الحياة الاسرية
الزوج و الزوجة
الآباء والأمهات
الأبناء
مقبلون على الزواج
مشاكل و حلول
الطفولة
المراهقة والشباب
المرأة حقوق وواجبات
المجتمع و قضاياه
البيئة
آداب عامة
الوطن والسياسة
النظام المالي والانتاج
التنمية البشرية
التربية والتعليم
التربية الروحية والدينية
التربية الصحية والبدنية
التربية العلمية والفكرية والثقافية
التربية النفسية والعاطفية
مفاهيم ونظم تربوية
معلومات عامة
سوء الظن والنظرة المتشائمة
المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
المصدر: الحياة في ظل الأخلاق
الجزء والصفحة: ص79ــ86
6-5-2022
2435
الحصانة من سوء الظن شرط لإيجاد المجتمع السليم :
قبل كل شيء يلزم وجود الأمن والاطمئنان لبناء المجتمع السليم، فبدونهما لا يمكن تحقيق الحرية التي في غيابها تتعطل الطاقات الفكرية والجسمية والمادية والمعنوية؛ لأن هذه الطاقات تتجمع حول المناطق الآمنة وتفر من - نقيضتها - غير الآمنة.
ولكن حدود الأمن لا تنحصر بالروح والمادة فقط، بل الأهم منهما هو الأمن على الكرامة وصيانة الشخصية الاجتماعية لأفراد المجتمع.
ومن جهة أخرى ولتكميل هذه الأنواع الثلاثة من الأمن، يلزم وجود نوع آخر، عجزت القوانين الوضعية عن تحقيقه، ألا وهو «الأمن الفكري» الذي حاز قصب السبق في الأهمية من جهات متعددة.
وينقسم الأمن الفكري إلى شعبتين هما:
1- شعور الجميع بالأمن في محيطهم الفكري، وبعبارة أخرى: «الاطمئنان الروحي» أي أن يكون الإنسان مصوناً من الناحية الروحية والفكرية بحيث لا تتعرض روحه للضغوط من أية جهة، وأن لا يترك فريسة للعواصف الفكرية المناوئة المزعجة، بل يتمتع بروح هادئة مجردة عن أي اضطراب وقلق وشقاء .
2- الأمن من وجهة نظر الآخرين: أي أن لا يملي عليه الآخرون في محيطهم الفكري أفكارهم وآراءهم السيئة الفاسدة، وأن تصان كرامته وشخصيته حتى في دائرة أفكار الآخرين.
وبديهي أن بحث كل واحد من هذه الأنواع الأربعة من الأمن أي المادي والروحي والشخصي ـ ماء الوجه ـ، والفكري، لا سيما شعبتي القسم الرابع، يحتاج إلى حديث طويل لا مجال له هنا، لذا نود أن نبحث القسم الأخير منها، أي الأمن من وجهة نظر الآخرين.
فما تستطيع القوانين والحكومات الوضعية تحقيقه، بغض النظر عن نواقصها الأخرى، هو الأمن الروحي والمادي وأمن الكرامة والمكانة الاجتماعية فقط.
ولكن الأمن الفكري بشطريه، خاصة الحصانة من آراء الآخرين الفاسدة، لا تتحقق إلا عن طريق الرسالات الإلهية والأديان السماوية والمبادئ الأخلاقية فقط.
فكما نعلم أن القوانين وقواها التنفيذية، التي لها جوانب مادية بصورة عامة، لا تستطيع الوصول إلى (منطقة) القلب والفكر، وليس لها أدنى نفوذ في هذا المجال، والعقائد المذهبية والمبادئ الأخلاقية هي الوحيدة القادرة على النفوذ إلى هذه المنطقة وتحقيق الطمأنينة والاستقرار فيها.
وللإسلام قوانين واسعة ملحوظة في هذا المجال لتأمين ذلك الغرض، تعتبر من مميزاته العظيمة.
قال تعالى في محكم كتابه الكريم في الآية (١2) من سورة الحجرات مخاطباً عباده المؤمنين : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}.
ولعل السبب في تعبير القرآن الكريم بعبارة : { كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} هو كون أغلب ظنون الناس ببعضهم سيئة، لذا فقد حذرهم من خطر كبير وآفة عظيمة تهدد أمنهم في أفكارهم المتبادلة، وذكرها كمسألة عامة الابتلاء.
ولعل السر في تعبيره بعبارة «بعض الظن إثم» مع أنه أمر باجتناب كثيره في بداية الآية هو وجود احتمال صحة قسم من ظنون الناس ببعضهم، لكن المسلم به هو أن القسم الآخر منها مغلوط لا صحة له، ويُعد ذنباً ومعصية، فلذلك يحكم العقل باجتناب الجميع في هذه الحالة لتوقي الابتلاء بهذا القسم.
وقد أكدت الأحاديث الإسلامية الشريفة اجتناب سوء الظن بالمؤمنين لدرجة أن الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء»(١).
والجدير بالانتباه إليه في هذه الرواية بشكل خاص هو أنها ذكرت أركان الأمن الأربعة وحرمتها بعبارة واحدة.
* أسباب سوء الظن :
قد يبرز سوء الظن بصورة طفيفة، وقد يبرز بصورة حادة ومتأصلة «بشكل مرض نفسي» ، وعلى أية حال فيمكن أن تكون هناك أسباب مختلفة للموضوع، منها:
1- كثيراً ما تكون دوافع سوء الظن، الانتقام والحقد والحسد، فلو عجز الإنسان عن الانتقام من خصومه بصورة علنية أو فضحهم باللسان لهجم من منطقة الفكر والقلب عن طريق اتهامهم بالقبائح ولومهم وتوبيخهم عليها ليشفي غليله بهذه الطريقة، أي أن ما عجز عنه ولم يحصل عليه في الواقع، يحاول الحصول عليه في عالم الذهن والخيال ليحس باللذة والاطمئنان الكاذب.
وتعتبر هذه الحالة إحدى حالات الهروب من الواقع والاعتصام بالوهم والخيال التي أثبتها اليوم علم النفس.
وهذا المعنى لا ينحصر بهذه الحالة، فجميع الحالات التي لا تشبع رغبات الإنسان فيها من الخارج تختفي مكبوتة في منطقة اللاشعور، وتندفع وراء البدائل الخيالية والذهنية لتسد الفراغ الذي حصل من هذه الناحية، وقد تبرز في عالم المنام أحياناً.
وأحياناً أخرى في عالم الأجواء الشاعرية أو في أحلام اليقظة لذا نرى أن الشعراء المقتدرين، الذي يلاحظ في أشعارهم المعاناة والحرقة والتأثير، هم - علاوة على نبوغهم الشعري - ممن واجهوا في حياتهم التيه والضياع والانكسار والفشل، أو ممن تورطوا بالعواطف الجياشة وحالات العشق المذهلة، فأخذوا يفتشون عن معشوقهم في عالم الخيال في اللطائف الشعرية والطرائف الأدبية، فنمت قواهم الخيالية بصورة غير طبيعية. (و كما هو معروف فكلما كان الشعر خيالياً كلما ازداد رونقاً وجمالاً).
والخلاصة هي أن الهروب النفسي إلى الخيال مصدر لكثير من الحالات النفسية التي يعد سوء الظن واحداً منها.
2- أحياناً يكون سبب سوء الظن هو عدم صفاء نفسية الإنسان، كما أن حسن الظن الكثير بالآخرين، قد ينبع من صفاء وطهارة روح المرء، ويظهر هذا لدى البسطاء وقليلي الإطلاع بصورة أوضح.
3- تبرئة الذات أو تبرير فعلها أمام محكمة الوجدان (الضمير): يعتبر هذا عاملاً آخر من عوامل سوء الظن أيضاً؛ لأن الإنسان يحاول أن يجد له شركاء في ذنبه عن هذا الطريق، فيظن بالآخرين سوءاً ليبرر قبائحه أو يقلل من أثرها أو يظهرها بمظهر طبيعي ليقول: «إني لست الوحيد الذي تورط بمثل هذه القضية الرذيلة».
4- قد ينشأ سوء الظن أحياناً من التكبر وحب النفس؛ لأن أمثال هؤلاء يرغبون بالتقدم على الأقران بأية وسيلة، لذا يحاولون التفكير بإيجاد عيوب لهم كي يصغروهم ويعظموا أنفسهم.
5- المحيط التربوي وإيحاءات الأبوين والمعلم، من الأسباب المهمة لذلك.
6- مصاحبة الأشرار: فغالباً ما تكون ملاكات آراء الإنسان الكلية استقراءات ناقصة للأفراد الذين يتعامل معهم، كما أن آراء الناس، حول مدينة أو قرية أو دولة أو شعب من الشعوب، نابعة من خلطائهم، فلو كانوا أشراراً لساء ظنهم بالجميع طبعاً، كما جاء ذلك في الحديث الشريف: «مجالسة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار».
7- قد يكون لسوء الظن بعض الأسباب الواقعية أحياناً، كأن يعود الفساد في مكان أو قوم ما، فيسوء ظن الإنسان بالجميع، وفق المبدأ العقلي: «الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب».
* الأضرار الاجتماعية للنظرة المتشائمة :
إن الأضرار الاجتماعية لهذا الانحراف الأخلاقي كبيرة جداً وآثاره السيئة واسعة ومن جملتها.
1- يتسبب سوء الظن في انعدام الفهم الاجتماعي الصحيح؛ لأن الذين يصابون بهذه الآفة وينظرون لكل شيء بنظرة متشائمة يتورطون بأخطاء كثيرة في معرفة وضعية الأفراد وأحداث الحياة والأسباب والدوافع الصحيحة لما يدور حولهم في المجتمع، ويعيشون في عالم خيالي على خلاف ما هو موجود في الواقع، وإن انعدام الفهم الصحيح لأحداث الحياة سيسبب التخلف وتفويت الفرص وفقد الأصدقاء، والسقوط في خضم هذه الأحداث.
2- إن النظرة المتشائمة وسوء الظن من أكبر موانع التعاون الاجتماعي والاتحاد والإلفة القلبية، مما يجر الإنسان إلى العزلة والانزواء والحذر من معاشرة الآخرين، وإلى جميع المفاسد الاجتماعية الناشئة من هذه الرذائل، وهذا العيب يسلب من الناس حسن اعتماد بعضهم على البعض وبالتالي تعاونهم لحل المشكلات.
3- سوء الظن يقود الإنسان إلى التجسس على الاخرين، وكما ذكرنا سابقاً فإن التجسس منبع للغيبة والمفاسد الناشئة عنها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في الآية (١٣) من سورة الحجرات.
4- النظرة المتشائمة منشأ لكثير من موارد العداء والبغضاء، وأحياناً الحروب والنزاعات الدموية. فما أكثر العوائل التي تحطمت بمعول النظرة المتشائمة وما أكثر الأبرياء الذين استسلموا للموت نتيجة لسوء ظن ألصق بهم، وقد أشعل الظن السيء فتيل حروب عظيمة. قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
فكلنا يعلم كيف أن نظرة «الوليد» المتشائمة وسوء ظنه أوشكت أن تبيد طائفة من الناس، وكيف أن القرآن الكريم وضع حداً لهذه الكارثة الكبيرة عن طريق دعوة المسلمين إلى التبين والتحقق في مثل هذه الحالات (ولو أن البعض احتملوا تعمد الوليد لهذه المسألة) .
5- إن سوء الظن يطفئ سراج المحبة والصداقة بين الأصدقاء وينمي فيهم روح البغض والنفاق؛ لأن شخصاً كهذا يكون مجبراً على التظاهر بالمحبة لأصدقائه في الوقت الذي يخلو باطنه منها، وينظر إليهم نظرة متشائمة تبذر فيه روح البغض والنفاق.
وخلاصة القول هي أن الأضرار الاجتماعية لسوء الظن أكثر مما نتصورها، وما ذكرناه آنفاً ما هو إلا قسم منها.
* الأضرار الفردية لسوء الظن:
إن لسوء الظن والنظرة المتشائمة، بغض النظر عن أضرارها الاجتماعية، أضراراً فردية كثيرة أيضاً، لا يمكن تلاقيها، ونشير هنا إلى عدد من أقسامها المهمة:
1- إن النظرة المتشائمة منشأ لشقاء مؤلم للروح وعذاب للجسم واضطراب وقلق للخاطر، فالمتشائمون دائما منزعجون ويتعذبون بأوهامهم وتصوراتهم الخاطئة عن الآخرين وأحداث الحياة، فهم يفرون من معاشرة الآخرين التي تعتبر من الوسائل الطبيعية المؤثرة في إنعاش الروح الإنسانية؛ لأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا عمل أي شخص بريئاً من الأغراض المريضة!
فهم يحذرون من الانفتاح القلبي الذي يعد وسيلة لإزالة أو تخفيف الهموم والمصائب؛ لأنهم يحتملون في هذا فضح أسرارهم أو خلق مشاكل أخرى لهم! لذا غالباً ما تراهم خاملين مهمومين ويتحولون تدريجياً إلى موجودات عاطلة لا فائدة فيها.
فلو اشتدت حالة التشاؤم هذه عند الإنسان لسببت له عواقب وخيمة لدرجة تجعله يستوحش من كل شيء، ويفسر جميع حوادث الحياة تفسيراً سلبياً ويتصور أعمال الآخرين الطبيعية مؤامرات ضده ويعتقد بأن الجميع مصممون على إيذائه.
ومن البديهي أنه يجب اعتبار هذه الحالة جزءاً من الأمراض النفسية وخارجة عن علم الأخلاق. لأن جميع الانحرافات الأخلاقية ترتبط بعلم الأخلاق ما لم تتعد حدودها الطبيعية، وينفرد علماء الأخلاق في علاجها، لكنها عندما تخرج عن حالتها الطبيعية، التي يمكن لمسها عند أغلب الناس، تخرج من موضوع علم الأخلاق لتصير مرضا، فجميع حالات: الحسد والتكبر والحقد والمراءاة وما شاكلها، تدخل في هذا القسم.
والجدير بالانتباه إليه في سورة المنافقين هو أن لله سبحانه وتعالى، ضمن بيانه لحالات المنافقين، اعتبر سوء الظن والنظرة المتشائمة من صفاتهم حيث قال عز وجل : {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}.
وهذا النوع من سوء الظن طبيعي ومتوقع الحدوث؛ لأنهم يجعلون أنفسهم مقياساً للآخرين ويتصورون أن الآخرين يعلمون بسرائرهم، ويعملون على الانتقام منهم، لذلك فهم يعيشون حالة خوف مستمرة، والمثل المعروف (المريب خائف) أو (الخائن خائف) يعبر عن هذه الحالة.
2- قد تؤدي النظرة المتشائمة إلى الخلق، إلى التشاؤم وسوء الظن بالخالق وتسري إلى المبادىء العقدية للإنسان فيشك أحياناً بعدالة الله وأحياناً أخرى بقدرته عز وجل : وقد يشك في الأنبياء أيضاً ويتصور في قلبه أن رسائلهم السماوية ما هي إلاه تمثيل مسرحي للتسلط على الناس وكسب العوام، مع أنه يمكن أن يعتقد ظاهرياً بأصول الدين.
ويمكن أن يكون هذا هو السبب في عدم تصديق الكثر من المجرمين والمنافقين بدعوات الأنبياء.
3- المتشائمون محرومون من صفاء الروح في الغالب؛ لأنهم مشغولون في داخلهم باغتياب الآخرين، لذا أطلق بعض علماء الأخلاق على سوء الظن تسمية «الغيبة القلبية».
ذلك هو قسم من الأضرار الفردية لسوء الظن والنظرة المتشائمة .
______________________________
(١) المحجة البيضاء، ج٥، ص ٢٨٦.