المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

التاريخ
عدد المواضيع في هذا القسم 5856 موضوعاً
التاريخ والحضارة
اقوام وادي الرافدين
العصور الحجرية
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
العهود الاجنبية القديمة في العراق
احوال العرب قبل الاسلام
التاريخ الاسلامي
التاريخ الحديث والمعاصر
تاريخ الحضارة الأوربية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الإمام علي (عليه السلام) صاحب رسول الله ورفيقه في الجنة
2024-05-08
الإمام علي (عليه السلام) قسيم النار والجنة
2024-05-08
معنى نصيبا مفروضا
2024-05-08
{ان يدعون من دونه الا اناثا وان يدعون الا شيطانا مريدا}
2024-05-08
من يتبع غير طريق الهدى
2024-05-08
من أنواع الصدقة
2024-05-08

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


16- عصر الاسرة العشرين  
  
2407   11:55 صباحاً   التاريخ: 29-9-2016
المؤلف : عبد العزيز صالح
الكتاب أو المصدر : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق
الجزء والصفحة : ص238-255
القسم : التاريخ / العصور الحجرية / العصور القديمة في مصر /

آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين 1184 - 1087ق. م:

أعلن مؤسسو هذه الأسرة الجديدة أنفسهم ساخطين على عيوب الحكم السابق، منقذين موهوبين تخيرتهم الأقدار، شأنهم في ذلك شأن كل جماعة حاكمة جديدة. وقد بدأ حكمهم كهل يدعى "ست نخت" "وسر خعو رع" قام بما قام به رمسيس الأول في ضمان الحكم لأسرته وتقديم ولده أمامه ليتم ما أراده هو ولم تسمح له به سنه، وعندما صور دعاة أسرته رأيهم فيما مرت مصر به بين عهد مرنبتاح وعهده مما أوجزناه في حديثنا عن خاتمة السياسة الداخلية حينذاك، قالوا: " ... وقعت مصر فريسة للاضطرابات، وأصبح كل إنسان فيها يفتن لنفسه، ولم يكن لأهلها زعيم سنوات عدة، وكانت مجرد بلد موظفين وعمد يفتك الإنسان فيها برفيقه كبيرًا كان أم صغيرًا. وتلت ذلك سنوات فارغة، ظهر بينهم فيها إرسو الخوري واعتبر نفسه أميرًا، وحاول أن يخضع البلاد كلها لرأيه وألزمها بدفع الضرائب "إليه". وأصبح كل إنسان يلتمس رفيقًا يسايره في طريقه خوفًا من أن يعتدي أحد عليه. وعامل "أعوان إرسو" الأرباب معاملة البشر وامتنع هو عن تقديم القرابين في المعابد. وعندما شاء الآلهة أن يظهروا رحمتهم ويصححوا الأوضاع في مصر ويعيدوها إلى سيرتها الأولى، نصبوا ولدهم الذي خرج من صلبهم "ست نخت" حاكمًا على البلاد كلها وجعلوه على عرشهم الكبير، فتجلى على هيئة خبري ست الغضوب وعاد السلام إلى الأرض القلقة، وفتك بالغادرين فيها وظهر عرش مصر العظيم ... "(1).

وقد يكون فيما أتى به هؤلاء الدعاة عن الفترة القلقة التي سبقت عصرهم الجديد صحيحًا، ويكون تمسحهم في الدين وغضب الأرباب على الأمس وأملهم في الغد مما أوحت به التقاليد. أما تضخيمهم لشأن "ست نخت" فقد كان مسرفًا بعض الشيء، فالرجل الكهل الذي زكته للناس سنه وخبرته لم يعمر في الحكم غير عامين.

وخلفه ولده رمسيس الثالث "وسرماعت رع - حقا أونو" الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لسياسة الأسرة منذ عام 1182ق. م، وقد جعل سلفه القديم رمسيس الثاني مثله الأعلى وتلقب بأغلب ألقابه وكنياته، واستطاع مثله أن يدفع بجيشه عن مصر أخطارًا جسيمة، ولكنه اختلف عنه في أنه كان الشخصية العظيمة الوحيدة في أسرته الكبيرة. وبدأ عهده ببداية مشرقة ثم انتهى إلى خاتمة نؤجلها لحينها. وقد تشابكت السياسة الداخلية مع السياسة الخارجية في عهده ولهذا نبحثهما معًا فيما يلي:

فقد تأتت أخطار عهده عن شعوب البحر كما تأتت في أيام مرنبتاح، ولكنها أصبحت أشد، وارتبطت في عهده بهجرات وتحركات جديدة أوشكت أن تطبق على مصر بهيئة فكي الكماشة من غربها ومن شمالها الشرقي ومن البر والبحر معًا، ولو أن ذلك كله كان عن غير تعاون مقصود بينها.

وقد بدأت بتحرك جماعات من شعوب البحر التي انتشرت وراء حدود مصر الغريبة في تحركات مريبة، وكان فيهم الربو والسبد وتزعمهم بعض المشاوش "المشوش" الذين عرفهم المصريون منذ أواسط عصر الأسرة الثامنة عشرة واستخدموا بعضهم كمرتزقة في جيشهم، ولكن بني جلدتهم استغلوا فترة القلاقل التي انتهت بها أيام الأسرة التاسعة عشرة وتنمروا لها، ولم تلن قناتهم حتى السنوات الأولى من عهد رمسيس الثالث، ويبدو أنه حاول أن يحل مشكلتهم بطريقة سلمية، فولى عليهم شابًّا ليبيًّا تربى في مصر، فرفضوه، ولعلهم قد اشتدت عزائمهم بنزول هجرات جديدة عليهم من بني عمومتهم الآريين، أو هم على العكس من ذلك تخوفوا من نزولهم، فنزحوا أمامهم إلى حدود الدلتا بقضهم وقضيضهم كما نزح أسلافهم في عهد مرنبتاح، وقد لاقتهم الجيوش المصرية في العام الخامس من عهد رمسيس الثالث "عام 1178ق. م" قرب وادي النطرون وردتهم على أعقابهم (2)، ثم اكتفت بأن أضعفت شوكتهم وتركت بعض قبائلهم يعيشون على حدودها تحت طاعتها، بل وأبقت على من كانت تستخدمهم من جنسهم في جيشها (3).

وخاضت مصر معركتين خلال العام الثامن من عهد رمسيس "1157ق. م": معركة مع المهاجرين الذين وصلوا إلى الشام عبر آسيا الصغرى وانتشروا في أرض آمور ثم نزحوا إلى أرض كنعان عن طريق البر(4)، ومعركة مع من اندفعوا بأساطيلهم إلى شواطئ جنوب سوريا وربما وصلوا حتى مصبات النيل الشمالية الشرقية عن طريق البحر(5). ووصفت النصوص المصرية تحركات هؤلاء المهاجرين وخيبة مسعاهم وصفًا شائقًا، على لسان رمسيس، فقالت(6) " ... "تآمرت" شعوب أجنبية في جزرها، وسريعًا ما زالت بلاد وشردت الحرب "أهلها"، ولم تستطع بلد أن تثبت أمام أسلحتهم، ابتداء من خاتي وقدي وقرقميش وأرزاوا إلى إرس "ألاسيا" في آن واحد "أي من آسيا الصغرى وشمال سوريا وشواطئ الفرات إلى قبرص في عرض البحر"، واجتمع عسكرهم في بقعة واحدة "بأرض" آمور، فشردوا أهلها، وأصبحت أرضها كأنها لم تكن، ثم تقدموا نحو مصر، ولكن النار كانت على استعداد للقائهم. وتألف حلفهم من برستي "البلستي" والثكر والشكرش والدانيين "أو الدانونيين"، والوشاوش، واتحدوا جميعًا ووضعوا أيديهم على البلاد في مدار الأرض كلها، واستبشروا وملأتهم الثقة بأنفسهم وقالوا: سوف تنجح مشاريعنا. ولكن عقل الإله كان واعيًا وعلى استعداد لأن يقتنصهم كالطيور ... ، وهكذا نظمت حدودي في جاهي، وأعددت أمامهم الأمراء وقادة الحاميات والماريانو، وأمرت بتحصين مصبات الأنهار لتكون كالسد الكبير وزودتها بسفن وزوارق ناقلات للجنود، امتلأت جميعها من مقدماتها إلى مؤخراتها بمحاربين مهرة مسلحين. وتألفت قوات المشاة من خيرة شباب مصر، وكانوا أشبه بالأسود الزائرة على قمم الجبال. وتألفت فرق الفرسان من عدائين مهرة وقادة قادرين، ومن كل فارس عربة متين. وهزت الخيول أعطافها واستعدت لسحق الشعوب الأجنبية تحت حوافرها، وكنت مونتو المقتدر، أقف على رأسهم، ليشهدوا بأنفسهم ما تفعله يداي .. أما من بلغ حدودي، فلم تبق منهم باقية، وانمحت قلوبهم وأرواحهم إلى الأبد. وأما من أتوا "بجموعهم" معًا عن طريق البحر، فقد واجهتهم نار حامية على مصبات الأنهار، وأحاط بهم على البر سد من الحراب، واستدرجوا إلى الداخل وحوصروا وألقوا على وجوههم على الشاطئ ثم قتلوا ومزقوا إربًا من القدم حتى الرأس، وغرقت سفنهم وأمتعتهم في البحر ... "، ولا ندري هل عني بالنار الحامية على مصبات فروع النهر قوة الدفاع أم عني بها نارًا فعلية ترميها المناجيق.

وعلى نحو ما أمتع كاتب الملك في وصف أطماع شعوب البحر ووصف مصيرهم، أبدع الفنانون في تصوير هزيمتهم، على جدران معابد طيبة. فصوروهم يفرون على البر بعربات تشبه الصناديق يجر كل عربة منها أربعة ثيران، وصوروا الأمهات من فرط جزعهن يهرعن إلى العربات قبل أطفالهن، ويحاولن بعد ذلك أن ينتشلن الصغار من الأرض قبل أن يسرع السائق في فراره. وصوروا ساحة الحرب بعد الموقعة خرابًا يبابًا، اجتث أهلها من فوق الأرض كما اجتث شجرها سواء بسواء (7). وعندما انتقل الفنانون إلى قتال البحر صوروا سفن الفريقين وقد طوت أشرعتها، ورمي المصريون أعداءهم بالنبال، ثم صادموهم بالمراكب وقاتلوهم وجهًا لوجه بالسيوف والخناجر، وبدأت السفن يقلب بعضها بعضًا، حتى انتهت المعركة بانتصار المصريين(8). هكذا استطاعت مصر أن تنقذ نفسها وجيرانها من غزو كثيف حطم ممالك عدة قبلها ولكنه تحطم عند أرضها وعلى شواطئ بحرها.

وتشتت جموع شعوب البحر في عدد من جزر البحر وسواحله، واحتفظت بعض هذه الجزر والسواحل بأسمائها، وهكذا يتجه بعض الرأي إلى الربط بين الشرادنة وبين السرادنة "أهل سردينيا"، والربط بين الشكلش "شكرش" وبين الصقليين، والربط بين الثكر وبين الصقليين أيضًا أو الطرواديين، والربط بين التورشا وبين التورسينيين أسلاف الإتروريين، والربط بين اللوكي "الروكي" وبين اللوكيين "سكان ليكيا في آسيا الصغرى"، والربط بين الأقاوشا "الأقوش" وبين الآخيين "؟ " "أو بينهم وبين الأهياوا الذين ذكرتهم النصوص الحيثية"، والربط بين الدانيين وبين الداناوي الذين ذكرتهم إلياذة هوميروس (9). وإن كنا لا ندري هل اكتسبت الهجرات أسماءها من هذه الأماكن أم أنها هي التي خلعت عليها أسماءها.

ولم يستقر قريبًا من الحدود المصرية من شعوب البحر في أعداد كبيرة غير فريقين، وهما: جماعات الثكر وجماعات برستي أو البلستي، وقد صورت المناظر المصرية رؤساءهم ملتحين وصورت جنودهم بغير لحى، وبأغطية رأس ذات ريش، وبسيوف طويلة عريضة وخناجر مثلثة وتروس مستديرة وحراب. ونزل الثكر موانئ سوريا الجنوبية، ونزل البلستي مرتفعاتها الساحلية الجنوبية، وخلعوا اسمهم عليها، واحتفظوا لأنفسهم بسر صناعة الحديد والدروع واحتكروها دون العبرانيين زمنًا طويلًا، واحتفظ التاريخ باسمهم للأرض التي نزلوها وهو اسم فلسطين، وإن لم يرجع ذلك إلى أنهم أصبحوا غالبية أهلها أو أنهم بسطوا نفوذهم على كل أهلها، وإنما يرجع إلى أنهم كانوا من أواخر الهجرات التي دخلتها، وإلى أن ترديد التوراة لاسمهم فيها ترك أثره في تسمية التاريخ لها. وقد اندمج هؤلاء البلستيون أو الفلسطينيون في سكان كنعان الساميين شيئًا فشيئًا وأصبحوا قومية واحدة. وكان حظ إخوانهم "الثكر" أقل من حظهم في الاستقرار إذا اختفى اسمهم من التاريخ في أعقاب القرن العاشر ق. م.

وتجددت مشكلات المهاجرين على حدود مصر الغريبة في العام الحادي عشر من حكم رمسيس، ولم يحملوا له أنه سمح لهم بالمعيشة قربها طالما أعلنوا السلم والطاعة، وظهرت بينهم جماعات جديدة ذكرتها المصادر المصرية بأسماء قريبة من الأسباط والقايقاش والشايتيت والهاسا والباقان ... ، واستجاب لهم عدد من بني جلدتهم الذين عاشوا قرب غرب الدلتا وعاونوهم بزعامة شيخهم كابور وولده مشاشار. وامتد تسربهم إلى ما رواء الفرع الكانوبي للدلتا، وشتتوا أمامهم جماعات الثحنو سكان الواحات الأصليين، فاشتدت القوات المصرية عليهم وأحبطت مشاريعهم وكسرت شرتهم وأسرت مشاشار ابن قائدهم وأحرقت عليه قلب أبيه (10). وبذلك انتهت محاولاتهم لدخول مصر عن طريق العنف، وبدءوا يتسللون إليها تسللًا سليمًا بطيئًا، فتسامح رمسيس معهم باسم مصر، كما تسامح من أسراهم الذين بدأهم بالشدة ثم عاد عليهم بالعفو واكتفى بإحكام الرقابة عليهم، فقال حين غضبته عليهم: "اعتقلت قادتهم في حصون تحمل اسمي، ووليت عليهم ضباطًا ورؤساء قبائل، واعتبرتهم عبيدًا مدموغين باسمي، وعومل نساؤهم وأطفالهم نفس المعاملة، ووهبت قطعانهم إلى دار آمون ... ". ثم قال عنهم بعد أن خف غضبه عليهم "وضعتهم في الحصون، ودمغتهم باسمي، وكانت جماعاتهم الحربية تقدر بمئات الألوف، وخصصت لهم مخصصات من الكساء والزاد، تصرف من الخزانة وشون الغلال كل عام... ".

وأضافت بردية من أواخر عهده أن الشرادنة والقحق استقروا في مدنهم التي خصصها لهم، وأقام بعضهم في حصونه (11)، وأقام بعض آخر وسط المزارع التي سمح لهم بها.

وأضافت بردية أخرى كتبها صاحبها بعد عهده أنه أنشأ للمجندين منهم فيما أنشأ محلة في الصعيد ليعيش فيها "الشرادنة وكتبة الجيش الملكي" على حد قوله (12). وعلى الرغم من أن هذا التساهل النسبي يعتبر مكرمة للخلق المصري في جملته، إلا أنه جر على مصر بعد ذلك شرورًا كثيرة كانت في غنى عنها لو أنها استأصلت شأفة أعدائها من جذورها ... وحاولت مصر أن تنعم بفترة من الرخاء والسلام بعد انتصاراتها على شعوب البحر التي دوخت غيرها من دول الشرق الكبرى، وبعد أن أكدت ثقتها بنفسها وتدفقت الثروات عليها من غنائم الحروب والجزى، ولكن كان لا يزال للكفاح بقية. فقد صورت أخبار أحد الأعوام التالية من عهد رمسيس محاصرته وجيوشه لخمس مدن في بلاد الشام، كانت منها تونب وإروازا وربما قادش وشابتونا أيضًا. ويبدو أن الأجناس الدخيلة في سوريا ومنها بقايا الحيثيين كانت لهم يد في إثارة الاضطرابات فيها. وإذا سلمنا برواية مؤرخ رمسيس عن نصره يكون هذا النصر قد أعاد الأمن كاملًا إلى خطوط مصر الدفاعية البعيدة وإلى مسالك التجارة الخارجية. وكالعادة كان أكثر المصريين استفادة من هذه النهضة الجديدة هو فرعونهم وبطانته من حاشية القصر وكبار رجال الدين. ومن أروع ما شاده المهندسون من عمائر رمسيس الثالث الخاصة معبدان فضلًا عن قصرين مؤقتين. أما المعبدان فأحدهما ضخم شاهق خصص لإقامة شعائره وشعائر الإله آمون ومعبودات أخرى، في غرب طيبة، وهو معبد حابو. وأما الآخر فهو معبد صغير ولكنه ممتع خصص لاحتفالات يوبيله وأعياد ربه آمون في رحاب الكرنك بشرق طيبة. ولا زال كل منهما يعتبر من أكل المعابد المصرية الباقية في عناصره المعمارية وفي لوحاته المصورة المنقوشة (13). وامتدت المنشآت الدينية حينذاك إلى الشام والنوبة، واحتفظت النصوص بذكرى معبد للإله آمون في كنعان أجرى رمسيس عليه خراج تسع مدن "أو قرى" في منطقته، ومعبد آخر في عسقلان شيد باسم الإله بتاح.

عواقب الإسراف:

طال عهد رمسيس الثالث نحو واحد وثلاثين عامًا حتى عام 1151ق. م، استمتع في أغلبها بما دلت عليه ضخامة منشآته من ثراء ومجد ونعيم، ثم آذنت أموره وأمور بلده بالتحول من حال إلى حال، وكانت عوامل هذا التحول ثلاثة، وهي: تزايد أعداد الأجانب المتمصرين في البلاط والجيش، فضلًا عن تزايد أعداد الأرقاء الأجانب في القصور والمعابد، ثم مؤامرات النساء في القصر الفرعوني، وضيق الطبقات العاملة بقلة ما يصلها من مجهود يمينها ومما نعم بمثله كبار الكهان وأهل البلاط:

تقبلت مصر أعدادًا من الوافدين عليها مما وراء حدودها الشمالية الشرقية، بل ومن الآريين وبعض شعوب البحر المسالمين، يصدر رحب منذ أواسط عصر الأسرة الثامنة عشرة، وكيف استخدمتهم في جيشها ووظائفها وبادلتهم عقائدهم بعقائدها، وقد زاد هذا الاتجاه خلال عصري الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، ولم يأب الكتبة المصريون حينذاك أن يعبروا بأسماء أرباب الشام: بل وعشترة وعنات وقدش عن ربوبية البأس والقوة، جنبًا إلى جنب مع أسماء رعاة الحرب المصريين: آمون ومونتو، وست، وسخمة ... ، ولم تأب بعض الأسر المصرية أن تنسب أسماء مواليدها إلى أسماء الأرباب السوريين. وترك مهندس مصري نصبًا في بيت شان في فلسطين اتجه بدعواته فيه هو وابنه إلى ميكال إلهها المحلي. وترك كاتب مصري نصبًا آخر في أوجاريت بشمال سوريا اتجه بدعواته فيه إلى بعل زفون الإله السوري العظيم (14). وتقبلت الجيوش المصرية أعدادًا من الأجانب في فيالقها، سواء باعتبارهم مرتزقة، أو من أسراها السابقين أو من أبناء أسراها، وأشركتهم في حامياتها الآسيوية، حيث كان يطيب لهم أن يقيموا في الأقطار الشمالي. وظن ملوكها أنه يمكن الاطمئنان إلى أغراب يسيطرون على أملاك آسيوية من أجل مصر، وذلك خطأ محض. ورفع رمسيس الثالث بعض هؤلاء الأجانب إلى مناصب القيادة، وكان يعلن لهم قراراته إلى جانب غيرهم من القادة وكبار الموظفين المصريين(15). واعتد أن الأمان الذي يوفره لهم من مآثر عهده وكفيل ببث الإخلاص في قلوبهم.

وتزايد نصيب القصور الفرعونية من الزيجات الأجنبيات، وتقبلت أعدادًا أكثر من الجواري. وقلدت قصور الأثرياء قصور الفراعنة في هذه السبيل، سواء يفعل ظروف الحرب وكثرة سباياها، أو حبًّا في ملاحة الشماليات ودفء الجنوبيات. وتقبلت القصور إلى جانب الجواري أعدادًا من الحشم الأجانب عملوا خدمًا وسقاه ووصفاء فيها.

وزاد رمسيس الثالث، فعين بعض أولئك الأجانب في وظائف البلاط وفي مناصب القضاء. أما المعابد فكان نصيبها من الأرقاء والأسرى الأجانب والمتمصرين أضخم، بحيث ذكرت نصوص رمسيس الثالث أنه خصص 2607 من أسراه لأملاك آمون، و2093 لأملاك رع، و205 لأملاك بتاح (16)، لكي يعملوا بأسماء هذه المعابد في المزارع والمحاجر والمناجم، بل وفي شئون المعابد أحيانًا.

ولم يكن من بأس فيما جرت عليه مصر من فتح قصورها ودواوينها ومعابدها لأبناء جيرانها ولأسراها وللمرتزقة المسالمين، طالما ظلت قوية يقظة وطالما ظلت يدها هي اليد العليا. ولكن الخطر كل الخطر كان يتمثل في ألا يخلو إخلاص هؤلاء النزلاء لها من شوائب، وأن يتمصروا بمظهرهم وليس في مخبرهم، وأن يظل بعضهم على استعداد للتنكر لها متى سنحت لهم فرصة أو ألمت بها نكبة، وما كان أكثر احتمالات النكبات عليها في ذلك الزمان.

وكشفت عن دخائل قصر رمسيس الثالث وأوضاع الأجانب في بلاطه، مؤامرة من إحدى زوجاته الملكيات دب النفور بينه وبينها إلى حد أن تجاهل الفنانون تسجيل اسمها مع بعض صورها في معبده، وأحست هي برغبته في إقصاء ولدها بنتاورة عن ولاية العهد، فتآمرت مع بعض سقاة البلاط ونسائه وحرسه وخدمه من المصريين ومن النزلاء المتمصرين. واستعان المتآمرون بالسحر ووجدوا في مكتبة القصر ما يهديهم إلى عمل تماثيل من الشمع صنعوها على هيئة الحراس وتلوا عليها سحرهم وتعاويذهم ليلقوا على أصحابها السبات ويضعفوا عزائمهم، أو هكذا أملوا. ولكن المؤامرة انكشف أمرها، وتولى التحقيق فيها بأمر الفرعون أربعة عشر قاضيًا كان من بينهم أربعة تدل أسماؤهم على أنهم لم يكونوا مصريين الأصل. وقبل أن ينتهي التحقيق استطاع بعض أقارب المتهمين أن يرشوا ثلاثة من القضاة وضابطين، ولكن أمرهم انكشف وتحول القضاة الثلاثة والضابطان إلى متهمين. وحكمت المحكمة على الأمير بنتاورة وثلاثة من شركائه بالإعدام، وتركت لهم أن ينتحروا بأنفسهم. وحكمت على متهمين آخرين بالجلد والسجن، وعلى بعض آخر بجدع الأنف وصلم الأذنين، وكان من هؤلاء الأخارى قاضيان وضابطان من المرتشين، فعزت على أحد القاضيين نفسه، أو صحا ضميره فانتحر، وبرأت المحكمة زميله. أما ما أصاب رمسيس الثالث من هذه المؤامرة، واسم الفرعون الذي تمت المحاكمة في عهده، إن كان هو نفسه أم ولده رمسيس الرابع، فكلاهما موضع جدل حتى الآن(17).

كانت الخيرات الطائلة لا تزال تترى على خزائن الدولة طوال عهد رمسيس الثالث ومن بعده حتى أواسط عصر الأسرة العشرين، ولكن هذه الخيرات لم تتجه وجهتها السليمة، فاستهلكت المنشآت الملكية الخاصة نفس النفقات التي كانت تستهلكها في أوج عهود التوسع، ولم يفطن أصحابها إلى أن مجالات التوسع أصبحت ضيقة أمامهم بعد أن كانت طلقة ميسرة في عهود أسلافهم. وحرصت المعابد من ناحيتها على ثرواتها القديمة، وزادها رمسيس الثالث ثراء على ثراء، وفاته أنه إذا استطاع أن يبذل عن سعة في بعض عهده فلن يستطيع أن يجد نفس السعة في أواخر عهده. وقد ذكرت وثيقة من أيامه أن دخل معابد آمون في طيبة وحدها بلغ 62 كيلوجرام من الذهب، و1189 كليوجرام من الفضة، و2855 كيلوجرام من النحاس، وأن مراعيه كان يسرح عليها 421.362 رأسًا من الماشية الكبيرة والصغيرة، وقد أهداه رمسيس منها 28.337 رأسًا دفعة واحدة "ربما تعويضًا لمعابده عما ساعدته به من موارد في نفقات حروبه". وبلغ دخل معابد مصر حينذاك نحو مائة ألف مكيال من الغلال، واستأثرت بخيرات 169 مدينة وقرية في مصر وخارجها، وامتلكت أكثر من 88 سفينة، ونحو 50 ترسانة لصناعة السفن وإصلاحها، وتراوحت مساحة مزارعها بين 12 و15% أو ما هو أكثر من أراضي مصر الزراعية. وكان على المعابد أن تساهم بنصيب في مشروعات الدولة، ولم يكن لخزائن الدولة غنى عن هذا النصيب، ولكنه لم يكن يصلها كاملًا من المعابد الكبيرة نتيجة لمغالطات كهنتها وامتداد نفوذ كبارهم كالأخطبوط إلى أغلب إدارات الدولة ومرافقها. أما المعابد الصغرى فكان يحدث العكس معها؛ إذ يذوب ريع أوقافها عادة بين أيدي الموظفين ولا يصلها منه غير القليل(18).

وثمة صورة لها وجهان، وجه يعيب فراعنة الأسرة وسياسة عصرهم، ووجه آخر يرحب التاريخ به لأنه يكشف عن حقيقة روح شعبية مصرية لم تكن تهضم الضيم ولا تأبى أن تعارضه رغم أنف التقاليد وأذناب الحكام، على عكس ما ألصقه بها كثير من المؤرخين من صفات الاستكانة واللامبالاة والتسليم المطلق بما يقضي به الرؤساء. وتقتصر هذه الصورة في حالتها الراهنة على العاملين في الجبانات الملكية بطيبة الغربية، ولكن ليس ما يمنع إطلاقًا من اعتبارها نموذجًا لما كان يجري في مناطق كثيرة غيرها مما لم يبق من أخبارها شيء مدون. فقد صورت متاعب العاملين في هذه المنطقة بردية نسبت حوادثها إلى العام التاسع والعشرين من حكم رمسيس الثالث(19)، وذكرت أنهم أضربوا عدة مرات لتأخر صرف مرتباتهم الشهيرة، واستمر إضرابهم في إحدى المرات ثلاثة أيام خرجوا فيها من قريتهم واعتصموا خلف أحد المعابد حتى اتفقوا على خطة ثم اتجهوا تجمعهم إلى معبد الرمسيوم وكان مركز الإدارة في المنطقة ويتضمن مخازن غلالها. وهناك برروا إضرابهم أمام الحراس والكهنة، بمثل قولهم: "ساقنا إلى هنا الجوع والعطش، فليس لدينا كساء ولا دهون ولا سمك ولا خضر، فاخطروا مولانا الفرعون واكتبوا إلى الوزير المسئول عن أمرنا حتى يعطينا ما يقيم أودنا"، ففتحوا لهم المخازن بعد لأي وصرفوا لهم مخصصات شهر سابق. فتشجعوا وطلبوا مخصصات الشهر الذي أضربوا فيه، وتجمعوا عند مركز الشرطة، فلم يجد رئيس الشرطة سوى التسليم بحقهم فيما طلبوه ولكنه طلب منهم عدم الإخلال بالنظام ووعدهم بأن ينضم إليهم في اليوم التالي هم وزوجاتهم وأولادهم، إذا وجدوا ضرورة للاغتصاب.

وتجرأ العمال في إضراب آخر فقالوا للموظفين الذين تصدوا لهم: "أخبروا رؤساءكم وهم واقفون بين زملائهم أننا لم نخرج بسبب جوعنا فحسب، ولكن لدينا اتهامًا خطيرًا نود أن نعلنه، وهو أن جرائم ترتكب في هذا المكان التابع للملك، وأن مركز هذا الملك معرض للضرر". واستمر العمال في الشكوى والخوض في أمر الوزير والفرعون إلى حد أن أرسل الوزير إليهم من يقول لهم باسمه "تقولون لا تهضم حقوقنا، فهل تظنون أني عينت لأغتصب وأنهب؟ إن واجبي هو أن أعطي... فلو كانت أهراء الغلال خاوية فلسوف أرسل إليكم ما استطيع أن أدبره".

تعاقب على العرش بعد رمسيس الثالث ثمانية فراعنة من أسرته، تسموا جميعًا باسم رمسيس، ابتداء من رمسيس الرابع حتى رمسيس الحادي عشر. ويرى زيته أن كلًّا من رمسيس الرابع ورمسيس الخامس كانا ولدين للملك رمسيس الثالث، وأن رمسيس السادس كان حفيدًا له من ابن لم يل العرش، ثم تعاقب الملوك الباقون من أولاده أو من نسله. وقد حكموا فترات تفاوتت بين القصر والطول، ولكنها لم تزد في مجموعها عن 75 أو 80 عامًا(20). وكان من أسماء العرش الأخرى لهم على التعاقب: حقا ماعت رع، وسرماعت رع سخبر نرع، نب ماعت رع - نثر حقا أونو، وسرماعت رع - نثر حقا أونو وسرماعت رع عنخن آمون، نفر كارع - خع مواسة9، خبر ماعت رع - آمون حر خبشف، من ماعت رع - نثر حقا أونو. وظلت مستويات المعيشة للحكام والطبقات العليا خلال هذه الفترة تختلف اختلافًا واسعًا عن حياة بقية الجماهير، فاستمر الفراعنة والأمراء وكبار الموظفين والكهان على ثرائهم النسبي الذي سمحت به موارد عهودهم، وأعد بعض الفراعنة لأنفسهم مقابر ضخمة على غرار مقابر من سبقوهم من حكام العصور المستقرة الغنية، ومنهم رمسيس السادس الذي تعتبر مقبرته من أضخم مقابر طيبة وأحفلها بما يصور تصورات عصرها عن الآخرة ونعيمها وعذابها وأربابها وشياطينها وجناتها ومخاطرها، على الرغم من سوء الحال الاقتصادية التي عانتها البلاد في عهده.

واشتدت الضائقة بالطبقات العاملة أكثر فأكثر، وحدثت مجاعة طويلة في أواخر أيام الأسرة أطلق الناس على أحد أعوامها اسم "عام الضباع". وارتفعت أسعار الغلال وبقية الأقوات إلى ثلاث أمثالها. وتكررت إضرابات العمال في غرب طيبة، ولم يعدموا من يعطف عليهم ويرى الحق في جانبهم من كبار زائري المنطقة، ولكنه غالبًا ما كان عطفًا مؤقتًا لا يسمن ولا يغني من جوع، فإذا تصادف أن أتبعوا العطف بالعمل لم يكن العمال يترددون في رد الجميل بمثله، كما فعلوا مرة حين أهدوا صندوقين وأدوات مكتبية لبعض الكتبة الذين عاونوهم في قضيتهم، اعترافًا بفضلهم. وحدث مرة أن عطف عليهم عمدة خير فصرف لهم خمسين غرارة من الحبوب من مخازن معبد الرمسيوم، وقال لهم "حتى تتعيشوا بها إلى أن يصرف "رجال" الملك مخصصاتكم"، ولكن كهنة المعبد تآزروا ضده وعز عليهم أن ينتقص من مدخراتهم ليطعم العمال منها، فاشتكوا إلى الوزير ووصفوا فعلته بأنها اغتصاب وجريمة شنعاء.

وبلغ من ضيق العمال وجرأتهم أن طلب وزير دات مرة رجالًا منهم ليحملوا متاعًا للفرعون رمسيس التاسع، فرفضوا ورد أحدهم على رسول الوزير بقوله: "دع الوزير نفسه يحمل متاع الفرعون نفر كارع ويحمل خشب الأرز أيضًا "إذا شاء"(21).

ولم يكن ذلك هو كل ما ترتب على اضطراب الأمن وتدهور الأحوال الاقتصادية في أواخر عصر الرعامسة، وإنما استشرت جرأة المعتدين وحاجة المقلين على مقابر الفراعنة وكبار الأثرياء في غرب طيبة، فنهبوا عددًا كبيرًا منها وتستر عليهم بعض كبار الموظفين، وتوالت التحقيقات بشأنها، ولكن بغير جدوى وتدخلت في الأمر الخلافات والاتهامات الشخصية بين عمدة طيبة الغريبة وبين عمدة طيبة الشرقية(22).

ولم يكن من سبيل لتغيير هذه الأوضاع إلا عن طريق ثورة أو انقلاب، وللأسف لم تكن إمكانيات الجماهير حينذاك تسمح بثورة عامة، فحدث انقلاب محدود قامت به طائفة من كبار كهنة آمون اختلفت وسائل زعمائهم في تحقيق أغراضهم، وظهر لهم زعيم يدعى أمنحوتب توارثت أسرته رياسة كهنوت آمون منذ عهد رمسيس الرابع وآل المنصب إليه في عهد رمسيس التاسع. ونجح في الإيحاء بأهمية شأنه حتى لفناني عصره فصوروه في منظرين بمعبد الكرنك بحجم مساوٍ لحجم الفرعون وفي مواجهته، على عكس ما قضت به التقاليد من الرمز لعلو شأن الفرعون بتصويره بحجم أعظم دائمًا من قامات أتباعه. وازدادات سلطة أمنحوتب في عهد رمسيس العاشر القصير ثم بلغت غايتها في عهد رمسيس الحادي عشر، فتضخم عدد أنصاره وأتباعه، كما تضخم التذمر في الوقت نفسه ضد طموحه وضد الثروات التي تكدست بين يدي أسرته وهنا تحدثت وثائق العصر بتلميحات غامضة قصيرة عن انقلاب استخدمت القوة ضده في إقليم طيبة وجزء من مصر الوسطى حتى بلدة القيس "حردي" حاضرة الإقليم السابع عشر. وكانت الشخصية الرئيسية التي برزت ضد كبير الكهنة هي شخصية بانحسي نائب الملك في النوبة. وقد جند الأول أرقاء المعابد لمصلحته، واستعان الثاني بجنود نوبيين وليبيين مرتزقة، وتعددت الخسائر بين هذا وذاك على حساب الأهالي وعلى حساب سلطة الفرعون، ثم انتهت باختفاء الطرفين وفشلهما معًا، ولم تخلص الجماهير لهذا أو ذاك لأن أيًّا منهما لم يقم بحركته لمصلحتها(23). ويحتمل أن يكون بانحسي قد انزوى في النوبة بعد ذلك. ورأى بعض المؤرخين في حركة طيبة هذه أكثر من وجه واحد، فرآها بيير مونتيه تعبيرًا عن سخط قديم ادخره أتباع آمون ضد اهتمام الرعامسة بعاصمتهم الشمالية وربهاست، ولكنهم لم يعلنوه صراحة إلا بعد أن تأكدوا من ضعف فراعنة عصرهم وضيق الناس بالأوضاع القائمة. بل وأضاف أن سرقات المقابر التي تفشت حينذاك كانت مقصودة أو على الأقل وجدت تشجيعًا، لتزويد أصحاب الحركة بالذهب والسلاح ولتعويض قلة استخراج المعادن واستيرادها.

وولي رياسة الكهنة بعد ذلك حريحور، فجرى على سبيل سلفه في التمهيد لبسط نفوذه، ولم يكن من أسرة كبيرة مثله (24)، ولكن كان له ماضيه في الجيش والوظائف المدنية إلى جانب معارفه الدينية، ثم جمع إلى كل ذلك منصب نائب الملك في النوبة حتى يتقي أن يشغله من يقضي على آماله، واتخذ لقب وزير طيبة لبعض الوقت على أقل تقدير، حيث ظهر اسم آخر يدعى "نب ماعت رع نخت" في العام الثالث والعشرين من حكم رمسيس الحادي عشر. ثم تمادى حريحور. في نفوذه باسم الدين أكثر فأكثر، ونم عن ذلك أنه بدأ بذكر اسم ملكه وحده في عدد من النقوش والمناظر التي أشرف على تنفيذها في معبد الإله خنسو في رحاب الكرنك، ثم أمر بتسجيل اسمه إلى جانب اسم الملك في عدد آخر. وانتهى بالاكتفاء باسمه وحده وانتحال كنيات وشارات تشبه ألقاب الملكية وشاراتها. وكان هذا المعبد قد بدأ إنشاؤه في عهد رمسيس الثالث واستمر في عهد رمسيس الرابع ببناء قدس الأقداس والقاعات المحيطة به، ثم اتسع جنوبًا وشيدت له صالة أعمدة في عهد رمسيس الحادي عشر. ورضي الفرعون المغلوب على أمره بالأمر الواقع، واعتبر الكهنة ذلك نصرًا لهم وبشيرًا بعصر جديد تبجحوا وسموه عصر النهضة وأرخوا به وثائقهم، واعتبر حريحور نفسه كما لو كان ملك طيبة، وإن ظل رمسيس الحادي عشر على العرش حتى العام 27 أو 29 من حكمه. والطريف أنه ورد في نص آشوري أن هذا الملك أرسل إلى آشور بل كالا ملك آشور هدية تمساحًا "تمسوخو" وقردًا كبيرًا (25). وباشر الكاهن الأكبر حريحور سلطانه الأعلى في طيبة وأضاف إلى عمائرها الدينية باسمه فناء إلى جنوب معبد خنسو، وقيل عنه في نقوش المعبد إنه البذرة المقدسة لسيد الأرباب، ونسله البهي الذي حملت به الربة موت ليصبح حاكمًا على مدار الشمس، واستعان بالسياسة، فلم يظهر عداء لكهنة الشمال، كما يفترض مونتيه أنه حدث في عهد سلفه، وإنما صادق زعيمهم فيه وهو نيسوبانب جدة، الذي ذكره المؤرخ مانيتون باسم سمندس، ثم ورث أغلب ألقابه ووظائفه لولده "بي عنخ" كبير الكهنة، ولكن دون بعض ما انتحله لنفسه من كنيات فرعونية (26). ولم يكن لهذه النهضة أي صدى في الخارج، وإنما صور تخلخل نفوذ مصر الخارجي حينذاك كاهن مصري مثقف يدعى ونآمون خرج من مصر إلى الشام لاستيراد أخشاب أرز من أجل مركب الإله آمون رب الدولة والإمبرطورية في الدولة الحديثة، وكان أمثال ونآمون من الرسل يجدون الترحاب حيثما حلوا، أما هو فقد وجد الصدود حيثما نزل، وعز عليه أن يجد بين الطوائف الجديدة في الشام الأمن القديم الذي كفله المصريون والسوريون في أيام استقرارهم ومجدهم. وعندما عاد إلى وطنه كان أمينًا في تسجيل ما مر به وتحدث به أو سمعه بكل ما فيه من مرارة وأسى على سمعة وطنه (27).

وإلى جانب صبغتها التقريرية أو الإدارية تعتبر قصة ونآمون من عيون أدب الرحلات في العصور القديمة ونموذجًا لأسلوب الكتابة واللغة المصرية القديمة في عصورها الأخيرة، كما تحمل أكثر من شاهد على اعتزاز المصري الأصيل بقوميته وكرامة بلاده حتى في فترات ضعفها، ولباقته في مواجهة المصاعب وهو مغترب عنها.

ومرة أخرى أخذ تشرني هذا الرأي عن أستاذه ولم يشر إلى مصدره في مؤلفه الذي تلاه.

شغل ونآمون منصب كبير مدخل معبد أو دائرة "أملاك" الإله آمون في طيبة، ولم يكن من كبار كهنة المدينة أو عظمائها، وإن لم يحرمه هذا من الثقافة الأدبية والثقافة الدينية. وأرخ ابتعاثه من طيبة إلى لبنان ليستورد أخشابًا لسفينة "آمون" وسرحات العظيمة الفخيمة، باليوم السادس عشر للشهر الرابع من صيف العام الخامس للنهضة التي أعلنها حريحور كبير كهنة آمون. ولم يؤرخه بأعوام حكم الملك رمسيس الحادي عشر الذي لا زال حينذاك يعتلي العرش وإن بقي مسلوب السلطة. وبهذا كان ونآمرن مبعوثًا لكبير الكهنة حريحور وليس مندوبًا للملك الشرعي الذي أغفل ذكره ويحتمل أن يكون قد ألمح إليه عرضًا في سياق حديث باسم "خعمواسة" ووصفه بأنه مجرد إنسان، مما يعني أنه لم يكن يناصره ولم يدخر له نصيبه التقليدي من الإحلال والتقديس وكانت هذه الملابسات من عوامل إضعاف موقف ونآمون في مواجهة من قابلهم من أمراء مواني الشام ومواجهة أمير جبيل بخاصة.

وبلغ ونآمون مدينة برر عمسسو "أوتانيس" العاصمة الشمالية التي ولي أمرها نس بانب جدة وزوجته تانت آمون، وقد ذكرهما باسميهما وليس بألقاب الملك التي لم يتخذاها بعد. ولعله في حرصه على ذكر تانت آمون كان يقدر مكانتها ضمنًا كأميرة أثيرة لدى زوجها الشاب أو يقدر نفوذها وقوة شخصيتها إزاء زوجها، وقد عبر عنهما معًا في سياق حديثه باسم "الشركة التي وضعها آمون في شمال أرضه" - ويبدو أنه كان يدين لها بفضل ما لا سيما وقد ذكر في قصته أنها خصته بهديا أرسلت إليه في لبنان. وفي يوم وصوله لم يضيع وقتًا وسلم الزوجين ما معه من رسائل فقالا "يقينًا سوف ننفذ ما قاله ربنا آمون رع ملك الأرباب" ولكنهما لم يذكرا كبير الكهنة حريحور بشيء. مع كونه صاحب الرسائل الفعلي، وصديقهما، بل ويرى رأي حديث أن نس بانب جدة كان أحد أبنائه الذين بلغوا على ما يقال 19 ولدًا وخمس بنات من زوجته نجمة، وإن ظل هذا الرأي في مرحلة الفروض. وبحكم إشراف بررعمسسو على التجارة والملاحة الشمالية، أوفده الزوجان مع ربان السفينة منجبة، وهو اسم غريب بعض الشيء عن الأسماء المصرية ولهذا عير به ونآمون فيما بعد.

وخلال أحاديه عن رحلته في الشام، أوحى ونامون بأنه كان يتفاهم مباشرة مع الأمراء والموظفين، تدليلًا على ثقافته ومعرفته بلغاتهم، أو لشيوع لغته المصرية في بلاد الشام بعد القرون الطويلة التي ارتبطت مع مصر فيها خلال الدولة الحديثة.

ووصلت سفينة ونآمون إلى "دور" وهي ميناء الثكر الذين هاجروا إلى شمال الشاطئ الفلسطيني، حيث أهداه أميرها "بدو" خمسين رغيفًا "أو شطائر"، وزق خمر وفخذ ثور. ولكنه لم يهنأ كثيرًا بهذه الحفاوة إذ سرقه رجل من سفينته وفر بثروته التي تألفت من آنية ذهبية تساوي 5 دبنات، وأربع أوانٍ فضية تعادل 20 دبنا، وحقيبة تتضمن 11 دبنا من الفضة، وهي ثروة متواضعة بالنسبة لما كان يود استيراده من أخشاب لبنان، ولعله كان ينوي أن يقدمها هدايا إلى الأمراء الذين ود أن يقدموا له الأخشاب هدية لمولاه أو لإلهه. وفي الصباح الباكر قصد ونآمون إلى حيث يوجد الأمير بدر ليعمل على إعادة ما سرق منه باعتباره أمير البدلة ومحافظها، ولكي يستثير اهتمامه أو نخوته أعلن أن ما سرق منه لا يخصه في الواقع بقدر ما يخص آمون رع ملك الآلهة ورب العالمين، ويخص نس بانب جدة وحريحور وخاصة المصريين، كما يخص الأمير بدر والأميرين ورت ومكمر، وذكر بعل أمير جبيل، ولعل هؤلاء الثلاثة الأخارى هم من اعتزم أن يخصهم بهدايا سادته في مصر في مقابل ما أراده من أخشاب بلادهم.

وجادله الأمير بدر قائلًا: هل أنت جاد فعلًا أم مدعٍ؟ إني لا أكاد أتفهم ما تعنيه، فإذا كان لصًّا من مدينتي قد تسور سفينتك وسرق مالك أديت لك المال من خزائني حتى يمكن العثور على السارق أيًّا ما كان اسمه. ولكن اللص من حيث الواقع كان تابعًا لك ولسفينتك، لتمض في ضيافتي بضعة أيام حتى أجده لك.

وليس من المستبعد أن قانون الثكر كان يأخذ بمثل ما سنته تشريعات حمورابي من قبل في بابل، من حيث مسئولية الدولة عن تعويض المواطن عما سرق منه إن لم تقبض على سارقه، وإن كان الأمير بدر قد تنصل من تطبيقه لأن السارق لم يكن من بلده.

وقضى ونآمون تسعة أيام في ميناء دور ثم واجه أميرها بأنه مادام لم يجد ماله فلا أقل من أن ييسر له الرحيل. فرد عليه بعبارات يصعب تبيين تفاصيلها وإن كان من المحتمل أنه نصحه إن اقترب من مقصده أن يأخذ من السفينة التي يبحر بها ما يعوضه عن ماله كرهينة ويدع ملاحيها يبحثون عن سارقه - وأبحر ونآمون إلى صور ثم فارقها عند انبلاج الفجر، وروي أنه عندما بلغ جبيل وجد في السفينة حقيبة تتضمن 30 دبنا من الفضة فأخذها ولم يكتم أمرها وإنما قال للملاحين النكر: لقد أخذت المال وسوف يظل في حوزتي حتى تجدوا مالي أو اللص الذي سرقه، وأنا لم أنهبه ولكني سوف أحتجزه.

وعلى شاطئ البحر في ميناء جبيل احتفل ونآمون بسلامة وصوله في خباء صغير، ووجد مكانًا لتمثال "آمون على الطريق" الذي خرج به من مصر متبركًا به وليكون وسيلته في إثبات قداسة مهمته، ووضع متعلقاته في الخباء.

وفوجئ ونآمون بما لم يتوقعه، فعندما بلغ خبره أمير جبيل وأنه لا يحمل أوراق اعتماد رسمية رفض استقباله وبعث إليه يقول له: غادر مينائي. فأرسل ونآمون إليه قائلًا: فأين أذهب؟ إن وجدت لي سفينة فدعها تعيدني إلى مصر.

وسواء استقل الأمير شأن ونآمون لشخصه أم لأشخاص من أرسلوه، أو أراد إبعاده تفاديًا للمشكلات التي يمكن أن تنشب بينه وبين أصحاب السفينة، فقد قضى ونآمون 29 يومًا على رصيف جبيل، والأمير لا يفتأ كل يوم يأمره أن غادر مينائي. ثم حدثت المعجزة، إذ بينما الأمير يقدم القربان لآلهته يومًا أن تلبس الإله "آمون" فتى من فتيانه ولعله أصابه بنوبة من الدروشة أو وجد الصوفية فأصبح قادرًا على التنبؤ وأخذ يصيح أن أدع الإله وأدع الرسول الذي يحمله فإن آمون هو الذي أرسله.

وحدث ذلك في الوقت الذي وجد ونآمون فيه سفينة متجهة إلى مصر وشحن متاعه فيها وأخذ يترقب الظلمة حتى ينقل تمثال معبوده على ظهرها خفية دون أن تراه عين. وهكذا أظهر آمون معجزته في الوقت المناسب ليحفظ لرسوله ماء وجهه، أو هكذا أراد ونآمون أن يصور الحادثة، إذ ما لبث أن هرع إليه رئيس الميناء يطلب إليه باسم الأمير أن يتريث حتى الصباح، فعاتبه بقوله ألست أنت الذي لم تفتأ كل يوم تقول دع مينائي؟ ألا تقصد أن تضيع السفينة التي تخيرتها للرحيل ثم تأتي من بعد فتطردني؟ فلم يجد الأمير إلا أن يأمر ربان السفينة مباشرة بأن يتوقف إلى الغد، ثم استدعى ونآمون في الصباح، فترك هذا إلهه في خبائه على شاطئ البحر، ورأى الأمير في هيئة رسمها بقصته فإذا هو يجلس في شرفة عالية وقد أدار ظهره إلى نافذته بحيث تتلاطم أمواج البحر من خلفه. وحياه ونآمون بتحية مصرية قائلًا: "فليغفر آمون". واستهل الأمير حديثه بأن سأله عن الفترة التي قضاها منذ أن خرج من أرض آمون، فإذا هي خمسة شهور، ثم قال له وهو يحاوره ليضعف من موقفه: والآن إذا صح هذا فأين تفويض آمون، المفروض أن تحمله، وأين رسالة كبير كهنة آمون المفروض أن تكون في يدك؟ فأجابه بأنه ترك رسائله لدى نس بانب جدة وتانت آمون - فامتعض الأمير وقال له: ما من تفويض ولا رسالة معك، فأين سفينة "نقل" الأرز التي خصصها لك نس بانب جدة إذن؟ وأين بحارتها السوريون؟ ألا يكون "قد خدعك" ووضعك في سفينة أجنبية كي يقتلك ولكي يلقوا بك في البحر؟ فمن كان ينقذك ومن كان يجد الرب؟

وأبى ونآمون أن يقبل التعريض به وبكرامة ربه بلده فقال: الواقع أنها سفينة مصرية، بل هو أسطول مصري تحت طاعة نس بانب جدة، وليس لديه بحارة سوريون.

فجادله الأمير قائلًا: والواقع كذلك أنه ترسو هنا في مينائي عشرون سفينة تتعامل مع نس بانب جدة "بما يعني أن نس بانب جدة كان يستطيع أن يرسله على إحداها"، كما أن في صيدا الميناء الأخرى التي مررت بها خمسين سفينة تتعامل مع وركاترا "وهو أمير غير معروف، وإن كان ساميًّا أمكن اعتبار اسمه تحريفًا لاسم وركة إيل - ولو أن الباحث ألبريت يعتبره من أمراء الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى".

وأسقط في يد ونآمون فلزم الصمت حتى قال له الأمير: وأي مهمة هذه التي أتيت من أجلها؟ فقال له: من أجل أخشاب مركب آمون رع الفخيمة العظيمة، أتيت، وما فعله أبوك وأبو أبيك سوف تفعله. وأضاف ونآمون في روايته: هكذا قلت له، كأنه يعتز بجرأته في مواجهته.

ولكن الأمير ظل على صلفه قائلًا: حقًّا لقد وفروها، فإذا دفعت "الثمن" وفرتها أنا أيضًا. فهم قد فعلوا ذلك من بعد أن أرسل الفرعون "ذات مرة" ست سفن محملة بمنتجات مصرية ضمت إلى مخازنهم، فما الذي أتيت به أنت إلي؟ واستحضر الأمير سجلًّا لأسلافه، وأمر بأن يقرأ أمام ونآمون، فتأكد أنه تضمن ذكر ألف دين فضة وبضائع من كل نوع.

واسترسل الأمير قائلًا: أما عن حاكم مصر فحتى إن كان سيد ما أملك وكنت أنا كذلك خادمه - فإنه ليس بمجرد القول أن نفذ مهمة آمون، وإنما اعتاد أن يرسل فضة وذهبًا، وكانت الهدايا الملكية تصل إلى أبي. أما عن نفسي، فلست خادمك ولا خادم من أرسلك.

ويلحظ هنا أن الأمير لم يذكر حاكم مصر بلقب الفرعون أو الملك، وأخذ من ثم يعرض بونآمون وبمن أرسله على اعتبار أنه ليس مرسلًا من قبل ملك مصر الشرعي.

واسترسل الأمير في صلف قائلًا: فإني إذا صحت في لبنان تفتحت السماء وإذا بالألواح هنا على شاطئ البحر "يعني بهذا قوة نفوذه في بلده وأن السماء لن تبخل عليه بالأمطار التي يستعان بسيولها على دفع أخشاب الأشجار من الغابات إلى ساحل البحر". فقدم لي إذن السفن والحبال لشحنها وسوف أعطيك إياها، وإلا غرقت السفن وهلكت وسط البحر. ثم تطلع هنا: إن آمون رعد في السماء من بعد أن وضع الإله ست إلى جانبه، وإن آمون خلق العالم بعد أن أوجد ابتداء أرض مصر التي أتيت منها. وهكذا ولكي يتم الوصول إلى البلد الذي أوجد به خرجت المهارة منها، ولكي يجري بلوغ المكان الذي أوجد به صدر العلم منها. فما هدف هذه الرحلات الساذجة التي كلفت بأدائها؟ "وكأنه يقول إنه وإن صح أن المهارة والمعرفة ترجعان أصلًا إلى مصر فإن خالق البلاد كلها واحدًا، وهو وإن ميز مصر ابتداء بما ميزها به فقد كان ذلك لخير جبيل التي يتولى أمرها. وإذا كانت مصر قد اعتادت من قبل أن تصدر المهارة والمعرفة - فما بال ونآمون قد خرج منها إذن في حال بئيسة؟ ".

وهنا بلغ الاعتزاز بالقومية مداه عند ونآمون فاستجمع جأشه ولياقته ورد قائلًا:

"هذا خطأ، فما هي برحلات غبية، وما من سفينة على النهر لا تتبع آمون، والبحر بحره، ولبنان أرضه التي تقول إنها تتبعك، ومن أجل آمون وسرحات سيدة كل السفن تنمو الغابات على الجبال. وقد قال آمون حقًّا وصدقًا لمولاي حريحور ابعثه - وقد أوفدني بهذا الإله الجليل، وها أنت قد تركت هذا الرب العظيم ينتظر 29 يومًا في مينائك هذه، وأنت تعلم أنه هنا- وتلك مشيئته. وها أنت تجادل على تجارة لبنان مع آمون مولاها. أما عن قولك إن الملوك السابقين أرسلوا الفضة والذهب، فإنهم إن ملكوا الحياة والعافية ما أرسلوا ما أرسلوه من منتجات، فعوضًا عن الحياة أرسلوا البضائع إلى آبائك. وههنا آمون رع ملك الآلهة، وهو رب الحياة والعافية ورب آبائك وقد قضوا العمر يتوددون إليه - فما أنت إلا خادم لآمون، وإذا نويت أن تنفذ وأتممت رسالته فلسوف تحيا وتسعد ويعم الخير على كل أرضك وشعبك، فلا تطمع لنفسك فيما هو ملك آمون رع ملك الأرباب، فالأسد حقًّا يتطلع إلى ما في يده ... ، ومع ذلك استحضر لي كاتبًا أوفده إلى نس بانب جدة وتانت آمون، الشركة التي وضعها آمون في شمال أرضه، ولسوف يرسلان ما هو لازم، ويكفي أن أرسل لهما هذه العبارات: "أرسلاه "أي ثمن الأخشاب" إلى أن أرجع إلى الجنوب ولسوف أعمل حينذاك على رد ما لكما من دين".

وهكذا أرضى ونآمون كرامته ودافع عن ربه وعن قوميته وظل عزيز النفس وهو وحيد في مواجهة الأمير مما كان له وقعه في نفسه فأرسل مع كاتبه ورسالة ونآمون سبعة ألواح من متطلبات سفينة آمون، إلى مصر عربونًا على حسن نواياه.

وعاد الرسول من مصر إلى لبنان في الشهر الأول من الفصل الثاني، وقد أرسل معه نس بانب جدة وتانت آمون من الذهب أربع أوانٍ وصحفة، ومن الفضة خمس أوانٍ، وعشرة كساوي من كتان بيسوس الملكي، وعشر غلالات من كتان الصعيد الرقيق الجيد، و500 حصيرة فاخرة، و500 جلد "أو مؤخرة ثور"، و500 حبل "أو لفافة بردي"، و20 غرارة عدس، و30 سلة سمك، كما أرسلت تانت آمون لونآمون شخصيًّا خمس كساوي وخمس غلالات من نسيج الصعيد الرقيق الجيد، وغرارة عدس، وخمس سلال سمك. "ويبدو أن السمك هنا كان من السمك المجفف أو المملح الذي اشتهرت مصر به إلى جانب العدس والفول والكتان والبردي والمصنوعات المعدنية الفاخرة".

وقر الأمير عينًا وخصص 300 رجل و300 ثور وعين عليهم رؤساء لإسقاط الأشجار من الغابات فقضوا فصل الشتاء هناك، وعندما جفت الأخشاب نقلوها في الشهر الثالث للصيف إلى شاطئ البحر. واحتفى الأمير بهذه المناسبة ودعا ونآمون، ولكن ظلت للمشاكل التي واجهته بقية. فحين جاور الأمير غطاه ظل مظلته التي شكلت على هيئة زهرة اللوتس المصرية، فغار منه ساقي الأمير، وكان للأسف ذا اسم مصري وهو بن آمون، ولعله كان لبنانيًّا ولد في مصر أو من أب مصري، فنحاه وسخر منه قائلًا ها قد سقط عليك ظل مولاك الفرعون. فأظهر الأمير استياءه وقال له دعه لحاله، وإن ظل يضمر نية المضايقة لونآمون حيث قال له: ها قد رأيت أن المهمة التي أداها أبي من قبل أديتها، ولو أنك لم تؤدِ لي ما أداه آباؤك لآبائي، وقد وصلتك آخر أخشابك ووسقت، فافعل ما آمرك به واشحنها ولا تذهب مراعيًا فقط انقلاب البحر فإنك إذا راعيته وحده فسوف تواجه غضبي، والواقع أني لم اتخذ معك ما وقع لرسل خعمواسة حينما قضوا 17 سنة في هذه البلاد وماتوا فيها. ثم قال لساقيه خذه يرى قبرهم الذي يرقدون فيه.

وأجفل ونآمون قائلًا: لا تدعني أراه، وأما عن خعمواسة "ورجاله" فإنهم بشر أولئك الذين أرسلهم إليك، وهو نفس بشر، وليس أمامك الآن واحد منهم لتقول له اذهب لترى رفقاءك. "ويرى ألن جاردنر أن خعمواسة هو رمسيس الحادي عشر ولعله أرسل رسله هؤلاء في بداية حكمه، وسواء ذكره أمير جبيل باسم خعمواسة فعلًا دون لقب الملك، أم أن ونآمون تعمد أن يذكره به لعدم ولائه له، فإن كلا الأمرين يعني ضعف نفوذه وسمعته كملك كما يعني الاعتقاد ببشرية الفرعون على الرغم مما ادعته النصوص التقليدية له من ألفاظ التقديس والألوهية".

واسترسل ونآمون قائلًا: "ومن حقك أن تسعد إذا وجد لك نصب تقول عليه: أرسل إلى آمون رع ملك الآلهة "آمون على الطريق" رسوله "له الحياة والعافية والسعادة" وونآمون رسوله البشري، من أجل أخشاب مركب آمون رع ملك الآلهة؛ الفخيمة المعظمة، فنفذت ذلك وأرسلتها إليه بسفني وبحارتي وجعلتهم يصلون إلى مصر ليسألوا لي 50 عامًا من آمون فوق نصيبي "من الحياة"، وقد يسعدك الحظ يومًا فيأتي رسول من أرض مصر يعرف كتابتك ويقرأ اسمك على النصب "فيدعو لك بدعائنا" ولسوف تتلقى حينئذ ماء الغرب كالأرباب الذين يوجدون فيه، وأردف الأمير مؤمنًا على قوله أو متهكمًا بما قد يعني: هذه لفتة حق قلتها لي.

وأضاف ونآمون: أما عن كل ما ذكرته لي فإني إذا بلغت بلدي حيث يوجد كبير كهنة آمون ورأى بضاعتك، "فإن بضاعتك هذه هي التي سوف تجلب الخير لك".

ومضى ونآمون على شاطئ البحر حيث الأخشاب موسقة، ولكنه لمح لسوء حظه أحد عشر بحارًا من الثكر يتجهون إليه من ناحية البحر وهم يصيحون اعتقله ولا ترسل معه شاحنة إلى مصر. وهنا فاض الكيل بالرجل فجلس ودمعت عيناه، فقال له كاتب رسائل الأمير، وماذا بعد؟ فقال وفي نفسه غصة من طول تعويقه وبقلبه أمل وشوق للعودة إلى بلده: لا شك أنك رأيت الطيور المهاجرة وقد انطلقت إلى مصر مرتين، فانظر إليها وهي تهرع إلى بلد الماء الزلال، وأنا إلى متى أظل مهملًا هنا، وها قد رأيت من أتوا ليعتقلوني؟

ورجع الكاتب إلى الأمير وأخبره بالخبر، فأسف الأمير على ما سمع، وأراد أن يهون على ونآمون، فأوفد كاتبه إليه بزقي خمر وشاة، وبعث إليه بمغنيته المصرية تانت ني قائلًا لها: غنِّ له ولا تدعيه ينعي همًّا "وكان لبعض المصريات شهرة بالإنشاد الديني. ومنهن من كانت تشغل منصب كبيرة منشدات معبد بتاح في منف، وإذا صح أن تلك المغنية أو المنشدة كانت مصرية حقًّا وتشدو بلغتها فإن هذا يؤكد ما أسلفناه من قبل عن معرفة بعض أهل كل من مصر والشام بلغة بعضهم البعض، ليس في مجال المصالح التجارية والسياسية فحسب بل وفي مجالات الفنون مثلما يحدث الآن". وأرسل الأمير إلى ونآمون قائلًا، اطعم واشرب ولا تنع همًّا، ولسوف تسمع ما سوف أبلغك به غدًا. وفي الغد استدعى أعضاء مجلسه وتوسطهم مخاطبًا الثكر: ما هدفكم؟ فقالوا إنما أتينا نتتبع البحارة الذين تريد أن توفدهم إلى مصر مع من تطلبه. فقال لهم أما عن نفسي فلا أستطيع أن أعتقل رسول آمون في أرضي، فدعوني أرسله بعيدًا ولكن أن تتبعوه وتعتقلوه إن أردتم.

ورحل ونآمون بالسفينة في البحر حتى ألقته الرياح على أرض "جزيرة" أرس "أو الأسيا وهي قبرص". وكان كالمستجير من الرمضاء بالنار إذ اجتمع أهل المدينة ليقتلوه، ولكنه شق طريقه بينهم إلى حيث صادف "هاتيبا" أميرة أرس وهي تنتقل من أحد قصورها إلى قصر آخر، فحياها وقال لمن كانوا حولها لا بد أن بينكم من يفهم اللغة المصرية. ولحسن حظه قال أحدهم أعرفها، فقال له قل لسيدتي إني كنت أسمع في المدينة "طيبة" مقر آمون أنه وإن اتبع الظلم في كل بلد، فالعدالة تتبع في أرس، أفلا يتبع العدل هنا كل يوم؟ فقالت الأميرة "عن طريق مترجمها" ما معنى قولك؟ فقال أعني أنه إذا كانت أمواج البحر والرياح قد ألقتني هنا حيث توجدين، فيجب ألا تتركيهم يأخذوني ليقتلوني. فإنما أنا رسول آمون، وأنا مطلوب وإن طال الأمر. وراع بحارة جبيل الذين يودون قتلهم معي، فهؤلاء لا بد أن مولاهم سوف يقتل بهم عشرة من بحارتك. وجمعت الأميرة قومها فاصطفوا، وقالت له اقض الليل ههنا ... ". وهنا انتهى الجزء المدون من القصة على بردية يحتمل العثور عليها في منطقة اللشت في أواخر القرن الماضي، واقتناها الباحث الروسي فيلاديمير جولنشف وأهداها إلى متحف موسكو(28).

وعلى هذه الحال في الداخل وفي الخارج، انتهت أيام الأسرة العشرين بعد أن وليت أمور مصر 97 عامًا، وانتهت بختامها عصور الرعامسة وإن بقيت ذكراها خالدة بحلوها ومرها في آثارها ووثائقها.

__________

(1)  Pap. Harris, 75, 2-5; Ancient Records, Iv, 398 F.; Anet, 260; And See W. Helck, Zdmg, 1955, 27 F.

(2)  Edgerton And Wilson, Historical Records Of Ramses Iii, 1936, 19 F.; Oriental Institute Publications, Vols. Viii-Ix, Pls. 27-28.

(3) Ibid., Pl. 34; Pap. Harris, 76, 11 F.

(4) Oriental Institute, Op. Cit., Pl. 32 F.

(5) Ibid. Pl. 37 F.

(6) Edgerton And Wilson, Op. Cit., 25 F.

(7)  Oriental Institute…, Op. Cit., Pls. 32-24.

(8) See, Nelson, Jnes, 1943, 40 F.

(9) Cf., Wainwright, Jea, Xxv, 148 F.; Hall, In Rec. Champ., 300 F.; In Klio, Xxii, 366; Gurney, the Hittites, 1952, 51 F.; Weinberg. Ed., the Aegean and the Near East, 1956.  وراجع ص230

(10) Orienal Institute, Op. Cit., Pls. 62 F., 80 F.; Edgerton and Wilson, Op. Cit., 59 F., 74 F.

(11) Pap. Harris, I, 76, 11 F. 78, 10.

(12) Gardiner, Wilbour Pap., Ii, 80 F.; Jea, 1941, 47.

(13)  Cf., Nelson, Jaos, Lvi, No. 2, 232 F.

(14)  Anc. Records, IV, 219, 226, 384; A. Rowe. The Topography of Beth-Shan, Pl. 51;

G. Loud, The Megiddo Ivories, Ii F.; W. Helck. Op. Cit.

(15) Anc. Recods, IV, 397 F.

(16) Ibid., 225, 281, 338.

(17)  Ancient Records, Iv, 416 F., 454, 469 F.; Jea, Xxiii, 152 F.; Zaes, Lxxii, 109 F.; Bifao, 107 F.; Jea, Xlii, 8, 9.

(18) Anc. Records, Iv, 151 F., 224, 226, Etc.; Erman, Zur Erklarung Des Pap. Harris; Erichsen, Papyrus Harris, 1933; H. Cheadle, Die Listen Des Grossen Papyrus Harris 1936; Lefebvre, Historie De Grands Pretres D'amon, 1929; Jea, X, 116 F.; Rev. D'eg., Vii, 35 F.; Bibl. Eg., 1939. 69 F.; Jea, 1941, 19 F., 72 F.

أدولف إرمان وهرمان رانكه: مصر والحضارة المصرية - ص320+؛ جون ولسون: الحضارة المصرية - معرب - ص439+

(19) Jnes, 137; Gardiner, Ramesside Administrative Documents, 1948, 49 F.

(20) See, Peet, Jea, X, 166 F.; Xi, 72 F.; Xiv, 52 F.; Parker, Rev. D'egyptol, 1957, 163 F.

(21) Spiegelberg, Arbeiten Und Arbeiterbewegung… Unter Dem Ramessiden, 1895; Botti-Peet, Ll Giornale Della Nacropoli Di Tebe, 1928; Jea, Xii, 258 F.; Archiv Oirentalni, 1933, 137 F.; Jnes, 1951, 137 F.; Gardiner, the Wilbour Pupyrus, 1948-1952.

(22) Peet, The Mayer Papyri, 1920; The Great Tomb-Robberies, 1930; Capart And Gardiner, Le Pap. Lepold Ll…, 1939; Van De Walle, Jea, Xxiv, 59 F.; Wainwright, Jea, Xxiv, 59 F.

(23)  Peet, Jea, Xii, 254 F.; Sethe, Zaes, 59, 06 F.; Lefebvre, Inscriptions Concernant Les Grads Pretres D'amon, 1929; Kees, Herihor Und Die Aufrichtung Des Gottesstaates, 1936, 4 F.

(24)  يفترض الأستاذ كيس أن حريحور كان مناصرًا لبانحسي، بينما يفترض الأستاذ جاردنر أنه كان صهرًا لخصمه أمنحوتب - راجع الحاشية رقم 2 بالصفحة التالية.

(25)  Millard, Iraq, Xxxii, 1970, 168-9.

(26) Lefebvre, Op. Cit., 205 F., 272 F.; Jea, Xv, 194 F.; Zaes, 1930, 129 F.; Jnes, 1948, 157 F.; Kees, Herihor Und Die Aufrichtung Des Gottesstaates, 1936; Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 1961, 302 F.

والغريب أن ياروسلاف تشرني مساعد الأستاذ جاردنر قد كرر آراءه في المرجع السابق عن شخصية حريحور وزمنه في مقال تال عام 1965 دون أن يشير معها إلى اسم أستاذه الذي كان قد توفي ذلك الحين.

See, The Cambridge Ancient History, Revised Edition Of Vol. I, Ch. Xxxv, 1965, 32 F.

(27) Gardiner, Late Egyptian Stories, 61 F.; J. Wilson, In Anet. 25 F.; Lefebvre, Chr. D'egypte, 1936, 97 F.

وعن توقيت قصة ونآمون بنهاية عصر الأسرة العشرين، وليس بعصر الأسرة الحادية والعشرين كما كان شائعًا بين المؤرخين:

See, Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 306 F.

(28) W. Golenischeff, Recueil Des Travaux…, Xxi, 74-102; A.H. Gardiner, Late Egyptian Stories. 1932, 61-76; G. Lefebvre. Chr. D'egypte. 1936, 97 F.; Wilson. Anet. 25 F.; M.A. Korostovstev, The Vayage Of Wenamon To Byblos "In Russian", 1960; E.F. Wente, Jnes, 26 "1967", 174-175; F. Nims, Jea, 54 "1968", 163-164; W.K. Simpson And Others, The Literature Of Ancient Egypt, 1973, 142 F.




العرب امة من الناس سامية الاصل(نسبة الى ولد سام بن نوح), منشؤوها جزيرة العرب وكلمة عرب لغويا تعني فصح واعرب الكلام بينه ومنها عرب الاسم العجمي نطق به على منهاج العرب وتعرب اي تشبه بالعرب , والعاربة هم صرحاء خلص.يطلق لفظة العرب على قوم جمعوا عدة اوصاف لعل اهمها ان لسانهم كان اللغة العربية, وانهم كانوا من اولاد العرب وان مساكنهم كانت ارض العرب وهي جزيرة العرب.يختلف العرب عن الاعراب فالعرب هم الامصار والقرى , والاعراب هم سكان البادية.



مر العراق بسسلسلة من الهجمات الاستعمارية وذلك لعدة اسباب منها موقعه الجغرافي المهم الذي يربط دول العالم القديمة اضافة الى المساحة المترامية الاطراف التي وصلت اليها الامبراطوريات التي حكمت وادي الرافدين, وكان اول احتلال اجنبي لبلاد وادي الرافدين هو الاحتلال الفارسي الاخميني والذي بدأ من سنة 539ق.م وينتهي بفتح الاسكندر سنة 331ق.م، ليستمر الحكم المقدوني لفترة ليست بالطويلة ليحل محله الاحتلال السلوقي في سنة 311ق.م ليستمر حكمهم لاكثر من قرنين أي بحدود 139ق.م،حيث انتزع الفرس الفرثيون العراق من السلوقين،وذلك في منتصف القرن الثاني ق.م, ودام حكمهم الى سنة 227ق.م، أي حوالي استمر الحكم الفرثي لثلاثة قرون في العراق,وجاء بعده الحكم الفارسي الساساني (227ق.م- 637م) الذي استمر لحين ظهور الاسلام .



يطلق اسم العصر البابلي القديم على الفترة الزمنية الواقعة ما بين نهاية سلالة أور الثالثة (في حدود 2004 ق.م) وبين نهاية سلالة بابل الأولى (في حدود 1595) وتأسيس الدولة الكشية أو سلالة بابل الثالثة. و أبرز ما يميز هذه الفترة الطويلة من تأريخ العراق القديم (وقد دامت زهاء أربعة قرون) من الناحية السياسية والسكانية تدفق هجرات الآموريين من بوادي الشام والجهات العليا من الفرات وتحطيم الكيان السياسي في وادي الرافدين وقيام عدة دويلات متعاصرة ومتحاربة ظلت حتى قيام الملك البابلي الشهير "حمورابي" (سادس سلالة بابل الأولى) وفرضه الوحدة السياسية (في حدود 1763ق.م. وهو العام الذي قضى فيه على سلالة لارسة).





جامعة الزهراء (عليها السلام) تكرم قسم الشؤون الفكرية بمناسبة اليوم العالمي للكتاب
قسم شؤون المعارف يقيم ندوة علمية حول جهود علماء البصرة في نشر الحديث
قسم الشؤون الفكرية يختتم برنامجاً ثقافياً لوفدٍ من جامعة البصرة
جامعة الكفيل تعقد ورشة عمل عن إجراءات عمل اللجان الامتحانيّة