تعالى حكيم كما ثبت في علم الكلام، أي أنّه تعالى يفعل لغاية

وهدف ويضع الأشياء في محلّها على الوجه الأكمل لمعرفته بها والدليل على ذلك جميع الخلق بما فيهم الإنسان والحيوان والنبات والأفلاك والجماد فكلّ مخلوق قد جهّز بما يحتاجه في حياته بشكل دقيق وجليل يشير إلى حكمة الصانع وهذه آيات تحسّسنا بحكمة الخالق وعظمته وقدرته وعلمه قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].

 وقال الإمام الرضا (عليه السلام) في دعائه:

«سبحان من خلق الخلق بقدرته وأتقن ما خلق بحكمته ووضع كلّ شيء منه موضعه بعلمه، سبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وليس كمثله شيء وهو السميع البصير» (4).

 

الهداية في كلّ شيء:

فخذ على سبيل المثال النمل واهتداءها إلى ادّخار قوتها وجمعها وتعاونها على النقل كتعاون الناس على العمل وعمدها إلى الحب لكيلا ينبت ويفسد عليها وإن أصابته نداوة أخرجته ونشرته حتّى يجف، فكيف بنا لو تأمّلنا في أنفسنا وفي الأفلاك وما شابه من المخلوقات العجيبة؟!!

 

قال العلامة الحلي (ره) في شرح التجريد:

«وجوب الوجود يقتضي وصف الله تعالى بالحكمة لأنّ الحكمة قد يُعنى بها معرفة الأشياء وقد يُراد بها صدور الشيء على الوجه الأكمل ولا عرفان أكمل من عرفانه تعالى فهو حكيم بالمعنى الأول وأيضاً فإنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام والإتقان ونهاية الكمال فهو حكيم بالمعنى الثاني» (5).

فالحكمة الإلهية عبارة عن خلق الأشياء على النحو الأكمل وسيرها نحو الغايات والكمالات اللائقة بها.

قال تعالى على لسان موسى (عليه السلام) مخاطباً فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49، 50].

 وفي معنى ذلك جاء في بعض التفاسير:

«والهداية إراءة الشيء الطريق الموصل إلى مطلوبه، أو إيصاله إلى مطلوبه.. وقد أطلق الهداية من حيث المهدي والمهدى إليه، ولم يسبق في الكلام إلّا الشيء الذي أعطى خلقه فالظاهر أنّ المراد هداية كلّ شيء - المذكور قبلاً - إلى مطلوبه ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده وينتهي إليها والمطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي أعطيه ومعنى هدايته له إليها تسييره نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض.

فيؤوّل المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شيء بما جهز به في وجوده من القوى والآلات وبين آثاره التي تنتهي به إلى غاية وجوده فالجنين من الإنسان مثلاً وهو نطفة مصوّرة بصورته مجهّز في نفسه بقوى وأعضاء تتناسب في الأفعال والآثار ما ينتهي به إلى الإنسان الكامل في نفسه وبدنه فقد أعطيت النطفة الإنسانيّة بما لها من الاستعداد خلقها الذي يخصّها وهو الوجود الخاص بالإنسان ثم هديت وسيرت بما جهزت به من القوى والأعضاء نحو مطلوبها وهو غاية الوجود الإنساني والكمال الأخير الذي يختص به هذا النوع.." (6).

 

الإنسان والغاية:

إذن أفعال الله تعالى لها غاية وهدف أمّا أفعال الممكنات فهل لها غاية وبالأخصّ الإنسان؟ ففي موقع الجواب نتكلّم عن الأخصّ وهو البشر لأنّه الأكمل وإن كانت المخلوقات كلّها كالحيوانات والنباتات والجمادات لها غاية وكمال فكمال الحيوان مثلاً في التغذّي عليه والاستفادة من جلده أو صوفه والنبات في تحسين وتلطيف الهواء والاستفادة من مواده وهكذا القمر والشمس والليل والنهار والجبل فهم مسخّرون بأمر الله تعالى لخدمة الإنسان. قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 5 ـ 14].

فأفعال البشر يمكن أن تتصوّر على قسمين:

1- قسم منها صحيح وهي الأعمال المعقولة التي تعطي نتائج حسنة ومفيدة وتوصلنا إلى الكمال اللائق.

2 - وقسم منها باطل كالشهوة المحرّمة والغضب وكذلك العبث أو الذي لا نتيجة له أي أنّه لا يؤثّر في الإيصال إلى الكمال اللائق أو السعادة الحقيقيّة كالتخيّل والشوق - بناء على رأي بعض الحكماء بأنّ كلا النوعين لهما غاية وهدف حتّى العبث - لأنّ التخيّل أو الشوق أو لعب الطفل إنّما هو مبتدأ لعلّة؛ نعم لعب الطفل يعتبر لهواً بالنسبة إلى المبدأ الفكريّ الذي هو منتف فيه وأمّا بالنسبة للعلّة فله غاية فيظهر أنّ لكلّ شيء غاية.

قال الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا: «قول من يقول: إنّ العبث فعل من غير غاية البتّة هو قول كاذب، وقول القائل أيضاً: إنّ العبث فعل من غير غاية البتّة هي خير أو مظنونة خيراً هو قول كاذب. أمّا الأول فإنّ الفعل إنّما يكون بلا غاية إذا لم تكن له غاية بالقياس إلى ما هو مبدأ حركته لا بالقياس إلى ما ليس مبدأ حركته وإلى أيّ شيء اتّفق.. وأمّا الثاني فلأنّ لانبعاث هذا الشوق علّة لا محالة» (7).

إذن أعمالنا بكلا قسميها نحن البشر لها غاية فمرّة توصلنا إلى الكمال اللائق لو كانت من القسم الأول وهي السعادة الحقيقيّة والفوز بالدارين ومرّة تكون من القسم الثاني فلا توصلنا إلى الكمال اللائق أو السعادة الحقيقية فهو وإن فقد الغاية العقلائيّة والكمال والحكمة ولكنّه كان يهدف إلى غاية تتناسب وشوقه أو إدراكه الخيالي.

ولنوضح ذلك بمثال:

لو أراد شخص أن يصنع كرسياً وهيأ كل المقدمات اللازمة لذلك ومن ثم صنعه فهو أمام حالتين إما أن ينتفع من ذلك الكرسي بالجلوس عليه أو بيعه أو أنّه صنعه ورماه بدون أن ينتفع منه، ففي الحالة الأولى يسمى حكيماً - أي له هدف وغاية كما قلنا - لأن الحكيم لا بد أن يكون في عمله:

1 - غرض وغاية.

2 - اختيار الهدف - الغرض - بناءً على الأصلح والأرجح في الفائدة.

3 - لأجل الوصول إلى النتيجة يختار أفضل الوسائل والطرق أو أقصرها.

وكلّ نقطة من هذه الثلاث لها تعليل فنقول لصانع الكرسي مثلاً:

لماذا صنعت الكرسي؟ يقول للهدف الفلاني كأن أجلس عليه ثم لماذا فضلت الخشب؟ الجواب لأجل المزية الفلانيّة كالخفّة والنوعيّة ثم لماذا استخدمت المطرقة مثلا؟ الجواب لأجل أنها الوسيلة الناجحة في هذا العمل وهكذا.

أمّا غير الحكيم فإنّه قد يفقد ذلك كلّه أو بعضه بناءً على رأي الحكماء أن لكل شيء غرضا. فلذلك يعتبر الحكيم من أصحاب القسم الأول من الغايات أي الغايات العقلية والمنطقية وهي أشرف الغايات وأما القسم لثاني من الغايات فيدخل ضمن الغايات الشهوية أو الوهمية.

وإلى الغاية العقلية التي هي أشرف الغايات أشار الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في وصيّته لأمير المؤمنين (عليه السلام): لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلاً في ثلاث:

1- إصلاح أمور المعاش: بقوله «مرمّة لمعاش»

2- إصلاح أمور المعاد: بقوله: «أو تزوّد لمعاد».

3- اللذّة المحلّلة: بقوله «أو لذّة في غير محرّم».

ولنتطرق الآن إلى الأعمال الثلاثة المختصة بالعقلاء وأصحاب الغايات النبيلة والشريفة:

أولاً: إصلاح أمور المعاش:

وقد عبّر عن ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بـ«مرمة لمعاش» فلماذا قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مرمّة دون غيرها؟

في اللغة: رمّ رمّا ومرمّة البناء أو الأمر أصلحه (8)، ولذا عبّر الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بمرمة لأنّ المعاش هو الذي يحتاج إلى ترميم دائماً إمّا بتطويره من الحسن إلى الأحسن وهذا يتصوّر في الإنسان الذي توفّرت لديه أمور المعاش كما لو نشأ في أسرة غنيّة تستطيع تكفّله بما يحتاج، فعلى العاقل هنا أن يكون ظاعناً نحو الأحسن حتى يعود بالفائدة على نفسه وعلى أبناء المجتمع فالنماء المالي وسط المجتمع الإسلامي مهم جداً لإقامة المشاريع الخيريّة وتطوّر المؤسسات الثقافية والاجتماعية، والفائدة التي تعود على نفس الفرد في بناء شخصيّته ومكانته واكتسابه الفضائل بتطوّره نحو الأحسن، أمّا لو لم يرمّم أمور معاشه وبقي على حاله الذي توارثه عن أسرته وما شابه فإنّه يهدم نفسه ومجتمعه لأنّه في حالة فقدان.

 

الدين وطلب الدنيا:

وهكذا لو نشأ في أسرة متوسّطة الحال أو ضعيفتها، عليه أن يكون ظاعناً في إصلاح أمور معاشه دائماً لأن تدافع الناس في أمور الدنيا ومشاكل الحياة تفسد أحياناً وضعه المعاشي فنرى الإنسان يعمل يوميّاً لأجل تحصيل المعاش له ولعياله ولكنّه معرض أحياناً للمرض وأحيانا يبتلى فيختل وضعه بسبب المعوّقات الخارجة عن إرادته، فتسبب ضعف مستوى معاشه ولهذا ينبغي أن يصلح من وضعه دائماً بحسن التدبير والتنظيم في أمور حياته بحيث لا يخرج عن الغاية العقلائية.

لأنّ المعاش وسيلة عقلائيّة للوصول إلى الحياة الأفضل والكمال الأتمّ.

فمالك السيارة يصلح سيارته ويلاحظها دائماً لأجل الوصول إلى مقصده وهكذا من قصد الآخرة فعليه إصلاح أمر دنياه وعيشه لتساعده على الوصول إلى مقصده. قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): والله إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتاها، فقال: تحبّ أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدّق بها، وأحجّ وأعتمر، فقال (عليه السلام): «ليس هذا طلب الدنيا هذا طلب الآخرة» (9).

وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أيضاً أنّه قال: "الكمال كلّ الكمال في ثلاثة وذكر في الثلاثة التقدير في المعيشة" (10).

بهذا تكون الدنيا وطلب المعاش كمالاً يبغيه الحكيم في فعله لأجل الحصول على الآخرة أو كونه وسيلة وقنطرة يعبر منها والاستفادة من ثمراتها للفوز بالآخرة.

 

نموذج من الواقع:

 مثلاً طالب العلم يحتاج لبلوغه مراتب عالية في تحصيله العلميّ أو استمراره على التحصيل إلى توفير بعض المتطلّبات كشراء الكتب وبعض متطلبات العيش كنفقة الزوجة والسكن والأولاد بحيث لا يخرج عن كونه وسيلة لذلك أي بقدر ما يصلح معاشه فإذا ما تعدى ذلك فإنّه يكون قد خرج عن الحد العقلائي ودخل في الغايات التي أوضحناها سابقاً والمنافية للحكمة. وهكذا التاجر فإنه بعد أن يصلح أمور معاشه يتوجب عليه صرف ما زاد عن حاجته بعد إخراج الخمس والزكاة من الواجبات في الأمور الخيريّة كبناء المدارس والمعاهد الدينيّة وإنشاء المؤسسات الخيريّة والعلميّة وما شابه ليكون بذلك قد عمّر دينه ودنياه.

قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].

 وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

«ومن بسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف الله له ما أنفق في دنياه، ويضاعف له في آخرته» (11).

 

التجارة مع الله تعالى:

والحقيقة هي كذلك في الواقع فلو تتبعنا أصحاب القدرة المالية الصحيحة والشرعية لوجدنا الأغلب يزداد بقدر ما أنفقه في سبيل مرضاة الله تعالى وفي الآخرة أيضاً له ضعف ما عمله في دنياه فالأجدر بنا أن تكون غاياتنا لأجل تلك الأضعاف لا لأجل أقل الأثمان في سبيل تعمير دنيا زائلة وهي عند أمير المؤمنين (عليه السلام) أهون من عفطة عنز أو عرق خنزير كما في قوله: «ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» (12).

قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

 فمن أراد أن تكون غايته لأجل المنفعة والخير فمن الضروري أن يختار الطريق الأرجح والأصلح لذلك وهو إصلاح المعاش لا البخل والاحتكار وما شابه من الغايات الشهوية والوهمية فإن البخيل يتوهم بأنه قد بنى له قصراً أو دنيا ثرية وإنما هو يبني لغيره وهو ميت لا محالة وهناك - في الآخرة - الفوز والسعادة الحقيقية والربح العظيم فمن يريد الربح فليتاجر مع الله تعالى وليس مع شيء زائل منقض..

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«يا علي ما أحد من الأولين والآخرين إلّا وهو يتمنّى يوم القيامة أنّه لم يعطِ من الدنيا إلّا قوتا» (13).

وقال الشاعر:

أماويّ إن يصبح صداي بقفرة *** من الأرض لا ماء لدي ولا خمر

ترى أن ما أنفقت لم يك ضائري *** وإن يدي مما بخلت به صفر

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوما وضاق به الصدر (14)

 

وقال آخر:

ألا يا جامع المال حريصاً *** على الدنيا ألم تخف السؤالا

أتجمعها وتكسبها حراماً *** وتتركها لوارثها حلالا

فيسعد من جمعت له وتشقى *** ألا أقبح بذاك المال مالا (15)

 

ثانياً: التزود للمعاد:

والهدف الآخر عند العقلاء من عملهم هو «التزود للمعاد». قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 57].

 قال الطبرسي (ره) في تفسيره: «أي كلّ نفس أحياها الله بحياة خلقها فيها ذائقة مرارة الموت بأي أرض كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت ثم إلينا ترجعون بعد الموت فنجازيكم بأعمالكم» (16).

والعودة بعد الموت إلى الحساب في يوم القيامة تسمّى بالمعاد والمعاد من أصول الدين الإسلامي التي على الإنسان الاجتهاد للاعتقاد بها.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «.. فليتزوّد العبد من دنياه لآخرته ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه فإنّ الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة» (17).

فالدنيا إذن هي المحطة الأولى وما بعدها هو الهدف فالعاقل الذي يريد الوصول إلى هدفه بأمان لا بد له من التزود من هذه المحطة ليفوز بالسعادة الحقيقية وهي النجاة يوم القيامة.

ومن أهوال يوم القيامة وأبسط مثال على ذلك لو أن شخصاً أراد السفر إلى مدينة ما أو مقصد ما سواء كان قريباً أو بعيداً فعليه تهيئة اللوازم لذلك فإذا كان يريد الذهاب بسيارته مثلاً فتراه يملأها من الوقود اللازم ويضع لوازم الإحتياط للطوارئ المستحدثة في صندوق سيارته تحسباً لكل حدث وأملاً في الوصول إلى الهدف بسلامة أو وصوله لغرضه هذا في أبسط الأمور الحياتية. فمن أراد الوصول إلى الغاية الأشرف والأنبل كيف يكون تزوده لها؟ فالدنيا قنطرة العبور إلى الآخرة وهي المحطة التي من عبرها ولم يتزود منها فقد حصل على الندامة والخسران وفي الآخرة حساب ولا عمل حتى يمكنه تدارك ما فاته، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 99 - 103].

 هذه عاقبة الأعمال يوم يحشر الناس أمام الخالق تعالى فكيف نتزوّد من هذه المحطة للنجاة في يوم المحشر؟

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام):

"لا يدرك أحد رفعة الآخرة إلّا بإخلاص العمل وتقصير الأمل ولزوم التقوى" (18).

وسبق أن قلنا إنّ الحكيم لا بد أن يكون في عمله ثلاثة أمور:

1 - الغرض والغاية وفي هذا المجال غرض الحكيم وغايته الفوز

بالآخرة.

2 - اختيار الهدف بناءً على الأصلح والأرجح وفي هذا الجانب على الحكيم أن يسير في طريق مرضاة الله بأرجح الطرق ومنها:

أ - أن تكون جل أعماله خالصة لله تعالى فكراً وعملا.

ب - التقوى وحسن المعاملة مع الناس.

ج- الاعتقاد الراسخ بأصول الدين والعمل بفروعه باتباع أوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه.

د - خدمة الناس وقضاء حوائجهم.

هـ - الهمة والنشاط في العمل وترك الكسل وغيره من الأمور المعيقة عن التقدم.

و - مجانبة الهوى والشهوات الباطلة.

ز - إعانة المظلومين والوقوف بوجه الظالمين.

وغير ذلك ممّا هو مذكور في الكتب الأخلاقية.

3 - لأجل الوصول إلى النتيجة يختار أقصر الطرق وأفضلها مثلاً إذا أراد شخصان تسلق جبل ما فكان أحدهما يحمل معه ما يحتاجه لهذه الرحلة فقط وعرف كيف يتسلق والآخر يحمل معه أثقالا لا فائدة منها بل قد تعيقه من كثرتها ويسير في طرق متعرجة فالنتيجة تكون مع الأول إذ يصل إلى هدفه بسلام والعاقبة تكون لصالحه والثاني قد يصل بعد عناء ومشقة وقد لا يصل أبداً ولهذا يشير الإمام أمير المؤمنين ع في خطبته أوائل خلافته الظاهرية: «بادوا أمر العامة وخاصة أحدكم وهو الموت فإن الناس أمامكم، وإن الساعة تحدوكم من خلفكم. تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأولكم آخركم» (19).

فمن اختار طريق الزهد والإخلاص والقناعة فإنه بالغ غرضه لا محالة ومن تخفف عن الذنوب وعن الشهوات والكسل ومساوئ الصفات فقد لحق وفاز.

موعظة بالغة:

روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لبعض تلامذته:

أيّ شيء تعلمت منّي؟ قال له: يا مولاي ثمان مسائل.

قال (عليه السلام)، قصّها علي لأعرفها، قال:

الأولى قال رأيت كلّ محبوب يفارق عند الموت حبيبه فصرفت همّي إلى ما لا يفارقني بل يؤنسني فى وحدتي وهو فعل الخير، فقال: أحسنت والله.

الثانية قال: رأيت قوماً يفخرون بالحسب وآخرين بالمال والولد وإذا ذلك لا فخر ورأيت الفخر العظيم في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]      فاجتهدت أن أكون عنده كريماً، قال: أحسنت والله.

الثالثة قال: رأيت لهو الناس وطربهم وسمعت قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41] فاجتهدت في صرف الهوى عن نفسي حتى استقرّت على طاعة الله تعالى، قال أحسنت والله.

الرابعة قال: رأيت كلّ من وجد شيئاً يكرم عنده اجتهد في حفظه وسمعت قوله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245] فأحببت المضاعفة ولم أرَ أحفظ ممّا يكون عنده فكلما وجدت شيئاً يكرم عندي وجهت به إليه ليكون لي ذخراً إلى وقت حاجتي إليه، قال: أحسنت والله.

الخامسة قال: رأيت حسد الناس بعضهم لبعض في الرزق وسمعت قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] فما حسدت أحداً ولا أسفت على ما فاتني، قال: أحسنت والله.

السادسة قال: رأيت عداوة بعضهم لبعض في دار الدنيا والحزازات التي في صدورهم وسمعت قول الله تعالى: {نَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] فاشتغلت بعداوة الشيطان عن عداوة غيره، قال: أحسنت والله.

السابعة قال: رأيت كدح الناس واجتهادهم في طلب الرزق وسمعت قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] فعلمت أنّ وعده وقوله صدق فسكنت إلى وعده ورضيت بقوله واشتغلت بما له عليّ عما لي عنده، قال: أحسنت والله.

الثامنة قال: رأيت قوماً يتّكلون على صحة أبدانهم وقوماً على كثرة أموالهم وقوماً على خلق مثلهم وسمعت قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3] فاتّكلت على الله وزال اتكالي على غيره، فقال له: والله إنّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وسائر الكتب ترجع إلى هذه الثمان مسائل (20)

ثالثاً: اللذة في غير محرم:

الأمر الثالث الذي على العاقل أن يسير نحوه هو اللذة المحللة، إذ إنّ طلب المعاش لغرض الفوز في المعاد يتطلب سعياً وجهداً في الحياة الدنيا وقد ركب الله تعالى الإنسان من روح وبدن أمّا الروح فغذاؤها الدعاء والذكر والتنزه عن كلّ معصية، وأمّا البدن فيحتاج إلى الأكل والشرب لحفظ البدن من التلف واللباس لحفظ العورة والأموال لحفظ الشرف والجاه والنكاح لحفظ النوع والنسل عن الانقراض كما أنّ الإنسان يحتاج إلى أمور أخرى كالسفر إلى الزيارة أو التبادل التجاري وما شابه من العلاقات الاجتماعية التي لا ينفصل عنها الإنسان. . ولذا يرد هنا سؤال:

هل تحصيل اللذة له موازين أم لا؟ والجواب أنّ اللذة لها موازين إذ ليست هي الغاية والهدف للإنسان وإنما هي وسيلة كما أن فعل الخير وسيلة للفضائل فاللذة وسيلة لتحصيل الكمال ويشترط فيها التوازن والاعتدال إذ لو أفرط الإنسان في تحصيلها فقد انتخب غاية خسيسة ودنيئة إلاً اللذة المعنوية لتحصيل العلم لا إفراط فيها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا، فأمّا طالب العلم فيزداد رضى الرحمن، واما طالب الدنيا فيتمادى في الطغيان» (21).

أمّا لو أفرط في اللذة الشهوية كالشره في الأكل والشرب والنكاح أو اللذة في القدرة كتحصيل المنصب أو الجاه عن طريق الظلم فهي غاية دنيئة، أو لو كان في جانب التفريط إذا لم يحافظ على قوام بدنه أو نسله، فلا يتمكن من تحصيل المعاش للفوز بالمعاد وبتعبير آخر إن الإسلام شرعة حكيمة تراعي حالة التوازن عند الإنسان لإيصاله إلى هدفه وكماله وتتجلى الحكمة في:

1- إشباع حاجة الإنسان التكوينية إلى الكمال الروحيّ. فإذا منع الأول ظلم حقّه وهو خلاف الحكمة وقد دفع الإسلام الإنسان إلى إشباع حاجاته الدنيوية، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

وفي رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام) قال:

".. فأكبر حقوق الله تعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق، ثم ما أوجب الله عز وجل عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك، على اختلاف جوارحك.." (22).

فالدنيا إذا وازن فيها الإنسان واتبع فيها نهج السماء تكون عوناً على الآخرة وكذلك إذا التفت إلى الأول فقط في تحصيل لذات الدنيا وترك الآخرة والكمال فهو ظالم لنفسه لأنّه أوقع نفسه عرضة لعقوبة الله تعالى وفقد الغاية قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]

ومعنى ذلك أن يقتر الله عليه الرزق في الدنيا بقسميه المادي والمعنوي عقوبة له على إعراضه عن ذكر الله وفي الآخرة خسران أيضاً ويحشر أعمى (23).

ولذا ينبغي على الإنسان أن يوازن بين حاجته البدنية وغايته الأخرويّة وكما أنّ الاعتدال والتوازن مطلوب في اللذة الشهوية والغضبية فإن الرسول الأعظم ص أوصانا بأن تكون اللذة من غير محرم أي أن طلب المال لتوفير المعاش يكون من الحلال ومن طرقه الشرعية ولقمة العيش أيضا تكون حلالا لا من مال الحرام والتزاوج بالطريق الشرعي والحصول على المنصب بالكفاءة والحكم بالعدل وما شابه، وكلّ ذلك يصب في حفظ المجتمع واستقامته فلا ربا ولا إبخاس لحقوق الآخرين، ولا زنا واختلاط الأنساب والمواريث، ولا ظلم أو ديكتاتوريّة حاكمة على الناس.

 فإنّ الاستخدام العقلائي لحاجة البدن الضرورية عن طريق الحلال يخلق مجتمعاً هادفاً يرفل بالعز والخيرات وتكون أعماله العبادية منسجمة مع أسبابها وعلل فرضها بتنزيه النفوس وتطييب القلوب مضافاً إلى صحة البدن وبقائه.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب يموت كالزرع إذا كثر عليه الماء" (24).

وكذلك التوازن والاعتدال في أمور البدن والروح يسمو بالإنسان وربما يجعله من أهل الكشف والكرامة وعلى حد تعبير بعض علماء الأخلاق:

إنّ الإنسان إذا وصل إلى حالة الاعتدال والتوازن في المزاج يصل إلى مقام الولاية ويصبح وليا من أولياء الله سبحانه، وهكذا كان علماؤنا الأعاظم كالشيخ أحمد بن فهد الحلي والمقدس الأردبيلي المعروفين بالكرامات وغيرهما.

 

المقدس الأردبيلي (ره):

المولى أحمد بن محمد الأردبيلي والمعروف بالمقدس الأردبيلي كان مثالا للإنسان الكامل السائر في الأمور الثلاثة المتقدم ذكرها ومن أحواله أنه كان يقاسم ما عنده الفقراء في عام الغلاء ويبقي لنفسه سهماً واحداً منها، وقد اتفق أنّه فعل ذلك في بعض السنين الغالية، فغضبت زوجته وقالت:

تركت أولادنا في مثل هذه السنة يتكففون الناس، فتركها ومضى إلى مسجد الكوفة للاعتكاف، فلمّا كان اليوم الثاني جاء رجل بدواب محملة من الحنطة الطيبة الصافية والطحين الجيد الناعم، فقال: هذا بعثه لكم صاحب المنزل وهو معتكف في مسجد الكوفة. فلمّا أن جاء المولى من الاعتكاف أخبرته الزوجة بأنّ الطعام الذي بعثه مع الأعرابي كان طعاماً حسنا، فحمد الله تعالى ولم يكن له خير منه (25).

وذكر التنكبانيّ في كتابه قصص العلماء:

إنّ الأردبيلي (قدس سره) أدلى دلوه في البئر لنزح الماء فأخرجه مملوء من الذهب والدنانير، فأرجعه قائلا: إنّ أحمد يريد الماء ولا يريد الذهب والدنانير (26).

هكذا كان متوازن النفس معتدل السلوك تجاه الدينار والدرهم الذي أغرى الملايين وسار بهم إلى الهاوية.

نهاية المطاف:

وبعد أنّ اتضحت لنا الأمور الثلاثة التي ينبغي للعاقل السير لتحصيلها فلماذا قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلا..» ولماذا ظاعناً؟

الذي يبدو لنا أنّه يصوّر الدنيا كسير الظعن (القافلة) والقافلة عندما تسير لها مبدأ ولها منتهى ويتخللها الطريق من المبدأ إلى المقصد وحياتنا الدنيويّة بالفعل هكذا إذ تبتدئ من الولادة وتنتهي بالموت وبينهما العمر فينبغي أن نصلح أعمارنا ونعيش حياتنا بالطريقة العقلائية لنصل إلى المقصد بسلام وإلا فإنّ الخلل فيها يسبب الخسران والندامة.

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ص 158.

(2) شرح المنظومة: ج2، الحكمة القسم الثاني، غرر رقم 47، ص 419.

(3) راجع شرح المنظومة: ص 311، فصل في الغاية.

(4) حق اليقين في معرفة أصول الدين: ج 7، ص 25.

(5) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 326.

(6) تفسير الميزان: ج14، ص166 ـ 167، سورة طه.

(7) إلهيّات الشفاء: للشيخ الرئيس، ج 1، ص 451 ـ 452.

(8) المنجد في اللغة: صفحة 278.

(9) فروع الكافي: ج5، ص 72، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة:

ح 10.

(10) فروع الكافي: ج 5، ص 87، باب تقدير المعيشة: ح 2.

 (11) الكافي: ج 2، ص154، ط 3.

(12) نهج البلاغة: خطبة 3 (الشقشقية) ص 50، صبحي الصالح.

 (13) البحار: ج 74، ص 54، باب 3، ط ـ بيروت.

(14) تنبيه الخواطر (مجموعة ورام): ج 2، ص 301.

 (15) روضة الواعظين: ج 2، ص430.

 (16) تفسير مجمع البيان: مجلد 4، ص 455.

(17) تنبيه الخواطر: ص 106.

(18) تصنيف غرر الحكم: ص 155، ط 1.

(19) نهج البلاغة: خطبة 167.

(20) تنبيه الخواطر (مجموعة ورام): ج 1، ص 303 ـ 304.

(21) البحار: ج 1، ص 182، باب 1، ح75، ط ـ بيروت.

 (22) البحار: ج 71، ص 2، باب 1، ح 1.

(23) راجع مجمع البيان: مجلد 4، ص 55، سورة طه.

(24) تنبيه الخواطر: ج 1، ص 46.

(25) روضات الجنّات: ج 1، ص 81.

(26) نقلاً عن أصحاب الإجماع: ص 155.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 شعار المرجع الالكتروني للمعلوماتية




البريد الألكتروني :
info@almerja.com
الدعم الفني :
9647733339172+