أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-4-2017
984
التاريخ: 9-08-2015
800
التاريخ: 9-08-2015
872
التاريخ: 30-07-2015
969
|
...إن المهاجرين والأنصار تركوا تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن أمر الخلافة كان في غاية الاهتمام ، وربما يترتب على تأخيره المفاسد التي يتعذر تداركها أو يتعسر ، بخلاف تأخير تجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنه مع عدم المفسدة كان أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعض الأصحاب مشغولا به ، والأمر المخوف فواته هو المتعين بالمسارعة .
ولم يكن سبب ترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عدم علمهم بما يقتضيه مرتبته ، بل علموا شناعة تركه في تلك الحال ، ومع هذا لم يبالوا بها وسارعوا إلى السقيفة ، لخوفهم من تأخير الفوات ما خافوا فواته .
وبعد ما حضروا السقيفة احتج الأنصار والمهاجرين بما احتجوا ، وظهر ضعف ما تمسك به الأنصار وقوة ما استدل به المهاجرون ، ورجحان أبي بكر بينهم بما ذكر الرجلان فبايعوه به ، وسعد بن عبادة لكونه صاحب غرض لا يلتفت إلى قوله في الاجماع ، ومخالفة بعض الأصحاب ، مثل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وطلحة والزبير وأبي سفيان وغيرهم ، قد ارتفع بعد مدة واستقر الاجماع على الأمر ، ولو تنزلنا عن هذه المرتبة وقلنا باعتبار مخالفة سعد في الاجماع ، قلنا بعد وفاته في أوائل عمر استقر الاجماع على إمامة عمر ، وإمامته تدل على إمامة أبي بكر بوجهين : أحدهما عدم القائل بالفصل ، وثانيهما فرعية إمامته على إمامة الأول ، وحقية الفرع كاشفة عن حقية الأصل .
ويمكن أن يقال : تحقق الاجماع بعد وفاة سعد ، بأن أبا بكر كان إماما في زمانه أيضا من غير حاجة إلى التمسك بعدم القائل بالفصل والفرعية .
وفيه نظر من وجوه :
أما أولا ، فلأن الأمر الذي كان في شأنه ذلك الاهتمام هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) عالما به أو لا ؟ فإن كان عالما به فلم لم يعين الخليفة ؟ مع كون طريقته الشائعة تعيينه من له أدنى امتياز ومتبوعية في أمور ضعف احتمال المفسدة فيها وأمكن التدارك بأيسر وجه إن حصل أدنى مفسدة ، فكيف لا يبين هذا الأمر العظيم الذي في اختلاله ووضعه في غير موضعه مفاسد عظيمة ، منها عدم رعاية حق أهل البيت مع وصية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وظهورها بينهم ، واختلاف الصحابة وتشويش أحوالهم وتخويفهم للبيعة ، واستمرار الاختلاف والتشويش بين الأمة على ما ترى وغيرها مما ترتب على أمر الخلافة .
وأيضا كيف لا يبين مثل هذا الأمر ؟ مع خفاء المستحق بين الناس واختلاف الأهواء فيه ، وكون الأمور الدنيوية والدينية منوطة به ، وأصحاب التدبير من الملوك يعينون المستحق للسلطنة بزعمهم أو بهواهم ، نظرا له أو للرعية أو لهما عند ظهور أمارة قرب الموت ، بل قبل ظهورها أيضا ، فكيف ينسب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إهمال مثل هذا الأمر الذي في إهماله المفاسد العظيمة التي علمت بعضها ؟
وإن قلت إنه لم يكن عالما به ، فكيف كان أبو بكر وعمر عالمين عند شدة مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ظهور أمارة انتقاله إلى روضة الرضوان ، والاحتياج إلى التدبير في أمر الخلافة ، حتى تخلفا عن جيش أسامة ، مع غاية مبالغة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في خروج الجيش ولعنه على المتخلف كما يدل عليه الأخبار ، ولم يعلم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
ولو فرض عدم علمه ( صلى الله عليه وآله ) مع ظهور البطلان مماشاة معهم ، نقول : أرسل الله تعالى رسوله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الخلق لينقذهم عن الجهالة ويهديهم طرق الرشاد عن الضلالة ألم يلهمه تعيين الخليفة مع عظم الخطب ؟
وبالجملة مع ظهور حصول العلم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقرب الانتقال وأمر الخلافة ، يدل عليهما ما رووه ونقلته سابقا من قوله ( صلى الله عليه وآله ) " إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب " إلى قوله " أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " وغيره من الأدلة والآثار .
فإن قلت : لا ينفعكم الاستبعاد بعد ثبوت الاجماع على خلافة أبي بكر الدال على عدم التعيين .
قلت : مع دلالة كيفية ما جرى في السقيفة على أن البيعة لم تكن ناشئة عن اعتقاد استحقاق أبي بكر للأمر نتكلم في الاجماع أيضا .
وأما ثانيا : فلأن بعد حضورهم السقيفة تداركا لما خافوا منه ، وهو تولي سعد أمر السلطنة وقوة حاله ، بحيث لا يكونوا قادرين على دفعه ، لو كان غرضهم محض الخير ولم يكونوا قاصدين اختلاس السلطنة بأي وجه كان ، وجب أن يقولوا بعد حضورها ما حاصله : أيها المؤمنون كما أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خير خلق الله ، فمصيبته أعظم المصائب وحرمته أعظم الحرم ، فلا معنى لاشتغالنا بأمر قبل فراغنا عن أمره ( صلى الله عليه وآله ) ، فاتفقوا معنا بالمراجعة إلى المسجد والاشتغال بأمره ( صلى الله عليه وآله ) ، وبعد الفراغ نشتغل بالتأمل في هذا الأمر وما يقتضيه العقل والمرجحات العقلية والشرعية .
وأيضا أعلمنا بالأمور بأخبار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مع جمع من كمل الأصحاب مشغولا بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالضرورة ، لقباحة تركه رأسا ، فلا وجه لتأسيس مثل هذا الأمر الخطير بغير المراجعة إلى أمثالهم ، وبعد الفراغ من أمر التجهيز والدفن نستقر في مكان مناسب ونجول بالآراء الصائبة ، ونسمع حجة كل من يدعيها ، ونتأمل فيها مرة بعد أخرى لاستكشاف الحال ، وبعد المعاودة في النظر ومشاورة أصحاب البصيرة والخير والاطمئنان بالمستحق للأمر ، نقضي بما فيه تحصيل مرضات الله تعالى .
وخلو أمر السقيفة عن أمثال هذه الأمور مع اشتماله على ما اشتمل ، شاهد على أن بناء أمر السقيفة لم يكن مبنيا على الآراء ، حتى يظهر من الاتفاق في اللفظ بينهم على فرض التحقيق كونه كاشفا عن الاتفاق في الاعتقاد الذي هو المعتبر في الاجماع ، بل خلوه عما ذكرته واشتماله على ما عرفته شاهدا صدق على أن كان بناؤه على الأهواء والحيل التي لا تدل على اتفاق لاعتقاد لو فرض الاتفاق في اللفظ .
وأيضا ترك الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدل على غاية اهتمامهم في أمر الدين ، حتى لم يهربوا عن شناعة ترك أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلمهم بكون أمر الخلافة أهم ، والمنفعة التي تترتب على انتظامها أتم ، فذهلهم المسارعة إلى مرضات الله ترك الرسول والمسارعة إلى أمر به تشييد الأصول ، وأمثال هذه الجماعة لا يفعلون ما لا يكون فيه مرضات الله تعالى ، لدلالة فعلهم على غاية الاهتمام في أمر الدين ، حتى لم يبالوا بما قال الجاهلون بحالهم بمقتضى شريفة {وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] ورواية " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " شاهدة لهم ، فكيف يولون من لا حق له .
وإذا كان حالهم وشأنهم ما عرفت ، فإما أن كانوا يولون سعدا أمر السلطنة والخلافة ، أم لا . فإن ولوه كانت الخلافة تثبت بتوليتهم لكونهم جماعة كثيرة من أهل الخير والصلاح ، ومن كمل المسارعين إلى مغفرة من ربهم ، ومن الأصحاب الذين عرفت مرتبة الاقتداء بهم ، ولا يفعل مثل تلك الجماعة بل بعضهم ما لا يوافقه الشرع الأنور ، ولا غضاضة على إطاعة الشرع . وإن لم يكونوا يولونه لعدم استحقاقه الأمر ، وكونهم على الصفات المذكورة يمنعهم عن مثل هذا الأمر الشنيع ، فلا باعث على حضور قريش السقيفة وترك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع افتخارهم بكونهم من الطائفة التي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) منها .
وبالجملة صفة الأنصار مانعة عن الظلم والطغيان ، فلا يصلح جعل اجتماعهم في السقيفة لاعتمادهم على قريش في تجهيز الرسول ( صلى الله عليه وآله ) واشتغالهم بأمر الخلافة على وجه شرعي سبب ترك قريش رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على وجه لا يليق بأوساط الناس بلا غرض شرعي .
فإن قلت : لم يكن الأنصار غير متهمين عندنا ، والمسارعة إلى السقيفة من أعظم أمارات الاتهام ، والرواية مع كونها خبرا واحدا معارضة بإخباره ( صلى الله عليه وآله ) بارتداد كثير من الصحابة ، ولو كانت حقا كانت مأولة البتة ، فحينئذ يمكن الخيانة في أمر الخلافة والمسارعة في البيعة قبل ظهور المستحق ، وتدارك الباطل بعد البيعة مما يتعذر أو يتعسر تعسرا شديدا ، واحتمال هذا الأمر بل ظهوره دعانا إلى ارتكاب ما يحكم بشناعة العقول تداركا لما هو من أعظم الأمور ، فما راعيناه أعظم مما تركناه .
قلت : إن كان الأنصار متهمين بالباطل ، يمكن ( 1 ) أن يكون قولهم بخلافة أبي بكر أيضا للدواعي لا الاعتقاد ، والعبرة في الاجماع هي الاعتقاد لا القول على تقدير تسليم الاتفاق في القول ، واتهامكم في أموركم مثل اتهام الأنصار أو أزيد ، كما ظهر... في أمر السقيفة.
وأما ثالثا ، فلأن عدم الالتفات إلى تخلف سعد ، والتعليل بكونه صاحب غرض لا وجه له ، وإنما يصح عدم الالتفات لو علم أنه يعتقد استحقاق أبي بكر وتخلف عن البيعة للغرض .
وأما إذا جوز مع كونه صاحب غرض اعتقاده عدم استحقاق أبي بكر - كما أومأت إليه - سواء اعتقد استحقاق نفسه أم لا ، فلا وجه لعدم الالتفات ، كما يظهر لمن تدبر في دلائل حجية الاجماع .
وأما رابعا ، فلأنه يجوز أن يكون بيعة بشير بن سعد للحسد على سعد بن عبادة ، كما ذكره حباب بن المنذر في السقيفة ، أو طمع الوزارة الموعودة والقرب كما ذكرته لا لاعتقاده الاستحقاق .
وأما خامسا : فلأنه يجوز أن يكون بيعة الأوس لكراهتهم خلافة سعد واستيلاء الخزرج ، كما نقل هذا القول عن بعضهم في حكاية السقيفة لا للاعتقاد .
وأما سادسا ، فلأنه يجوز أن يكون بيعة جماعة للخوف عن فظاظة عمر ، ألم تر أن سعدا مع كونه أعظم قومه بل أعظم أهل المدينة جاها يقول عمر في شأنه في وقت البيعة لما رأى القوة ببيعة جمع ، مع عدم حصول الاتفاق وعدم حضور كمل الأصحاب : اقتلوه قتله الله ، ثم قال : لقد هممت أن أطأك حتى يندر عضوك .
وأما سابعا ، فلأن الامتناع عن البيعة الذي ظهر من سلمان وأبي ذر وطلحة وزبير وعباس وأبي سفيان وغيرهم يدل على أمرين : أحدهما علمهم بعدم استحقاق الأول للخلافة ، وثانيهما كون بيعة الجماعة : إما لغرض جلب النفع ، أو دفع الضرر ، سواء كان ذلك الضرر احتمال إصابة بعض المكاره بعد الاستقلال أو استيلاء ما يكرهون استيلاءه أو للشبهة .
والظاهر أن بيعة أكثر العوام من هذا الباب ، لا لعلمهم باستحقاق الأمر بما جرى في السقيفة ، ولو لم يكن امتناعهم عن البيعة لعلمهم بالبطلان وعدم الاستحقاق لم يكن للامتناع معنى ، لأن الدلائل التي بها تمسكوا في استحقاق الأول للخلافة كانت منتشرة في ألسنة الناس ، بحيث لا يمكن خفاء أصل الدلائل ، لكونها مع كونها مذكورة في مشهد الناس لا خوف على إظهارها حتى يكون عدم العلم بها راعيا على الامتناع ، ولا خفاء مقتضاها لو كانت مقتضية لاستحقاق الأول .
وكيف يظهر على العام والخاص من غير حاجة إلى التأمل والمراجعة ولا يظهر على مثل سلمان وأبي ذر ؟ مع ظهور جلالتهما وقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في شأنهما ما قال ، ومع ظهور عدم احتمال ظهور الأمر على العامة والخاصة وخفائه على كل الممتنعين ، أو خفائه على البعض وامتناع البعض للدواعي ، لأن جلالة البعض مانعة عن الأمرين، واحتماله في البعض الآخر لا يضرنا ولا ينفعهم الاحتمال كاف لنا ومبطل لاحتجاجهم ، كما هو ظاهر لمن له أدنى ربط بقانون المكالمة .
ويدل على الجلالة ما روى ابن الأثير في جامع الأصول ، في آخر النوع الخامس من الفصل الثاني من الباب الرابع من الكتاب الأول من كتب حرف الفاء ، وهو كتاب الفضائل والمناقب ، من صحيح الترمذي ، عن بريدة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله تبارك وتعالى أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم ، قيل : يا رسول الله سمهم لنا ، قال : علي منهم يقول ذلك ثلاثا ، وأبو ذر والمقداد وسلمان ، وأمرني ربي بحبهم وأخبرني أنه يحبهم (2) .
وفي آخر النوع الأول من الفصل الثاني من الباب المذكور والكتاب المذكورين ، من صحيح الترمذي ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة : علي ، وعمار ، وسلمان (3) .
وفي أول النوع الثالث من الفصل المذكور ، من صحيح الترمذي ، عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى أن قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى ( عليه السلام ) في ورعه ، قال عمر : أفنعرف له ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم فاعرفوا له (4) .
وروى في مبحث فضائل أبي ذر ، عن ابن عمرو بن العاص ، قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر (5) .
ومن صحيح الترمذي ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبه عيسى بن مريم ، فقال عمر بن الخطاب كالحاسد : يا رسول الله أفنعرف ذلك له ؟ قال: نعم .
وقال : وقد روى بعضهم هذا الحديث ، فقال : أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم (6) .
وروى البخاري ومسلم حديثا طويلا في إسلامه ، يدل على جلالة قدره وعلو مرتبته (7) .
وفي فضائل سلمان الفارسي ، من صحيح الترمذي ، عن أبي هريرة ، قال : تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] قالوا : ومن يستبدل بنا ؟ قال : فضرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على منكب سلمان ثم قال : هذا وقومه . وروى رواية أخرى عنه قريبا منها مع زيادة قوله ( صلى الله عليه وآله ) : والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس (8) .
ويظهر من أمر الله تعالى بحب المذكورين في الرواية وإخباره بحبه إياهم ، وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر الحب والإخبار به أولا عند الاجمال ، وذكرهما آخرا عند التفصيل دلالة واضحة على اتصافهم بأعلى مراتب الكمال والصلاح ، كدلالة اشتياق الجنة عليه .
فأمثال هذه الجماعة كيف يمتنعون عن البيعة المأمور بها شرعا ، مع ظهور أمرها على المهاجرين والأنصار ، لعدم قدرتهم على فهم الحجج والدلائل الواضحات التي فهمها الخواص والعوام ؟ وعملوا بمقتضاها من سرعة الإجابة في البيعة ، أم للأغراض الباطلة التي لها الاستيلاء على أهل الأهواء ؟ وتجويز عدم القدرة في مدة الامتناع مع الظهور التام الذي يدل عليه مبايعة الأقوام بلا تأمل وروية بعد سماع الحجة ، مع اشتهار حججهم التي بني عليها أمر البيعة ، وعدم الباعث على الاخفاء لشوكة الطالب وعدم المعارض لا معنى له .
والأغراض الباطلة كيف تتطرق إلى أمثال تلك الجماعة ؟ كيف ؟ ومع كون إثبات الاستحقاق في أول الأمر أصعب وأشكل لم يحصل التوقف بعد البيان بين المبايعين أصلا ، وفهم تمامية حجة تلقاها الجماعة التي يحسن الظن بهم بالقبول أيسر لحصول غاية الاقبال التي هي سبب أسرعية الانتقال من فهمها قبل ذلك ، فامتناعهم بعد هذه المرتبة يدل دلالة واضحة على بطلان ما شيدوا به أمر البيعة ، وكون صاحب الحق غير أبي بكر .
وعلى تقدير عدم الدلالة الواضحة الاحتمال كاف لنا هاهنا ، لأن غرضنا هاهنا عدم ظهور كون البيعة على وجه يدل عليه الحجة التي يمكن التعويل عليها ، وعدم ظهور الاتفاق اللساني ما قد رووا على إظهار الخلاف ، وعدم ظهور اتفاق الاعتقاد في وقت من الأوقات .
وأيضا كيف لم يقل بهذا الأمر الواضح الذي به تقوية الدين والشرع من لم يضل الخضراء ولم يقل الغبراء أصدق لهجة منه ومن له شبه عيسى ( عليه السلام ) وزهده أول ما بلغه ؟ ولم يظهر الله أمر الخلافة له ، مع وضوح الحجة وبلوغ الدعوة ، حتى يسرع إلى هذا الخير أيضا ، على ما هو شأن من هو أدنى مرتبة منه ، مع أن الله تعالى هداه إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بغير دعوة بلغته ، وجعل الذئب وسيلة لإيمانه برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في بدو الحال ، ألم يكن في إنكاره خبرة للبصير بما وقع ولا الحيرة ؟
وأيضا ألم يدل امتناع سلمان عن البيعة مع إخبار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد السؤال بقولهم " ومن يستبدل بنا ؟ " بقوله " هذا " مشيرا به إلى سلمان في تفسير قوله تعالى {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [محمد: 38] على ضد مطلوبهم أقوى من دلالة البيعة والسكوت على مطلوبهم .
وأما ثامنا ، فلأن منازعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وامتناعه من البيعة تدل على بطلان ما شيدوا به أمر البيعة ، وإلا لكان أسرع المجيبين ، ولا يمكن أن يكون الامتناع ناشئا من عدم ظهور الحق عليه ، مع كون أمر البيعة على الوجه الشرعي، وكيف يجوز أن يظهر حقية أبي بكر ولزوم البيعة لأكثر الناس ولم تظهر لأعلمهم ؟ فلم يبق لسببية الامتناع أمر إلا علمه ببطلان الأمر ، وقوله ببطلان الأمر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببطلانه ، لتظافر الأخبار بقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يدور الحق مع علي حيث ما دار .
فإن قلت : لا نسلم أن تأخير البيعة وقع بعد الطلب ، وعلى تقدير وقوعه بعده ، فلا نسلم وقوعه لعدم القول باستحقاق الأول للخلافة ، بل للوحشة التي نشأت من عدم مشاورتهم إياه في هذا الأمر : وفي أمثال تلك الأمور قد يحصل نوع غضاضة لكمل الناس ، من غير أن يكونوا معتقدين بطلان الأمر ، ولا نافين لوقوعه على وفق الشرع .
ويؤيد ما جوزناه ما رواه ابن الأثير في جامع الأصول في الباب الثاني من كتاب الخلافة ، من صحيح مسلم ، عن عائشة ، قالت : إن فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والعباس أتيا يلتمسان ميراثهما من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإني لا أدع أمرا رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يصنعه فيه إلا صنعته - زاد في رواية : إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ - قال : فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس فغلبه عليها علي ، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم .
قال : في رواية فهجرته فاطمة ، فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر ، قالت : فكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة ، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي ، ومكثت فاطمة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ستة أشهر ثم توفيت ، فقال رجل للزهري : فلم يبايعه على ستة أشهر ؟ قال : لا والله ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي .
فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه ، ضرع إلى مصالحة أبي بكر ، فأرسل إلى أبي بكر ائتنا ولا تأتنا معك بأحد ، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر ، فقال عمر : لا تأتهم وحدك ، فقال أبو بكر : والله لآتينهم وحدي ما عسى أن يصنعوا بي ، فانطلق أبو بكر فدخل على علي وقد جمع بني هاشم عنده .
فقام علي فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فلم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكارا لفضيلتك ، ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك ، ولكن كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم علينا ، ثم ذكر قرابته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحقهم ، فلم يزل علي يذكره حتى بكى أبو بكر وصمت علي .
فتشهد أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فوالله لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وإني والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم عن الخير ، ولكن سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : لا نورث ما تركناه صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، وإني والله لا أدع أمرا صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا صنعته إن شاء الله ، ثم ساق الكلام إلى بيعته (9) .
وجه التأييد : تصريحه ( عليه السلام ) بأنه لم يكن مانعه من البيعة إنكار الفضيلة والنفاسة ، وما يشتمل كلامه ( عليه السلام ) عليه من أن الخلافة خير ساقه الله تعالى إلى أبي بكر ، فلو لم يكن أهلا لها لم يعبر ( عليه السلام ) عنها بالخير ، ولم ينسب سياقه إلى الله تعالى .
وبعد ما صرح ( عليه السلام ) أن مانعه من البيعة لم يكن ما ربما يتوهم الجاهل بمرتبة أبي بكر ، قال : مانعه أنه يرى أن له في هذا الأمر حقا فاستبددتم علينا ، ومراده ( عليه السلام ) من هذا الأمر إما الخلافة ، وإما المشورة ، والأول باطل ، لأنه صرح باستحقاق أبي بكر للخلافة ، وأن المانع لم يكن إنكارا لفضيلته والنفاسة ، علم أنه كان ( عليه السلام ) عالما باستحقاق أبي بكر للخلافة ، فتعين الثاني .
وصيرورة الوحشة مانعة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن تعجيل البيعة أقوى دليل على عدم منافاة التأخير في مثل هذا الأمر العظيم للوحشة للكمال ، لأنه بهذا الحديث الصحيح ظهر أن الوحشة كانت هي الباعثة على تأخيره ( عليه السلام ) عن البيعة ، وبالأخبار الصحيحة المتظافرة مثل حديث الطائر والمنزلة والراية وغيرها من الأخبار الكثيرة ظهر كونه ( عليه السلام ) في أعلى مراتب الكمال ، فوجب أن يحمل أن صيرورة الوحشة باعثة على تأخير مثل هذا الأمر ، والامتناع عنه مثل هذه المدة ليست قادحة في الكمال .
فظهر التأييد وتم المقصود بهذا الخبر الذي رواه مسلم الذي من أجلة الناقدين للأخبار ، وبهذا التجويز والتأييد خرجت بيعة المهاجرين والأنصار عن البطلان ، واندفعت المفسدة الواضحة التي هي خطأ مثل تلك الجماعة الذين قتلوا العشائر والأقارب لتحصيل مرضات الله تعالى ، وبذلوا الأموال والنفوس في إطاعته ، وإن سلم عدم الاجماع على ما قالت الشيعة .
قلت : فيه نظر من وجوه :
أما أولا ، فلأنه مع كون منع تأخير البيعة عن الطلب مكابرة صريحة ، كما يدل عليه السير والأخبار دلالة قول الزهري " فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر " ظاهرة (10) في امتناعه ( عليه السلام ) عن البيعة ما دام المقدرة ، وقوله ( عليه السلام ) " فلم يمنعنا أن نبايعك " صريح فيه .
وأما ثانيا ، فلأن منع كون امتناعه ( عليه السلام ) عن البيعة ناشئا عن اعتقاده ( عليه السلام ) عدم الاستحقاق لا معنى له ، لأنه لو كان قائلا به وبوقوع البيعة على وجه شرعي مع ظهور احتمال ترتب المفسدة على التأخير ، ولو كانت سوء الظن بالمحق كيف يجوز التأخير عنه ؟
وأيضا مسارعة الصحابة في الأمر المذكور يوم السقيفة كانت دالة على نهاية اهتمامهم في أمر الخلافة الدالة على كون التأخير فيه تهاونا في عمدة الواجبات المضيقة ، وبعد ما حصل الرضا وظهر الاستحقاق وأمكن البيعة ، كان تعجيل البيعة واجبا أو راجحا ، والوحشة عن فعل الواجب أو الراجح لا يليق بأوساط الناس ، فكيف تنسبونها إليه ( عليه السلام ) ؟ مع علمكم ببعض مراتبه ، فهذا التأخير دليل قطعي على اعتقاده بعدم استحقاق الأول الكاشف عن عدم استحقاقه في الواقع لدوران الحق معه حيثما دار .
وأما ثالثا ، فلأن تأخير بني هاشم أيضا كان : إما للوحشة ، أو لعدم بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ظنا منهم أنه ( عليه السلام ) يقول بعدم استحقاق الأول للخلافة ، وقوله بعدم
الاستحقاق يدل على عدم الاستحقاق ، أو لأنهم وإن كانوا عالمين بأن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عالم باستحقاق الأول للأمر لكن لما ترك البيعة للوحشة تركوها اقتفاء به ( عليه السلام) في الترك ، وإن لم يوجد ما دعاه ( عليه السلام ) إلى الترك فيهم .
والأول باطل ، لأن الوحشة على وقوع الأمر على وفق الشرع المطاع أعلمهم به وعلمهم بعلم الشريف والوضيع حقية هذا الأمر ، لا وجه لها ، فكيف يتركون البيعة الواجبة عليهم ستة أشهر ؟ ويتهمون البرئ بالغصب وأنفسهم بالعصبية ؟
لدلالة الترك على أحدهما ظاهرا .
والثاني لا معنى له ، لأن وضوح استحقاق الخلافة كان في مرتبة لم يخف على أوساط الناس ، فكيف يخفى على بني هاشم ؟ مع كونهم من كمل الصحابة وأهل العلم والتميز ، فلم لم يصر عدم بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) شبهة لغيرهم وصار شبهة لهم ؟ والأقربية لا مدخل لها في الشبهة ، فلم لم يعلمهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالاستحقاق حتى يتخلصوا عن هذا الظن ، هل كانت وحشة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مانعة عن الإعلام ، ولا يخفى أن ظن هذا بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) من بعض الظن .
والثالث لا وجه له ، لأن ترك أعاظم الصحابة المسارعة إلى الخير ، بل تركهم فعل الواجب مدة متمادية لوحشة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لا معنى له ، وأيضا يجب على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إذا رأى ترتب ما ترتب على تأخير بيعته من ترك بني هاشم ، أن يترك الاصرار على مقتضى وحشته ويبايع حتى يبايعوا أو يأمرهم بالبيعة ، ويقول رعاية البيعة هاهنا مظنة بطلان حق أبي بكر ، أو عصبيتكم وتبعيتكم في مثل هذا الأمر غير محمودة بل مذمومة ، اعلم أن تجويز أيسر هذه الأمور بقنبر لا معنى له أصلا ، فكيف ينسبون إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟
اعلم أن هذا الخبر صريح في أن بيعة أبي بكر كانت على خلاف مرضات الله تعالى ، وتأخيره ( عليه السلام ) كان لضرورة الاجتناب عن معاونة الإثم والعدوان ، فلما رأى قوتهم وضعف الحق بوفاة خير نساء أهل الجنة ، اقتضى التقية وشريفة {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] المداراة معهم ، ومع هذا في التأخير إتمام الحجة على الناس بأنه لو كان في بيعة أبي بكر خيرية لم يؤخرها من كان أسرع المؤمنين بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى الخيرات .
وقوله ( عليه السلام ) " لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكارا لفضيلتك " وغيره مما يدل على عدم بطلان أمر الخلافة ، تقية منه ( عليه السلام ) كما يشهد عليها سياق الخبر ونفس تأخيره (عليه السلام) ، ويحصل من هذا الخبر وسيرته ( عليه السلام ) وما نقل عنه ( عليه السلام ) في مواضع متعددة القطع بأنه ( عليه السلام ) كان منكرا لاستحقاق الأول للأمر ، وكارها للبيعة ومكرها بها بعد مدة اختلف في قدرها أنه كان أربعين يوما أو ستة أشهر .
وعلى التقديرين نقول : إما أن يكون امتناعه وإنكاره في المدة غير حق ، أو اعترافه به بعد المدة ، فإن قلنا بحقية مقتضى ظاهر الاعتراف ، فتركنا مقتضى الروايات المتظافرة بدوران الحق معه حيثما دار ، بل سيرة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التي هي كونه أسرع المؤمنين إلى الخيرات ، وأطوع الأصحاب للقربات ، وأصدق السابقين في الأقوال والأفعال . وإن قلنا بحقية مقتضى الانكار ، حملنا البيعة على الاضطرار ، والتكلم بما ظاهره خلاف الواقع عند شدة الخوف لا ينافي دوران الحق معه حيثما دار ، لأن المراد من الدوران دورانه عند التكلم بما له فيه الاختيار .
ومع غاية ظهور ما ذكرته قلت : لو تنزلنا عن الظهور لا يقدر على نفي احتمال ما ذكرته من شم رائحة الانصاف ، وهو كاف لانتفاء العلم بتحقق الاجماع الذي هو مناط استدلالهم .
فإن قلت : يدل على كون بيعته ( عليه السلام ) مقرونة بالرضا ، وعدم كون الخلافة حق أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قبل الثالث ، ترك المحاربة مع الثلاثة ، مع غاية الشجاعة وتبعية جماعة من كمل الصحابة ومحاربته ( عليه السلام ) مع أصحاب الجمل وصفين مؤيدة لما ذكر.
قلت : لما تحقق أمر البيعة في السقيفة بالحيلة والمغالبة في المتبوع ، وللطمع في بعض ، والشبهة في بعض ، وتبعية الأكابر في الجماعة التي لا مدرك لهم ، اشتد أمر السلطنة بحيث يحتاج المحاربة معهم إلى جمعية عظيمة لم تكن مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والمؤيد الذي ذكرته لا تأييد فيه أصلا ، لأن محاربته ( عليه السلام ) مع الطائفتين إنما كانت بعد تحقق السلطنة والشوكة ، فأي نسبة بين الأمرين ؟
ويؤيد ما ذكرته من قلة الناصر ، ما نقله عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة بقوله ويقال : إنه ( عليه السلام ) لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه ، حمار وابناها بين يدي الحمار ، وهو ( عليه السلام ) يسوقه ، فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم ، ويسألهم النصرة والمعونة ، أجابه أربعون رجلا ، فبايعهم على الموت ، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم ، فأصبح لم يوافه منهم إلا أربعة الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان ، ثم أتاهم من الليل فناشدهم ، فقالوا : نصبحك غدوة ، فما جاءهم منهم إلا الأربعة ، وكذلك في الليلة الثالثة ، وكان الزبير أشدهم له نصرة ، وأنفذهم في طاعته بصيرة ، حلق رأسه وجاءه مرارا وفي عنقه سيفه ، وكذلك الثلاثة الباقون ، إلا أن الزبير هو كان الرأس فيهم ، وقد نقل الناس خبر زبير لما هجم عليه ببيت فاطمة ( عليها السلام ) وكسر سيفه في صخرة ضربت به (11) .
ومما يؤيد ما ذكرته : أنه مع عظم سلطانه ( عليه السلام ) ووضوح بطلان معاوية ، تحقق المحاربة بينهما وامتد زمانها ، ولم يمتز الغالب عن المغلوب ، حتى انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه ، فبأي شئ حكمتم بأن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان قادرا على محاربة الناس ؟ مع كثرة الأعداء وقلة الناصر .
وأيضا المحاربة بين أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عند خروجه إلى روضة الرضوان وقبل استيلاء شوكة الإسلام على البلدان ربما صار سببا لطمع الكفار وغلبتهم على المسلمين ، ومثل هذا الخلاف في أمثال هذه الأحوال يصير سببا لاستيلاء الأعداء ، كما يدل عليه السير الماضية .
وأيضا ربما صار تلك المحاربة سببا لضعف اعتقاد المسلمين وارتدادهم عن الإيمان ، بتوهمهم أن هذا الدين لو كان حقا لم يسرع أصحابه إلى المقاتلة في أيام أوائل انتقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى دار السلام ، بحيث كانت مضرتها على الدين أعظم من مضرة ما وقع من البيعة الباطلة .
وبالجملة يدل القاطع على إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبطلان إمامة أبي بكر ، وتلك الشبهة السخيفة تندفع بأحد هذه الاحتمالات ، فلا وجه لذكرها في مقابل ما سمعتم ، وباب مدينة العلم أعلم بما يقتضيه الحال وبما سمعه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فالعمدة هي الدلالة على حقية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وبطلان إمامة من جوز إمامته .
وأما رابعا ، فلضعف الاستبعاد الذي ذكرته وظننته مفسدة ، وكونه أضعف بمراتب شتى من ترك بني إسرائيل إطاعة هارون ( عليه السلام ) مع استمرار نبوته وظهور خلافته وإقرارهم بهما بمجرد غيبة موسى ( عليه السلام ) مع ظهور احتمال مراجعته وعبادتهم الجماد بقول السامري الذي لم يكن دليل على حجيته ، فإذا قلتم بوقوع هذا بشهادة القرآن ، فلم لا تجوزون بطلان بيعة أبي بكر لو فرض عدم شهادة الكتاب والبرهان ، وبالجملة أمثال تلك الشبهات لا وقع لها أصلا .
_________________
(1) خلاصة الكلام : أنه هل كان الأنصار معتمدين عندكم في الأمر الديني أم لا ؟ فعلى الأول لم يصلح اجتماعهم في السقيفة لسببية ترك المهاجرين تجهيز رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإن لم يكونوا معتمدين ، فلا دلالة في بيعتهم على كونها على وفق الضمير .
فإن قلت : وإن كانوا معتمدين ، والمعتمدون يجتنبون عن تعمد الظلم والطغيان ، لكن لم يكونوا محروسين عن الخطأ والنسيان ، فيمكن صدور بيعة غير المستحق خطأ عن بعضهم ، وعن بعض آخر بتبعيته ذلك البعض ، لأن عامة الناس لا مدرك لهم ، بل ينظرون إلى فعل كبرائهم ، وعن بعضهم للخوف بقوة حال غير المستحق ببيعة الطائفتين ، وطريقة العرب اهتمامهم في رعاية العهد والبيعة بأي وجه كان ، فيمكن منه حمية كلهم أو جلهم عن الرجوع عن مقتضى البيعة على تقدير ظهور الخطأ ، واعتمادهم في ترك تعمد بيعة غير المستحق لا يستلزم اعتمادهم في نقض البيعة الفاسدة على تقدير ظهور الخطأ وترك الحمية المذمومة ، وهذا القدر كاف للمسارعة إلى السقيفة .
ألا ترى أن بشير بن سعد تكلم بما تكلم بعد سماع كلام المهاجرين ، وقبله لم يتكلم هو ولا غيره بمثل هذه المقالة ، إما لعدم علمهم بقباحة البيعة على الأنصار ، وإما لعدم التأثير بغير معاونة المهاجرين ، فلو لم يحضر المهاجرون وتأخروا عن حضور السقيفة ، لم يبعد من ظاهر المكالمة المنقولة عن الأنصار بيعة جمع على واحد منهم ، والترتب على بيعتهم بيعة باقي الأنصار لتبعية الكبراء أو الخوف كما ذكرته ، وقوة حال الأنصار بغير حجة شرعية وعدم إمكان معارضتهم بعد القوة وتحقق المقدرة ، لكون معارضة أصحاب المقدرة والسلطنة في عرضة الآفات العظيمة .
قلت : ما جوزت من الأنصار يجري في مجموع المهاجرين والأنصار الذين اجتمعوا في السقيفة مع مزيد ، وهو تعمد بعض المهاجرين في الظلم والطغيان ، وعدم مبالاتهم بقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) والعصيان ، ومع كفاية الاحتمال هاهنا يحصل لك بالتأمل – فيما ذكرناه في الكتاب ونذكره - العلم القطعي بتحقق مقتضى الاحتمال ، فتأمل " منه " .
(2) جامع الأصول 9 : 424 برقم : 6383 .
(3) جامع الأصول 9 : 416 برقم : 6364 .
(4) جامع الأصول 9 : 417 برقم : 6367 .
(5) جامع الأصول 10 : 34 برقم : 6581 .
(6) جامع الأصول 10 : 34 - 35 برقم : 6582 .
(7) جامع الأصول 10 : 35 - 40 برقم : 6583 .
(8) جامع الأصول 10 : 52 - 53 برقم : 6606 .
(9) جامع الأصول 4 : 482 - 483 برقم : 2079 .
(10) المراد بالظهور هو الاستغناء عن النظر لا مقابل الصريح " منه " .
(11) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 14 .
|
|
دراسة: إجراء واحد لتقليل المخاطر الجينية للوفاة المبكرة
|
|
|
|
|
"الملح والماء" يمهدان الطريق لأجهزة كمبيوتر تحاكي الدماغ البشري
|
|
|
|
بالصور: عند زيارته لمعهد نور الإمام الحسين (عليه السلام) للمكفوفين وضعاف البصر في كربلاء.. ممثل المرجعية العليا يقف على الخدمات المقدمة للطلبة والطالبات
|
|
ممثل المرجعية العليا يؤكد استعداد العتبة الحسينية لتبني إكمال الدراسة الجامعية لشريحة المكفوفين في العراق
|
|
ممثل المرجعية العليا يؤكد على ضرورة مواكبة التطورات العالمية واستقطاب الكفاءات العراقية لتقديم أفضل الخدمات للمواطنين
|
|
العتبة الحسينية تستملك قطعة أرض في العاصمة بغداد لإنشاء مستشفى لعلاج الأورام السرطانية ومركز تخصصي للتوحد
|