تهدد أزمة الطاقة المرتبطة بالحرب الروسية الأوكرانية ثبات الأسعار والأجور في اليابان التي شهدت معدلات تضخم ثابتة وأسعار فائدة منخفضة منذ تسعينيات القرن الماضي، بحسب خبراء أرجعوا هذه الظاهرة النادرة في العالم إلى طبيعة الشعب الياباني الذي لا ينفق ولا يستمتع بسلع الرفاهية فضلاً عن اتباعه سلوكيات محددة تجاه رب العمل.
وطرأ ارتفاع على أسعار المواد الاستهلاكية بنسبة 2.4 في المئة في يوليو الماضي، حيث اعتبر المصرف المركزي الياباني أن مصدر هذا التضخم ارتفاع عابر لأسعار الطاقة، مؤكداً أنه لا ينوي تشديد سياسته النقدية المتساهلة جداً حالياً.
وبدوره، نشر مركز الأبحاث الياباني " Teikoku Databan" دراسة جاء فيها أن أسعار الكثير من المنتجات والسلع في البلاد، سترتفع وتزداد بشكل كبير في الفترة القريبة المقبلة، منها 2431 نوعاً من المنتجات في أغسطس الحالي تُضاف إليها ستة آلاف سلعة في أكتوبر المقبل.
نهضة صناعية بعد الحرب العالمية الثانية
ولمعرفة أسباب ظاهرة ثبات الأسعار في اليابان وطبيعة شعبها الذي يفضل الادخار على الإنفاق والرفاهية، أعادنا الخبير الاقتصادي الدكتور نضال الشعار إلى الماضي وتحديداً منذ استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية قائلاً: "بدأت اليابان بعد استسلامها في الحرب العالمية الثانية ومنعها من التسليح والصناعات الحربية، نهضة شاملة من خلال تسخير فوائض الميزانية لتوسيع القاعدة الصناعية والتركيز على التكنولوجيا، فانتقلت تدريجيا من الصناعات الخفيفة إلى الصناعات الثقيلة، وبدأت عمليات التصدير لتجتاح بضائعها جميع أسواق العالم إذ ساعدها في ذلك سعر الين المنخفض".
ثراء فاحش تبعته موجة إفلاسات كبيرة
ويشرح الدكتور الشعار أن "الولايات المتحدة الأميركية دعت أوروبا واليابان في العام 1985 إلى عقد اتفاقية تم من خلالها تخفيض سعر الدولار الذي ارتفع بشكل كبير وأضعف قدرة البضائع الأميركية على المنافسة وذلك نتيجة ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وفي هذا الوقت كان سعر الين الياباني 260 مقابل الدولار لترتفع قيمته فجأة ويصبح 180 مقابل الدولار ما أشعر اليابانيين بالثراء حيث توجهوا لشراء العقارات والأصول داخل اليابان وخارجها وبشكل جنوني من خلال الاستدانة من المصارف، لكن هذه العملية لم تستمر طويلاً إذ أصبحت المصارف مثقلة بالديون لتنفجر الفقاعة في بداية تسعينيات القرن الماضي، ما عرَّضَ الكثير من الشركات وآلاف الناس للإفلاس".
ركود مجتمعي
ويتابع الخبير الاقتصادي: "ولأن المصرف المركزي الياباني لديه الحلول بشكل دائم لمواجهة الأزمات، اخترع ما يسمى بسياسة التيسير الكمي (شراء السندات الحكومية وسندات القطاع الخاص) ما أحدث استقراراً في الاقتصاد الياباني، لكن هنا دخلت اليابان في مرحلة من الركود الذي أخذ شكل الظاهرة المجتمعية (ركود مجتمعي)، إذ بعد خسارة اليابانيين لأموالهم وعقاراتهم لم تعد لديهم الثقة بأن هذه الأصول سوف ترتفع أسعارها مجدداَ ولن يشعروا بالثراء كما في السابق، الأمر الذي دفعهم لاتباع سلوك جديد وهو الخوف من أن تعاد تجربة الخسارة فأصبح الادخار ركيزة أساسية في حياتهم، وتوقف الياباني بشكل شبه كلي عن الاستهلاك وعن شراء الكماليات".
الخوف من المستقبل
ويوضح الدكتور الشعار أن "الخوف من المستقبل وذهنية عدم الإنفاق ترسخا لدى 90 في المئة من اليابانيين، الذي لجأوا إلى إيداع أموالهم في المصارف وبشكل هائل لدرجة أن المصارف لم تعد تقدم فوائد على الأموال، وكل ذلك أدى إلى ثبات الطلب بشكل محزن ما جعل الأسعار والأجور ثابتة حيث لم يعد المنتج لديه القدرة على رفع الأجور، وهذه الظاهرة لم نرها إلا في اليابان وهي السبب الرئيس لعدم ارتفاع الأسعار".
وهناك سببان آخران لثبات الأسعار الأول يتجلى في أن الياباني لديه سلوك اجتماعي معين تجاه رب العمل حيث يبدأ حياته مع شركة ويتقاعد في ذات الشركة وبالتالي لا يطلب زيادة أجره لأن الاستقرار لديه أهم شيء، أما الثاني فيعود إلى الفجوة العمرية، فالشعب الياباني عموماً متقدم في العمر وهناك انخفاض في فئة الشباب وبالتالي الفئة العمرية الأكبر بطبيعتها ليس لديها الطلب الموجود لدى الشباب فضلاً عن أنها تفضل الادخار على الإنفاق، وفقاً للدكتور الشعار.
ولكن في ظل ارتفاع أسعار الطاقة والغذائيات الذي يشهده العالم حالياً، هل يمكن لليابان المحافظة على سعر فائدة منخفض وعلى ثبات الأسعار؟.. هنا يرى الدكتور الشعار أن "ارتفاع الأسعار سيرى طريقه إلى سعر المستهلك في النهاية لأن زيادة التكلفة يمكن أن تمتصها الشركات ضمن حدود معينة، وإن تجاوزته فسوف تخسر وتغلق أبوابها، ونلاحظ أن بعض الشركات بدأت في زيادة الأسعار بشكل بسيط بين 2و3 في المئة".