المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
شخصية الإمام الرضا ( عليه السلام )
2024-05-18
{ان رحمت اللـه قريب من الـمحسنين}
2024-05-18
معنى التضرع
2024-05-18
عاقبة من اخذ الدنيا باللعب
2024-05-18
من هم الأعراف؟
2024-05-18
{ان تلكم الـجنة اورثتموها بما كنتم تعملون}
2024-05-18

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


الحسن بن عبد الله المرزباني السيرافي  
  
3810   05:04 مساءاً   التاريخ: 21-06-2015
المؤلف : ياقوت الحموي
الكتاب أو المصدر : معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)
الجزء والصفحة : ج2، ص505-548
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-12-2015 3336
التاريخ: 29-12-2015 3820
التاريخ: 30-12-2015 4565
التاريخ: 13-08-2015 1765

أبو سعيد النحوي القاضي وسيراف بليد على ساحل البحر من أرض فارس رأيته أنا وبه أثر عمارة قديمة وجامع حسن إلا أنه الان الغالب عليه الخراب. وقد كان ولي القضاء على بعض الأرباع ببغداد ومات رحمه الله يوم الاثنين ثاني رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة في خلافة الطائع ودفن في مقابر الخيزران. وكان أبوه مجوسيا اسمه بهزاد فسماه أبو سعيد عبد الله وكان أبو سعيد يدرس ببغداد القرآن والقراءات وعلوم القرآن والنحو واللغة والفقه والفرائض. وكان قد قرأ على أبي بكر بن مجاهد القرآن وعلى أبي بكر بن دريد اللغة ودرسا جميعا عليه النحو وقرأ على أبي بكر بن السراج وأبي بكر المبرمان النحو وقرأ أحدهما عليه القرآن ودرس الاخر عليه الحساب.

 قال الخطيب: وكان رحمه الله زاهدا ورعا لم يأخذ على الحكم أجرا، إنما كان يأكل من كتب يمينه فكان لا يخرج إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس حتى ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرتها عشرة دراهم تكون بقدر مئونته ثم يخرج إلى مجلسه. وصنف كتبا منها شرح كتاب سيبويه.

 قال أبو حيان التوحيدي: رأيت أصحاب أبي علي الفارسي يكثرون الطلب لكتاب شرح سيبويه ويجتهدون في تحصيله. فقلت لهم إنكم لا تزالون تقعون فيه وتزرون على مؤلفه فما لكم وله قالوا نريد أن نرد عليه ونعرفه خطأه فيه.

 قال أبو حيان: فحصلوه واستفادوا منه ولم يرد عليه أحد منهم أو كما قال أبو حيان فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه.

 وكان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد وكانوا يفضلون عليه الرماني فحكى ابن جني عن أبي علي أن أبا سعيد قرأ على ابن السراج خمسين ورقة من أول الكتاب ثم انقطع قال أبو علي فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه. فقال لي يجب على الإنسان أن يقدم ما هو أهم وهو علم الوقت من اللغة والشعر والسماع من الشيوخ

 فكان يلزم ابن دريد ومن جرى مجراه من أهل السماع.

 وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني يهجو أبا سعيد السيرافي: [الخفيف]

(لست صدرا ولا قرأت على صدر ... ولا علمك البكي بكاف)

 (لعن الله كل شعر ونحو ... وعروض يجيء من سيراف)

 وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال:

 قال لي أبو أحمد: ولد أبو سعيد بسيراف وفيها ابتدأ بطلب العلم وخرج عنها قبل العشرين ومضى إلى عمان فتفقه بها ثم عاد إلى سيراف ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة. قال المؤلف: وبها قرأ فيما أحسب على المبرمان قال كان فقيها على مذهب العراقيين وورد إلى بغداد فخلف أبا محمد بن معروف قاضي القضاة على قضاء الجانب الشرقي وكان أستاذه في النحو ثم استخلفه على الجانبين. ومولده قبل التسعين ومائتين. وله من الكتب كتاب شرح سيبويه ألفات القطع والوصل كتاب أخبار النحويين البصريين كتاب شرح مقصورة ابن دريد كتاب الإقناع في النحو لم يتم فتممه ابنه يوسف وكان يقول وضع أبي النحو في المزابل بالإقناع يريد أنه سهله حتى لا يحتاج إلى مفسر. كتاب شواهد كتاب سيبويه كتاب الوقف والابتداء كتاب صنعة الشعر والبلاغة كتاب المدخل إلى كتاب سيبويه كتاب جزيرة العرب.

 قرأت بخط أبي حيان التوحيدي في كتابه الذي ألفه في تقريظ عمرو بن بحر وقد ذكر جماعة من الأئمة كانوا يقدمون الجاحظ ويفضلونه فقال ومنهم أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو والفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة. أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ ولا عثر منه على زلة. وقضى ببغداد وشرح كتاب سيبويه في ثلاثة الاف ورقة بخطه في السليماني فما جاراه فيه أحد ولا سبقه إلى تمامه إنسان. هذا مع الثقة والديانة والأمانة والرواية. صام أربعين سنة وأكثر الدهر كله.

 قال لنا الأندلسي: فارقت بلدي في أقصى الغرب طلبا للعلم وابتغاء مشاهدة العلماء فكنت إلى أن دخلت بغداد وتلقيت أبا سعيد وقرأت عليه كتاب سيبويه نادما سادما في اغترابي عن أهلي ووطني من غير جدوى في علم أو حظ من الدنيا فلما سعدت برؤية هذا علمت أن سعيي قرن بسعدي وغربتي اتصلت ببغيتي وأن عنائي لم يذهب هدرا وأن رجائي لم ينقطع يأسا. قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابئ قرأنا على أبي سعيد الحسن بن عبد الله في كتاب ما يلحن فيه العامة لأبي حاتم هو الشمع مفتوح الشين والميم فسألناه عما يحكى عن أبي بكر بن دريد أنه قال شمع بكسر الشين. فقال: لا يعاج عليه. قلنا له: فهو صحيح عن ابن دريد فقال نعم هو عنه بخطي في كتاب الجمهرة.

 قال: وكان أبو الفتح ابن النحوي وأبو الحسن الدريدي سألاني عن ذلك فاستعفيت من الإجابة لئلا أنسب إلى أبي بكر حرفا أجمع الناس على خلافه.

 وقال أبو حيان في كتاب محاضرات العلماء قال: وحضرت مجلس شيخ الدهر وقريع العصر العديم المثل المفقود الشكل أبي سعيد السيرافي وقد أقبل على الحسين بن مردويه الفارسي يشرح له ترجمة المدخل إلى كتاب سيبويه من تصنيفه. فقال له: علق عليه واصرف همتك إليه فإنك لا تدركه إلا بتعب الحواس ولا تتصوره إلا بالاعتزال عن الناس. فقال: أيد الله القاضي أنا مؤثر لذلك ولكن اختلال الأمر وقصور الحال يحول بيني وبين ما أريده. فقال له: ألك عيال قال لا قال عليك ديون قال دريهمات. قال: فأنت ريح القلب حسن الحال ناعم البال اشتغل بالدرس والمذاكرة والسؤال والمناظرة واحمد الله تعالى على خفة الحاذ وحسن الحال.

 وأنشده: [الطويل]

 (إذا لم يكن للمرء مال ولم يكن ... له طرق يسعى بهن الولائد)

 (وكان له خبز وملح ففيهما ... له بلغة حتى تجيء العوائد)

 (وهل هي إلا جوعة إن سددتها ... فكل طعام بين جنبيك واحد)

 قال: وكان يقرأ على أبي سعيد السيرافي الكامل للمبرد فجاءه أبو أحمد بن مردك وكان هذا من ساوة واستوطن بغداد وولد بها وكان له قرب ومنزلة من أبي سعيد يوجب حقه ويرعاه له فقال أيها الشيخ عندي ابنة بلغت حد التزويج وجماعة من الغرباء والبغداديين يخطبونها فما ترى وممن أزوجها فقال ممن يخاف الله تعالى وأكثرهم تقية وخشية منه فإن من يخاف الله إن أحبها بالغ في إكرامها وإن لم يحبها تحرج من ظلمها. فاستحسنا ذلك وأثبتناه. ثم قال: لا تنسبوا هذا إلي إنما هذا قول الحسن.

قال: وشبيه هذه الحكاية أن رجلا وقف على الحسن فقال علمني ما يقربني إلى الله تعالى وإلى الناس قال أما ما يقربك إلى الله فمسألته. وأما ما يقربك إلى الناس فترك مسألتهم. وقال: وتأخر بعض أصحابه عن مجلسه في يوم السبت وكان يرعى حق أبيه فيه لأنه كان وجيها شريفا فلما كان يوم الأحد قال له ما الذي أخرك فأشار إلى شرب الدواء ولأجله تأخر عن المجلس فأنشدنا: [الوافر]

 (لنعم اليوم يوم السبت حقا ... لصيد إن أردت بلا افتراء)

 (وفي الأحد البناء فإن فيه ... تبدى الله في خلق السماء)

 (وفي الإثنين إن سافرت حقا ... يكون الأوب فيه بالنماء)

 (وإن ترم الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعاته درك الشفاء)

 (وإن شرب امرء يوما دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء)

 (وفي يوم الخميس قضاء حاج ... ففيه الله اذن بالقضاء)

 (ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء)

 قال: ولما قبل ابن معروف شهادته عاتبه على ذلك بعض المختصين به وقال أيها الشيخ إنك إمام الوقت وعين الزمان والمنظور إليه والصدر وإذا حضرت محفلا كنت البدر قد اشتهر ذكرك في الأقطار والبلاد وانتشر علمك في كل محفل وناد والألسنة مقرة بفضلك فما الذي حملك على الانقياد لابن معروف واختلافك إلى مجلسه صرت تابعا بعد أن كنت متبوعا ومؤتمرا بعد أن كنت امرا وضعت من قدرك وضيعت كثيرا من حرمتك وأنزلت نفسك منزلة غيرك وما فكرت في عاقبة أمرك ولا شاورت أحدا من صحبك. فقال: اعلموا أن هذا القاضي سبب اكتساب ذكر جميل وصيت حسن ومباهاة ومنافسة لأقرانه وإخوانه ومع ذلك له من السلطان منزلة. وبلغني أنه يستضيء برأيه ويعده من جملة ثقاته وأوليائه وعرض بي وصرح في الأمر مرة بعد أخرى وثانية عقب أولى فلم أجب إليه ولم أسلس قيادي له فخفت مع كثرة الخلاف اعتمادي بما أستضر به وينتفع به غيري. وإذا اتفق أمران فاتباع ما هو أسلم جانبا وأقل غائلة أولى. وقد كان الان ما كان والكلام فيه ضرب من الهذيان. فلما كان بعد هذا بأيام ورد عليه من امد صاحب لأبي العباس بن ماهان بكتاب يهنئه فيه بما تلبس به من العدالة وكان الكتاب يشتمل على كلمات وجيزة وألفاظ حسنة ومعان منتقاة. وكان أبو العباس هذا من أصحاب أبي سعيد وممن لازمه سنين عدة وعلق عنه على ما ذكره الشاشي زهاء عشرة الاف ورقة من شرحه لكتاب سيبويه وغيره درسا ومذاكرة. وكانت له أيضا بضاعة قوية في علم الهيئة وبصر تام بمذهب الكوفيين في النحو حتى ما كان يطاق. وكان من أصدر الكتاب على يده رجلا كرديا عليه جبة ثقيلة فوقها صناعة عظيمة قد أضرت به شمس الهواجر ومقاساة السفر وقطع المهامه والمفاوز. وكان الشيخ يبين لبعض أصحابه الفرق في قوله تعالى {مثل ما أنكم تنطقون} والاحتجاج عمن نصبه ورفعه والكردي ما يفهم منه القليل ولا الكثير ثم التفت إلى أبي سعيد وقال يا شيخ في أي شيء أنت وفيماذا تتكلم فقال أتكلم في شيء لا يعرفه كل أحد ولا يتصوره كثير من الناس قال: ففسره لي لعلي أفهمه. قال: لا يكون ذلك أبدا. قال: أنت عالم ومن اقتبس منك علما لزمك الجواب. فقال له: عليك بمجلس يجري فيه حديث الفرض والنفل والسنن وظواهر أمر الشريعة لتستفيد منه وتنتفع به. فأخذ الكردي في المطاولة وإيراد الهذيان وما لا محصول له. وسكت عنه أبو سعيد وصمت هو أيضا. وجعل أبو سعيد على عادته يبين ويوضح ويتكلم وينثر الدر ولا يهدأ ولا يفتر لسانه ولا يجف ريقه. والكردي ملازمه وكأنه كالمتبرم به والمستثقل لجلوسه وملازمته إياه إلى أن قام ومضى.

 ثم قال أبو سعيد: ما ظننت أن ثقيلا تمكن من أحد تمكن هذا منا اليوم وإن ألم ثقله خلص إلى الروح والبدن كما خلص إلي لقد هممت تارة بضربه فقلت ربما ضربني أيضا ثم هممت بالقيام فقلت ضرب من الخرق ثم كدت أصيح فقلت نوع من الجنون ثم بقيت أدعو سرا وأرغب إلى الله تعالى في صرفه فتفضل الله الكريم علي بذلك ومع هذه الحالة لم تزل أبيات محمد بن المرزبان تتردد بين لهاتي ولساني. فقلنا له: وما الأبيات فقال: [الخفيف]

 (يا شقيق الرصاص والجبل ... وقريع الأيام في الثقل)

 (أرح حياتي فقد هجمت على ... نفسي وأشرفت بي على أجلي)

 (والله لو كنت والدا حدبا ... وكنت تحيي الأموات في المثل)

(وتمزج الثلج في العساس لدى الـ ... ـقيظ وعند الشتاء بالعسل)

 (رحلت عن ذاك عند اخره ... واخترت ألا أراك في الرحل)

 (فخذ طريفي وتالدي فإذا ... لم يبق شيء فخذ إذا سملي)

 (وارحل إلى الظلمة التي ذكرت ... من خلف قاف يا شر مرتحل)

 قال: وكان قد ظهر بالعراق رجل من الجراد فأضرت بالزروع والأثمار وغلت الأسعار وأثر في أحوال الناس

 فحضرنا مجلس أبي سعيد السيرافي وكل منا شكا حاله وذكر خلته وكان فينا رجل مزارع ذكر أنه زرع بنواحي النهروان أربعة الاف جريب ملكا وضمانا وإجازة رجاء الفائدة وقد أتى عليها الجراد وهلك ذلك الرجل لأجله.

 ثم قال أبو سعيد: لا يهولنك أمرها فإنها جند من جنود الله مأمور. بلغنا أن جرادة سقطت بين يدي عبد الله بن عباس فأخذها ونشر جناحها وقال أتعلمون ما هو مكتوب عليها قالوا لا قال مكتوب عليها أنا مغلي الأسعار مع تدفق الأنهار. وأورد في ذكر الجراد ما حير الناظرين ثم قال ومن أحسن ما  وصف به الجراد قول بعض الخطباء حيث يقول إن الله سبحانه وتعالى خلق خلقا وسماها جرادا وألبسها أجلادا وجندها أجنادا وأدمجها إدماجا وكساها من الوشي ديباجا وجعل لها ذرية وأزواجا إذا أقبلت خلتها سحابا أو عجاجا وإذا أدبرت حسبتها قوافل وحجاجا مزخرفة المقاديم مزبرجة الماخير مزوقة الأطراف منقطعة الأخفاف منمنمة الحواشي منمقة الغواشي ذات أردية مزعفرة وأكسية معصفرة وأخفية مخططة. معتدلة قامتها مؤتلفة خلقتها مختلفة حليتها موصولة المفاصل مدرجة الحواصل تسعى وتحتال وتميس وتختال وتطوف وتجتال فتبارك خالقها وتعالى رازقها من غير حاجة منه إليها رحمة منه عليها أوسعها رزقا وأتقنها خلقا وفتق منها رتقا ووشج أعراقها وألجم أعناقها وطوقها وقسم معايشها وأرزاقها. تنظر شزرا من ورائها وترقب النازل من سمائها وتحرس الدائر من حولها.

 سلاحها عتيد وبأسها شديد ومضرتها تعديد تدب على ست وتطير. فسبحان من خلقها خلقا عجيبا وجعل لها من كل ثمر وشجر نصيبا وجعل لها إدبارا وإقبالا وطلبا واحتيالا حتى دبت ودرجت وخرجت ودخلت ونزلت وعرجت مع المنظر الأنيق والعصب الدقيق والبدن الرقيق {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه}.

 ثم قال: وماذا تقولون في طير إذا طار بسط وإذا دنا من الأرض لطع رجلاه كالمنشار وعيناه كالزجاج. عينه في جنبه ورجله أطول من قامته ألا وهي الجرادة ثم قال وأحسن منه جيدها كجيد البقر ورأسها كرأس الفرس وقرنها كقرن الوعل ورجلها كرجل الجمل وبطنها كبطن الحية تطير بأربعة أجنحة وتأكل بلسانها فتبارك الله ما أحسنها وأحسن ما فيها أنها طعام طاهر حيا وميتا ونقل تجدب أقواما وتخصب اخرين. فقلنا له ما معنى قولك تجدب أقواما وتخصب اخرين قال إنها إذا حلت البوادي والفيافي ومواضع الرمال فهي خصب لهم وميرة وإذا حلت بمأوى الزرع والأشجار فهي تجدب لأنها تأتي على الشوك والشجر والرطب واليابس فلا تبقي ولا تذر.

 قال: وقال أيضا في تضاعيف كلامه: خادم الملك لا يتقدم في رضاه خطوة إلا استفاد بها قدمة وحظوة. قال: وما رأيت أحدا من المشايخ كان أذكر لحال الشباب وأكثر تأسفا على ذهابه منه فإنه إذا رأى أحدا من أقرانه قد عالجه الشيب تسلى به ولم يزل يسأله عن حاله كانت في أيام الشباب وزمن الصبا. وإذا ذكر بين يديه ما يتعلق بالشيب والشباب بكى وجدا وحن وشكا وأن وتذكر عهد الشباب. وكان كثيرا ما ينشد مقطعات محمود الوراق في الشيب ويبكي عليها. وأنشد يوما: [الوافر]

 (فإن يكن المشيب طرا علينا ... وولى بالبشاشة والشباب)

 (فإني لا أعاقبه بشيء ... يكون علي أهون من خضاب)

(رأيت بأن ذاك وذا عذاب ... فينتقم العذاب من العذاب)

 قال: وأنشدنا لمحمود الوراق في الشيب وعيناه تدمعان: [الطويل]

 (ولو أن دار الشيب قرت بصاحب ... على ضيقها لم نبغ دارا بداره)

 (ولكن هذا الشيب للموت رائد ... يخبرنا عنه بقرب مزاره)

 قال أبو حيان: وكان أبو سعيد يفتي على مذهب أبي حنيفة وينصره فجرى حديث تحليل النبيذ عنده فقال له بعض الخراسانيين أيها الشيخ دعنا من حديث أبي حنيفة وقول الشافعي. ما ترى أنت في شرب النبيذ والقدر الذي لا يسكر ويسكر فقال أما المذهب فمعروف لا عدول عنه وأما الذي يقتضيه الرأي ويوجبه العقل ويلزم من حيث الاحتياط والأخذ بالأحسن والأولى فتركه والعدول عنه.

 فقال له: بين لنا عافاك الله. فقال: اعلم أنه لو كان المسكر حلالا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكان يجب على العاقل رفضه وتركه بحجة العقل والاستحسان. فإن شاربه محمول على كل معصية مدفوع إلى كل بلية مذموم عند كل ذي عقل ومروءة يحيله عن مراتب العقلاء والفضلاء والأدباء ويجعله من جملة السفهاء ومع ذلك فيضر بالدماغ والعقل والكبد والذهن ويولد القروح في الجوف ويسلب شاربه ثوب الصلاح والمروءة والمهابة حتى يصير بمنزلة المخبط المخريق والمثبئج يقول بغير فهم ويأمر  بغير علم ويضحك من غير عجب ويبكي من غير سبب ويخضع لعدوه ويصول على وليه ويعطي من لا يستحق العطية ويمنع من يستوجب الصلة ويبذر في الموضع الذي يحتاج فيه أن يمسك ويمسك في الموضع الذي يحتاج فيه أن يبذر يصير حامده ذاما وأفعاله ملاما عبده لا يوقره وأهله لا تقربه وولده يهرب منه وأخوه يفزع عنه يتمرغ في قيئه ويتقلب في سلحه ويبول في ثيابه وربما قتل قريبه وشتم نسيبه وطلق امرأته وكسر الة البيت ولفظ بالخنى وقال كل غليظة وفحش يدعو عليه جاره ويزري به أصحابه عند الله ملوم وعند الناس مذموم وربما يستولي عليه في حال سكره مخايل الهموم فيبكي دما ويشق جيبه حزنا وينسى القريب ويتذكر البعيد والصبيان يضحكون منه والنسوان يفتعلن النوادر عليه. ومع ذلك فبعيد من الله قريب من الشيطان قد خالف الرحمن في طاعة الشيطان وتمكن من ناصيته وزين في عينه إتيان الكبائر وركوب الفواحش واستحلال الحرام وإضاعة الصلاة والحنث في الأيمان سوى ما حل به عند الإفاقة من الندامة ويستوجب من عذاب الله يوم القيامة.

 فقال الرجل: والله إن قولك ووصفك له أعلق بالقلب من كل واضح وبرهان لائح وحجة وأثر وقول وخبر

 فقال له لولا ذهاب الوقت لا عوض له لاستدللت لكل خصلة ذكرتها ولفظة أوردتها بآية من كتاب الله أو خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلت إن الألفاظ مشتقة من ذاك مستنبطة منه ولأبي حنيفة مسائل لا أرتضيها له وقد خالفه فيها أعيان أصحابه والناقلة لمذهبه ولكن لكل أريب هفوة ولكل جواد كبوة والكلام إذا كثر لا يخلو من الخطأ والقول إذا تتابع لا يعرى من التناقض والله المعين على أمر الدنيا والدين.

قال ابو حيان: قال أبو سعيد: دخلت مسجدا بباب الشام يوما أنظر أبا المنصور العمري فرأيت عربيا قد استلقى ومخلاته تحت رأسه وهو يترنم بهذه الأبيات بحلق أطيب ما يكون وصوت أندى ما يسمع: [الوافر]

 (سماء الحب تهطل بالصدود ... ونار الحب تحرق من بعيد)

 (وعين الحب تأتي بالمنايا ... فتغرسه على قلب عميد)

 (وأول من عشقت عشقت ظبيا ... له في الصدر قلب من حديد)

 فقلت له: أعد الأبيات. فقال لي: دخلت علي وشغلتني عما كنت عليه خلوت بنفسي في هذا المسجد أتمنى أماني دونها خرط القتاد فأفسدتها علي. فحفظت الأبيات من قوله وانصرفت وتركته. قال أبو حيان: وأنشدنا أبو سعيد السيرافي: [الطويل]

 (تفكرت في شيب الفتى وشبابه ... فأيقنت أن الحق للشيب واجب)

 (يصاحبني شرخ الشباب فينقضي ... وشيبي إلى حين الممات مصاحب)

 ثم قال: ما رأيت أحدا كان أحفظ لجوامع الزهد نظما ونثرا وما ورد في الشيب والشباب من شيخنا أبي سعيد

 وذاك أنه كان دينا ورعا تقيا زاهدا عابدا خاشعا له دأب بالنهار من القراءة والخشوع وورد بالليل من القيام والخضوع صام أربعين سنة الدهر كله. قال: وقال لي أبو إسحاق المدائني ما قرأت عليه خبرا ولا شيئا قط فيه ذكر الموت والقبر والبعث والنشور والحساب والجنة والنار والوعد والوعيد والعقاب والمجازاة والثواب والإنذار والإعذار وذم الدنيا وتقلبها بأهلها وتغيرها على أبنائها إلا وبكى عندها وربما نغص عليه يومه وليلته وامتنع من عاداته في الأكل والشرب. وكان ينشدنا ويورد علينا من أمثاله ما كنا نستعين به ونستفيد منه وما نجعله حظ يومنا. ورأيته يوما ينشد ويبكي: [الطويل]

 (حنى الدهر من بعد استقامته ظهري ... وأفضى إلى تنغيص عيشته عمري)

 (ودب البلى في كل عضو ومفصل ... ومن ذا الذي يبقى سليما على الدهر)

 قال ووصى يوما بعض أصحابه وكان يقرأ عليه شرح الفصيح لابن درستويه كن كما قال الخليل بن أحمد اجعل ما في كتبك رأس مالك وما في صدرك للتفقه. قال وأنشدنا: [الطويل]

 (وذي حيلة للشيب ظل يحوطه ... يقرضه حينا وحينا ينتّف)

 (وما لطفت للشيب حيلة عالم ... من الناس إلا حيلة الشيب ألطف)

 قال أبو حيان: شكا أبو الفتح القواس إليه طول عطلته وكساد سوقه، ووقوف أمره وذهاب ماله ورقة حاله وكثرة ديونه وعياله وتجلف صبيانه وسوء عشرة أهله معه وقلة رضاهم به ومطالبتهم له بما لا يقوم به وأنه يقع ويقوم ويدخل كل مدخل حتى يحصل لنفسه وعياله بعض كفايتهم. فقال له: ثق بالله خالقك وكل أمرك إلى رازقك واقلل من شغبك وأجمل في طلبك واعلم أنك بمرأى من الله ومسمع قد تكفل برزقك فيأتيك من حيث لا تحتسبه وضمن لك ولعيالك قوتهم فيدر عليك من حيث لا ترتقبه وعلى حسب الثقة بالله يكون حسن المعونة وبمقدار عدولك عن الله إلى خلقه يكون كل المئونة. وأنشد وذكر أنه لبعض المحدثين: [البسيط]

 (يا طالب الرزق إن الرزق في طلبك ... والرزق يأتي وإن أقللت من تعبك)

 (لا يملكنك لا حرصٌ ولا تعبٌ ... فيسلماك ولا تدري إلى عطبك)

 (إن تخف أسباب هذا الرزق عنك فكم ... للرزق من سبب يغنيك عن سببك)

 (بل إن تكن في أعز العز ذا أرب ... فلا يكن زاد من لم تبل من أربك)

 (لا تعرضن لزاد لست تملكه ... واقنع بزادك أو فاصبر على سغبك)

 (ولست تحمد أن تعزى إلى نشب ... إذا عزيت إلى بخل على نشبك)

 

 (هب جاهل القوم غرته جهالته ... ألست ذا أدب فاعمل على أدبك)

 (لا تكلبن على عرض الكرام تعش ... والكلب أحسن حالا منك في كلبك)

 (ولا تعب عرض من في عرضه جرب ... إلا وأنت نقي العرض من جربك)

 (وإنما الناس في الدنيا ذوو رتب ... فانهض إلى الرتبة العلياء من رتبك)

 قال أبو حيان: وكان يختلف إلى مجلس أبي سعيد علي بن المستنير وكان هذا ابن بنت قطرب وكان أبو سعيد يعرف له تقدمه على كثير من أصحابه وكان يرجع إلى وطأة خلق وحسن عشرة وحلاوة كلام وفقر مدقع وضر ظاهر وحالة سيئة وأمر مختل ومعيشة ضيقة وكثرة عيال ومئونة مع نشاط القلب وثبات النفس وطلاقة الوجه وكثرة المرح والطرب والارتياح.

 وقرأ يوما على أبي سعيد ديوان المرقش وأخذ خطه بذلك وعجل الانصراف من عنده. فقال له أبو سعيد: أين عزمت قال أذهب لأصلح أمر العيال وأتمحل وأحتال. فدعا له بالرزق والسعة والمعونة والكفاية. وهو مع ذلك ضاحك السن قرير العين. فلما انصرف قلنا له هذا الرجل مع ما فيه لا يعرف الحزن في وجهه ولا يشتد همه ويقدر على دفعه. فالتفت بعضهم فقال أيها الشيخ وراءه حال يخفيها عنا ويطويها منا قال ما أظن الأمر على ذلك لكن الرجل عاقل والعاقل يعلو على همه وحزنه فيقهرهما بعقله وعلمه والجاهل يشتد همه وحزنه ويرى ذلك في وجهه ولا يقدر على دفعه لجهله. فاستحسنا ذلك وأثبتناه.

 قال في كتاب الإمتاع: فقال لي الوزير أين أبو سعيد من أبي علي وأين علي بن عيسى منهما وأين ابن المراغي أيضا من الجماعة وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه فكان من الجواب أبو سعيد أجمع لشمل العلم وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كل باب وأخرج من كل طريق وألزم للجادة الوسطى في الدين والخلق وأروى للحديث وأقضى في الأحكام وأفقه في الفتوى وأحضر بركة على المختلفين وأظهر أثرا في المقتبسة. ولقد كتب إليه نوح بن نصر وكان من أدباء ملوك ال سامان سنة أربعين وثلاثمائة كتابا خاطبه فيه بالإمام وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة الغالب عليها الحران وما أشبه الحران. وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شك فيها فسأله عنها. وكان هذا الكتاب مقرونا بكتاب الوزير البلعمي خاطبه فيه بإمام المسلمين ضمنه مسائل القرآن وأمثالا للعرب مشكلة.

 وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتابا خاطبه فيه بشيخ الإسلام سأل عن مائة وعشرين مسألة أكثرها من القرآن وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة.

 وكتب إليه ابن حنزابة من مصر كتابا خاطبه فيه بالشيخ الجليل وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف. وقال لي الدارقطني سنة سبعين أنا جمعت ذلك لابن حنزابة على طريق المعونة.

 

 وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتابا خاطبه فيه بالشيخ الفرد. سأل عن سبعين مسألة في القرآن. ومائة كلمة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر هكذا حدثني به أبو سليمان وأربعين مسألة في الأحكام وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين.

 قال الوزير: وهذه المسائل والجوابات عندك قلت نعم. قال: في كم تقع قلت لعلها تقع في ألف وخمسمائة ورقة لأن أكثرها في الظهور. قال: ما أحوجنا إلى النظر إليها والاستمتاع بها والاستفادة منها وأين الفراغ وأين السكون ونحن في كل يوم ندفع إلى طامة تنسي ما سلف وتوعد بالداهية ثم قال صل حديثك. قلت وأما أبو علي فأشد تفردا بالكتاب وأكثر إكبابا عليه وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد وأطرافا لغيره وهو متقد بالغيظ على أبي سعيد وبالحسد له كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى اخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء لأن هذا شيء ما تم للمبرد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه مع سعة علمهم وقبض بنانهم.

 ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل ولكنه قعد عن الكتاب على النظم المعروف. وحدثني أصحابنا أن أبا علي اشترى شرح أبي سعيد بالأهواز في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستين لاحقا بالخدمة الموسومة به والندامة الموقوفة عليه بألفي درهم وهذا حديث مشهور وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من يزعم أنه أراد النقض عليه وإظهار الخطأ.

وقد كان الملك السعيد هم بالجمع بينهما فلم يقض له ذلك لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة

 وأبو علي يشرب ويخالع وما هذي سجية أهل العلم وطريقة الديانين. وأبو سعيد يصوم الدهر كله ولا يصلي إلا في الجماعة ويفتي على مذهب أبي حنيفة ويلي القضاء سنين ويتأله ويتحرج وغيره بمعزل عن هذا ولولا الإبقاء لأهل العلم لكان القلم يجري بما هو خاف ويخبر بما هو مجمجم ولكن الأخذ بحكم المروءة أولى والإعراض عما يوجب اللائمة أحرى. وكان أبو سعيد حسن الخط ولقد أراده الصيمري أبو جعفر على الإنشاء والتحرير فاستعفى وقال هذا يحتاج فيه إلى دربة وأنا عار منها وسياسة وأنا غريب فيها. ومن العناء رياضة الهرم.

 وحدثنا النصري أبو عبد الله وكان يكتب النوبة للمهلبي قال كنت أخط بين يدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد فالتمسني يوما لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته فظن أنه يكتب ويجيب فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضرب والإصلاح ثم أخذ يحرر والصيمري يقرأ ما يكتبه فوجده مخلفا لجاري العادة لفظا مباينا لمأثوره ترتيبا. قال ودخلت في تلك الحال فتمثل الصيمري بقول الشاعر: [البسيط]

 (يا باري القوس بريا ليس يصلحه ... لا تظلم القوس أعط القوس باريها)

ثم قال لأبي سعيد: خفف عنك أيها الشيخ وادفع الكتاب إلى عبد الله تلميذك ليجيب عنه فخجل من هذا القول

 فلما ابتدأت الجواب من غير نسخة تحير مني أبو سعيد.

 ثم قال للصيمري: أيها الأستاذ ليس بمستنكر ما كان مني ولا بمستكبر ما كان منه إن مال الغني لا يصح في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذ والكتاب جهابذة الكلام والعلماء مستخرجوه. فتبسم الصيمري وأعجبه ما سمع وقال على كل حال ما أخليتنا من فائدة.

 وكان أبو سعيد بعيد القرين لأنه كان يقرأ عليه القرآن والتفسير والفقه والفرائض والشروط والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والشعر والحديث والأخبار وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط.

 وأما علي بن عيسى فعلي الرتب في النحو واللغة والكلام والمنطق ولا عيب به إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق بل أفرد له صناعة وأظهر براعة وقد عمل في القرآن كتابا نفيسا هذا مع الدين الثخين والعقل الرزين.

 وأما ابن المراغي فلا يلحق بهؤلاء مع براعة اللفظ وسعة الحفظ وقوة النفس وغزارة النفث وكثرة الرواية ومن نظر له في كتاب البهجة عرف ما أقول وأعتقد فوق ما وصفت.

 وأما المرزباني وابن شاذان والقرميسيني وابن الخلال وابن حيويه فلهم رواية وجمع ليس لهم في شيء من ذلك نقط ولا إعجام ولا إسراج ولا إلجام.

 وحدثني الشيخ الإمام علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسي شيخنا قال حدثني تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي شيخنا قال بلغني أن أبا سعيد دخل على ابن دريد وهو يقول أول من أقوى في الشعر أبونا ادم عليه السلام في قوله: [الوافر]

 (تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح)

 (تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح)

 فقال أبو سعيد يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء. فقال: وكيف ذلك قال بأن تنصب بشاشة على التمييز وترفع الوجه المليح بقل ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله: [المتقارب]

 (فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا)

 وقال أبو حيان: جرى ليلة ذكر أبي سعيد السيرافي في مجلس ابن عباد وكان ابن عباد يتعصب له ويقدمه على أهل زمانه ويزعم أنه حضر مجلسه وأبان عن نفسه وصادف من أبي سعيد بحر علم وطود حلم.

 فقال أبو موسى الخشكي: إلا أنه لم يعمل في كتاب شرح سيبويه شيئا فنظر إليه ابن عباد متنمرا ولم يقل حرفا فعجبت من ذلك. ثم إني توصلت ببعض أصحابه حتى سأل عن حلمه عن أبي موسى مع ذبه عن أبي سعيد فقال والله لقد ملكني الغيظ عن ذلك الجاهل حتى عزب عني رأيي ولم أجد في الحال شيئا يشفي غيظي وغلتي منه فصار ذلك سببا لسكوتي عنه فشابهت الحال الحلم وما كان ذلك حلما ولكن طلبا لنوع من الاستخفاف لائق به

 فوالله ما يدري ذلك الكلب ولا أحد ممن خرج من قريته ورقة من ذلك الكتاب. وهل سبق أحد إلى مثله من أول الكتاب إلى اخره مع كثرة فنونه وخوافي أسراره وكان أبو موسى هذا من طبرستان فعد هذا التعصب من مناقب ابن عباد وحجب أبا موسى بعد ذلك.

ومن عجيب ما مر بي ما قرأته في كتاب الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي لأبي الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد المغربي راوية المتنبي وكان قد رد فيه على بعض من زعم أن شعر المتنبي مسروق من أبي تمام والبحتري. وله قصيدة عارض بها بعض قصائد المتنبي. وأخذ المغربي عليه فقال ورأيته وقد استشهد بأبي سعيد السيرافي مؤدب الأمير أبي إسحاق ابن معز الدولة أبي الحسن بن بويه وذكر أنه أعطاه خطه بأن قصيدته خير من قصيدة أبي الطيب. قال ومن جعل الحكم في هذا إلى أبي سعيد إنما يحكم في الشعر الشعراء لا المؤدبة.

 وبمثل هذا جرت سنة العرب في القديم كانت تضرب للنابغة خيمة من أدم بسوق عكاظ وتأتي الشعراء من سائر الافاق فتعرض أشعارها عليه فيحكم لمن أجاد وخبره مع حسان وغيره معروف. ولو كان أعلم الناس بالنحو أشعرهم لكان أبو علي الفسوي أشعر الناس. وما عرف له من نظم بيت ولا أبيات ولا سمع ذلك منه.

 وأما إعطاء أبي سعيد خطه فيوشك أن يكون من جنب ما حدثني به المعروف بابن الخزاز الوراق ببغداد وأبو بكر القنطري وأبو الحسين بن الخراساني وهما وراقان أيضا من جلة أهل هذه الصنعة أن أبا سعيد إذا أراد بيع كتاب استكتبه بعض تلامذته حرصا على النفع منه ونظرا في رق المعيشة كتب في اخره وإن لم ينظر في حرف منه:

 ((قال الحسن بن عبد الله: قد قرىء هذا الكتاب علي وصح)) ليشترى بأكثر من ثمن مثله. قلت: وهذا ضد ما وصفه به الخطيب من متانة الدين وتأبِّيه من أخذ رزق على القضاء وقناعته بما يحصل من نسخه هذه والله أعلم بما كان. 

((مناظرة جرت بين متَّى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي رحمه الله)) 

 قال أبو حيان: ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى. واختصرتها فقال لي اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئا يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشخصين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه وتوعى فوائده ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت.

 حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلاثمائة قال الوزير ابن الفرات للجماعة وفيهم الخالدي وابن الإخشيد والكندي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهري وعلي بن عيسى بن الجراح وأبو فراس وابن رشيد وابن عبد العزيز الهاشمي وابن يحيى العلوي ورسول بن طغج من مصر والمرزباني صاحب بني سامان أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى في حديث المنطق فإنه يقول لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب والخير من الشر والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام عليه واستفدناه من مواضعه على مراتبه وحدوده واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا. فقال ابن الفرات والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه وإني لأعدكم في العلم بحارا وللدين وأهله أنصارا وللحق وطلابه منارا فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلون عنهما. فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال اعذر أيها الوزير فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس على الأسماع المصيخة والعيون المحدقة والعقول الحاصدة والألباب الناقدة لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة ويجتلب الحياء والحياء مغلبة وليس البراز في معركة غاصة كالصراع في بقعة خاصة.

 فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد مخالفة الوزير فيما يأمر به هجنة والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير ونعوذ بالله من زلة القدم وإياه نسأل حسن التوفيق والمعونة في الحرب والسلم. ثم واجه متى فقال حدثني عن المنطق ما تعني به فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سنن مرضي وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه الة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه وفاسد المعنى من صالحه كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح. فقال أبو سعيد أخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل إن كنا نبحث بالعقل. هبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أم ذهب أم شبه أم رصاص وأراك بعد معرفة الوزن فقيرا إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها.

 فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك وفي تحقيقه كان اجتهادك إلا نفعا يسيرا من وجه واحد وبقيت عليك وجوه فأنت كما قال الأول:

 (حفظت شيئا وضاعت منك أشياء)

وبعد فقد ذهب عليك شيء ههنا ليس كل ما في الدنيا يوزن بل فيها ما يكال وفيها ما يوزن وما يذرع وفيها ما يمسح وفيها ما يحزر.

 وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضا على ذلك في المعقولات المقروءة والأجسام ظلال العقول وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة ودع هذا إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه حكما لهم وعليهم قاضيا بينهم ما شهد له قبلوه وما أنكره رفضوه قال متى إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة والناس في المعقولات سواء.

ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم وكذلك ما أشبهه.

 قال أبو سعيد: لو كانت المطبوعات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة أنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق ولكن ليس الأمر هكذا.

 ولقد موهت بهذا المثال ولكم عادة في مثل هذا التمويه ولكن ندع هذا أيضا. إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟  قال نعم. قال: أخطأت قل في هذا الموضع بلى. قال متى: بلى أنا أقلدك في مثل هذا.

 قال أبو سعيد: فأنت إذا لست تدعونا إلى علم المنطق بل إلى تعلم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية قال متى يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدت المعاني وأخلصت الحقائق.

 قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت وقومت وما حرفت ووزنت وما جزفت وأنها ما التاثث ولا حافت ولا نقصت ولا زادت ولا قدمت ولا أخرت ولا أخلت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام وإن كان هذا لا يكون وليس في طبائع اللغات ولا مقادير المعاني فكأنك تقول بعد هذا لا حجة إلا عقول يونان ولا برهان إلا ما وضعوه ولا حقيقة إلا ما أبرزوه. قال متى لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه وعن كل ما يتصل به وينفصل عنه وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر وانتشر ما انتشر وفشا ما فشا ونشأ ما نشأ من أنواع العلم وأصناف الصناعة ولم نجد هذا لغيرهم.

 

 قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى فإن العلم مبثوث في العالم ولهذا قال القائل: [السريع]

 (العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث)

 وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض ولهذا غلب علم في مكان دون مكان وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة. وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة الظاهرة والبنية المخالفة وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا وأن السكينة نزلت عليهم والحق تكفل بهم والخطأ تبرأ منهم والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممن يظنه بهم وعناد ممن يدعيه عليهم بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال. وليس واضع المنطق يونان بأسرها إنما هو رجل منهم وقد أخذ عمن قبله كما أخذ عنه من بعده وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجم الغفير. وله مخالفون منهم ومن غيرهم ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه هيهات هذا محال. ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان قبل منطقه فامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع لأنه مفتقد بالفطرة والطباع. وأنت فلو فرغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدرس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعادة أصحابها لعلمت أنك غني عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان. وههنا مسألة أتقول إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة قال متى نعم. قال: وهذا التفاوت والاختلاف بالطبيعة أو الإكتساب قال بالطبيعة. قال: فكيف يجوز أن يكون ههنا شيء يرتفع به الاختلاف الطبيعي والتفاوت الأصلي قال متى هذا قد مر في جملة كلامك آنفا.

 قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع وبيان ناصع ودع هذا أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب ومعانيه متميزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه وهو الواو وما أحكامه وكيف مواقعه وهل هو على وجه واحد أو وجوه فبهت متى وقال هذا نحو والنحو لم أنظر فيه لأنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو وبالنحوي حاجة إلى المنطق لأن المنطق يبحث عن المعنى والنحو يبحث عن اللفظ فإن مر المنطقي باللفظ فبالعرض وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض والمعنى أشرف من اللفظ واللفظ أوضع من المعنى.

 قال أبو سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والبناء والحديث والإخبار والاستخبار والعرض والتمني والحض والدعاء والنداء والطلب كلها من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة. ألا ترى أن رجلا لو قال نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق وتكلم بالفحش ولكن ما قال الفحش وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح وأبان المراد ولكن ما أوضح أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ أو أخبر ولكن ما أنبأ لكان في جميع هذا مخرفا ومناقضا وواضعا للكلام في غير حقه ومستعملا للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أن اللفظ طبيعي والمعنى عقلي ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثر اخر من الطبيعة ولهذا كان المعنى ثابتا  على الزمان لأن مستملي المعنى عقل والعقل إلهي ومادة اللفظ طينية وكل طيني متهافت وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها والتك التي تزهى بها إلا أن تستعير من العربية لها اسما فتعار ويسلم لك بمقدار وإن لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضا من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة لك. قال متى: يكفيني من لغتكم هذه الاسم والفعل والحرف فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.

 قال أبو سعيد: أخطأت لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وضعها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات. وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة.

 على أن ههنا سرا ما علق بك ولا أسفر لعقلك وهو أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ووزنها وميلها وغير ذلك مما يطول ذكره وما أظن أحدا يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف فمن أين يجب أن نثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية كما أن الأغراض لا تكون فارسية ولا عربية ولا تركية. ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر فلم يبق إلا أحكام اللغة فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطاطاليس بها مع جهلك بحقيقتها؟

 وحدثني عن قائل قال لك حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق أنظر كما نظروا وأتدبر كما تدبروا لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة والمعاني نقرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد ما تقول له لا يصح له الحكم ولا يستتب هذا الأمر لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت ولعلك تفرح بتقليدك وإن كان على باطل أكثر مما يفرح باستبداده وإن كان على حق وهذا هو الجهل المبين والحكم غير المستبين ومع هذا فحدثني عن الواو ما حكمه فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئا وأنت تجهل حرفا واحدا من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية ومن جهل حرفا واحدا أمكن أن يجهل آخر أو اللغة بكمالها وإن كان لا يجهلها كلها وإنما يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم بما لا يحتاج. وهذه رتبة العامة أو هي رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير. فلم يتأبى على هذا وينكر ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفي القياس وصحيح البرهان وإنما سألتك عن معاني حرف واحد فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق والتي لها بالتجوز وسمعتكم تقولون في لا يعلم النحويون مواقعها وإنما يقولون هي للوعاء كما يقولون إن الباء للإلصاق. وإن في تقال على وجوه يقال الشيء في الوعاء والإناء في المكان والسائس في السياسة والسياسة في السائس. ألا ترى هذا التشقيق هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب فهذا جهل من كل من يدعيه وخطل من القول الذي أفاض النحوي إذا قال: (في للوعاء) فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع السكيت.

 فقال ابن الفرات: أيها الشيخ الموفق أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه وحقق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ومع ذلك فهو متشيع له.

 فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع منها معنى العطف في قولك أكرمت زيدا وعمرا ومنها القسم في قولك والله لقد كان كذا وكذا. ومنها الاستئناف كقولك خرجت وزيد قائم لأن الكلام بعده ابتداء وخبر. ومنها معنى رب التي هي للتقليل نحو قوله: [الرجز]

 (وقاتم الأعماق خاوي المخترق)

 ومنها أن تكون أصلية في الاسم كقولك واقد واصل وافد. وفي الفعل كقولك وجل يوجل. ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين وناديناه} أي ناديناه. ومثله قول الشاعر: [الطويل]

 (فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل)

 المعنى انتحى بنا. ومنها معنى الحال في قوله عز وجل {ويكلم الناس في المهد وكهلا} أي يكلم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته. ومنها أن تكون بمعنى حرف الجر كقولك استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة.

 فقال ابن الفرات لمتى: يا أبا بشر أكان هذا في نحوك ثم قال أبو سعيد دع هذا ههنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من علاقتها بالشكل اللفظي ما تقول في قول القائل زيد أفضل الإخوة قال صحيح. قال: فما تقول إن قال زيد أفضل إخوته قال صحيح. قال: فما الفرق بينهما مع الصحة فبلح وجنح وعصب ريقه.

 فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة. المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلا عن وجه صحتها. والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضا ذاهلا عن وجه بطلانها

 قال متى بين ما هذا التهجين؟

 قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت ليس هذا مكان التدريس بل هو مجلس إزالة التلبيس مع من عادته التمويه والتشبيه. والجماعة تعلم أنك أخطأت فلم تدعي أن النحوي إنما ينظر في اللفظ لا في المعنى والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ هذا كان يصح لو كان المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد في الوهم السياح والخاطر العارضي والحدس الطارئ.

 وأما وهو يريغ أن يبرز ما صح له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر فلا بد له من اللفظ الذي يشتمل على مراده ويكون طباقا لغرضه وموافقا لقصده.

 قال ابن الفرات: يا أبا سعيد تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس والتبكيت عاملا في نفس أبي بشر. فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير فإن الكلام إذا طال مل.

 قال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال أبو سعيد: إذا قلت زيد أفضل إخوته لم يجز وإذا قلت زيد أفضل الإخوة جاز. والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد وزيد خارج من جملتهم دليل ذلك أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد لم يجز أن تقول زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول بكر وعمرو وخالد ولا يدخل زيد في جملتهم. فإذا كان زيد خارجا عن إخوته صار غيرهم فلم يجز أن يكون أفضل إخوته كما لم يجز أن يكون حمارك أفضل البغال لأن الحمار غير البغال. كما أن زيدا غير إخوته. فإذا قلت زيد أفضل الإخوة جاز. لأنه أحد الإخوة والاسم يقع عليه وعلى غيره فهو بعض الإخوة. ألا ترى أنه لو قيل من الإخوة عددته فيهم فقلت زيد وعمرو وبكر وخالد فيكون بمنزلة قولك حمارك أفره الحمير. فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس فتقول زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار فيدل رجل على الجنس كما دل الرجال وكما في عشرين درهما ومائة درهم.

 فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد ولقد جل علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الانقياد.

 فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها وبين الكلام بالتقديم والتأخير وتوخي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ في ذلك وإن زاغ شيء عن النحو فإنه لا يخلو من أن يكون سائغا بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلم لهم ومأخوذ عليهم وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقتهم وتكلفهم. فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون. وجعلوا تلك الترجمة صناعة وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.

 ثم أقبل أبو سعيد على متى فقال ألا تعلم يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب مثال ذلك أنك تقول هذا ثوب والثوب على أشياء بها صار ثوبا ثم بها نسج بعد أن غزل فسداته لا تكفي دون لحمته ولحمته لا تكفي دون سداته ثم تأليفه كنسجه وبلاغته كقصارته ودقة سلكه كرقة لفظه وغلظ غزله ككثافة حروفه ومجموع هذا كله ثوب ولكن بعد تقدمة كل ما يحتاج إليه فيه. قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا ينصره.

 قال أبو سعيد ما تقول في رجل قال لهذا علي درهم غير قيراط قال متى مالي علم بهذا النمط. قال لست نازعا عنك حتى يصح عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق ههنا ما هو أخف من هذا.

 قال رجل لصاحبه بكم الثوبان المصبوغان وقال اخر بكم ثوبان مصبوغان وقال اخر بكم ثوبان مصبوغين بين هذه المعاني التي تضمنها لفظا لفظا. قال متى لو نثرت أنا أيضا عليك من مسائل المنطق شيئا لكان حالك كحالي.

 قال أبو سعيد أخطأت لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه فإن كان له علاقة بالمعنى وصح لفظه على العادة الجارية أجبت ثم لا أبالي أن يكون موافقا أو مخالفا وإن كان غير متعلق بالمعنى رددته عليك وإن كان متصلا باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضا لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب، كالسبب والالة والموضوع والمحمول والكون والفساد والعموم والخصوص وأمثلة لا تنفع ولا تجدي وهي إلى العي أقرب وفي الفهاهة أذهب. ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة وتدعون الشعر ولا تعرفونه وتدعون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب وقد سمعت قائلكم يقول الحاجة ماسة إلى كتاب البرهان فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب وإن كانت الحاجة قد مست إلى ما قبل البرهان فهي أيضا ماسة إلى ما بعد البرهان وإلا فلم صنف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق. وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلا وتستذلوا عزيزا. وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص وتقولوا الهلية والأينية والماهية والكيفية والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والإنسية والكسبية والنفسية. ثم تنمطون وتقولون جئنا بالسحر في قولنا لا شيء من باء وواو وجيم في بعض باء وفاء في بعض جيم وإلا في كل ب وج في كل ب فا إذا لا في كل ج وهذا بطريق الخلف وهذا بطريق الاختصاص.

 وهذه كلها جزافات وترهات ومغالق وشبكات ومن جاد عقله وحسن تمييزه، ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كله بعون الله وفضله. وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده. وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجها وهذا الناشئ أبو العباس قد نقض عليكم وتتبع طريقكم وبين خطأكم وأبرز ضعفكم ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال وما زدتم على قولكم لم يعرف أغراضنا ولا وقف على مرادنا وإنما تكلم على وهم وهذا منكم لجاجة ونكول ورضى بالعجز والكلول وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض هذا قولكم في فعل وينفعل ولم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما ولم تقفوا على مقاسمهما لأنكم قنعتم فيهما بوقوع الفعل من يفعل وقبول الفعل من ينفعل ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم ومعارف ذهبت عنكم وهذا حالكم في الإضافة.

 فأما البدل ووجوهه والمعرفة وأقسامها والنكرة ومراتبها وغير ذلك مما يطول ذكره فليس لكم فيه مقال ولا مجال وأنت إذا قلت لإنسان كن منطقيا فإنما تريد كن عقليا أو عاقلا أو اعقل ما تقول لأن أصحابك يزعمون أن المنطق هو العقل وهذا مدخول لأن المنطق على وجوه أنتم منها في سهو. وإذا قال لك اخر كن نحويا لغويا فصيحا فإنما يريد افهم عن نفسك ما تقول ثم رم أن يفهم عنك غيرك وقدر اللفظ على المعنى فلا ينقص عنه.

 هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فاجل اللفظ بالروادف الموضحة والأشباه المقربة والاستعارات الممتعة وسدد المعاني بالبلاغة أعني لوح منها شيئا حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وجل وكرم وعلا واشرح  منها شيئا حتى لا يمكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو ينزح عنه لاغتماضه فبهذا المعنى يكون جامعا لحقائق الأشياء ولأشباه الحقائق وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس على أني لا أدري أيؤثر ما أقول أم لا ثم قال حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين أم رفعتم الخلاف بين اثنين أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة وأن الواحد أكثر من واحد وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد وأن الشرع ما تذهب إليه والحق ما تقوله هيهات ههنا أمور ترفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم وتدق عن عقولهم وأذهانهم

 ودع هذا ههنا مسألة قد أوقعت خلافا فارفع ذلك الخلاف بمنطقك.

 قال قائل لفلان من الحائط إلى الحائط ما الحكم فيه وما قدر المشهود به لفلان فقد قال ناس له الحائطان معا وما بينهما. وقال اخرون له النصف من كل منهما. وقال اخرون له أحدهما. هات الان آيتك الباهرة ومعجزتك القاهرة وأنى لك بهما وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك ودع هذا أيضا. قال قائل من الكلام ما هو مستقيم حسن ومنه ما هو مستقيم كذب ومنه ما هو خطأ فسر هذه الجملة. واعترض عليه عالم اخر فاحكم أنت بين القائل والمعترض وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل. فإن قلت كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته والاخر لم أحصل على اعتراضه. قيل لك استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملا له ثم أوضح الحق منهما لأن الأصل مسموع لك حاصل عندك. وما يصح به أو يطرد عليه يجب أن يظهر منك فلا تتعاسر علينا فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة فقد بان الان أن مركب اللفظ لا يجوز مبسوط العقل. والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامة وليس في  قوة اللفظ من أي لغة كان أن يملك المبسوط ويحيط به وينصب عليه سورا ولا يدع شيئا من داخله أن يخرج ولا شيئا من خارجه أن يدخل خوفا من الاختلاط الجالب للفساد أعني أن ذلك يخلط الحق بالباطل ويشبه الباطل بالحق وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق وقد عاد ذلك الصحيح منه في الثاني بهذا المنطق وأنت لو عرفت العلماء والفقهاء ومسائلهم ووقفت على غورهم في فكرهم وغوصهم في استنباطهم وحسن تأويلهم لما يرد عليهم وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكنايات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة لحقرت نفسك وازدريت أصحابك ولكان ما ذهبوا إليه وتتابعوا عليه أقل في عينك من السها عند القمر ومن الحصا عند الجبل. أليس الكندي وهو علم في أصحابكم يقول في جواب مسألة هذا من باب عدة فعد الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب حتى وضعوا له مسائل من هذا وغالطوه بها وأروه من الفلسفة الداخلة فذهب عليه ذلك الوضع فاعتقد أنه مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوش اللب قالوا له أخبرنا عن اصطكاك الأجرام وتضاغط الأركان هل يدخل في باب وجوب الإمكان أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟

 وقالوا له أيضا ما تشبيه الحركات الطبيعية إلى الصور الهيولانية وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان أو مزايلة له على غاية الإحكام ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله. وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف والفساد والفسالة والسخف ولولا التوقي من التطويل لسردت ذلك كله. ولقد مر بي في خطة التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفروع. وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة والمعرفة تناقض النكرة على أن النكرة والمعرفة من باب الألسنة العارية من ملابس الأسرار الإلهية لا من باب الإلهية العارضة في أحوال السرية. ولقد حدثني أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى ويشمت العدو ويغم الصديق وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق. ونسأل الله عصمة وتوفيقا نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل والفعل الجاري على التعديل إنه سميع مجيب.

 قال أبو حيان هذا اخر ما كتبت عن علي بن عيسى الشيخ الصالح بإملائه وكان أبو سعيد روى لمعا من هذه القصة وكان يقول لم أحفظ على نفسي كل ما قلت ولكن كتب ذلك القوم الذين حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضا وقد اختل كثير منه.

 قال علي بن عيسى وتقوض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة. وقال له الوزير ابن الفرات عين الله عليك أيها الشيخ فقد نديت أكبادا وأقررت عيونا وبيضت وجوها وحكت طرازا لا تبليه الأزمان ولا يتطرقه الحدثان.

 قال قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد يومئذ قال مولده سنة ثمانين ومائتين وكان له يوم المناظرة أربعون سنة وقد عبث الشيب بلهازمه هذا مع السمت والوقار والدين والجد وهذا شعار أهل الفضل والتقدم وقل من تظاهر وتحلى بحليته إلا جل في العيون وعظم في الصدور والنفوس وأحبته القلوب وجرت بمدحه الألسنة

 وقلت لعلي بن عيسى أكان أبو علي الفسوي حاضرا في المجلس قال لا كان غائبا وحدث بما كان. وكان الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور والثناء المذكور.

 قال أبو حيان وقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث ذكرتني شيئا كان في نفسي وأحببت أن أسألك عنه وأقف عليه أين أبو سعيد من أبي علي وأين علي بن عيسى منهما وأين المراغي أيضا من الجماعة وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيوية فكان من الجواب ما تقدم ذكره.

 ونظير خبر أبي سعيد مع متى خبره أيضا مع أبي الحسن العامري الفيلسوف النيسابوري ذكره أبو حيان أيضا قال لما ورد أبو الفتح بن العميد إلى بغداد وأكرم العلماء استحضرهم إلى مجلسه ووصل أبا سعيد السيرافي وأبا الحسن علي بن عيسى الرماني بمال كما ذكرنا في باب أبي الفتح علي بن محمد بن العميد.

 قال أبو حيان انعقد المجلس في جمادى الأولى سنة أربع وستين وثلاثمائة وغص بأهله فرأيت العامري وقد انتدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال ما طبيعة الباء من بسم الله فعجب الناس من هذه المطالبة ونزل بأبي سعيد ما كاد به يشك فيه فأنطقه الله بالسحر الحلال وذلك أنه قال ما أحسن ما أدبنا به بعض الموفقين المتقدمين فقال: [الكامل]

 (وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله مختالا)

 (واعلم بأن مع السكوت لبابة ... ومن التكلم ما يكون خبالا)

 والله يا شيخ لعينك أكبر من فرارك ولمراك أوفى من دخلتك ولمنثورك أبين من منظومك فما هذا الذي طوعت له نفسك وسدد عليه رأيك إني أظن أن السلامة بالسكوت تعافك والغنيمة بالقول ترغب عنك والله المستعان

 فقال ابن العميد وقد أعجب بما قال أبو سعيد: [الطويل]

 (فتى كان يعلو مفرق الحق قوله ... إذا الخطباء الصيد عضل قيلها)

 (جهير وممتد العنان مناقد ... بصير بعورات الكلام خبيرها)

 وقوله: [السريع]

 (القائل القول الرفيع الذي ... يمرع منه البلد الماحل)

 والتفت إلى العامري فقال: [الطويل]

 (وإن لسانا لم يعنه لبابه ... كحاطب ليل يجمع الرذل حاطبه)

 (وذي خطل بالقول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله)

 (وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما)

 (وفي الصمت ستر وهو أولى بذي الحجى ... إذا لم يكن للنطق وجه ومذهب)

 ثم أقبل على ابن فارس معلمه فقال لسنا من كلام أصحابك في الفريضة

 قال أبو حيان: فلما خرجنا قلت لأبي سعيد أرأيت أيها الشيخ ما كان من هذا الرجل الخطير عندنا الكبير في أنفسنا قال ما دهيت قط بمثل ما دهيت به اليوم لقد جرى بيني وبين أبي بشر صاحب شرح كتاب المنطق سنة عشرين وثلاثمائة في مجلس أبي جعفر بن الفرات مناظرة كانت هذه أشوس وأشرس منها.





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.


ستوفر فحوصات تشخيصية لم تكن متوفرة سابقا... تعرف على مميزات أجهزة المختبر في مستشفى الثقلين لعلاج الاورام في البصرة
بالصور: تزامنا مع ذكرى ولادة الإمام الرضا (ع).. لوحات مطرزة تزين الصحن الحسيني الشريف
بالفيديو: الاكبر في العراق.. العتبة الحسينية تنجز المرحلة الأولى من مدينة الثقلين لإسكان الفقراء في البصرة
ضمنها مقام التل الزينبي والمضيف.. العتبة الحسينية تعلن عن افتتاحها ثلاثة أجزاء من مشروع صحن العقيلة زينب (ع) خلال الفترة المقبلة