أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-2-2020
7723
التاريخ: 24-1-2022
6200
التاريخ: 12-1-2022
3639
التاريخ: 13-2-2022
2151
|
فصل في المجاز العقلي والمجاز اللغوي
والفرق بينهما. والذي ينبغي أن يُذكر الآن حدُّ الجملة في الحقيقة والمجاز، إلاَّ أنك تحتاج أن تعرف في صدر القول عليها ومقدّمته أصلاً، وهو المعنى الذي من أجله اختُصّت الفائدة بالجملة، ولم يجز حصولها بالكلمة الواحدة، كالاسم الواحد، والفعل من غير اسم يُضَمّ إليه، والعلّة في ذلك أن مَدَارَ الفائدة في الحقيقة على الإثبات والنفي، ألا ترى أن الخبر أوّل معاني الكلام وأقدمُها، والذي تستند سائر المعاني إليه وتترتّب عليه وهو ينقسم إلى هذين الحكمين، وإذا ثبت ذلك، فإن الإثبات يقتضي مُثبِتاً ومُثبَتاً له، نحو أنك إذا قلت ضَربَ زيدٌ أؤ زيدٌ ضاربٌ، فقد أثبتَّ الضرب فعلاً أو وصفاً لزيد وكذلك النفي يقتضي مَنْفيّاً ومنفيّاً عنه، فإذا قلت ما ضربَ زيدٌ وما زيدٌ ضاربٌ، فقد نفيت الضرب عن زيد وأخرجته عن أن يكون فعلاً له، فلما كان الأمر كذلك احتيج إلى شيئين يتعلّق الإثباتُ والنفي بهما، فيكون أحدهما مُثبتاً والآخر مثبتاً له وكذلك يكون أحدهما منفيّاً والآخر منفيّاً عنه، فكان ذانك الشيئان المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، وقيل للمثَبت وللمنفي مُسنَدٌ وحديثٌ، وللمثبَت له والمنفيِّ عنه مُسنَدٌ إليه ومحدَّثٌ عنه، وإذا رُمْتَ الفائدة أن تحصل لك من الاسم الواحد أو الفعل وحده، صرت كأنّك تطلُب أن يكون الشيء الواحد مُثْبِتاً ومثبَتاً له، ومنفيّاً ومنفيّاً عنه، وذلك محال، فقد حصل من هذا أنّ لكل واحدٍ من حكمي الإثبات والنفي حاجةً إلى أن تُقيِّده مرّتين، وتُعلّقه بشيئين، تفسير ذلك أنك إذا قلت ضربَ زيدٌ، فقد قصدت إثبات الضرب لزيد، فقولك إثباتُ الضربِ، تقييدٌ للإثبات بإضافته إلى الضرب ثم لا يكفيك هذا التقييد حتى تُقيّده مرّةً أخرى فتقول إثبات الضرب لزيد، فقولك: لزيد، تقييدٌ ثانٍ وفي حكم إضافة ثانية، وكما لا يُتصوَّر أن يكون هاهنا إثباتٌ مطلقٌ غيرُ مقيَّد بوجه أعني أن يكون إثباتٌ ولا مُثْبَتٌ له ولا شيءٌ يُقصَد بذلك الإثبات إليه، لا صفةٌ ولا حكمٌ ولا موهومٌ بوجه من الوجوه كذلك لا يُتصوَّر أن يكون هاهنا إثباتٌ مقيّدٌ تقييداً واحداً، نحوُ إثبات شيء فقط، دون أن تقول إثبات شيءٍ لشيء، كما مضى من إثبات الضرب لزيد، والنفيُ بهذه المنزلة، فلا يتصوَّر نفيٌ مطلقٌ، ولا نَفْيُ شيءٍ فقط، بل تحتاج إلى قيدين كقولك نفيُ شيء عَنْ شيء، فهذه هي القضية المُبْرمة الثابتةُ التي تزول الرَّاسيات ولا تزول، ولا تنظر إلى قولهم فلان يُثْبت كذا، أي يدَّعي أنه موجود، وينفي كذا، أي يقضي بعَدَمه كقولنا أبو الحسن يثبت مِثَال جُخْدَب بفتح الدال، وصاحب الكتاب ينفيه، لأنّ الذي قصدتَهُ هو الإثباتُ والنفيُ في الكلام. ثم اعلم أن في الإثبات والنفي بعد هذين التقييدين حكماً آخر: هو كتقييد ثالث، وذلك أنّ للإثبات جهةً، وكذلك النفي، ومعنى ذلك أنك تُثبت الشيء للشيء مرَّةً من جهة، وأخرى من جهة غير تلك الأولى، وتفسيره أنّك تقول ضرب زيد، فتثبت الضرب فعلاً لزيد وتقول مَرض زيد فتُثبت المَرض وصفاً له، وهكذا سائر ما كان من أفعال الغرائز والطباع، وذلك في الجملة على ما لا يوصف الإنسان بالقدرة عليه، نحو كَرُم وظَرُف وحَسُن وقَبُح وطَال وقَصُر، وقد يُتصوَّر في الشيء الواحد أن تُثبته من الجهتين جميعاً، وذلك في كل فعلٍ دَلَّ على معنًى يفعله الإنسان في نفسه نحو قام وقعد، إذا قلت قام زيد، فقد أثبتَّ القيام فعلاً له من حيث تقول فَعَلَ القيام وأمرتُه بأن يفعل القيام، وأثبتَّه أيضاً وصفاً له من حيث أن تلك الهيئة موجودة فيه، وهو في اكتسابه لها كالشخص المنتصب، والشجرة القائمة على ساقها التي توصف بالقِيام، لا من حيث كانت فاعلةً له، بل من حيث كان وصفاً موجوداً فيها، وإذ قد عرفتَ هذا الأصل، فهاهنا أصل آخر يدخل في غرضنا وهو أن الأفعال على ضربين: متعدّ وغير متعدّ، فالمتعدّي على ضربين: ضربٌ يتعدَّى إلى شيءٍ هو مفعول به، كقولك: ضربتُ زيداً، زيداَ مفعولٌ به، لأنك فعلت به الضرب ولم يفعله بنفسه. وضربٌ يتعدَّى إلى شيءٍ هو مفعول على الإطلاق، وهو في الحقيقة كفَعَلَ وكلِّ ما كان مِثْلَه في كونه عامّاً غيرَ مشتقّ من معنًى خاصّ كصَنَعَ، وعَمِلَ، وأَوْجَدَ، وأَنْشَأَ، ومعنى قولي من معنًى خاصّ أنه ليس كضَرَبَ الذي هو مشتقّ من الضرب أو أَعلَمَ الذي هو مأخوذ من العلم، وهكذا كل ما له مصدرٌ، ذلك المصدرُ في حُكم جنس من المعاني، فهذا الضَّربُ إذا أُسند إلى شيءٍ كان المنصوبُ له مفعولاً لذلك الشيء على الإطلاق، كقولك: فعل زيدٌ القيامَ، فالقيام مفعولٌ في نفسه وليس بمفعول به،ن العلم، وهكذا كل ما له مصدرٌ، ذلك المصدرُ في حُكم جنس من المعاني، فهذا الضَّربُ إذا أُسند إلى شيءٍ كان المنصوبُ له مفعولاً لذلك الشيء على الإطلاق، كقولك: فعل زيدٌ القيامَ، فالقيام مفعولٌ في نفسه وليس بمفعول به، وأحقُّ من ذلك أن تقول خَلق اللَّه الأنَاسِيَّ، وأنشأ العالم، وخلق الموتَ والحياة، والمنصوب في هذا كله مفعول مطلق لا تقييد فيه، إذ من المحال أن يكون معنى خلق العالم فَعَلَ الخلق به، كما تقول في ضربت زيداً فعلتُ الضرب بزيد، لأن الخَلْق من خَلَق كالفعل من فَعَلَ، فلو جاز أن يكون المخلوق كالمضروب، لجاز أن يكون المفعول في نفسه كذلك، حتى يكون معنى فَعَلَ القيام فعل شيئاً بالقيام، وذلك من شنيع المُحال، وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن الإثبات في جميع هذا الضرب أعني فيما منصوبُه مفعولٌ، وليس مفعولاً به يتعلق بنفس المفعول، فإذا قلت فعل زيدٌ الضرب، كنت أثبتَّ الضرب فعلاً لزيد، وكذلك تُثبت العالم في قولك خلق اللَّه العالم، خَلْقاً للَّه تعالى، ولا يصحُّ في شيء من هذا الباب أن تُثبت المفعول وصفاً ألبتة، وتوهُّم ذلك خطاً عظيم وجهلٌ نعوذُ باللَّه منه، وأما الضرب الآخر وهو الذي منصوبه مفعولٌ به، فإنك تُثبت فيه المعنى الذي اشتُقَّ منه فعَلَ فعلاً للشيء، كإثباتك الضرب لنفسك في قولك ضربتُ زيداً، فلا يُتَصَوَّر أن يلحَق الإثبات مفعولَه، لأنه إذا كان مفعولاً به، ولم يكن فعلاً لك، استحال أن تُثبته فِعْلاً، وإثباتُه وصفاً أبعدُ في الإحالة. فأما قولُنا في نحو ضربتُ زيداً، إنك أثبتَّ زيداً مضروباً، فإنّ ذلك يرجع إلى أنك تُثبت الضربَ واقعاً به منك، فأمّا أن تُثبِت ذاتَ زيد لك، فلا يُتصَوَّر، لأن الإثبات كما مضى لا بدّ له من جهة، ولا جهةَ هاهنا، وهكذا إذا قلت أحْيا اللَّه زيداً، كنت في هذا الكلام مُثبِتاً الحياةَ فِعلاً للَّه تعالى في زيد، فأما ذات زَيد، فلم تُثبتها فعلاً للَّه بهذا الكلام، وإنما يتأتَّى لك ذلك بكلام آخر، نحو أن تقول خلق اللَّه زيداً ووأوجده وما شاكله، مما لا يُشتقّ من معنًى خاصّ كالحياة والموت ونحوهما من المعاني، وإذ قد تقرَّرتْ هذه المسائل، فينبغي أن تعلم أن من حقك إذا أردت أن تقضي في الجملة بمجاز أو حقيقة، أن تنظر إليها من جهتين: إحداهما أن تنظر إلى ما وقع بها من الإثبات، أهو في حقه وموضعه، أم قد زال عن الموضع الذي ينبغي أن يكون فيه والثانية أن تنظر إلى المعنى المُثْبَت أعني ما وقع عليه الإثبات كالحياة في قولك أحيا اللَّه زيداً، والشيب في قولك أشابَ اللَّه رأسِي، أثابتٌ هو على الحقيقة، أم قد عُدِل به عنها. وإذا مُثِّل لك دخول المجاز على الجملة من الطريقين، عرفت ثَبَاتُها على الحقيقة منهما، فمثالُ ما دخله المجاز من جهة الإثبات دون المُثْبَت قوله: "وَشَيَّبَ أيّامُ الفِرَاق مَفارِقِي وأَنْشَزْنَ نَفْسي فوق حَيْثُ تكونُ" وقوله: "أَشَابَ الصغيرَ وأَفْنَى الكبي رَ كَرُّ الغَدَاةِ ومَرُّ العَشِي" المجاز واقعٌ في إثبات الشيب فعلاً للأيام ولكرّ الليالي، وهو الذي أُزيل عن موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه، لأن من حق هذا الإثبات، أعني إثبات الشَّيب فعلاً، أن لا يكون إلا مع أسماء اللّه تعالى، فليس يصحّ وجود الشيب فعلاً لغير القديم سبحانه، وقد وُجٍّه في البيتين كما ترى إلى الأيام وكرّ الليالي، وذلك ما لا يُثَبت له فعلٌ بوجهٍ، لا الشيبُ ولا غيرُ الشيب، وأما المُثْبَت فلم يقع فيه مجاز، لأنه الشيب وهو موجود كما ترى، وهكذا إذا قلت سرَّنى الخبر وسرَّنى لقاؤك، فالمجاز في الإثبات دون المثبَت، لأن المثبَت هو السرور، وهو حاصل على حقيقته، ومثال ما دخل المجازُ في مُثبته دون إثباته، قوله عز وجل: "أوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ" "الأنعام: 221"، وذلك أن المعنى - واللّه أعلم - على أن جُعل العلمُ والهُدَى والحكمة حياة للقلوب، على حدِّ قوله عز وجل: "وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا" "الشورى: 25"، فالمجاز في المُثْبَت وهو الحياة، فأما الإثبات فواقع على حقيقته، لأنه ينصرف إلى أن الهدى والعلم والحكمة فَضْلٌ من اللّه وكائنٌ من عنده، ومن الواضح في ذلك قوله عز وجل: "فَأحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" "فاطر:9"، وقوله: "إنَّ الَّذِي أحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى" "فصلت: 39"، جعل خُضرة الأَرْض ونَضْرتها وبَهْجتها بما يُظهره اللَّه تعالى فيها من النَّبات والأَنْوار والأَزْهار وعجائب الصنع، حياةً لها، فكان ذلك مجازاً في المُثبَت، من حيث جعل ما ليس بحياةٍ حياةً على التشبيه، فأَما نفس الإثبات فمحضُ الحقيقة، لأنه إثباتٌ لما ضرب الحياة مثلاً له فعلاً للَّه تعالى، لا حقيقةَ أحقّ من ذلك، وقد يُتَصوَّر أن يدخل المجاز الجملةَ من الطريقين جميعاً، وذلك أنْ يُشبَّه معنًى بمعنًى وصفةٌ بصفةٍ، فيستعار لهذه اسمُ تلك، ثم تُثبَت فعلاً لما لا يصحّ الفِعْل منه، أو فعلُ تلك الصفة، فيكون أيضاً في كل واحد من الإثبات والمثبَت مجازٌ، كقول الرجل لصاحبه أحيَتْني رؤيتُك، يريد آنسَتْني وسََرَّتْنِي ونحوه، فقد جعل الأُنس والمسرَّة الحاصلةَ بالرؤية حياةً أوَّلاً، ثم جعل الرؤية فاعلةً لتلك الحياة، وشبيهٌ به قول المتنبي:
وتُحيى لَهُ المالَ الصَّوارِمُ والقَنَا |
|
ويقتلُ ما تُحيي التَّبسُّمُ والجَـدَا |
جعل الزيادة والوفور حياةً في المال، وتفريقه في العطاء قتلاً، ثم أثبتَ الحياة فعلاً للصوارم، والقتل فعلاً للتبسم، مع العلم بأنَّ الفعل لا يصحُّ منهما، ونوع منه أهْلَكَ النَّاسَ الدينارُ والدرهمُ، جعل الفتنة هلاكاً على المجاز، ثم أثبت الهلاك فعلاً للدينار والدرهم، وليسا مما يفعلان فاعرفه. وإذ قد تبيّن لك المنهاج في الفرق بين دخول المجاز في الإثبات، وبين دخوله في المثبَت، وبين أن ينتظمهما عرفتَ الصورة في الجميع، فاعلم أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل، وإذا عرض في المُثْبَت فهو متلقّى من اللغة، فإن طلبتَ الحجّةَ على صحة هذه الدَّعوى، فإنَّ فيما قدّمتُ من القول ما يُبيّنها لك، ويختصر لك الطريق إلى معرفتها، وذلك أن الإثبات إذا كان من شرطه أن يقيَّد مرَّتين كقولك: إثبات شيء لشيء، ولزم من ذلك أن لا يحصل إلا بالجملة التي هي تأليف بين حديث ومحدَّث عنه، ومسنَد ومُسنَد إليه، علمتَ أن مأخذَه العقل، وأنه القاضي فيه دون اللغة، لأن اللغة لم تأت لتحكُمَ بحُكم أو لتُثْبت وتنفي، وتَنْقُض وتُبرم، فالحكم بأَن الضَّرب فعل لزيد، أو ليس بفعل له، وأن المرضَ صفةٌ له، أو ليس بصفة له، شيءٌ يضعه المتكلم ودَعْوى يدَّعيها، ومَا يعترض على هذه الدعوى من تصديق أو تكذيب، واعتراف أو إنكار، وتصحيح أو إفساد، فهو اعتراض على المتكلِّم، وليس اللغة من ذلك بسبيل، ولا منه في قليلٍ ولا كثيرٍ. وإذا كان كذلك كان كلُّ وصف يستحقُّه هذا الحكمُ من صحة وفَساد، وحقيقة ومجاز، واحتمال واستحالة، فالمرجع فيه والوجهُ إلى العقل المحض وليس للغة فيه حظٌّ، فلا تُحْلَى ولا تُمِرُّ، والعربيّ فيه كالعجميّ، والعجميّ كالتركيّ، لأن قضايا العقول هي القواعدُ والأُسُس التي يُبنى غيرها عليها، والأصولُ التي يُرَدُّ ماسواها إليها، فأما إذا كان المجاز في المُثْبَت كنحو قوله تعالى: "فَأحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ" "سورة فاطر: 9"، فإنما كان مأخذُه اللغة، لأجل أنّ طريقةَ المجاز بأنْ أُجْرِيَ اسمُ الحياة على ما ليس بحياة، تشبيهاً وتمثيلاً، ثم اشتُقّ منها - وهي في هذا التقدير - الفِعْلُ الذي هو أحيا، واللغة هي التي اقتضتْ أن تكون الحياة اسماً للصِّفة التي هي ضدُّ الموت، فإذا تُجُوّز في الاسم فأُجري على غيرها، فالحديثُ مع اللغة فاعرفه. إن قال قائلٌ في أصل الكلام الذي وضعتُه على أن المجاز يقع تارة في الإثبات، وتارة في المُثْبَت، وأنه إذا وقع في الإثبات فهو طالع عليك من جهة العقل، وبادٍ لك من أُفُقِهِ وإذا عرض في المُثَبت فهو آتيك من ناحية اللغة: ما قولكم إن سَوَّيتُ بين المسألتين، وادَّعيت أن المجاز بينهما جميعاً في المثبَت وأُنزِّل هكذا فأقول: الفِعْل الذي هو مصدر فَعَلَ قد وُضع في اللغة للتأثير في وجود الحادث، كما أن الحياة موضوعة للصفة المعلومة، فإذا قيل فَعَلَ الرَّبيع النّوْرَ، جُعِلَ تعلُّقُ النَّور في الوجود بالربيع من طريق السَّبب والعادة فعلاً، كما تجعَل خُضرة الأرض وبهجتها حياةً، والعلم في قلب المؤمن نُوراً وحياة، وإذا كان كذلك، كان المجاز في أن جعل ما ليس بفعل فعلاً، وأُطلق اسم الفعل على غير ما وُضع له في اللغة، كما جعل ماليس بحياة حياةً وأجري اسمها عليه، فإذا كان ذلك مجازاً لغويّاً فينبغي أن يكون هذا كذلك. فالجواب إنّ الذي يدفع هذه الشبهة، أن تنظر إلى مدخل المجاز في المسألتين، فإن كان مدخلهما من جانب واحدٍ، فالأمر كما ظننتَ، وإن لم يكن كذلك استبان لك الخطأ في ظنّك، والذي بيّن اختلاف دخوله فيهما، أنك تحصُل على المجاز في مسألة الفعل بالإضافة لا بنفس الاسم، فلو قلت: أثبتُّ النَّوْرَ فعلاً لم تقع في مجاز، لأنه فعلٌ للَّه تعالى، وإنما تصير إلى المجاز إذا قلت: أثبتُّ النَّوْرَ فعلاً للربيع، وأما في مسألة الحياة، فإنك تحصل على المجاز بإطلاق الاسم فحَسْبُ من غير إضافة، وذلك قولك أثبتَ بهجةَ الأرض حياةً أو جعلها حياةً، أفلا ترى المجاز قد ظهر لك في الحياة من غير أن أضفتها إلى شيء، أي من غير أن قلت لكذا. وهكذا إذا عبَّرت بالنفس، تقول في مسألة الفعل: جعل ما ليس بفعلٍ للربيع فعلاً له، وتقول في هذه: جعل ما ليس بحياة حياةً وتسكت، ولا تحتاج أن تقول: جعل ما ليس بحياةٍ للأرض حياة للأرض، بل لا معنى لهذا الكلام، لأن يقتضي أنك أضفت حياةً حقيقةً إلى الأرض، وجعلتها مثلاً تحيا بحياة غيرها، وذلك بيّنُ الإحالة، ومن حقِّ المسائل الدقيقة أن تُتأمَّل فيها العباراتُ التي تجري بين السائل والمجيب، وتُحَقَّق، فإنّ ذلك يكشف عن الغَرض، ويبيّن جهة الغلط، وقولك جعل ما ليس بفعل فعلاً احتذاءً لقولنا جعل ما ليس بحياة حياة لا يصحّ - لأن معنى هذه العبارة أن يراد بالاسم غير معناه لشَبَهٍ يُدَّعَى أو شيءٍ كالشبه، لا أن يعطَّل الاسم من الفائدة، فَيُرَاد بها ما ليس بمعقول . فنحن إذاتجوّزنا في الحياة، فأردنا بها العلم، فقد أَوْدَعْنا الاسم معنىً، وأردنا به صفةً معقولةً كالحياة نفسها ولا يمكنك أن تشير في قولك: فعل الربيع النَّوْرَ، إلى معنًى تزعُم أن لفظ الفعل يُنقَل عن معناه إليه، فيرادُ به، حتى يكون ذلك المعنى معقولاً منه، كما عُقل التأثير في الوجود، وحتى تقول لم أرد به التأثير في الوجود، ولكن أردت المعنى الفلانيّ الذي هو شبيهٌ به أو كالشبيه، أو ليس بشبيه مثلاً، إلا أنه معنًى خَلَفَ معنى آخر على الاسم، إذ ليس وجود النور بعقب المطر، أو في زمان دون زمان، مما يعطيك معنًى في المطر أو في الزمان، فتُريدُه بلفظ الفعل، فليس إلا أن تقول: لما كان النَّوْر لا يوجد إلا بوجود الربيع، تُوُهّم للربيع تأثيرٌ في وجوده، فأَثبتُّ له ذلك، وإثبات الحكم أو الوصف لما ليس له قضيّةٌ عقلية، لا تعلُّق لها في صحّةٍ وفسادٍ باللغة فاعرفه.ن لفظ الفعل يُنقَل عن معناه إليه، فيرادُ به، حتى يكون ذلك المعنى معقولاً منه، كما عُقل التأثير في الوجود، وحتى تقول لم أرد به التأثير في الوجود، ولكن أردت المعنى الفلانيّ الذي هو شبيهٌ به أو كالشبيه، أو ليس بشبيه مثلاً، إلا أنه معنًى خَلَفَ معنى آخر على الاسم، إذ ليس وجود النور بعقب المطر، أو في زمان دون زمان، مما يعطيك معنًى في المطر أو في الزمان، فتُريدُه بلفظ الفعل، فليس إلا أن تقول: لما كان النَّوْر لا يوجد إلا بوجود الربيع، تُوُهّم للربيع تأثيرٌ في وجوده، فأَثبتُّ له ذلك، وإثبات الحكم أو الوصف لما ليس له قضيّةٌ عقلية، لا تعلُّق لها في صحّةٍ وفسادٍ باللغة فاعرفه.
ومما يجب ضبطُه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل وجوباً حتى لا يجوز خلافه، فإضافتُه إلى دِلالة اللَّغة وجعلُه مشروطاً فيها، محالٌ لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسِّمات، ولا معنى للعلامة والسِّمة حتى يحتمل الشيءُِ ما جعلت العلامة دليلاً عليه وخلافَه، فإنما كانت ما مثلاً عَلماً للنفس، لأن هاهنا نقيضاً له وهو الإثبات، وهكذا إنما كانت مَنْ لما يعقل، لأن هاهنا ما لا يعقل، فمن ذهب يدَّعي أن في قولنا: فَعَلَ وصَنَعَ ونحوه دلالةً من جهة اللغة على القادر، فقد أساء من حيث قصد الإحسان، لأنه - والعياذُ باللَّه - يقتضي جوازَ أن يكون هاهنا تأثيرٌ في وجود الحادث لغير القادر، حتى يُحتاج إلى تضمين اللفظِ الدلالةَ على اختصاصه بالقادر، وذلك خطأٌ عظيم، فالواجب أن يقال الفعل موضوع للتأثير في وجود الحادث في اللغة، والعقلُ قد قضى وبَتَّ الحكم بأنْ لا حظَّ في هذا التأثير لغير القادر، وما يقوله أهلُ النظر من أنّ من لم يعلم الحادث موجوداً من جهة القادر عليه، فهو لم يعلمه فعلاً لا يخالف هذه الجملة، بل لا يصحّ حَقّ صحّتِه إلا مع اعتبارها، وذلك أن الفعل إذا كان موضوعاً للتأثير في وجود الحادث، وكان العقل قد بيّن بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة استحالةَ أن يكون لغير القادر تأثير في وجود الحادث، وأن يقع شيء مما ليس له صفة القادر، فمن ظَنَّ الشيء واقعاً من غير القادر، فهو لم يعلمه فعلاً، لأنه لا يكون مستحقّاً هذا الاسم حتى يكون واقعاً من غيره، ومن نَسَبَ وقوعَه إلى ما لا يصح وقوعه منه، ولا يُتَصوَّر أن يكون له تأثير في وجوده وخروجه من العدم، فلم يعلمه واقعاً من شيء ألبتة، وإذا لم يعلمه واقعاً من شيء، لم يعلمه فعلاً، كما أنه إذا لم يعلمه كائناً بعد أن لم يكن، لم يعلمه واقعاً ولا حادثاً فاعرفه. واعلم أنك إن أردت أن ترى المجاز وقد وقع في نفس الفعل والخلق، ولحقهما من حيثُ هما لا إثباتُهما، وإضافتُهما، فالمثال في ذلك قولهم في الرجل يُشْفِي على هلَكة ثم يتخلّص منها هو إنما خُلِق الآن وإنما أُنشئ اليوم وقد عُدِم ثم أُنشئ نشأةً ثانية، وذلك أنك تُثبت هاهنا خلقاً وإنشاءً، من غير أن يُعقَل ثابتاً على الحقيقة، بل على تأويل وتنزيلٍ، وهو أنْ جعلتَ حالة إشفائه على الهلكة عدماً وفناءً وخروجاً من الوجود، حتى أنتج هذا التقديرُ أن يكون خلاصه منها ابتداءَ وجودٍ وخلقاً وإنشاءً، أفيمكنك أن تقول في نحو: فعل الربيع النَّوْر بمثل هذا التأويل، فتزعُمَ أنك أثبتَّ فعلاً وقع على النَّوْر من غير أن كان ثَمَّ فعلٌ، ومن غير أن يكون النَّور مفعولاً? أو هو مما يَتَعَوَّذ باللَّه منه، وتقول الفعل واقعٌ على النَّور حقيقةً، وهو مفعولُ مجهولٍ على الصِّحة، إلا أن حقّ الفعل فيه أن يُثْبَتَ للَّه تعالى، وقد تُجُوِّزَ بإثباته للربيع؛ أفليس قد بان أن التجوُّز هاهنا في إثبات الفعل للربيع لا في الفعل نفسه، فإن التجوُّز في مسألة المتخلِّص من الهلكة حيث قلت: إنه خُلق مرةً ثانية في الفعل نفسه، لا في إثباته? فلكَ كيف نظرتَ فرقٌ بين المجاز في الإثبات، وبينه في المثبَت، وينبغي أن تعلم أن قولي في المثبَت مجازٌ، ليس مرادي أن فيه مجازاً من حيث هو مُثبَت، ولكن المعنى أن المجاز في نفس الشيء الذي تَناوَله الإثبات نحو أنك أثبتَّ الحياة صفةً للأرض في قوله تعالى: "يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" "سورة الحديد: 17"، والمراد غيرها، فكان المجازُ في نفس الحياة لا في إثباتها هذا وإذا كان لا يُتصوَّر إثبات شيء لا لشيء، استحال أن يوصف المُثْبَت من حيث هو مُثْبَت بأنه مجاز أو حقيقة. ومما ينتهي في البيان إلى الغاية أن يقال للسائل هَبْك تُغالطنا بأن مصدر فَعَلَ نُقل أوَّلاً من موضعه في اللغة، ثم اشتُقَّ منه، فقلْ لنا ما نصنع بالأفعال المشتقَّة من معانٍ خاصّة، كَنَسَجَ، وصَاغ، ووَشَّى، ونَقَشَ أتقول إذا قيل نَسَجَ الربيعُ وصاغ الربيعُ ووَشَّى: إن المجاز في مصادر هذه الأفعال التي هي النَّسج والوَشْي والصّوْغ، أم تعترف أنه في إثباتها فعلاً للربيع، وكيف تقول إن في أنفُسِها مجازاً، وهي موجودةٌُ بحقيقتها، بل ماذا يُغني عنك دَعوى المجاز فيها، لو أمكنك، ولا يمكنك أن تقتصر عليها في كونِ الكلام مجازاً - أعني لا يمكنك أن تقول: إن الكلاممجازٌ من حيث لم يكن ائتلاف تلك الأنوار نسجاً ووشياً، وتدَعَ حديثَ نسبتها إلى الربيع جانباً. هذا وهاهنا مالا وجه لك لدعوى المجاز في مصدر الفعل منه كقولك: سَرَّني الخبر، فإن السرور بحقيقته موجود، والكلام مع ذلك مجازٌ، وإذا كان كذلك، علمتَ ضرورةً ليس المجاز إلاّ في إثبات السرور فعلاً للخبر، وإيهامِ أنه أثّر في حدوثه وحصوله، ويَعلم كلّ عاقلٍ أن المجاز لو كان من طريق اللغة، لجُعِل ما ليس بالسرور سروراً، فأمّا الحكم بأنه فعل للخبر، فلا يجري في وَهْمٍ أنه يكون من اللغة بسبيل فاعرفه. فإن قال النسجُ فعلُ معنًى، وهو المضامّة بين أشياء، وكذلك الصَّوْغُ فعلُ الصورة في الفضّة ونحوها، وإذا كان كذلك، قدّرتُ أن لفظ الصَّوغ مجازٌ من حيث دلَّ على الفعل والتأثير في الوجود، حقيقةٌ من حيث دلَّ على الصُّورة، كما قدّرتَ أنت في أحيا اللَّه الأرض، أنّ أحيا من حيث دلّ على معنى فَعَلَ حقيقةٌ، ومن حيث دلّ على الحياة مجازٌ، قيل ليس لك أن تجِىء إلى لفظِ أمرين، فتفرِّق دلالته وتجعله منقولاً عن أصله في أحدهما دون الآخر، لو جاز هذا لجاز أن تقول في اللطم الذي هو ضرب باليد، أنه يُجعلُ مجازاً من حيث هو ضربٌ، وحقيقةً من حيث هو باليد، وذلك محالٌ - لأن كون الضرب باليد لا ينفصل عن الضرب، فكذلك كون الفعل فعلاً للصورة لا ينفصل عن الصورة، وليس الأمر كذلك في قولنا أحيا اللَّه الأرض، لأن معنا هنا لفظين أحدهما مشتقّ وهو أحيا - والآخر مشتقّ منه وهو الحياة، فنحن نقدّر في المشتقّ أنه نُقل عن معناه الأصلي في اللُّغة إلى معنى آخر، ثم اشتُقّ منه أَحيا بعد هذا التقدير ومعه، وهو مثل أنّ لفظ اليد يُنقَل إلى النعمة، ثم يُشتقّ منه يَدَيْتُ فاعرفه. ومما يجب أن تعلم في هذا الباب أن الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل، فكلُّ حكم يجبُ في إضافة المصدر من حقيقة أو مجاز، فهو واجب في إسناد الفعل، فانظر الآن إلى قولك أعجبني وَشْيُ الربيع الرياضَ، وصَوْغُه تِبْرَها، وحَوْكُه دِيباجَها، هل تعلم لك سبيلاً في هذه الإضافات إلى التعليق باللغة، وأخذِ الحكم عليها منها، أم تعلم امتناع ذلك عليك. وكيف والإضافة لا تكون حَتى تستقرّ اللغة، ويستحيل أن يكون للغة حكمٌ في الإضافة ورسمٌ، حتى يُعلم أنّ حقَّ الاسم أن يضاف إلى هذا دون ذلك. وإذا عرفتَ ذلك في هذه المصادر التي هي الصوغ والوَشْي والحوك فَضَعْ مصدر فَعَل الذي - هو عمدتك في سؤالك، وأَصْلُ شبهتك - موضعَها وقل: أما ترى إلى فعل الربيع لهذه المحاسن، ثم تأمّل هل تجد فصلاً بين إضافته وإضافة تلك فإذا لم تجد الفصلَ ألبتة، فاعلم صحة قضيّتنا، وانفض يدك بمَسْألتك، ودَعِ النِّزاع عنك، وإلى اللَّه تعالى الرغبة في التوفيق.جازٌ من حيث لم يكن ائتلاف تلك الأنوار نسجاً ووشياً، وتدَعَ حديثَ نسبتها إلى الربيع جانباً. هذا وهاهنا مالا وجه لك لدعوى المجاز في مصدر الفعل منه كقولك: سَرَّني الخبر، فإن السرور بحقيقته موجود، والكلام مع ذلك مجازٌ، وإذا كان كذلك، علمتَ ضرورةً ليس المجاز إلاّ في إثبات السرور فعلاً للخبر، وإيهامِ أنه أثّر في حدوثه وحصوله، ويَعلم كلّ عاقلٍ أن المجاز لو كان من طريق اللغة، لجُعِل ما ليس بالسرور سروراً، فأمّا الحكم بأنه فعل للخبر، فلا يجري في وَهْمٍ أنه يكون من اللغة بسبيل فاعرفه. فإن قال النسجُ فعلُ معنًى، وهو المضامّة بين أشياء، وكذلك الصَّوْغُ فعلُ الصورة في الفضّة ونحوها، وإذا كان كذلك، قدّرتُ أن لفظ الصَّوغ مجازٌ من حيث دلَّ على الفعل والتأثير في الوجود، حقيقةٌ من حيث دلَّ على الصُّورة، كما قدّرتَ أنت في أحيا اللَّه الأرض، أنّ أحيا من حيث دلّ على معنى فَعَلَ حقيقةٌ، ومن حيث دلّ على الحياة مجازٌ، قيل ليس لك أن تجِىء إلى لفظِ أمرين، فتفرِّق دلالته وتجعله منقولاً عن أصله في أحدهما دون الآخر، لو جاز هذا لجاز أن تقول في اللطم الذي هو ضرب باليد، أنه يُجعلُ مجازاً من حيث هو ضربٌ، وحقيقةً من حيث هو باليد، وذلك محالٌ - لأن كون الضرب باليد لا ينفصل عن الضرب، فكذلك كون الفعل فعلاً للصورة لا ينفصل عن الصورة، وليس الأمر كذلك في قولنا أحيا اللَّه الأرض، لأن معنا هنا لفظين أحدهما مشتقّ وهو أحيا - والآخر مشتقّ منه وهو الحياة، فنحن نقدّر في المشتقّ أنه نُقل عن معناه الأصلي في اللُّغة إلى معنى آخر، ثم اشتُقّ منه أَحيا بعد هذا التقدير ومعه، وهو مثل أنّ لفظ اليد يُنقَل إلى النعمة، ثم يُشتقّ منه يَدَيْتُ فاعرفه. ومما يجب أن تعلم في هذا الباب أن الإضافة في الاسم كالإسناد في الفعل، فكلُّ حكم يجبُ في إضافة المصدر من حقيقة أو مجاز، فهو واجب في إسناد الفعل، فانظر الآن إلى قولك أعجبني وَشْيُ الربيع الرياضَ، وصَوْغُه تِبْرَها، وحَوْكُه دِيباجَها، هل تعلم لك سبيلاً في هذه الإضافات إلى التعليق باللغة، وأخذِ الحكم عليها منها، أم تعلم امتناع ذلك عليك. وكيف والإضافة لا تكون حَتى تستقرّ اللغة، ويستحيل أن يكون للغة حكمٌ في الإضافة ورسمٌ، حتى يُعلم أنّ حقَّ الاسم أن يضاف إلى هذا دون ذلك. وإذا عرفتَ ذلك في هذه المصادر التي هي الصوغ والوَشْي والحوك فَضَعْ مصدر فَعَل الذي - هو عمدتك في سؤالك، وأَصْلُ شبهتك - موضعَها وقل: أما ترى إلى فعل الربيع لهذه المحاسن، ثم تأمّل هل تجد فصلاً بين إضافته وإضافة تلك فإذا لم تجد الفصلَ ألبتة، فاعلم صحة قضيّتنا، وانفض يدك بمَسْألتك، ودَعِ النِّزاع عنك، وإلى اللَّه تعالى الرغبة في التوفيق.
فصل
قال أبو القاسم الآمدي في قول البحتري:
فَصَاغَ ما صاغ من تِبْرٍ ومن وَرِقٍ |
|
وحَاكَ ما حاكَ من وَشْي وديبـاجٍ |
صوغُ الغيثِ النبتَ وحَوْكُه النباتَ، ليسَ باستعارة بل هو حقيقة، ولذلك لا يقال هو صائغ ولا كأنه صائغ وكذلك لا يقال: حائك وكأنه حائك، على أن لفظة حائك خاصَّةً في غاية الركاكة، إذا أُخرج على ما أخرجه عليه أبو تمام في قوله:
إذا الغَيْثُ غَادَى نَسْجَهُ خِلْتَ أنّـه |
|
خَلَتْ حِقَبٌ حَرْسٌ له وهو حائكُ |
وهذا قبيح جدّاً، والذي قاله البحتري: وحاك ما حاك، حَسَنٌ مستعمل، فانظر ما بين الكلامين لتعلم ما بين الرَّجُلين. قد كتبت هذا الفصل على وجهه، والمقصود منه منعُه أن تُطلَق الاستعارة على الصوغ والحوك، وقد جُعلا فعلاً للربيع، واستدلالُه على ذلك بامتناع أن يقال: كأنه صائغ وكأنه حائك. اعلم أن هذا الاستدلال كأحسن ما يكون، إلا أن الفائدة تَتِمُّ بأَن تُبيَّن جهته، ومن أين كان كذلك? والقول فيه: إن التشبيه كما لا يخفى يقتضي شيئين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، ثم ينقسم إلى الصريح وغير الصريح، فالصريح أن تقول: كأنّ زيداً الأسد، فتذكر كل واحد من المشبَّه والمشبهَه به باسمه - وغيرُ الصريح أن تُسقطَ المشبَّه به من الذكر، وتُجرِيَ اسمه على المشبَّه كقولك: رأيتُ أسداً، تريد رجلاً شبيهاً بالأسد، إلا أنك تُعيره اسمه مبالغةً وإيهاماً أنْ لا فصلَ بينه وبين الأسد، وأنه قد استحال إلى الأسدية، فإذا كان الأمر كذلك وأنت تشبّه شخصاً بشخص، فإنك إذا شبّهت فعلاً بفعل كان هذا حكمه، فأنت تقول مرة كأن تزيينَه لِكلامه نظْمُ درّ، فتصرّح بالمشبَّه والمشبَّه به، وتقول أخرى: إنما يَنْظِم دُرّاً، تجعله كأنه ناظمٌ دُرّاً على الحقيقة. وتقول في وصف الفرس كأن سيرَهُ سِباحة، وكأن جريه طيرانُ طائر، هذا إذا صرّحتَ، وإذا أخفيتَ واستعرتَ قلت: يسبح براكبه، ويطير بفارسه، فتجعل حركته سباحةً وطيراناً. ومن لَطيف ذلك ما كان كقول أبي دُلامة يصف بغلته:
أرَى الشهباءَ تَعْجِنُ إذْ غَدْونا |
|
برِجلَيها وتخبِزُ بالـيمـينِ |
شبّه حركة رجليها حين لم تُثبتهما على موضع تعتمد بهما عليه وَهَوَتَا ذاهبتين نحو يديها، بحركة يدي العاجن، فإنه لا يُثبت اليد في موضع، بل يُزِلّها إلى قُدّام، وتَزِلّ من عند نفسها لرَخَاوة العجين - وشبَّه حركة يديها بحركة يد الخابز، من حيث كان الخابزُ يثني يدَه نحو بَطْنه، ويُحدث فيها ضرباً من التقويس، كما تجد في يد الدابّة إذا اضطربت في سيرها، ولم تَقِفْ على ضبط يديها، ولن ترمي بها إلى قُدّام، ولن تشدَّ اعتمادها، حتى تثبُت في الموضع الذي تقع عليه فلا تزول عنه ولا تنثني وأعود إلى المقصود، فإذا كان لا تشبيهَ حتى يكون معك شيئان، وكان معنى الاستعارة أن تُعِير المشبَّه لفظ المشبَّه به، ولم يكن معنا في صاغ الربيعُ أو حاك الربيعُ إلا شيء واحدٌ، وهو الصَّوْغ أو الحَوْك، كان تقدير الاستعارة فيه محالاً جارياً مجرى أن تشبّه الشيء بنفسه، وتجعل اسمَهُ عاريَّة فيه، وذلك بيّنُ الفساد، فإن قلت: أليس الكلام على الجملة معقوداً على تشبيهِ الربيع بالقادر، في تعلُّق وجود الصوغ والنسج به? فكيف لم يَجُزْ دخول كأنّ في الكلام من هذه الجهة. فإن هذا التشبيه ليس هو التشبيه الذي يُعقَد في الكلام ويُفادُ بكأن والكاف ونحوهما، وإنما هو عبارة عن الجهة التي راعاها المتكلم حين أَعْطَى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه، وِزَانُه وِزَانُ قولنا: إنهم يشبّهون ما بليس، فيرفعون بها المبتدأ وينصبون بها الخبر فيقولون: ما زيدٌ منطلقاً، كما يقولون: ليس زيد منطلقاً، فنُخبر عن تقديرٍ قدّروه في نفوسهم، وجهةٍ راعَوْها في إعطاء ما حكم ليس في العمل، فكما لا يُتصوَّر أن يكون قولنا: ما زيد منطلقاً، تشبيهاً على حدّ كأَنَّ زيداً الأسد، كذلك لا يكون صاغ الربيعُ من التشبيه، فكلامنا إذَن في تشبيه مَقُولٍ منطوقٍ به، وأنت في تشبيه معقولٍ غيرِ داخلٍ في النطق، هذا وإن يكن هاهنا تشبيهٌ، فهو في الربيع لا في الفعل المُسْنَد إليه، واختلافنا في صاغ وحاك هل يكون تشبيهاً واستعارة أم لا؛ فلا يلتقي التشبيهان، أو يلتقي المُُشئِم والمُعرِقُ. وهذا هو القولُ علي الجملة إذا كانت حقيقةً أو مجازاً، وكيف وَجْهُ الحدِّ فيها فكلُّ جملة وضعتَها على أن الحكمَ المُفادَ بها على ما هو عليه في العقل، وواقعٌ موقعَه منه، فهي حقيقةٌ، ولن تكون كذلك حتى تَعْرَى من التأوُّل، ولا فصل بين أن تكون مصيباً فيما أفدتَ بها من الحكم أو مخطئاً وصادقاً أو غير صادقٍ، فمثال وقوع الحكم المفادِ موقعه من العقل على الصحة واليقين والقطع قولنا: خلق اللَّه تعالى الخلق، وأَنشأَ العالم، وأوجدَ كل موجودٍ سواه، فهذه من أحقّ الحقائق وأرسخها في العقول، وأقعدِها نسباً في العقول، والتي إن رُمْتَ أن تغيب عنها غِبتَ عن عقلك، ومتى هَمَمْتَ بالتوقُّف في ثبوتها استولى النَّفْي على معقولك، ووَجَدْتَك كالمرميِّ به من حالق إلى حيث لا مقرّ لقَدَم، ولامساغ لتأخُّر وتقدُّم، كما قال أصدق القائلين جَلَّت أسماؤه، وعظمت كبرياؤه: "وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أْو تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" "الحج: 31"، وأمَّا مثالُ أن توضع الجملة على أن الحكم المُفَاد بها واقعٌ موقعَه من العقل، وليس كذلك، إلا أنه صادِرٌ من اعتقادٍ فاسدٍ وظنّ كاذب، فمثلُ ما يجيء في التنزيل من الحكاية عن الكفار نحو: "وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ" "الجاثية: 24"، فهذا ونحوه من حيث لم يتكلم به قائله على أنَّه متأوّلٌ، بل أطلقه بجهله وعماه إطلاقَ مَنْ يضع الصِّفة في موضعها، لا يُوصف بالمجاز، ولكن يقال عند قائله أنه حقيقة، وهو كذبٌ وباطلٌ، وإثباتٌ لما ليس بثابت، أو نَفْيٌ لما ليس بمنتفٍ، وحكمٌ لا يصحّحه العقل في الجملة، بل يردُّه ويدفعُه، إلاّ أن قائله جَهِلَ مكان الكذبِ والبطلانِ فيه، أو جَحَد وباهَتَ، ولا يتخلَّص لك الفصلُ بين الباطل وبين المجاز، حتى تعرف حدَّ المجاز، وحدُّه أنّ كلّ جملة أَخرجتَ الحكم المُفَادَ بها عن موضعه من العقل لضربٍ من التأوُّل، فهي مجاز، ومثاله ما مضى من قولهم: فَعَلَ الربيع، وكما جاء في الخبر إنّ ممَّا يُنبِتُ الربيعُ ما يَقْتلُ حَبَطاً أو يُلِمُّ، قد أثبت الإنبات للربيع، وذلك خارج عن موضعه من العقل، لأن إثبات الفعل لغير القادر لا يصحُّ في قضايا العقول، إلاّ أن ذلك على سبيل التأوُّل، وعلى العُرْف الجاري بين الناس، أن يجعلوا الشيء، إذا كان سبباً أو كالسبب في وجود الفعل من فاعله، كأنه فاعل، فلما أجرى اللّه سبحانه العادةَ وأنفذَ القضِيَّة أن تُورق الأشجارُ، وتظهر الأنْوار، وتلبس الأرض ثوب شبَابِها في زمان الربيع، صار يُتوهَّم في ظاهر الأمرِ ومجرى العادة، كأنّ لوجود هذه الأشياء حاجةً إلى الربيع، فأسند الفِعلَ إليه على هذا التأوُّل والتنزيل. وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن، فمنه قوله تعالى: "تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا" "إبْرَاهيم: 25"، وقوله عزَّ اسمه: "وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً" "الأنفال: 2"، وفي الأخرى: "فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إيمَاناً" "التوبة: 124"، وقوله: "وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا" "الزلزلة: 2"، وقوله عز وجل: "حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّت" "الأعراف: 57"، أثبتَ الفعلَ في جميع ذلك لما لا يثبُت له فعلٌ إذا رجعْنَا إلى المعقول، على مَعْنى السَّبب، وإلاّ فمعلومٌ أن النخلة ليست تُحدث الأُكُل، ولا الآياتُ تُوجد العلم في قلب السامع لها، ولا الأرضُ تُخرج الكامن في بطنها من الأثقال، ولكن إذا حَدَثت فيها الحركةُ بقدرة اللَّه، ظهر ما كُنِزَ فيها وأُودِع جوفهَا، وإذا ثبت ذلك فالمبطِلُ والكاذبُ لايتأوَّل في إخراج الحكم عن موضعه وإعطائه غير المستحق، ولا يشبه كونَ المقصود سبباً بكَوْن الفاعل فاعلاً، بل يُثبت القضية من غير أن ينظرَ فيها من شيءٍ إلى شيءٍ، ويردَّ فرعاً إلى أصل، وتراه أعمى أكمهَ يظنّ ما لا يصحُّ صحيحاً، وما لا يثبُت ثابتاً، وما ليس في موضعه من الحكم موضوعاً موضعه، وهكذا المتعمِّد للكذب يدّعي أن الأمر على ما وضعه تلبيساَ وتمويهاً، وليس هو من التأوُّيل في شيء. والنكتةُ أن المجاز لم يكن مجازاً لأنه إثبات الحكم لغير مستحقّه، بل لأنه أثبت لما لا يستحق، تشبيهاً وردّاً له إلى ما يستحقّ ، وأنه ينظر من هذا إلى ذاك، وإثباتُه ما أثبت للفرع الذي ليس بمستحقّ، ويتضمَّن الإثباتَ للأصل الذي هو المستحقّ، فلا يُتصَوَّر الجمع بين شيئين في وصفٍ أو حكم من طريق التشبيه والتأويل، حتى يُبْدَأ بالأصل في إثبات ذلك الوصف والحكم له، ألا تراك لا تقدِرُ على أن تشبّهَ الرجل بالأسد في الشجاعة، ما لم تجعل كونَها من أخصّ أوصاف الأسد وأغلبها عليه نَصْبَ عينيك وكذلك لا يُتَصوَّر أن يُثبت المثبتُ الفعلَ للشىء على أنه سببٌ، ما لم ينظر إلى ما هو راسخ في العَقْل من أن لا فِعْل على الحقيقة إلا للقادر، لأنه لو كان نَسَبَ الفعلَ إلى هذا السبب نسبةً مطلقةً - لا يرجع فيها إلى الحكم القادر، والجمع بينهما من حيث تعلّق وجوده بهذا السبب من طريق العادة، كما يتعلق بالقادر من طريق الوجوب - لما اعترف بأنه سببٌ، ولادّعى أنه أصلٌ بنفسه، مؤثّر في وجود الحادث كالقادر، وإن تجَاهَلَ متجاهلٌ فقال بذلك - على ظهور الفضيحة وإسراعها إلى مدَّعيه - كان الكلام عنده حقيقةً، ولم يكن من مسألتنا في شيء، ولحقَ بنحو قول الكُفَار: "وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ" "الجاثية: 24"، وليس ذلك المقصودَ في مسألتنا، لأن الغرض هاهنا ما وَضَعَ فيه الحكمَ واضعُه على طريق التأوُّل فاعرفه. ومن أوضح ما يدّل على أنّ إثبات الفعل للشيء على أنه سببٌ يتضمّن إثباتَه للمسبِّب، من حيث لا يُتصوَّر دون تصوُّره، أن تنظر إلى الأفعال المسنَدة إلى الأدوات والآلات، كقولك قطع السكِّين وقَتل السيف، فإنك تعلم أنه لا يقع في النفس من هذا الإثبات صورةٌ، ما لم تنظر إلى إثبات الفعل للمُعْمِل الأدَاة والفاعِل بها، فلو فرضت أن لا يكون هاهنا قاطع بالسكِّين ومصرِّفٌ لها، أعياك أن تعقل من قولك قطع السكين معنى بوجه من الوجوه، وهذا من الوضوح، بحيث لا يشكّ عاقل فيه. وهذه الأفعال المسنَدة إلى من تقع تلك الأفعال بأمره، كقولك: ضَرَبَ الأمير الدرهم وبَنَى السُّور، لا تقوم في نفسك صورةٌ لإثبات الضّرْب والبِناء فعلاً للأمير، بمعنى الأمرِ به، حتى تنظر إلى ثبوتهما للمباشر لهما على الحقيقة، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة تتلّقاك من كل جهة، وتجدها أنَّى شئتَ. واعلم أنه لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجازٌ إلا بأحدِ أمرين: فإمَّا أنه يكون الشيء الذي أُثبت له الفعل مما لا يدّعي أحدٌ من المحقِّين والمبطلين أن مما يصحّ أن يكون له تأثيرٌ في وجود المعنى الذي أُثبت له، وذلك نحو قول الرجل: محبَّتُك جاءَتْ بي إليك، وكقول عمرو بن العاص في ذكر الكلمات التي استحسنها: هُنَّ مُخْرِجاتي من الشأم، فهذا ما لا يشتبه على أحد أنّه مجاز. وإمَّا أنه يكون قد عُلم من اعتقاد المتكلِّم أنه لا يُثبت الفعل إلا للقادر، وأنه ممن لا يعتقد الاعتقادات الفاسدة، كنحو ما قاله المشركون وظَنّوه من ثُبوت الهلاكِ فعلاً للدهر، فإذا سمعنا نحو قوله:هة، وتجدها أنَّى شئتَ. واعلم أنه لا يجوز الحكم على الجملة بأنها مجازٌ إلا بأحدِ أمرين: فإمَّا أنه يكون الشيء الذي أُثبت له الفعل مما لا يدّعي أحدٌ من المحقِّين والمبطلين أن مما يصحّ أن يكون له تأثيرٌ في وجود المعنى الذي أُثبت له، وذلك نحو قول الرجل: محبَّتُك جاءَتْ بي إليك، وكقول عمرو بن العاص في ذكر الكلمات التي استحسنها: هُنَّ مُخْرِجاتي من الشأم، فهذا ما لا يشتبه على أحد أنّه مجاز. وإمَّا أنه يكون قد عُلم من اعتقاد المتكلِّم أنه لا يُثبت الفعل إلا للقادر، وأنه ممن لا يعتقد الاعتقادات الفاسدة، كنحو ما قاله المشركون وظَنّوه من ثُبوت الهلاكِ فعلاً للدهر، فإذا سمعنا نحو قوله:
أشاب الصغيرَ وأَفْنَى الكبي |
|
رَ كرُّ الغَداة ومرُّ العَشِي |
وقولِ ذي الإِصبع:
أهْلَكَنَا الليلُ والنهارُ مَـعًـا |
|
والدَّهْرُ يَعْدُو مُصمِّماً جَذَعَا |
كان طريق الحكم عليه بالمجاز، أن تعلم اعتقادَهم التوحيدَ، إما بمعرفة أحوالهم السابقة، أو بأن تجد في كلامهم من بَعْدِ إطلاق هذا النحو، ما يكشف عن قصد المجاز فيه، كنحو ما صَنَع أبو النجم، فإنه قال أوّلاً:
قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِـيارِ تَـدَّعـي |
|
عليَّ ذَنْباً كـلُّـه لـم أَصْـنـعِ |
مِن أنْ رأت رأسِي كرأسِ الأصْلِع |
|
مَيَّزَ عنه قُنْزُعًـا عـن قُـنْـزُعِ |
مرُّ الليالي أبْطئي أو أسـرعِـي |
|
|
فهذا على المجاز وجعلِ الفعل للَّيالي ومرورها، إلاّ أنه خفيٌّ غير بادي الصفحة، ثم فَسّر وكشَف عن وجه التأوُّل وأفاد أنه بنى أول كلامه على التخيُّل فقال:
أَفْنَاه قِيلُ اللّه للشمس اطلُعي |
|
حَتَّى إذا واراكِ أُفْقٌ فارجعي |
فبيَّن أن الفعل للَّه تعالى، وأنه المعيد والمبدي، والمنشئ والمفني، لأنّ المعنى في قِيل اللَّه، أمر اللَّه، وإذا جعل الفناءَ بأمره فقد صرّح بالحقيقة وبيّن ما كان عليه من الطريقة. واعلم أنه لا يصحّ أن يكون قول الكُفَّار: "وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهرُ"، ومن باب التأويل والمجاز، وأن يكون الإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ، وأنّ فيه إيهامًا للخطأ، كيف وقد قال تعالى بعقب الحكاية عنهم: "وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ" "سورة الجاثية: 24"، والمتجوِّز أو المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن، إنّما الظانّ من يعتقد أن الأمر على ما قاله وكما يوجبه ظاهر كلامه، وكيف يجوز أن يكون الإنكار من طريق إطلاق اللفظ دون إثبات الدهر فاعلاً للهلاك، وأنت ترى في نصّ القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة فعل الهلاكِ إلى الريح مع استحالة أن تكون فاعلةً، وذلك قوله عز وجل: "مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ" "آل عمران:117"، وأمثال ذلك كثير ومَن قدح في المجاز، وهمَّ أن يصفَه بغير الصدق، فقد خَبَط خَبْطاً عظيماً، ويَهْرِفُ بما لا يخفى، ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به، حتى تُحصَّل ضروبه، وتُضبَط أقسامه، إلا للسلامة من مثل هذه المقالة، والخلاص ممَّا نحا نحوَ هذه الشُّبْهة، لكان من حقّ العاقل أن يَتَوفَّر عليه، ويصرف العناية إليه، فكيف وبطالبِ الدِّين حاجةٌ مَاسَّةٌ إليه من جهات يطول عدُّها، وللشيطان من جانب الجهلِ به مداخلُ خفَّيةٌ يأتيهم منها، فيسرق دِينَهُم من حيث لا يشعرون، ويُلقيهم في الضلالة من حيث ظنّوا أنهم يهتدون? وقد اقتسمهم البلاء فيه من جانبى الإفراط والتفريط، فمن مغرورٍ مُغرىً بَنَفْيِه دَفعة، والبراءة منه جملة، يشمئزُّ من ذكره، وينبُو عن اسمه، يرى أن لزوم الظواهر فرضٌ لازمٌ، وضرب الخِيام حولَهَا حَتْمٌ واجب، وآخرُ يغلُو فيه ويُفرط، ويتجاوز حدَّه وَيخبط، فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه، ويَسُوم نفسه التعمُّق في التأويل ولا سببَ يدعو إليه. أمَّا التفريط فما تجد عليه قوماً في نحو قوله تعالى: "هَلْ يَنْظُرُون إلاَّ أنْ يَأتِيَهُمُ اللّه" "البقرة: 12"، وقوله: "وَجَاءَ رَبُّك" "الفجر: 22"، و: "الرَّحْمن عَلَى العَرْش اسْتَوَى" "طه: 5"، وأشباه ذلك من النُّبُوِّ عن أقوال أهل التحقيق، فإذا قيل لهم: الإتيان والمجيء انتقال من مكان إلى مكان، وصفةٌ من صفات الأجسام، وأن الاستواء إن حُمل على ظاهره لم يصحّ إلاّ في جسم يشغَل حيِّزاً ويأخذُ مكاناً، واللَّه عز وجل خالق الأماكن والأزمنة، ومنشئ كل ما تصحّ عليه الحركة والنُّقلة، والتمكن والسكون، والانفصال والاتصال، والمماسَّة والمحاذَاة، وأن المعنى على إلاَّ أن يأتيهم أمرً اللَّه وجاءَ أمْرُ ربك، وأنّ حقَه أن يعبَّر بقوله تعالى: "فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَم يَحْتَسِبُوا" "الحشر: 2"، وقول الرجل: آتيك من حيث لا تشعرُ، يريد أُنزلُ بك المكروه، وأفعلُ ما يكون جزاءً لسوء صنيعِك، في حال غَفْلةٍ منك، ومن حيث تأمن حُلولَه بك، وعلى ذلك قوله:
أَتَيْنَاهُم مِن أََيْمَنِ الشِّقِّ عندهُمويَأتِي الشقيَّ الحَيْنُ من حَيْثُ لا يَدْرِي |
نعم، إذا قلت ذلك للواحد منهم، رأيته إن أعطاك الوِفاق بلسانه، فبين جنبيه قلبٌ يترددّ في الحيرة ويتقلّب، ونفسٌ تَفِرُّ من الصواب وتَهْرُب، وفكرٌ واقف لا يجيء ولا يذهب، يُحْضِره الطبيبُ بما يُبرئه من دائه، ويُريه المرشدُ وجه الخلاص من عميائه، ويأبَى إلا نِفاراً عن العقل، ورجوعاً إلى الجهل، لا يحضره التوفيق بقَدْر ما يعلم به أنه إذا كان لا يجري في قوله تعالى: "وَاسْئلِ القَرْيَةَ" "يوسف: 82"، على الظاهر لأجل علمه أن الجماد لا يُسأَل مع أنه لو تجاهل متجاهلٌ فادَّعى أن اللَّه تعالى خَلق الحياة في تلك القرية حتى عَقَلت السؤال، وأجابت عنه ونطقت، لم يكن قال قولاً يكفر به، ولم يزِد على شيء يُعلَم كذبه فيه فمن حقّه أن لا يَجْثِمَ هاهنا على الظاهر، ولا يضرب الحجاب دون سمعه وبصره حتى لا يعي ولا يُراعى، مع ما فيه، إذا أُخذ على ظاهره، من التعرض للهلاك والوقوع في الشرك. فأمَّا الإفراطُ، فما يتعاطاه قوم يُحبٍُّون الإغراب في التأويل، ويَحْرِصون على تكثير الوجوه، وينسَوْن أن احتمال اللفظ شرطٌ في كل ما يُعدَل به عن الظاهر، فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تُقِلُّه من المعاني، يَدَعون السليم من المعنى إلى السقيم، ويرون الفائدة حاضرةً قد أبدت صفحتَها وكشفت قِناعَها، فيُعرضون عنها حُبّاً للتشوُّف، أو قصداً إلى التمويه وذهاباً في الضلالة. وليس القصد هاهنا بيان ذلك فأذكر أمثلتَه، على أن كثيراً من هذا الفنّ مما يُرغَب عن ذكره لسخفه، وإنما غرضى بما ذكرتُ أن أُرِيَكَ عِظَم الآفة في الجهل بحقيقة المجاز وتحصيله، وأن الخطأ فيه مُورِّطٌ صاحبَه، ،وفاضحٌ له، ومُسقطٌ قَدْرَه، وجاعله ضُحْكةً يُتفَكَّهُ به، وكاسِيهِ عاراً يبقى على وجه الدهر، وفي مثل هذا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يَحْمِلُ هذا العلمَ من كل خَلَف عُدُولُه، يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويل الجاهلين، وليس حَمْلُه روايتَه وسَرْدَ ألفاظه، بل العلمُ بمعانيه ومخارجه، وطرقِه ومناهجه، والفرق بين الجائز منه والممتنع، والمنقاد المُصْحِب، والنَّابي النافر.
وأقلُّ ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفةُ الأولى، وهم المنكرون للمجاز، أن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها، ولم يُخرج الألفاظ عن دلالتها، وأنَّ شيئاً من ذلك إن زيد إليه ما لم يكن قبل الشرع يدلُّ عليه، أو ضُمِّن ما لم يتضمّنه أُتبعْ ببيانٍ من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك كبيانه للصلاة والحج والزكاة والصوم، كذلك لم يقضِ بتبديل عاداتِ أهلها، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف، والاتساع، وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى أن تعلم، أنه عزّ وجلّ لم يرضَ لنظم كتابه الذي سمّاه هُدىً وشفاء، ونوراً وضياءً، وحياةً تحيا بها القلوب، ورُوحاً تنشرح عنه الصدور ما هو عند القوم الذين خوطبوا به خلافُ البيان، وفي حدّ الإغلاق والبُعد من التبيان، وأنه تعالى لم يكن ليُعْجِزَ بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه المُلغز من الشعراء والمُحاجي من الناس، كيف وقد وصفه بأنه عربيٌّ مبينٌ. هذا وليس التعسُّف الذي يرتكبه بعض من يجهل التأويلَ من جنس ما يقصده أولو الألغاز وأصحاب الأحاجي، بل هو شيء يخرج عن كلِّ طريق، ويُباين كلَّ مذهب، وإنما هو سوء نظر منهم، ووضعٌ للشيء في غيرِ موضعه، وإخلالٌ بالشريطة، وخروجٌٌ عن القانون، وتوهُّمُ أن المعنى إذا دار في نفوسهم، وعُقِل من تفسيرهم، فقد فُهِم من لفظ المفسَّر، وحتى كأنّ الألفاظ تنقلب عن سجيّتها، وتزول عن موضوعها، فتحتمل ما ليس من شأنها أن تحتمله، وتؤدِّي ما لا يوجب حكمها أن تؤدِّيَهُ،
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته
المجاز مَفْعَلٌ من جازَ الشيءَ يَجُوزه، إذا تعدَّاه، وإذا عُدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصليَّ، أو جاز هو مكانه الذي وُضع فيه أوَّلاً، ثُمَّ اعلم بَعْدُ أنَّ في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطاً، وهو أن يقع نَقْلُه علي وجهٍ لا يَعْرَى معه من ملاحظة الأصل، ومعنى الملاحظة، أن الاسم يقع لما تقول إنه مجاز فيه، بسببٍ بينه وبين الذين تجعله حقيقةً فيه، نحو أن اليد تقع للنعمة، وأصلها الجارحة، لأجل أن الاعتبارات اللغوية تتبع أحوال المخلوقين وعاداتهم، وما يقتضيه ظاهر البِنْيَة وموضوع الجِبِلّة، ومن شأن النعمة أن تصدُر عن اليد، ومنها تصل إلى المقصودِ بها، وفي ذكر اليد إشارةٌ إلى مَصْدَرِ تلك النعمةِ الواصلةِ إلى المقصود بها، والموهوبةِ هي منه، وكذلك الحكم إذا أريد باليد القوة والقدرة، لأن القدرة أثر ما يظهر سُلطانها في اليد، وبها يكون البطش والأَخذُ والدفعُ والمنعُ والجذبُ والضربُ والقطعُ، وغيرِ ذلك من الأفاعيل التي تُخبر فَضْلَ إخبارٍ عن وجوه القُدْرة، وتُنبئ عن مكانها، ولذلك تجدهم لا يريدون باليد شيئاً لا ملابسة بينه وبين هذه الجارحة بوجهٍ. ولوجوب اعتبار هذه النكتة في وصف اللَّفْظ بأنه مجاز، لم يَجُز استعماله في الألفاظ التي يقع فيها اشتراك من غير سبب يكون بين المشترِكَيْن، كبعض الأسماء المجموعة في المَلاحن، مِثْلُ أن الثَّوْرَ يكون اسما للقطعة الكبيرة من الأَقِطِ، والنهار اسمٌ لفرخ الحُبَارَى، والليل، لولد الكَرَوان، كما قال:
أكَلْتُ النَّهار بِنِصْفِ النَّهارِ |
|
ولَيْلاً أكلتُ بلَيْلٍ بَـهِـيم |
وذلك أن اسم الثور لم يقع على الأقط لأمرٍ بينه وبين الحيوان المعلم، ولا النهار على الفرخ لأمْرٍ بينه وبين ضوء الشمس، أدّاه إليه وساقه نحوه، والغرضُ المقصود بهذِه العبارة - أعني قولَنا: المجازُ - أن نبيّن أن للَّفظ أَصلاً مبدوءاً به في الوضع ومقصوداً، وأنَّ جريه على الثاني إنما هو على سبيل الحُكْم يتأدَّى إلى الشيء من غيره، وكما يعبَق الشيءُ برائحةِ مايجاورُه، وَينْصَبغ بلونِ ما يدانيه، ولذلك لم ترهم يُطلقون المجاز في الأعلام، إطلاقَهم لفظ النَّقل فيها حيث قالوا: العَلَمُ على ضربين منقولٌ ومرتجلٌ، وأن المنقول منها يكون منقولاً عن اسم جنسٍ، كأسد وثور وزيد وعمرو، أو صفةٍ، كعاصم وحارث، أو فعل، كيزيد ويشكر أو صَوْتٍ كبَبَّة، فأثبتوا لهذا كله النَّقل من غير العَلَمية إلى العلمية، ولم يروا أن يصِفُوه بالمجاز فيقولوا مثلاً: إن يشكر حقيقة في مضارع شَكَرَ، ومجاز في كونه اسم رجل وأن حَجَراً حقيقة في الجماد، ومجازٌ في اسم الرجل، وذلك أن الحجر لم يقع اسماً للرجل لالتباسٍ كان بينه وبين الصخر، على حسب ما كان بين اليد والنعمة، وبينها وبين القدرة ولا كما كان بين الظَّهر الكامل وبين المحمول في نحو تسميتهم المزادة راوية، وهي اسم للبعير الذي يحملها في الأصل وكتسميتهم البعير حَفَضاً، وهو اسم لمتاع البيت الذي حُمَل عليه ولا كنحو ما بين الجزء من الشخص وبين جملة الشخص، كتسميتهم الرجل عَيْناً، إذا كان ربيئةً، والناقةَ ناباً ولا كما بين النَّبت والغيث، وبين السماء والمطر، حيث قالوا: رعينا الغيثَ، يريدون النبتَ الذي الغيث سببٌ في كونه وقالوا: أصابنا السماء، يريدون المطر، وقال "تَلُفُّهُ الأَرْوَاحُ والسُمِيُّ" وذلك أن في هذا كله تأوُّلاً، وهو الذي أفضى بالاسم إلى ما ليس بأصل فيه فالعين لما كانت المقصودة في كون الرجل ربيئةً، صارت كأنها الشخص كلُّه، إذْ كان ما عداها لا يُغنى شيئاً مع فقدها و الغيث، لمَّا كان النبت يكون عنه، صار كأنه هو والمطر لما كان ينزل من السماء، عبروا عنه باسمها. واعلم أن هذه الأسباب الكائنةَ بين المنقول والمنقول عنه، تختلف في القوة والضعف والظهور وخلافه، فهذه الأسماء التي ذكرتها، إذا نظرتَ إلى المعاني التي وصلت بين ما هي له، وبين ما رُدَّت إليه، وجدتها أقوى من نحو ما تراه في تسميتهم الشاةَ التي تُذبَح عن الصبيِّ إذا حُلِقَتْ عقيقتُه، عقيقةً وتجد حالها بعدُ أقوى من حال العَقِيرة، في وقوعها للصوت في قولهم: رَفع عقِيرته، وذلك أنَّه شيء جرى اتفاقاً، ولا معنَى يصل بين الصَّوت وبين الرِجْل المعقورة، على أن القياس يقتضي أن لا يسمَّى مجازاً، ولكن يُجرَى مُجْرَى الشيء يُحكَى بعد وُقُوعه، كالمَثَل إذا حُكَي فيه كلامٌ صَدَر عن قائله من غير قَصْدٍ إلى قياس وتشبيه، بل للإخبار عن أمر مَن قَصَده بالخطاب كقولهم: الصَّيْفَ ضَيَّعَتِ اللَّبن، ولهذا الموضع تحقيق لا يتمّ إلاّ بأن يوضع له فصل مُفْرَدٌ. والمقصود الآن غير ذلك، لأن قصدي في هذا الفَصْل أن أبيّن أن المجازَ أعمُّ من الاستعارة، وأن الصحيح من القضيّة في ذلك: أن كلَّ استعارةٍ مجازٌ، وليس كلُّ مجازٍ استعارة، وذلك أنّا نرى كلامَ العارفين بهذا الشأن أعني علم الخطابة ونَقْدِ الشعر، والذين وضعوا الكتب في أقسام البديع، يجري على أن الاستعارة نقلُ الاسم من أصله إلى غيره للتشبيه على حدِّ المبالغة، قال القاضي أبو الحسن في أثناء فَصْلٍ يذكرها فيه: ومِلاكُ الاستعارة، تقريب الشَّبه، ومناسبة المستعار للمستعار منه، وهكذا تراهم يعدّونها في أقسام البديع، حيث يُذكر التجنيس والتطبيق والترشيح وردُّ العجز على الصدر وغير ذلك، من غير أن يشترطوا شرطاً، ويُعقِبُوا ذِكرَها بتقييد فيقولوا: ومن البديع الاستعارةُ التي من شأنها كذا، فلولا أنها عندهم لنَقْل الاسم بشرط التشبيه على المبالغة، وإمَّا قَطْعاً وإمَّا قريباً من المقطوع عليه، لما استجازوا ذكرها، مطلقةً غير مقيّدة، يبيِّن ذلك أنها إن كانت تُساوِقُ المجازَ وتجري مَجْراه حتى تصلح لكل ما يصلح له، فذِكْرُها في أقسام البديع يقتضي أن كل موصوف بأنه مجازٌ، فهو بديع عندهم، حتى يكون إجراءُ اليد على النعمة بديعاً، وتسمية البعير حَفَضاً، والناقةِ ناباً، والربيئةِ عيناً، والشاةِ عقيقةً، بديعاً كله، وذلك بيّن الفساد. وأمَّا ما تجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريقُ نقله التشبيه في الاستعارة، كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة، فإنه ابتدأ بَاباً فقال: باب الاستعارات ثم ذكر فيه أن الوغَى اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كَثُر وصارت الحرب وَغىً، وأنشد:بديعاً كله، وذلك بيّن الفساد. وأمَّا ما تجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريقُ نقله التشبيه في الاستعارة، كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة، فإنه ابتدأ بَاباً فقال: باب الاستعارات ثم ذكر فيه أن الوغَى اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كَثُر وصارت الحرب وَغىً، وأنشد:
إضْمَامَةٌ مِن ذَوْدِها الثَّلاثينْ |
|
لَهَا وغًى مِثْل وَغَى الثَّمانينْ |
يعني اختلاط أصواتها وذكر قولهم: رعَيْنَا الغيث والسَّماء، يعني المطر وذكر ما هو أبعد من ذلك فقال: الخُرْس، ما تُطْعَمُه النُّفَساء، ثم صارت الدَّعوة للولادة خُرْساً والإعذار الختان، وسُمّي الطعام للختان إعْذَاراً وأن الظعينة أصلها المرأة في الهَوْدَج، ثم صار البعير والهودج ظَعِينَةً والخَطْرُ ضرب البعير بذنبه جانبي وَرِكيه، ثم صار مالصِق من البول بالوركين خَطْراً، وذكر أيضاً الرَّاوية بمعنى المزادة، والعقيقةَ، وذكر فيما بين ذِكْرِه لهذه الكلم أشياءَ هي استعارةٌ على الحقيقة، على طريقة أهل الخطابة ونقد الشعر، لأنه قال: الظمأ، العطشُ وشهوةُ الماء، ثم كثر ذلك حتى قالوا: ظمِئتُ إلى لقائك، وقال: الوَجُورُ ما أوجرته الإنسان من دَواءٍِ أو غيره، ثم قالوا: أَوْجَره الرمحَ، إذا طعنه في فيه. فالوجه في هذا الذي رأوه من إطلاق الاستعارة على ما هو تشبيه، كما هو شرط أهل العلم بالشعر، وعلى ما ليس من التشبيه في شيءٍ، ولكنه نقلُ اللفظ عن الشيء إلى الشيء بسبب اختصاصٍ وضربٍ من الملابسة بينهما، وخَلْطِ أحدهما بالآخر أنهم كانوا نظروا إلى ما يتعارفه الناس في معنى العاريَّة، وأنها شيءٌ حُوِّل عن مالكه ونُقل عن مقرّه الذي هو أصلٌ في استحقاقه، إلى ما ليس بأصل، ولم يُراعوا عُرْف القوم، ووِزانهم في ذلك وِزَانُ من يترك عُرف النحويين في التمييز، واختصاصهم له بما احتمل أجناساً مختلفةً كالمقادير والأعداد وما شاركهما، في أن الإبهام الذي يراد كشْفُه منه هو احتماله الأجناس، فيُسمِّي الحالَ مثلاً تمييزاً، من حيث أنك إذا قلت: راكباً، فقد ميَّزت المقصود وبيّنته، كما فعلت ذلك في قولك: عشرون درهماً ومَنَوَانِ سمناً وقَفِيزان بُرّاً ولي مثلُهُ رجلاً وللَّه درَّه رجلاً. وليس هذا المذهب بالمذهب المرضيّ، بل الصواب أن تُقصَر الاستعارة على ما نقْلُه نَقْلُ التشبيه للمبالغة، لأن هذا نقلٌ يَطّرد على حدٍّ واحد، وله فوائد عظيمة ونتائج شريفة، فالتطفُلُ به على غيره في الذكر، وتركُه مغموراً فيما بين أشياءَ ليس لها في نقلها مِثْلُ نظامه ولا أمثالُ فوائده، ضعفٌ من الرأي وتقصيرٌ في النظر. وربما وَقع في كلام العلماء بهذا الشأن الاستعارةُ على تلك الطريقة العامّية، إلا أنه لا يكون عند ذكر القوانين وحيث تُقرَّرُ الأصول، ومثاله أن أبا القاسم الآمدي قال في أثناء فصل يُجيب فيه عن شيءٍ اعتُرض به على البحتري في قوله:
فكأَنَّ مَجْلِسَهُ المُحجَّبَ مَحْفِلٌ |
|
وكأَنَّ خَلْوَتَه الخفيَّةَ مَشْهَـدُ |
أن المكانَ لا يسمَّى مجلساً إلاَّ وفيه قوم، ثم قال: ألا ترى إلى قول المُهَلْهل "واستَبَّ بَعْدَك يا كُلَيْبُ المجلس" على الاستعارة، فأطلق لفظ الاستعارة على وقوع المجلس هنا، بمعنى القوم الذين يجتمعون في الأمور، وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه، بل على حدِّ وقوع الشيء على ما يتَّصلُ به، وتكثُر ملابَستُه إياه، وأيُّ شبه يكون بين القوم ومكانهم الذي يجتعون فيه? إلاّ أنه لا يُعتدُّ بمثل هذا فإنَّ ذلك قد يتَّفق حيث تُرسَل العبارة، وقال الآدميُّ نفسه: ثم قد يأتي في الشعر ثلاثة أنواع أُخَر، يكتسي المعنى العامّ بِها بهاءً وحسناً، حتى يخرج بعد عمومه إلى أن يصير مخصوصاً ثم قال: وهذه الأنواع هي التي وقع عليها اسم البَديع، وهي الاستعارة والطباق والتجنيس. فهذا نصٌّ في وضع القوانين على أن الاستعارة من أقسام البديع، ولن يكون النَّقلُ بديعاً حتى يكون من أجل الشبيه على المبالغة كما بيَّنتُ لك، وإذا كان كذلك، ثم جعل الاستعارة على الإطلاق بديعاً، فقد أعلمك أنها اسم للضرب المخصص من النَّقل دون كُلِّ نَقْل فاعرف. واعلم أنَّا إذا أنعمنا النظر، وجدنا المنقول من أجل التشبيه على المبالغة، أحقَّ بأن يوصف بالاستعارة من طريق المعنى، بيان ذلك أن مِلك المُعِير لا يزول عن المستعار، واستحقاقُه إيّاه لايرتفع، فالعاريّة إنما كانت عاريّةً، لأن يَدَ المستعير يدٌ عليها، ما دامت يدُ المعير باقية، ومِلْكه غيرُ زائل، فلا يُتصوَّر أن يكون للمستعير تصرُّفٌ لم يستفده من المالك الذي أعاره، ولا أنْ تستقرّ يدُه مع زوالِ اليد المنقول عنها، وهذه جملةٌ لا تراها إلاّ في المنقول نقلَ التشبيه، لأنك لا تستطيع أن تتصوَّر جَرْيَ الاسم على الفَرْع من غير أن تُحوِجَه إلى الأصل، كيف ولا يُعقَل تشبيهٌ حتى يكون هاهنا مشبّه ومشبَّه به، هذا والتشبيه ساذَجٌ مُرْسل، فكيف إذا كان على معنى المبالغة، على أن يُجعل الثاني أنه انقلب مثلاً إلى جنس الأوَّل، فصار الرجلُ أسداً وبَحراً وبدراً، والعلم نُوراً، والجهلُ ظلمةً، لأنّه إذا كان على هذا الوجه، كانت حاجتُك إلى أن تنظر به إلى الأصل أَمَسَّ، لأنه إذا لم يُتصوَّر أنْ يكون هاهنا سبعٌ من شأنه الجرأة العظيمةُ والبطشُ الشديد، كان تقديرك شيئاً آخر تَحوَّلَ إلى صفته وصار في حكمه من أبعد المُحال. وأمَّا ما كان منقولاً لا لأجل التشبيه، كاليد في نقلها إلى النعمة، فلا يوجد ذلك فيه، لأنك لا تُثبت للنعمة بإجراء اسم اليد عليها شيئاً من صفات الجارحة المعلومة، ولا تروم تشبيهاً بها ألبتة، لا مبالغاً ولا غير مبالغ، فلو فرضنا أن تكون اليد اسماً وضع للنعمة ابتداءً، ثم نُقلت إلى الجارحة، لم يكن ذلك مستحيلاً، وكذلك لو ادّعَى مدَّعٍ أنّ جَرْيَ اليدِ على النعمة أصلٌ ولغةٌ على حِدَتها، وليست مجازاً، لم يكن مدَّعياً شيئاً يحيله العقلُ، ولو حاول مُحاولٌ أن يقول في مسألتنا قولاً شبيهاً بهذا فرام تقدير شيءٍ يجري عليه اسم الأسد على المعنى الذي يريده بالاستعارة، مع فقد السبُعِ المعلوم، ومن غير أن يسبقَ استحقاقه لهذا الاسم في وضع اللغة، رام شيئاً في غاية البعد. وعبارةٌ أخرى العاريّة من شأنها أن تكون عند المستعير على صفةٍ شبيهةٍ بصفتها وهي عند المالك، ولسنا نجد هذه الصورة إلا فيما نُقل نَقْلَ التشبيه للمبالغة دون ما سواه، ألا ترى أن الاسم المستعار يتناول المستعارَ له، ليدلَّ على مشاركته المستعار منه في صفةٍ هي أخصُّ الصفات التي من أجلها وُضع الاسم الأول? أعني أن الشجاعة أقوى المعاني التي من أجلها سُمّي الأسد أسداً، وأنت تستعير الاسم للشيء على معنى إثباتها له على حدّها في الأسد. فأما اليد ونقلُها إلى النعمة، فليست من هذا في شيءٍ، لأنها لم تتناول النعمةَ لتدلَّ على صفة من صفات اليد بحال، ويحرِّر ذلك نكتةٌ: وهي أنك تريد بقولك: رأيت أسداً، أن تُثبِتَ للرجل الأسدية، ولست تريد بقولك: له عندي يَدٌ، أن تُثبت للنعمة اليديّة، وهذا واضحٌ جدّاً. واعلم أنَّ الواجب كان أن لا أَعُدَّ وضع الشفةِ موضع الجحفلة، والجحفلة في مكان المِشْفَر، ونظائره التي قدَّمتُ ذكرها في الاستعارة، وأضَنَّ باسمها أن يقع عليه، ولكني رأيتُهم قد خَلَطوه بالاستعارات وعَدُّوه مَعَدَّها، فكرِهتُ التشدّد في الخلاف، واعتددت به في الجملة، ونبَّهت على ضعف أمره بأن سمّيتُه استعارةً غير مُفيدة، وكان وزان ذلك وِزان أن يقال: المفعول على ضربين مفعول صحيح، ومشبّه بالمفعول، فيُتجوَّز باعتداد المشبَّه بالمفعول في الجملة، ثم يفصل بالوصف، ووجهُ شَبَهِ هذا النحو الذي هو نَقْلُ الشفة إلى موضع الجحفلة بالاستعارة الحقيقية، لأنك تنقل الاسم إلى مجانسٍ له، ألا ترى أنّ المراد بالشفة والجحفلة عضوٌ واحد، وإنما الفرق أنّ هذا من الفَرَس، وذاك من الإنسان، والمجانسة والمشابهة من وادٍ واحد? فأنت تقول: أعير الشيءُ اسمَه الموضوعَ له هنالك أي في الإنسان - هاهنا - أي في الفرس -، لأن أحدهما مثل صاحبه وشريكه في جنسه، كما أعرت الرجلَ اسم الأسد، لأنه شاركه في صفته الخاصّة به، وهي الشجاعة البليغة، وليس لليد مع النعمة هذا الشبه، إذ لا مجانسة بين الجارحة وبين النعمة، وكذا لا شَبَهَ ولا جنسيةَ بين البعير ومَتَاعِ البيت، وبين المزادة وبين البعير، ولا بين العين وبين جملة الشخص فإطلاق اسم الاستعارة عليه بعيدٌ. ولو كان اللفظ يستحقّ الوَصْف بالاستعارة بمجرَّد النقل، لجاز أن توصف الأسماء المنقولة من الأجناس إلى الأعلام بأنها مستعارة، فيقال: حَجَرٌ، مستعار في اسم الرجل، ولزم كذلك في الفعل المنقول نحو: يزيد ويشكر وفي الصوت نحو: بَبَّة في قوله:واعتددت به في الجملة، ونبَّهت على ضعف أمره بأن سمّيتُه استعارةً غير مُفيدة، وكان وزان ذلك وِزان أن يقال: المفعول على ضربين مفعول صحيح، ومشبّه بالمفعول، فيُتجوَّز باعتداد المشبَّه بالمفعول في الجملة، ثم يفصل بالوصف، ووجهُ شَبَهِ هذا النحو الذي هو نَقْلُ الشفة إلى موضع الجحفلة بالاستعارة الحقيقية، لأنك تنقل الاسم إلى مجانسٍ له، ألا ترى أنّ المراد بالشفة والجحفلة عضوٌ واحد، وإنما الفرق أنّ هذا من الفَرَس، وذاك من الإنسان، والمجانسة والمشابهة من وادٍ واحد? فأنت تقول: أعير الشيءُ اسمَه الموضوعَ له هنالك أي في الإنسان - هاهنا - أي في الفرس -، لأن أحدهما مثل صاحبه وشريكه في جنسه، كما أعرت الرجلَ اسم الأسد، لأنه شاركه في صفته الخاصّة به، وهي الشجاعة البليغة، وليس لليد مع النعمة هذا الشبه، إذ لا مجانسة بين الجارحة وبين النعمة، وكذا لا شَبَهَ ولا جنسيةَ بين البعير ومَتَاعِ البيت، وبين المزادة وبين البعير، ولا بين العين وبين جملة الشخص فإطلاق اسم الاستعارة عليه بعيدٌ. ولو كان اللفظ يستحقّ الوَصْف بالاستعارة بمجرَّد النقل، لجاز أن توصف الأسماء المنقولة من الأجناس إلى الأعلام بأنها مستعارة، فيقال: حَجَرٌ، مستعار في اسم الرجل، ولزم كذلك في الفعل المنقول نحو: يزيد ويشكر وفي الصوت نحو: بَبَّة في قوله:
لأُنْكِحَـنَّ بَـبّـهْ |
|
جَارِيةً خِــدَبَّة |
مُكْرَمَةً مُحـبَّـهْ |
|
تُجبُّ أهْلَ الكعبَهْ |
وذلك ارتكابٌ قبيح، وفَرْطُ تعصُّبٍ على الصواب، ويلوح هاهنا شيء، هو أنّا وإنْ جعلنا الاستعارة من صفة اللفظ فقلنا: اسم مستعارٌ، وهذا اللفظ استعارةٌ هاهنا وحقيقةٌ هناك، فإنّا على ذلك نُشير بها إلى المعنى، من حيث قصدنا باستعارة الاسم، أنْ نُثبِتَ أخصَّ معانيه للمستعار له، يدلّك على ذلك قولنا: جعله أسداً وجعله بدراً وجعل للشمال يداً، فلولا أنّ استعارةَ الاسم للشيء تتضمّن استعارةَ معناه له، لما كان هذا الكلام معنًى، لأن جَعَلَ، لا يصلح إلا حيث يُرَاد إثبات صفة للشيء، كقولنا: جعله أميراً، وجعله لِصّاً، نريد أنه أثبت له الإمارة واللصوصية، وحكمُ جَعَلَ إذا تعدَّى إلى مفعولين، حكم صَيَّرَ، فكما لا تقول: ًصيَّرتُه أميراً إلا على معنى أنك أثبتَّ له صفة الإمارة، وكذلك لم تقل: جعله أسداً إلا على أنه أثبت له معنًى من معاني الأسود، ولا يقال: جعلته زيداً، بمعنى سمّيته زيداً، ولا يقال للرجل: اجعل ابنك زيداً بمعنى سَمِّهِ، ولا يقال: وُلد لفلانٍ ابنٌ فجعله زيداً أي: سمّاه زيداً، وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يُحصِّل هذا الشأن، فأما قوله تعالى: "وَجَعَلُوا المَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إنَاثاً" "الزخرف: 19"، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتُها، وذلك أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث، واعتقدوا وجودها فيهم، وعن هذا الاعتقاد صَدَر عنهم ما صدَر من الاسم - أعني إطلاقَ اسم البنات، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ الإناث، أو لفظَ البناتِ، اسماً من غير اعتقادِ معنًى، وإثباتِ صفةِ، هذا محالٌ لا يقوله عاقل - أوَ ما يسمعون قول اللَّه عز وجل: "أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُون" "الزخرف: 19"، فإن كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنًى، فأيُّ معنى لأن يقال: أَشهدوا خلقهم هذا ولو كانوا لمَْ يقصدوا إثبات صفةٍ، ولم يفعلوا أكثر من أن وَضَعُوا اسماً، لَمَا استحقُّوا إلاّ اليسيرَ من الذمّ، ولما كان هذا القولُ كُفْراً منهم، والأَمرُ في ذلك أظهر من أن يخفى ولكن قَدْ يكون للشيء المستحيل وجوهٌ في الاستحالة فتُذكَر كلُّها، وإن كان في الواحِد منها ما يُزيل الشُبْهة ويُتمُّ الحُجَّةَ.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|