المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني  
  
2160   07:12 صباحاً   التاريخ: 4-12-2019
المؤلف : ناصر الدين الأسد
الكتاب أو المصدر : مصادر الشعر الجاهلي
الجزء والصفحة : ص:187-221ج1
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الجاهلي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-03-2015 15838
التاريخ: 23-03-2015 4460
التاريخ: 22-03-2015 2525
التاريخ: 23-03-2015 4660

 

اتصال الرواية من الجاهلية حتى القرن الثاني :

-1-
والرواية، بمدلولها العلمي الأدبي، طور لغوي متأخر، سبقه -فيما نرى- طور ذو دلالة مادية حسية، نحسبها كانت في بدء أمرها محصورة فيما يتصل بالماء من إناء يحمل فيه كالمزادة، ومن حيوان يحمل عليه كالبعير، ومن إنسان يحمله مستقيًا أو متعهدًا دابة السقاية.(1) قال لبيد من أبيات(2).
فتولوا فاترًا مشيهم ... كروايا الطبع همت بالوحل
فالروايا من الإبل: الحوامل للماء، واحدتها: راوية.
وقال الأعشى(3):
وتقواده الخيل حتى يطو ... ل كر الرواة وإيغالها
فالرواة هنا: من يقومون على الخيل، مفردها: راوٍ
ثم صارت الرواية تطلق على مطلق الحمل، والراوية على الدابة التي تتخذ لحمل المتاع إطلاقًا، كقول زهير(4):
يسيرون حتى حبسوا عند بابه ... ثقال الروايا والهجان المتاليا
(1/187)

فالروايا هنا: الإبل التي يحمل عليها المتاع إطلاقًا.
ومن مجاز هذا الحمل: حمل الديات، كقولهم: "إن فلانًا لراوية الديات" أي: حاملها، و"بنو فلان روايا الحمالات". قال أبو شأس(5):
ولنا روايا يحملون لنا ... أثقالنا إذ يكره الحمل
وقال الكميت:
وكنا قديمًا روايا المئين ... بنا يثق الجارم المبسل
ثم صارت الروايا تدل على السادة؛ لأنهم يقومون بأعباء غيرهم ويحملون عنهم أثقالهم.
قال رجل من بني تميم -وذكر قومًا أغاروا عليهم- "لقيناهم فقتلنا الروايا، وأبحنا الزوايا" أي: قتلنا السادة وأبحنا البيوت(6).
ومن مجاز هذا الحمل أيضًا: حمل الشعر أو الحديث، فقالوا: فلان راوية للأدب والشعر، وراوٍ للحديث. وراوية الشعر في الجاهلية هو من يحمل شعر الشاعر وينقله ويذيعه، قال النابغة الذبياني(7):
ألكني يا عيين إليك قولا ... ستهديه الرواة إليك عني
وقال عميرة بن جعل -وكان قد هجا قومه بني تغلب ثم ندم(8)-:
ندمت على شتم العشيرة بعد ما ... مضت واستتبت لرواة مذاهبه
فأصبحت لا أستطيع دفعًا لما مضى ... كما لا يرد الدر في الضرع حالبه
(1/188)

وقال حميد بن ثور(9):
لأعترضن بالسهل ثم لأحدون ... قصائد فيها للمعاذير زاجر
قصائد تستحلي الرواة نشيدها ... ويلهو بها من لاعب الحي زامر
وقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "بأبي أنت، ما أنت بشاعر ولا راوية، ولا ينبغي لك". ولما حضرت الحطيئة الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا(10): "يأبا مليكة، أوص". فقال: "ويل للشعر من راوية السوء".
وذلك كله إنما الأصل فيه هو الماء: حمله وحامله من رجل أو دابة. غير أن هذا الضرب الأخير من المجاز، وهو الحمل الأدبي، قد مر كذلك، فيما يبدو، في مرحلتين: الأولى خاصة بالشعر وحده، وتعني مجرد حفظه ونقله وإنشاده، ولا تتجاوز ذلك إلى ضبطه وتحقيقه والنظر فيه وتمحيصه. واستمر مدلول هذه المرحلة الأولى في تاريخ الرواية الأدبية حتى آخر القرن الأول وبداية القرن الثاني. قال محمد بن المنكدر "التميمي المدني المتوفى سنة 130"(11): "ما كنا ندعو الرواية إلا رواية الشعر، وما كنا نقول هذا يروي أحاديث الحكمة إلا عالم".
فلما أُصلت أصول علم الحديث، وأرسيت قواعده، وعُني فيه بالإسناد، وتصدر المحدثون للتحديث في مجالس العلم من حفظهم، صار يطلق عليهم أيضًا لفظ الرواية، فصرنا نجد المحدثين، في آخر القرن الثاني، رواة كما كان للشعراء رواة، ومنهم "النضر بن طاهر راوية مالك بالبصرة"(12).
ومن هنا دخلت الرواية الأدبية في طورها الثاني، وهو ما يصح أن نطلق
(1/189)

عليه دور الرواية العلمية. وهي تقوم على الحفظ والنقل والإنشاد، كالرواية المجردة في دورها الأول، وأضيف إليها الضبط والإتقان والتحقيق والتمحيص والشرح والتفسير وشيء من الإسناد، كما سيمر بنا في الفصل التالي عند حديثنا عن طبقات الرواة، وفي الفصل الثالث حين نتحدث عن الإسناد في الرواية الأدبية. وهذا الدور من الرواية الأدبية هو الذي قامت فيه مجالس العلم والدرس، وصار لهذه المجالس شيوخ يتصدرون، وتلاميذ يستمعون ويقرءون، وكانت لهذه الرواية العلمية - على ما بينَّا طرفًا منه - دعامتان: القراءة من الكتاب، والسماع من الشيخ.
وما ذكرناه في الباب الأول من أمر الكتابة والتدوين بعامة، وكتابة الشعر وتدوينه بخاصة، ثم ما ذكرناه بعد ذلك من أمر اتصال العلماء الرواة في القرن الثاني بالمدونات السابقة واستمدادهم منها، كل ذلك حديث موهم، قد يحمل محملًا فيه سعة وتعميم لم نقصد إليهما. ومن هنا ينبغي لنا أن نقرر أمورًا ثلاثة يستقيم بها للبحث وجهه، الأول: أن هذا التدوين الذي ذكرناه -على ما كان من وجوده بل انتشاره- لم يكن له من سعة هذا الانتشار ما يتيح وجود نسخ كثيرة من الديوان الواحد تفي بحاجة القارئين آنذاك. وأن ذيوع شعر الشاعر أو أخبار القبيلة ومآثرها لم يكن قائمًا على القراءة من الديوان أو الكتاب، وإنما كان يقوم على الرواية الشفهية من فرد إلى فرد ومن جيل إلى جيل. أجل، لقد كان هذا الشعر أو بعضه مدونًا -كما بينَّا- ولكن تدوينه كما مقصورًا على نسخة واحدة -هي الأم أو المرجع- أو على نسخ قليلة محدودة ينسخها أفراد قلائل من الرواة أو الشعراء أو أبناء قبيلة الشاعر أو الممدوحين من السادة والأشراف، ثم يحفظ هؤلاء جميعًا، أو بعضهم، هذا الشعر، ويتناقلونه إنشادًا -لا قراءة- في مجالسهم ومشاهدهم وأسواقهم، ويرددونه شفاهًا في سمرهم ومحافلهم ومنافراتهم ومواقف فخرهم فيشيع بين العرب، ويتناقله الركبان، عن هذا الطريق من الرواية الشفهية، لا عن طريق القراءة والمدرسة من الكتاب

(1/190)

أو الديوان. وذلك أمر طبيعي عند العرب وعند غيرهم، في تلك العصور وفي العصور التي تلتها إلى عهد قريب حينما اكتشفت الطباعة فيسرت كتابة النسخ الكثيرة من الكتاب الواحد.
وأما الأمر الثاني فيتصل بالأمر الأول، وذلك أن رواة الشاعر نفسه -وهم أول من يسمع شعر الشاعر وأهم وسيلة من وسائل نشر شعره وإذاعته- هؤلاء الرواة كانوا يكتبون شعر الشاعر حقًّا، ويحفظونه في صحف ودواوين، ولكنهم مع ذلك يحفظون هذا الشعر في صدورهم وذاكرتهم، وينقلونه في المجالس والمحافل إنشادًا لا قراءة من صحف. وقد كان ذلك كذلك في جميع العصور الإسلامية: فقد كان جرير يريد أن يهجو بني نمير، فأقبل إلى منزله وقال للحسين راويته(13): زد في دهن سراجك الليلة وأعدد ألواحًا ودواة. قال: ثم أقبل على هجاء بني نمير، فلم يزل حتى ورد عليه قوله:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا
فقال جرير للحسين راويته: "حسبك أطفئ سراجك، ونم، فقد فرغت منه" يعني قتلته.
وهجت بنو جعفر بن كلاب قوم الفرزدق، فأراد أن يهجوهم، ولكنه قال(14): "والله ما أعرف مثالبهم ولا ما يهجون به". فبينا هو كذلك إذ قدم عمر بن لجإ التيمي البصرة، فنزل في بني عدي في موضع دار أعين الطيب. فقال الفرزدق لابن متويه -وكان راوية الفرزدق وكان يكتب شعره-: "امض بنا إلى هذا التيمي. قال: فخرجنا حتى وقفنا على الباب الذي هو فيه، فاستأذنا، وعند ابن لجإ فتيان من بني عدي يكتبون فخره بالرباب ... ".
وهذا شيخ من هذيل، كان خالًا للفرزدق من بعض أطرافه، يقول(15):
(1/191)

" ... فجئت الفرزدق.... ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره، فأخذت من شعره ما أردت.. ثم أتيت جريرًا ... وجئت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد، فأخذت ما أردت..".
ومع ذلك فقد كان هؤلاء الرواة -على كتابتهم للشعر في الدواوين وحفظهم إياه في الصحف- ينشدون الشعر إنشادًا ويذيعونه بين الناس والقبائل عن طريق الرواية الشفهية، ومن أجل ذلك قال جرير(16):
وعاوٍ عوى من غير شيء، رميته ... بقافيةٍ أنفاذها تقطر الدما
خروجٍ بأفواه الرواة كأنها ... قرى هندواني إذا هز صمما
وقال الفرزدق(17):
تغنى يا جرير لغير شيء ... وقد ذهب القصائد للرواة
فكيف ترد ما بعُمان منها ... وما بجبال مصر مشهرات
وأمر ثالث يكمل سابقيه، وهو متصل بهؤلاء العلماء الرواة الذين عاشوا في نهاية القرن الثاني ومطلع الثالث والذين حفظوا لنا هذا الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا. فقد ذكرنا من أمر تدوينهم للشعر وأخذهم بعضه من الدواوين والكتب التي دونت قبلهم ما لا حاجة بنا إلى إعادة القول فيه، ولكنا نريد أن نقول إنهم، مع ذلك، كانوا ينقلون بعض الشعر الجاهلي والأخبار الجاهلية في مجالسهم نقلًا شفهيًّا. والأمثلة على ذلك كثيرة حسبنا أن نشير إلى بعضها. فقد مر بنا أن كتب ابن الأعرابي كانت كثيرة وأن رسولًا لأحد ذوي السلطان جاءه يستدعيه فقال له ابن الأعرابي: عندي قوم من الأعراب
(1/192)

فإذا قضيت أربي معهم أتيت. قال الغلام: "وما رأيت عنده أحدًا إلا أني رأيت بين يديه كتبًا ينظر فيها، فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة". ابن الأعرابي هذا -على أخذه من الكتب- يقول عنه ثعلب(18): شاهدت ابن الأعرابي، وكان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، كل يسأله أو يقرأ عليه, ويجيب من غير كتاب، قال: ولزمته بعض عشرة سنة ما رأيت بيده كتابًا قط، وما أشك في أنه أملى على الناس ما يُحمل على أجمال.
وقد كان ثعلب مثل أستاذه ابن الأعرابي "لا يُرى بيده كتاب، ويتكل على حفظه(19)" بينما كان معاصره أبو سعيد السكري "كثير الكتب جدًّا، وكتب بخطه ما لم يكتبه أحد، وكان إذا لقي الرجال يفارقه كتاب(20)".
وكان هؤلاء العلماء يأخذون عن الأعراب، وقد يرحلون إلى البادية وراء الأعراب، أو يفد هؤلاء الأعراب إلى الأمصار ليتكسبوا بما يأخذه عنهم العلماء.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره ثعلب من أن أبا عمرو الشيباني "دخل البادية ومعه دستيجتان من حبر فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب(21)".
وكان هؤلاء العلماء قد يأخذون أيضًا عن غير الأعراب من الرواة وأصحاب الأخبار أخذ سماع من أفواههم لا أخذ قراءة من كتبهم. ومن أمثلة ذلك أن الجاحظ -على ما هو معروف عنه من كثرة جمعه للكتب وشغفه بها ونقله منها في كتبه(22)- كان يكتب كثيرًا مما يورده في كتبه إما من السماع وإما من
(1/193)

حفظه فهو يقول(23): "وقد جمعت لك في هذا الكتاب جملًا التقطناها من أفواه أصحاب الأخبار"، وهو يورد بيتًا ثم يقول(24): "وهي أبيات لم أحفظ منها إلا هذا البيت".
ومن أمثلة ذلك أيضًا ما ذكره أحمد بن عبيد الله بن عمار قال(25): "كنا نختلف إلى أبي العباس المبرد، ونحن أحداث، نكتب عن الرواة ما يروونه من الآداب والأخبار ... فانصرفنا يومًا من مجلس أبي العباس المبرد وجلسنا في مجلس نتقابل بما كتبناه ونصحح المجلس الذي شهدناه ...
وقد أوردنا هذه الأمثلة -على الأمور الثلاثة كلها- من عصور مختلفة تشمل القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وهي تدل على أن الرواية الشفهية كانت تسير جنبًا إلى جنب مع الكتابة والتدوين، لا تعارض بينهما، ولا ينفي وجود أحدهما وجود الآخر. ومن هنا كان لا بد لنا -بعد أن استوفينا البحث، بالقدر الذي بلغه جهدنا، عن تدوين الشعر الجاهلي- من أن نعقد فصول هذا الباب الثالث عن الرواية الشفهية، حتى تتم بذلك الدعامتان اللتان قام عليهما حفظ الشعر الجاهلي وحمله، وهما: انقل من الكتاب، والسماع من أفواه الرواة.
-2-

أورد ابن سلام في طبقاته قول عمر بن الخطاب(26) "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه". ثم عقب عليه بقوله "فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته.
(1/194)

فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير".
وكلام ابن سلام هذا ثلاثة أشطر: آخرها حق، وموسطها باطل، وأولها يحتاج إلى فضل بيان يوضحه. أما الحق الذي لا مرية فيه فقوله "فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير". وسنعود في صفحات مقبلة إلى هذا القول ونفصل وجه الحق فيه. وأما الباطل الذي لم نعد نشك في بطلانه وفساده فهو هذا التعميم الواسع في قوله "فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب".
وقد كان في البابين الأول والثاني من هذا البحث من البيان والتفصيل ما نحسب أنه يُغنينا عن تكرار القول. وحسبنا أن نورد ثلاثة أمثلة من كتاب ابن سلام نفسه تنقض هذا القول، أو -على الأقل- تضييق ما فيه من تعميم واسع. فقد عام ابن سلام بعض العلماء قبله -أي علماء القرن الأول الهجري- باكتفائهم بالأخذ عن الدواوين المدونة والكتب المكتوبة، فنبزهم بأنهم صحفيون وذلك قوله عن الشعر القديم(27) "وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء. وليس لأحد -إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي". وقد قال عقب قوله السابق الذي أنكر فيه هذه المدونات(28): "وقد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح هو وأهل بيته به، فصار ذلك إلى بني مروان أو صار منه". ثم ذكر ابن سلام نفسه أنه رأى شعرًا جاهليًّا "في
(1/195)

كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة"(29). فإذا ما أضفنا إلى كلام ابن سلام ما فصلنا فيه القول في البابين الأول والثاني وضح لنا ما في قوله "فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب" من خلل وفساد.
وأما الشطر الثالث الذي يحتاج إلى فضل بيان يوضحه فهو قوله: "فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر.. وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل. ولا يستبين لنا خطر هذا القول إلا حين نتطرق إلى الحديث عن الشك في الشعر الجاهلي ونحله، في الباب الرابع من هذا الكتاب. ولا بد لنا قبل ذلك من أن نتساءل هنا: أحق أن العرب قد لهوا عن رواية الشعر في هذه الفترة من حياتهم، فغفلوا عنه، ونسوا ذكره، وأضربوا عن روايته؟ وإذا كان ذلك كذلك، فكم من السنين أو من القرون بلغت هذه الفترة؟ ثم أمن الحق أنهم حينما راجعوا روايته -إذا سلمنا بانقطاعهم عنها- ألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة لا بد لنا من استقراء تاريخي، نتتبع فيه حياة الرواية عند القوم مبتدئين بالمعالم الواضحة في منتصف القرن الثاني الهجري، ومتدرجين فيها إلى الوراء حتى نصل إلى أقصى ما نستطيع أن نصل إليه من معالم حياة الرواية الأدبية.
فإذا ما بدأنا بعهد بني أمية، وجدنا أن بعض القوم آنذاك كان يرى أن العلماء العارفين بالشعر الجاهلي قد ماتوا. ونحن نحسب أن هذا الضرب من الكلام موجود في كل عصر، وأنه لا يصح أن يحمل محملًا لفظيًّا قاطعًا، وإنما هو ضرب من التحسر على الماضي، وتمجيد القدماء، والإقرار بضعف الحاضر وعجزه إذا ما قيس بالقديم السابق عليه. فأبو عمرو بن العلاء حينما سئل
(1/196)

عن قول امرئ القيس(30).
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل
قال: ذهب من يحسنه.
وحين سئل عن قول الشاعر(31):
زعموا أن كل من ضرب العير ... موالٍ لنا وأنا الولاء
قال: مات الذين يعرفون هذا.
بل إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال على المنبر(32): "ذهب قوم يعرفون شعر أمية وكذلك اندراس الكلام!! " وبين الحجاج وأمية بن أبي الصلت نحو من ثمانين سنة!
وسنسوق في إيجاز بعض ما يكشف لنا عن عناية القوم، حتى منتصف القرن الأول، برواية الشعر الجاهلي وأخبار الجاهلية، وسنصرف أكثر كلامنا إلى زمن عبد الملك بن مروان ومعاوية أبي سفيان، ليكون ذلك أبعد زمنًا وأدل على ما نقصد إليه:
ذكر الأصمعي يومًا بني أمية وشغفهم بالعلم، فقال(33): "كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريدًا إلى العراق". وقال غيره: "كنا نرى في كل يوم راكبًا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة "توفي سنة 118" يسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس". وقال عامر بن عبد الملك المسمعي: كان
(1/197)

الرجلان من بني مروان يختلفان في بيت شعر، فيرسلان راكبًا إلى قتادة يسأله، ولقد قدم عليه رجل من عند بعض أولاد الخلفاء من بني مروان فقال لقتادة: من قتل عمرًا وعامرًا التغلبيين يوم قضة؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. قال: فشخص بها ثم عاد إليه فقال: أجل قتلهما جحدر، ولكن قتلهما جميعًا؟ فقال: اعتواره فطعن هذا بالسنان وهذا بالزج فعادى بينهما(34).
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج(35): أنت عندي كسالم. فلم يدر ما هو. فكتب إلى قتيبة يسأله، فكتب إليه: إن الشاعر يقول:
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين الأنف والعين سالم
ثم كتب إليه مرة أخرى: أنت عندي قدح ابن مقبل. فلم يدر ما هو. فكتب إلى قتيبة يسأله -وكان قتيبة قد روى الشعر- فكتب إليه: أن ابن مقبل نعت قدحًا فقال:
مفدى مؤدى باليدين ملعن ... خليع قداح فائز متمنح
خروج من الغمى إذا صك صكة ... بدا والعيون المستكفة تلمع(36)
وقال أبو عبيدة(37): حدثني قيس بن غالب عن مشيخة قومه أن عبد الملك بن مروان سأل رجالًا من بني فزارة كانوا عنده: من كان على الناس يوم النسار؟ قالوا: كانوا متساندين. قال: ويدخل أبو قشع -وكان أعلمنا-
(1/198)

فسأله عبد الملك عن ذلك فقال: والذي نفسي بيده يا خليفة للناس يوم النسار أطوع لحصن بن حذيفة من بعض غلمانك لك.
وقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث "توفي سنة 84" يذكر أخذه الشعر والنسب عن الشعراء والنسابين(38) "قدم عبد الملك -وكان يحب الشعر- فبعثت إلى الرواة، فما أتت عليَّ سنة حتى رويت الشاهد والمثل وفضولًا بعد ذلك.
وقدم مصعب "توفي سنة 73" وكان يحب النسب فدعوت النسابين فتعلمته في سنة. ثم قدم الحجاج وكان يدني على القرآن، فحفظته في سنة".
وتبدو لنا عناية عبد الملك بالشعر وروايته -فضلًا عما تقدم- في قوله لمؤدب ولده(39): "روهم الشعر، روهم الشعر، يمجدوا وينجدوا. وقال مرة لمؤدب أولاده(40): "أدبهم برواية شعر الأعشى فإن لكلامه عذوبة". وهل أدل على معرفة عبد الملك بالشعر الجاهلي معرفة دقيقة من قوله(41). إذا أردتم الشعر الجيد فعليكم بالزرق من بني قيس بن ثعلبة -وهم رهط أعشى بكر-، وبأصحاب النخل من يثرب -يريد الأوس والخزرج-، وأصحاب الشعف من هذيل "والشعف رءوس الجبال".
بل هل أدل على معرفة عبد الملك بشعر الجاهلية وأخبارها وعنايته بجمع ذلك مما أورده ياقوت في قوله(42): "كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: انظر لي رجلًا عالمًا بالحلال، عارفًا بأشعار العرب وأخبارهم، أستانس به وأصيب عنده معرفة، فوجهه إلى من قبلك. فوجه إليه الشعبي، وكان أجمع أهل زمانه، قال الشعبي: فلم ألق واليًا ولا سوقةً إلا وهو يحتاج إلي ولا أحتاج
(1/199)

إليه ما خلا عبد الملك، ما أنشدته شعرًا ولا حدثته حديثًا إلا وهو يزيدني فيه، وكنت ربما حدثته وفي يده اللقمة فأمسكها، فأقول: يا خليفة أسع طعامك، فإن الحديث من ورائه، فيقول: ما تحدثني به أوقع بقلبي من كل لذة، وأحلى من كل فائدة".
أما معاوية بن أبي سفيان فقد مرت بنا أطراف من عنايته بأخبار الماضين، وأيام العرب في جاهليتهم، وشعر شعرائهم. وذكرنا أنه كان له غلمان مرتبون يكتبون هذه الأحاديث في دفاتر ويقرءونها عليه في ساعات معينة من ليله. وكانت لمعاوية -فضلًا عن ذلك- مجالس ينشد هو ما يحفظ من الشعر فيها، ويستنشد من يحضر من الرواة والعلماء والأعراب، ويستمع فيها إلى أحاديث العرب وأخبارها. وقد قال مرة للنخار بن أوس(43): "ابغني محدثًا قال: ومعي يا خليفة تريد محدثًا! قال: نعم، أستريح منه إليه، ومنه إليك ... "
وقد التفت معاوية في أحد مجالسه إلى عبد الله بن الزبير وقال متمثلًا(44):
ورامٍ بعوران الكلام كأنها ... نوافر صبح نفرتها المرائع
وقد يدحض المرء الموارب بالخنا ... وقد تدرك المرء الكريم المصانع
ثم قال لابن الزبير: من يقول هذا؟ فقال: ذو الإصبع. فقال: أترويه؟ قال: لا. فقال: مَن هاهنا يروي هذه الأبيات؟ فقام رجل من قيس فقال: أنا أرويها يا خليفة. فقال: أنشدني. فأنشده حتى أتى عليها ... فزاد معاوية في عطائه.
وخاصم رجل إلى معاوية في ابن أخيه، فجعل الرجل يحج خصمه، فقال معاوية: أنت كما قال أبو دواد(45):
(1/200)

أنى أتيح لها حُرَبْاِء تنضية ُ ... َلْاِ يرسل الساق إلا ممسكًا ساقًا
وسأل معاوية شيخًا من بقايا العرب(46): أي العرب رأيته أضخم شأنًا؟ قال: حصن بن حذيفة -قائد ذبيان يوم شعب جبلة- رأيته متوكئًا على قوسه يقسم في الحليفين: أسد وغطفان.
وذكر عند معاوية، في أحد مجالسه، ملوك العرب، فلما ذكرت الزباء وابنة عفزر قال معاوية(47): إني لأحب أن أسمع حديث ماوية وحاتم. فقال رجل من القوم: أفلا أحدثك يا خليفة ؟ فقال: بلى فقال: إن ماوية بنت عفزر كانت ملكة وكانت تتزوج من أرادت ... إلى آخر القصة.
وبعث زياد بن أبيه بولده إلى معاوية(48)، فكاشفه عن فنون من العلم فوجده عالمًا بكل ما سأله عنه، ثم استنشده الشعر، فقال: لم أروِ منه شيئًا! فكتب معاوية إلى زياد: ما منعك أن ترويه الشعر؟ فو الله إن كان العاق ليرويه فيبر، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل.
ولم تكن هذه المجالس، التي تُذكر فيها أخبار الجاهلية ويُروى فيها شعر شعرائها، مقصورة على معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية وبني مروان، بل كان الأشراف والسادة والولاة يعقدون مثل هذه المجالس. فقد كان سعيد بن العاص على المدينة، فبينا هو يُعشي الناس(49)، وهم يخرجون أولًا
(1/201)

، إذ نظر على بساطه إلى رجل قبيح المنظر، رث الهيئة، جالس مع أصحاب سمره، فذهب الشرط يقيمونه، فأبى أن يقوم، وحانت من سعيد التفاتة، فقال: دعوا الرجل. فتركوه، وخاضوا في أحاديث العرب وأشعارها مليًّا، فقال لهم الحطيئة، -وكان هو ذلك الرجل-: والله ما أصبتم جيد الشعر ولا شاعر العرب. فقال له سعيد: أتعرف من ذلك شيئًا؟ قال: نعم. قال: فمن أشعر العرب؟ قال: الذي يقول:
لا أعد الإقتار عدمًا ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
وأنشدها حتى أتى عليها، فقال له: من يقولها؟ قال: أبو داود الإيادي.
قال: ثم من؟ قال: الذي يقول:
أفلح بما شئت فقد يُدرك بالـ ... ـجهل وقد يُخدع الأريب
ثم أنشدها حتى فرغ منها. قال: ومن يقولها؟ قال: عبيد بن الأبرص، قال: ثم من؟ قال: والله لحسبك بي عند رغبة أو رهبة ...
وأنشد ابن أبي عتيق يومًا قول قيس بن الخطيم(50):
بين شكول النساء خلقتها ... حذوًا فلا جبلة ولا قضف
فقال: لولا أن أبا يزيد -كنية قيس بن الخطيم- قال "حذوًا"، ما درى الناس كيف يحشون هذا الموضع.
وقال عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لمعلم ولده(51): لا تروهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها:
دعيني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير
(1/202)

وكان يقول: إن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم.
والأخبار عن معرفة ابن عباس بالشعر الجاهلي، وروايته إياه، وحضه على طلبه وتعلمه وتفسير كتاب الله تعالى به، وأخبار كثيرة(52)، حتى إنه كان يقول(53): إذا أشكل عليكم الشيء من القرآن فارجعوا فيه إلى الشعر فإنه ديوان العرب. وكان يُسأل عن القرآن فينشد الشعر. وسنكتفي بإيراد مثل واحد من أخبار ابن عباس، وسيمر منها خبر أو خبران عند حديثنا عن معرفة عمر بن الخطاب بالشعر الجاهلي. قال الشعبي(54): كنا عند ابن عباس وهو في ضفة زمزم يفتي الناس، إذ قال أعرابي: أفتيت الناس فافتنا. قال: هات. قال: أرأيت قول الشاعر المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
قال ابن عباس: ذاك عمرو بن حممة الدوسي، قضى على العرب ثلاثمائة سنة، فكبر فألزموه السابع من ولده، فكان معه، فكان الشيخ إذا غفل كانت بينه وبينه أن تقرع العصا حتى يعاوده عقله، وذلك قول المتلمس اليشكري من بكر بن وائل: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا. قال ذو الإصبع العدواني بعد ذلك بدهر:
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
.....
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
يعني: عامر بن الظرب.
(1/203)

ونحن نرى من كل هذا، ومن كثير غيره، أن القوم، في القرن الأول الهجري، لم يكونوا يكتفون برواية الشعر الجاهلي وإنشاده في المجالس والمحافل، وإنما كانوا كذلك يعلمونه الصبيان تعليمًا. وقد وضح لنا ذلك من قول عبد الملك لمؤدب ولده يأمره أن يروهم الشعر وخاصة شعر الأعشى، ومن كتابة معاوية إلى زياد بطلب منه أن يعلم ابنه الشعر ويرويه إياه، ومن نهي جعفر بن أبي طالب معلم ولده على أن يعلمهم قصيدة عروة بن الورد؛ لأنها تحض على الاغتراب عن الأوطان.
وسنذكر، في حديثنا عن طبقات الرواة، ما يزيد هذا الجانب وضوحًا، وذلك حينما نتحدث عن شعراء القرن الأول ورُجازه: العجاج ورؤبة والأخطل وجرير والفرزدق والكميت، ومعرفتهم بأخبار الجاهلية، ومثالب العرب ومفاخرها؛ وروايتهم الشعر الجاهلي، بل نظرهم فيه نظر الناقد الحصيف المميز.
-3-

فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى صدر هذا القرن، ونظرنا في أخبار الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة، بل أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدنا أن الأمر لا يختلف عما عهدناه في عهد بني أمية وبني مروان.
قيل للحسن البصري(55): أكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمزحون؟ قال: نعم ويتقارضون من القرض وهو الشعر.
وقال جابر بن سمرة(56): جالست رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية
(1/204)

فربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو سلمة(57): لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه و آله وسلم متحزقين ولا متماوتين، كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنون.
وسنعرض هنا أخبار بعض الصحابة -غير من ذكرنا- وروايتهم الشعر. قال مطرف(58): خرجت مع عمران بن حصين "صحابي" من الكوفة إلى البصرة، فما أتى علينا يوم إلا ينشدنا فيه شعرًا، ويقول: إن لكم في المعاريض لمندوحةً عن الكذب.
ودخل غالب بن صعصعة على علي بن أبي طالب أيام خلافته -وغالب شيخ كبير- ومعه ابنه همام الفرزدق وهو غلام يومئذ. فقال علي (ع) (59): ... من هذا الغلام معك؟ قال: هذا ابني. قال: ما اسمه؟ قال: همام وقد رويته الشعر يا خليفة، وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعرًا مجيدًا.
وهؤلاء أهل الكوفة لم يصرفهم ما كانوا فيه زمن علي عن رواية الشعر وإنشاده، حتى قال لهم "إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حِلقًا عزين، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار".
وقد مر بنا خبر حسان حين طلب أن يكتب شعر قاله في الهجاء، وتوزع الصحف على الصبيان في المكتب ليتعلموه ويرووه.
وكان أبو زُبيد الطائي شاعرًا معمرًا عاش خمسين ومائة سنة، أدرك الإسلام ولم يسلم ومات نصرانيًّا. وكان عثمان بن عفان يقرب أبا زبيد ويدني مجلسه لمعرفته بسير من أدركهم من ملوك العرب والعجم، فدخل عليه يومًا وعنده
(1/205)

المهاجرون والأنصار، فتذاكروا مآثر العرب وأخبارها وأشعارها(60).
وأما عمر بن الخطاب فأمر معرفته بالشعر وروايته له مشهور معروف، فقد كان يستنشد من يحضر مجلسه في حله، أو من يرافقه في سفره. وكان ذواقة، بصيرًا بالشعر، ناقدًا له، يحكم على الشعراء. وكان هو نفسه يحفظ كثيرًا من الشعر الجاهلي، حتى لقد قال محمد بن سلام عن بعض أشياخه(61): "كان عمر بن الخطاب لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر".
ومن أمثلة ذلك أنه قيل له(62): "قيل للأوسية: أي منظر أحسن؟ فقالت: قصور بيض في حدائق خضر". فأنشد عند ذلك عمر بن الخطاب بيت عدي بن زيد العبادي:
كدمى العاج في المحاريب أو كالـ ... بيض في الروض زهره مستنير
وقال العائشي(63): كان عمر بن الخطاب أعلم الناس بالشعر، ولكنه كان إذا ابتلى بالحكم بين النجاشي والعجلاني "تميم بن أبي بن مقبل"، وبين الحطيئة والزبرقان، كره أن يتعرض للشعراء، واستشهد للفريقين رجالًا مثل حسان بن ثابت وغيره ممن تهون عليهم سبالهم، فإذا سمع كلامهم حكم بما يعلم، وكان الذي ظهر من حكم ذلك الشاعر مقنعًا للفريقين، ويكون هو قد تخلص بعرضه سليمًا. فلما رآه من لا علم له يسأل هذا وهذا ظن أن ذلك لجهله بما يعرف غيره.
قال: ولقد أنشدوه شعرًا لزهير -وكان لشعره مقدمًا- فلما انتهوا إلى قوله:
وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
(1/206)

قال عمر كالمتعجب من علمه بالحقوق وتفصيله بينها وإقامته أقسامها:
وإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء
يردد البيت من التعجب.
وأنشدوه قصيدة عبدة بن الطبيب الطويلة التي على اللازم، فلما بلغ المنشد قوله:
والمرء ساع لشيء ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل
قال عمر متعجبًا: والعيش شح وإشفاق وتأميل، يعجبهم من حسن ما قسم وفصل.
وأنشدوه قصيدة أبي قيس بن الأسلت التي على العين، وهو ساكت، فلما انتهى المنشد إلى قوله:
الكيس والقوة خير من الإ ... شفاق والفهة والهاع
أعاد عمر البيت وقال:
الكيس والقوة خير من الإ ... شفاق والفهة والهاع
وجعل عمر يردد البيت ويتعجب منه.
وقال عمر بن الخطاب لابن عباس(64): هل تروي لشاعر الشعراء؟ قال ابن عباس فقلت: ومن هو؟ قال: الذي يقول:
ولو أن حمدًا يخلد الناس أخلدوا ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد
قلت: ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء. قلت: بم كان شاعر
(1/207)

الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدًا إلا بما فيه ... ثم قال: أنشدني له. قال ابن عباس: فأنشدته حتى برق الفجر.
وقال عمر بن الخطاب لعض ولد هرم(65): "أنشدني بعض مدح زهير أباك، فأنشده. فقال عمر: إنه كان ليحسن فيكم المدح. قال: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطية. قال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. وفي رواية عمر بن شبة: قال عمر لابن زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرمًا لم يبلها الدهر.
وقال عمر للوفد الذين قدموا من غطفان(66): من الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
قالوا: نابغة بني ذبيان. قال لهم: فمن الذي يقول هذا الشعر:
أتيتك عاريًا خلقًا ثيابي ... على وجلٍ تُظن بي الظنون
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون
قالوا: هو النابغة. قال: هو أشعر شعرائكم.
ومن أحكام عمر النقدية التي سارت وشاعت -غير حكمه المشهور على زهير- قوله حينما سئل عن الشعراء(67) "امرؤ القيس سابقهم، خسف لهم عين
(1/208)

الشعر، فافتقر عن معان عور أصح بصر".
وكذلك كان أبو بكر راوية للشعر الجاهلي، يتمثل به في مواقفه ويستنشد الشعراء ما قالوه في جاهليتهم وإسلامهم. فقد رقى أبو بكر المنبر يومًا، وقال -فيما قال- يخاطب الأنصار(68):.... فنحن وأنتم كما قال الغنوي:
جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا لعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا، ولو كانت أمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت
هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت
واستنشد أبو بكر يومًا معد يكرب وقال(69): أما إنك أول من استنشدته في الإسلام. وهذا الخبر يقودنا إلى الحديث عما كان عليه أبو بكر قبل الإسلام: فقد كان عالمًا من علماء النسب والأخبار، بل لقد كان أعلم قريش بأنساب العرب، حتى إن حسانًا لما أراد أن يهجو قريشًا قال له رسول الله(70): استعن بأبي بكر فإنه علامة قريش بأنساب العرب. فلما سمعت قريش بعد ذلك هجاءه قالوا(71): إن هذا الشتم ما غاب عنه ابن أبي قحافة. وقال بعضهم -ولم يكونوا علموا أن حسانًا قاله(72)-: لقد قال أبو بكر الشعر بعدنا!
بل لقد كان منزل أبي بكر في الجاهلية مثابةً لقريش يؤمونه لخصلتين: العلم والطعام، فلما أسلم أسلم عامة من كان مجالسه(73).
وقبل أن نتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنشاده الشعر، وإنشاد
(1/209)

الصحابة والرواة بين يديه وفي مجلسه، نشير إلى ما يروى من أخبار عن غزارة حفظ أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكرٍ للشعر الجاهلي، وتمثلها به، واستنشادها إياه. والروايات كثيرة عن وفرة ما كانت ترويه من الشعر الجاهلي، منها قولها عن نفسها(74): إني لأروي ألف بيت للبيد، وإنه أقل ما أروي لغيره!! وقالت كذلك(75): لقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارًا منها القصيدة فيها أربعون بيتًا ودون ذلك.
وقد أنشدت عائشة -لما مات أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر- متمثلة قصيدة بائية لحجية بن المضرب الكندي في أخيه سعدان بن المضرب(76). ولما بلغها موت علي بن أبي طاب أنشدت متمثلة شعرًا للمعقر بن أوس بن حمار البارقي(77).
وكانت أيضًا تحث على طلب الشعر وتعلمه وروايته، ومما كانت تقوله في ذلك(78): رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم.
وكانت أسماء بنت أبي بكر -أخت عائشة- ممن يُروَى عنها الشعر الجاهلي، فقد روى عنها عروة قصيدتين، إحداهما لزيد بن عمرو بن نفيل، والأخرى لورقة بن نوقل(79).
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يستنشد الصحابة الشعر(80)، ويسائلهم عنه، ويستعيد ما يستحسنه منه، ويبدي إعجابه ببعضه، وقد ينهى عن رواية بعضه لأسباب مذكورة. فمما يدل على معرفتهم آنذاك بأخبار الجاهلية
(1/210)

وشعرائها أن رسول الله كتب لعيينة بن حصن كتابًا، فلما أخذ عيينة كتابه قال(81): يا محمد، أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا كصحيفة المتلمس؟
ومما يدل على استنشاده الشعر ومساءلته الصحابة الحاضرين مجلسه عنه، ما رواه أنس بن مالك قال(82): جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس ليس فيه إلا خزرجي، ثم استنشدهم قصيدة قيس بن الخطيم، يعني قوله:
أتعرف رسمًا كاطراد المذاهب ... لعمرة وحشًا غير موقف راكب
فأنشده بعضهم إياها، فلما بلغ إلى قوله:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرًا ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعبٍ
فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل كان كما ذكر؟ فشهد له ثابت بن قيس بن شماس، وقال له: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه عليه غلالة وملحفة مورسة فجالدنا كما ذكر.
وقال أبو وداعة(83): رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عند باب بني شيبة، فمر رجل وهو يقول:
يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد الدار
هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقتار
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟
قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال:
يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف
(1/211)

هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقراف
الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي
ويكللون جفانهم بسديفهم ... حتى تغيب الشمس في الرجاف(84)
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هكذا سمعت الرواة ينشدونه.
وقال عدي بن أبي الزغباء يوم بدر(85):
أنا عدي والسحل ... أمشي بها مشي الفحل
يعني درعه ... قال النبي صلى الله عليه وسلم "وما السحل"؟ قال: الدرع.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم العدي عدي بن أبي الزغباء.
بل لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل ببعض هذا الشعر الجاهلي فقد كان إذا استراث الخبر يتمثل بعجز بيت طرفة(86):
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ومن الشعر الجاهلي الذي كان ينشد بين يدي رسول الله فيستحسنه، ما قالته عائشة(87): دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أتمثل بهذين البيتين:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يومًا فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك، وإن من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
فقال صلى الله عليه وسلم: ردي عليَّ قول اليهودي قاتله الله، لقد أتاني جبريل برسالة من ربي: أيما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلا الثناء عليه والدعاء له فقد كافأه.
(1/212)

وقال مسلم الخزاعي(88): كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنشد ينشده:
لا تأمنن وإن أمسيت في حرمٍ ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
فالخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أدرك هذا الإسلام!
وأنشد صلى الله عليه وسلم قول عنترة(89):
ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل
فقال صلى الله عليه وسلم: ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة!
وقال الشريد بن سوبد الثقفي(90): استشدني النبي صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشدته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هيه هيه، حتى أنشدته مائة قافية.
وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية(91)4:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا
"خمسة أبيات" فقال صلى الله عليه وسلم: إن كاد أمية ليسلم. وقال مرة أخرى(92): آمن شعره وكفر قلبه.
(1/213)

وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن رواية بعض الشعر الجاهلي وإنشاده. فمن ذلك أنه لما بلغه صلى الله عليه و آله وسلم هجاء الأعشى علقمة بن علاثة العامري نهى أصحابه أن يرووا هجاءه، وقال: إن أبا سفيان شعث منى عند قيصر فرد عليه علقمة وكذب أبا سفيان(93). ونهى كذلك عن إنشاد قصيدة الأفوه الأودي لما فيها من ذكر إسماعيل عليه السلام(94).
وكان أمية بن أبي الصلت يحرض قريشًا بعد وقعة بدر، وكان يرثي من قُتل من قريش فمن ذلك قوله(95):
ماذا ببدرٍ والعقنـ ... ـقل من مرازبة جحاجح
وهي قصيدة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن روايتها.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه سمع كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري ينشد(96):
ألا هل أتى غسان عنا ودوننا ... من الأرض خرق غوله متعتع
مجالدنا عن جذمنا كل فخمة ... مدربة فيها القوانس تلمع
فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقل "عن جذمنا" وقل "عن ديننا" فكان كعب يقرأ كذلك ويفتخر بذلك، ويقول: ما أعان رسول الله صلى الله عليه أحدًا في شعره غيري.
(1/214)

ولقد كان إنشاد الشعر وروايته دأب العرب في جاهليتهم القريبة المتصلة بمطلع الإسلام، حتى حين كانوا -وهم مشركون- يحاربون رسول الله. فكانوا لا يكادون يجتمعون في مجلس أو يضمهم نادٍ حتى يزجوا أوقاتهم بهذا الشعر ينشدونه. ومن أمثلة ذلك أن المشركين لما توجهوا "إلى بدر كان فتيان ممن تخلف عنهم سمار يسمرون بذي طُوَى في القمر، حتى يذهب الليل، يتناشدون الأشعار ويتحدثون"(97). ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لي بابن الأشراف؟ ... " خرج أبو نائلة سلكان بن سلامة إلى كعب، فلما رآه كعب أنكر شأنه وكاد يذعر ... فقال أبو نائلة: حدثت لنا حاجة إليك ... فتحدثا ساعة وتناشدا الأشعار، وانبسط كعب، وهو يقول بين ذلك: حاجتك. وأبو نائلة يناشده الشعر.."(98).
-4-

وطبقة أخرى من العلماء هم النسابون، وصلتهم بالشعر الجاهلي صلة واضحة، إذ إن معرفتهم بالنسب كانت تقتضيهم معرفة واسعة بأخبار هؤلاء القوم وأشعارهم. وقد ذكرنا من قبل أن كتب القبائل كانت كتبًا تتضمن أنساب العرب وأخبارهم وأشعارهم، ونستطيع أن نتلمس ما ذكرناه تلمسًا واضحًا في كتب الأنساب التي كتبها النسابون في العصور الإسلامية، ولعل من أقدمها كتاب نسب قريش لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري المتوفى سنة 236هـ، فإن في هذا الكتاب -مع سلاسل النسب- أخبارًا تاريخية وأدبية، وشعرًا يساق مع هذه الأخبار ويذكر مع تلك الأحاديث، وكذلك كانت سنة كتب النسب كلها التي سبقته فيما نرجح. ومما يدعم ذلك أننا نجد دائمًا ذكر
(1/215)

علماء النسب مقرونًا بذكر علمهم بالشعر وروايته، وبأيام العرب وأخبارهم، فقد قال الجاحظ عن علماء النسب(99): "وأربعة من قريش كانوا رواة الناس للأشعار وعلماءهم بالأنساب والأخبار". وقيل عن عقيل بن أبي طالب(100): "ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب".
وسنذكر في هذه الصفحات، ذكرًا موجزًا، هؤلاء النسابين الذين أخذ عنهم علماء القرن الثاني، والذين عاشوا في القرن الأول، وفي صدر الإسلام، وفي آخر العصر الجاهلي، لنرى من ذلك -كما رأينا في إنشاد الشعر الجاهلي وروايته- أن الصلة قائمة في العصور المتعاقبة، وأنها كانت أشبه بالسلسلة ذات الحلقات المتصلة آخذًا بعضها برقاب بعض، لم تنقطع، ولم ينفرط عقدها، ولم تكن ثمة فجوة تفصل بين أخبار الجاهلية وعلماء القرن الثاني ورواته.
فهذا هشام بن محمد بن السائب الكلبي -عالم الأنساب المشهور- يقول(101) "قال لي أبي: أخذت نسب قريش عن أبي صالح. وأخذه أبو صالح عن عقيل بن أبي طالب. وأخذت نسب كندة عن أبي الكناس الكندي، وكان أعلم الناس. أخذت نسب معد بن عدنان عن النخار(102) بن أوس العذري، وكان أحفظ الناس ممن رأيت وسمعت به. وأخذت نسب إياد عن عدي بن رثاث الإيادي، وكان عالمًا بإياد.
وقد ذكر شعراء القرن الأول بعض هؤلاء النسابين، ووصفوا ما كان مشهورًا من مدى علمهم بأخبار الجاهلية، فمن ذلك قول سماك العكرمي(103):
(1/216)

فسائل دغفلا وأخا هلال ... وحمادًا ينبوك اليقينا(104)
وقال مسكين الدارمي(105):
وعند الكيس النمري علم ... ولو أمسى بمنخرق الشمال
وقال ثابت قطنة(106):
فما العضان لو سئلا جميعًا ... أخو بكر وزيد بني هلال(107)
ولا الكلبي حماد بن بشر ... ولا من فاد في الزمن الخوالي
وقال زياد الأعجم يهجو بني الحبناء(108):
بل لو سألت أخا ربيعة دغفلًا ... لوجدت في شيبان نسبة دغفل
إن الأحابن والذين يلونهم ... شر الأنام ونسل عبد أغرل(109)
وقال القطامي(110):
أحاديث من أنباء عادٍ وجرهم ... يثورها العضان زيد ودغفل
وقال عمرو بن المرادة البلوي يهجو النخار بن أوس العذري النسابة الراوية لأنه استلحق بطنًا من بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وذكر أنهم من قومه(111):
وقد كنت يا نخار ما تدعيهم ... وتعرض عنهم في السنين العوارق
يمنيهم النخار إلحاق نسبة ... بلأي وما النخار فينا بصادق
(1/217)

وحسبنا هذه الإشارة المقتضبة إلى نسابي القرن الأول، فأخبارهم كثيرة مبسوطة في مظانها(112). وسننتقل إلى الحديث عن نسابي الصدر الأول ومن شهد منهم الجاهلية، ونوجز كذلك الإشارة إليهم إيجازًا.
فمن أشهر هؤلاء: دغفل النسابة(113). ذكر الهيثم بن عدي في "كتاب المثالب"(114) أن أبا عمرو بن أمية -جد عقبة بن أبي معيط- كان عبدًا لأمية اسمه ذكوان فاستلحقه. وذكر أن دغفلًا النسابة دخل على معاوية، فقال له معاوية: من رأيت من علية قريش؟ فقال: رأيت عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس. فقال: صفهما لي. فقال: كان عبد المطلب ... قال: فصف أمية. قال: رأيته شيخًا قصيرًا نحيف الجسم ضريرًا يقوده عبده ذكوان: فقال: مه، ذاك ابنه أبو عمرو. فقال: هذا شيء قلتموه بعد وأحدثتموه، وأما الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به.
وقال معاوية يومًا لدغفل(115): بم ضبطت ما أرى؟ قال: بمفاوضة العلماء.
قال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالمًا أخذت ما عنده وأعطيته ما عندي.
ويبدو أن القوم كانوا -على عهد عمر- مقبلين على تعلم النسب، معنيين بدراسته، وكانت العصبية القبلية، والعصبية القومية العربية، تحمل كثيرًا منهم على أن يتخذ من علمه هذا وسيلة للطعن في أنساب غيره، ولذلك نهى عمر عن هذا الضرب من العلم، أو عن هذا الضرب من التوسل بالعلم، فقال(116):
(1/218)

أيها الناس، إياكم وتعلم الأنساب والطعن فيها. والذي نفس عمر بيده لو قلت لا يخرج من هذا الباب إلا صمد ما خرج إلا أقلكم.
ومع ذلك فقد كان عمر يستعين بهؤلاء النسابين كلما احتاج إليهم في أمر، فحينما أراد أن يكتب الناس في الديوان للعطاء دعا "عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نسابي قريش، فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا، فبدؤوا بني هاشم"(117).
ولما أُتِي عمر بسيف النعمان بن المنذر، دعا جبير بن مطعم فسلمه إياه، ثم قال(118): يا جبير، ممن كان النعمان؟ قال: من أشلاء قنص بن معد.
وجبير هذا معروف بعلمه بالنسب حتى قيل عنه إنه أنسب العرب، وقد أخذ النسب عن أبي بكر الصديق، وعن جبير أخذ سعيد بن المسيب(119).
بل لقد كان عمر نفسه عالمًا بالنسب، وقد أخذ علمه هذا عن أبيه الخطاب، وكان كثيرًا ما يقول(120): سمعت ذلك من الخطاب، ولم أسمع ذلك من الخطاب،
وأما عقيل بن أبي طالب الذي ذكرناه في خبر عمر حينما دعا النسابين ليكتبوا الناس على منازلهم، فهو أخو علي، وعقيل أسن من علي بعشرين سنة، ومات في زمن معاوية في نحو سنة خمسين للهجرة. وكان عقيل من أنسب قريش وأعلمهم بأيامهم، وكانت له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلي عليها، ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب(121). وكان عقيل أكثر النسابين ذكرًا لمثالب الناس وتعداد مساويهم فعادوه لذلك، وقالوا فيه وحمقوه(122).
(1/219)

وأما مخرمة بن نوفل فقد أسلم عام الفتح، وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين للهجرة، وقد بلغ مائة وخمس عشرة سنة. وكان له سن وعلم بأيام قريش، وكان أحد علمائهم، ويؤخذ عنه علم النسب(123).
ومن هؤلاء النسابين المعمرين: أبو جهم بن حذيفة بن غانم بن عامر "كان من مشيخة قريش عالمًا بالنسب، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من معمري قريش، بنى في الكعبة مرتين: مرة في الجاهلية ومرة في الإسلام، حين بناها قريش وحين بناها ابن الزبير"(124).
ومن هؤلاء النسابين العلماء في الجاهلية: الخطاب بن نفيل وأبوه نفيل بن عبد العزى الذي "تنافر إليه عبد المطلب وحرب بن أمية، فنفر عبد المطلب -أي حكم له-"(125).
ومنهم أيضًا الأقرع بن حابس، وكانوا يحكمونه فيما يشجر من أمورهم، وكان عالم العرب في زمانه(126).
وقد مر بنا ذكر علم أبي بكر بالنسب، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت أن يرجع إلى أبي بكر لمعرفة نسب قريش قبل أن يهجوهم. وقد كان بيت أبي بكر في الجاهلية مجلسًا عامًّا يقصده الناس لطلب العلم والقِرَى.
فنحن نرى إذن -مما قدمنا من الأمثلة والشواهد- أن رواية الجاهلية: أشعارها وأخبارها، لم تنقطع منذ الجاهلية، بل لقد اتصلت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وخلفائه الراشدين، واستمرت طوال القرن الأول حتى
(1/220)

تسلمها العلماء الرواة من رجال القرن الثاني. ولم تكن ثمة فجوة تفصل هؤلاء الرواة العلماء عن العصر الجاهلي، وإنما تلقفوه عمن تقدمهم، وورثوه عمن سبقهم، رواية متصلة، وسلسلة محكمة، يأخذها الخلف عن السلف ويرويها الجيل بعد الجيل، حريصين عليها معنيين بها. ولم يشغلهم عن إنشاد الشعر وروايته، وذكر أخبار العرب وأيامهم ومفاخرهم ومثالبهم، في مجالسهم ومحافلهم، شاغل من حرب أو فتنة، حتى لقد رأينا المسلمين الأولين، والمشركين من كفار قريش، لا ينقطعون عن إنشاد الشعر الجاهلي واستنشاده وروايته والتمثل به وتعلمه وحفظه. فأين هذا كله من قول ابن سلام وغيره إن العرب تشاغلت عن الشعر لما جاء الإسلام "وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر".
ولا نحب أن نتناول كلام ابن سلام، فألفاظه صريحة واضحة، ولكننا نحسب أنه يقصد إلى أن الرواية العلمية المنظمة، والضبط والتدقيق والتحري، وتدوين ذلك كله لم يستطع الغرب أن يتلمسوا إليه السبيل إلا بعد أن استقروا في الأمصار. فإن كان ذلك هو قصده، فلا ريب أننا لا نستطيع له دفعًا. وأما إذا كان يقصد، كما يفهم من صريح ألفاظه، مجرد رواية الشعر وإنشاده وحمله ونقله شفهيًّا، فما قدمنا من أمثلة لا يتيح لنا أن نقبل دعواه.

(1/221)

 

 

 

__________
(1) قال الجاحظ "الحيوان 1: 333" "الرواية؛ هو الجمل نفسه، وهو حامل المزادة، فسميت المزادة باسم حامل المزادة، ولهذا المعنى سموا حامل الشعر والحديث راوية".
(2) ديوانه "القسم الثاني ط. بريل 1891" ص17. الطبع: السقاء، أو نهر بعينه.
(3) ديوانه ق21، ب37.
(4) ديوانه: 291. الهجان: كرام الإبل. المتالي: التي يتبعها أولادها، الواحدة: متلية.

(5) أساس البلاغة "روى".
(6) أساس البلاغة "روى".
(7) تفسير الطبري 1: 156 والذي في ديوانه "خمسة دواوين" ص79 "سأهديه إليك عني".
(8) الشعر والشعراء 2: 632.

(9) ديوانه 89.
(10) ابن سعد 4/ 2: 16.
(11) ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، المطبعة المنيرية 1346هـ، 2: 47.
(12) الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين: 6.

(13) النقائض: 430.

(14) النقائض: 907-908.
(15) الأغاني "دار الكتب" 4: 256-258.

(16) النقائض: 430.
(17) النقائض: 62.

(18)ياقوت، إرشاد "محمد بن زياد"، وانظر أيضًا نزهة الألباء: 108 ففيه "قال أبو جعفر القحطبي: ما رئي في يد ابن الأعرابي كتاب قط".
(19) القفطي، إنباه الرواة 1: 148.
(20) القفطي، إنباه الرواة 1: 148.
(21) الأنباري، نزهة الألباء: 63.
(22) انظر مثلًا البيان والتبيين 3: 57-58 حيث يورد حديثين عن العتبي عن أعرابيين في العصا، ثم يقول "وهذان الحديثان لم أسمعهما من عالم، وإنما قرأتهما في بعض الكتب من كتب المسجديين" وانظر أيضًا لأخذه من الكتب: البيان والتبيين 1: 92، 135، 373، 377، 378، 381.

(23)البيان والتبيين 2: 18.
(24) الحيوان 2: 13.
(25) الأغاني "دار الكتب" 7: 120.
(26) طبقات فحول الشعراء: 22.

(27) طبقات فحول الشعراء: 6.
(28) المصدر السابق 23.

(29) طبقات فحول الشعراء: 204.

(30)المزهر 2: 323-324. سلكي: طعنًا مستويًا. المخلوجة: المعوجة عن يمين ومن شمال: الكر: الرد. لأمين: السهمان.
(31) المصدر السابق. العير: الوتد. أي أنهم يلزمونها ذنوب الناس.
(32) الأغاني 3: 123.
(33) العسكري، التصحيف والتحريف: 4.

(34) العسكري، التصحيف والتحريف: 4، وانظر طبقات ابن سلام: 51-52.
(35) القالي، الأمالي 1: 15، وانظر أيضًا ياقوت: إرشاد 1: 97، وفي ياقوت " ... فسأل قتيبة بن مسلم وكان راوية عالمًا عن ذلك".
(36) المتمنح: المستعار. الغمى: الجماعة من القداح. المستكفة: المحدقة به.
(37) النقائض: 240.

(38) الجاحظ، الحيوان 5: 194-195.
(39)ابن عبد ربه، العقد 6: 125.
(40) جمهرة أشعار العرب: 63.
(41) العقد 6: 124.
(42) ياقوت، إرشاد 1: 96-97.

(43) البيان والتبيين 1: 333.
(44) الأغاني 3: 100-101. يدحض: يزل ويزلق.
(45) الزمخشري، الفائق 1: 240. الحرباء مذكر، والأنثى حرباءة التنضية: شجرة ضخمة تقطع منها الأعمدة للأخبية. وصف ظعنًا سائق مجد، فتعجب كيف أتيح لها هذا السائق المجد الحازم. وهذا مثل يضرب للرجل الحازم؛ لأن الحرباء لا يفارق الغصن الأول حتى يثبت على الغصن الآخر.

(46) البيان والتبيين 3: 9.
(47)ديوان حاتم -خمسة دواوين العرب- 121-122.
(48)العقد 6: 125، وانظر أيضًا المزهر 2: 310-311.
(49) الأغاني 2: 167، وانظر الشعر والشعراء 1: 284.

(50) الأغاني 3: 1-2.
(51) الأغاني 3: 75.

(52) انظر مثلًا مفصلًا لذلك في الإتقان للسيوطي 1: 148-164.
(53) المبرد، الفاضل: 10.
(54) السجستاني، المعمرين: 45، وانظر الفاضل للمبرد: 12.

(55) الفائق 2: 339.
(56)ابن سعد، الطبقات 1/ 2: 95-96.

(57) الفائق 1: 257.
(58) ابن سعد 4/ 2: 26.
(59) البغدادي، خزانة الأدب 1: 206.

(60) ياقوت: إرشاد "حرملة بن المنذر".
(61) البيان والتبيين 1: 241.
(62) المصدر السابق 1: 45.
(63) الجاحظ، البيان والتبيين 1: 239-241.

(64) الأغاني "دار الكتب" 10: 288-291، وانظر أيضًا ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 93، والزمخشري، الفائق 2: 165.

(65) البغدادي، الخزانة 2: 292.
(66)العقد 6: 120-121، وانظر الأغاني "دار الكتب" 11: 4-5.
(67)الأغاني 8: 199، والفائق 1: 343. افتقر: أنبط وأغزر. يريد أنه أول من فتق صناعة الشعر، وفنن معانيها وكثرها وقصدها، فاحتذى الشعراء على مثاله. وقد جعل للشعر بصرًا صحيحًا. والمراد أن امرأ القيس قد أوضح؟؟؟ ولخصها وكشف عنها الحجب، وجانب التعويص والتعقيد؛ كأنه قال: فتح الشعر أصح بصر مجاوزًا للمعاني العور متخطيًا لها.

(68) الصولي، أدب الكتاب: 190.
(69) ابن سعد 6: 57.
(70) جمهرة أشعار العرب: 23.
(71) الأغاني 4: 138، والفائق 2: 244.
(72) الأغاني 4: 138.
(73) البيان والتبيين 4: 76.

(74) ابن عبد ربه، العقد 6: 125.
(75) السيوطي، المزهر 2: 309.
(76) المرزباني، معجم الشعراء 234.
(77) المرزباني، المعجم 204.
(78) العقد 6: 125.
(79) الأغاني 3: 124-125.
(80)انظر: المبرد، الفاضل: 9-10.

(81)الزمخشري، الفائق 2: 13.
(82)الأغاني 3: 7.
(83)القالي، الأمالي 1: 241.

(84) الرجاف: البحر.
(85) الواقدي، المغازي: 60.
(86)معجم المرزباني: 203، وانظر الفاضل للمبرد: 9.
(87) الأغاني 3: 117.

(88) الفائق 3: 52 يمني: يقدر الله، ومنه المنية. يريد: حين تلاقي ما يقدره لك الله. والبيتان لسويد بن عامر "انظر الزمخشري في الفائق 3: 52".
(89) الأغاني 8: 243.
(90)المزهر 2: 309 نقلًا عن البخاري في الأدب المفرد، وانظر ابن سعد 5: 376، والخزانة 1: 227 نقلًا عن صحيح مسلم. وقد وقع في الخزانة "الرشيد" وهو خطأ، صوابه "الشريد".
(91) الأغاني 4: 129.
(92) المصدر السابق 4: 130.

(93) الفائق 1: 664.
(94) الميمني، الطرائف الأدبية: 3؛ وهي قصيدة الأفوه التي أولها:
إن ترى رأسي فيه نزع
وشواي خلة فيها دوار
ويهجو فيها بني هاجر.
(95) الأغاني 4: 122-123. العقنقل: كثيب رمل ببدر. المرازبة: جمع مرزبان وهو الفارس الشجاع المقدم على القوم دون الملك. وجحاجح: جمع جحجح، وهو السيد المسارع إلى المكارم.
(96) المبرد، الفاضل: 12؛ وانظر أيضًا ابن هشام 3: 139.

(97) الواقدي، المغازي: 89.
(98) المصدر السابق: 146.

(99) البيان والتبيين 2: 323.
(100) الصفدي، نكت الهميان: 200.
(101) ابن النديم، الفهرست: 139-140.
(102) في الأصل: "النجار بن أوس العدواني" وهو خطأ صوابه ما أثبتناه من معجم المرزباني 237، ومن الحيوان 1: 365 و3: 209-210وغيرهما.
(103) البيان والتبيين 1: 322-323.

(104) دغفل: هو دغفل بن حنظلة النسابة المشهور. أخو هلال: هو زيد بن الكيس، وبنو هلال حي من النمر بن قاسط. وحماد: هو حماد بن بشر.
(105) البيان والتبيين1: 322-323.
(106) نفسه
(107) العض: الداهية من الرجال. وفاد: هلك.
(108) المرجع السابق
(109) الأحابن: بنو الحبناء. والأغرل: الأقلف.
(110) ديوانه: 31.
(111) المرزباني، معجم الشعراء 237.

(112) انظر مثلًا البيان والتبيين1: 318-324، والحيوان 1: 365، 3: 209-210.
(113) أخباره في الفهرست: 131.
(114) الأغاني 1: 12.
(115) الزمخشري، الفائق2: 304.
(116) الفائق 2: 38.

(117) ابن سعد 3/ 1: 212.
(118) البيان والتبيين 1: 303.
(119) البيان والتبيين 1: 303، والفائق 1: 608-609.
(120) البيان والتبيين 1: 304.
(121) نكت الهميان: 200.
(122) البيان والتبيين 2: 324، ونكت الهميان: 200.

(123) نسب قريش: 262، ونكت الهميان: 287.
(124) نسب قريش: 369.
(125) البيان والتبيين 1: 304.
(126) النقائض: 141.

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.


أعمال شبّاكي سرداب الإمام الحسين والجواد (عليهما السلام) تصل إلى أكثر من (75) بالمئة
العتبة العباسية تنشر مظاهر الفرح بذكرى ولادة الإمام الرضا (عليه السلام)
شعبة مدارس الكفيل تختتم فعاليات مخيم (بنات العقيدة) بإقامة مسابقة فرقية
قسم الشؤون الفكرية وجامعة العميد يصدران العدد (29) من مجلّة تسليم