المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الثقافة العقلية
2024-05-01
بطاقات لدخول الجنة
2024-05-01
التوبة
2024-05-01
الكهولة والعقل والأخلاق
2024-05-01
معنى الكلالة
2024-05-01
حضانة كتاكيت البط
2024-05-01

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


أثر الثقافة الأجنبية في الشعر العربي الحديث  
  
8350   11:40 صباحاً   التاريخ: 1-10-2019
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : في الأدب الحديث
الجزء والصفحة : ص :11-84ج2
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الحديث /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-12-2019 30595
التاريخ: 1-10-2019 2926
التاريخ: 16-12-2019 1020
التاريخ: 24-03-2015 2808


تحدثت في الجزء الأول من كتاب الأدب الحديث(1) عن الاتصال بالأدب الأجنبي، في إيجاز، وعرض سريع، وأعود هنا إلى الموضوع بشيء من البسط، لندرك الصراع العنيف بين فرنسا وإنجلترا على تثبيت كل منهما نفوذها الأدبي بهذه الديار.
يرجع اتصال مصر الحديثة بالثقافة الغربية إلى الحملة الفرنسية، وقد وفينا موضوع الحملة الفرنسية حقه من البحث في الجزء الأول من هذا الكتاب. وجاء محمد علي فاتجه صوب فرنسا يستخدم علماءها وقواد جيشها وأطباءها في نهضة مصر، ويرسل البعثات العديدة إلى فرنسا، بل ينشئ مدرسة للطلبة المصريين بباريس. وقد عاد هؤلاء الطلبة إلى مصر وتولوا زعامة حركة الإصلاح بها، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك. ولكن عباسًا الأول كان من النافرين كل النفور من الثقافة الأجنبية ولا سيما الفرنسية. فألغى نظام التعليم الذي وضع على النهج الفرنسي، ولم يرسل إلى فرنسا سوى ثلاثة من الطلاب في حين أرسل خمسة وأربعين طالبًا إلى الدول الأخرى، وفي موقف عباس الأول إزاء الثقافة الفرنسية يقول الأمير عمر طوسون(2): "شعرت فرنسا بانصراف هذا العاهل "عباس الأول" عن الاتجاه إليها، خصوصًا بعد ما نحي عن مناصب الحكم في بلاده أكثر الأجانب وبخاصة الفرنسيين، فجاء ذكره على ألسنة مؤرخيها مشوبًا بالقدح خاليًا من المدح".
وغضب عباس على هؤلاء المصريين الذين حذقوا الفرنسية وعملوا على نشرها، فنفي رفاعة الطهطاوي إلى السودان، وأغلق مدرسة الألسن. إلخ ما عرفت في الجزء الأول من كتابنا هذا. ولكن فرسنا المستعمرة لم تكن ترضى بهذا، وإن فاتها الغزو الحربي فعزيز عليها أن يفوتها الغزو الأدبي، والتمكين للغاتها وأدبها بأرض مصر، فتفيد نفوذًا وتجارة، ولعلها تجد فرصة مواتية
(2/11)

فتتدخل في شئون مصر، ولذلك حثت علماءها على تأدية الرسالة التي اضطلع بها المجمع العلمي المصري(3)، وشجعت الفرنسيين على الإقامة بمصر، وحثت الأثرياء على دفع الأموال الطائفة في القروض التي أصدرتها الحكومة المصرية، وفي إنشاء قناة السويس، وتأسيس المصارف العقارية إلى غير ذلك: وبهذا خضعت مصر اقتصاديًّا لفرنسا، ولم تنس نشر الثقافة الفرنسية بمصر، ونظرت إلى هذه المسألة في جد بالغ. استمع إلى ما يقوله أحد دعاتها في هذا الموضوع: "إن العقل المصري وهو يتهيأ للأفكار الجديدة لا يزال مملوءًا بتقاليد الماضي، ويجب علينا أن تغيير نفوس هؤلاء القوم. ونعلم هذه العقول التي جففتها الشمس طريقة التفكير، وأن نستميل بالحب هذه القلوب التي لم تعرف إلا الجشع ونهب الأجانب، وأن نجبر مصر الدهشة المذهولة على أن ترفع رأسها فوق الصحاري والبحار. إن هذا عمل جسيم يحتاج إلى كثير من الصبر والتضحية وعدم الأثرة، كما يحتاج إلى وقت طويل ومجهود شاق ومحبة عظيمة".
"
لقد اجترأ شعب واحد على تقدير هذا المجهود، وتعهد بإنجازه، ألا وهو شعب فرنسا، ولكنها ليست فرنسا الغازية التي اجتاحت البلاد، بل فرنسا "ديلسبس"، و"فرير أتدريان"، وفرنسا "ماريت" و"ماسبيرو"(4).
"
إن عمل فرنسا بمصر كالخميرة تمتزج بالعجين فيرتفع، فقد تغير المصريون وتحركوا بتأثير أفكارنا وتعليمنا وأمثلتنا، ومنح المصريون في مدارسنا النهوض والانتعاش، ووجدوا في رءوس الأموال الفرنسية ما ساعدهم على بناء نجاحهم الزراعي، واتخذت مصر من قناة السويس مركزًا وسطًا تجبي فيه الضرائب على السلع التجارية والعقلية بين الشرق والغرب، وأخيرًا ستستمر مصر مدينة لعظمة فراعنتها الذين أرجعهم علماؤنا الأثريون المتحمسون إلى الضوء من أجداثهم(5)".
(2/12)

عمدت فرنسا لبسط نفوذها الثقافي بمصر إلى الإرساليات التبشيرية والتعليمية وقد أسس الآباء العزاريون أول مدرسة فرنسية بمصر سنة 1844، ثم جاء الفرير وأسسوا أول مدرسة لهم سنة 1845، وقد اعترفت الحكومة بخدماتهم التعليمية للبلاد فوهبتهم بعد خمسة أعوام من قدومهم إلى مصر قطعة فسيحة من الأرض شيدوا عليها مدرستهم(6).
ثم جاء راهبات المحبة "منشئات أخوية الراعي الصالح" وأسسن مدرسة لتربية البنات سنة 1846. وحذا حذوهن الراهبات الفرنسيسكان وأنشأن مدرسة بالقاهرة سنة 1859 بالقرب من الأزبكية، وأخرى ببولاق سنة 1898، وغيرها بالمنصورة سنة 1872. وقد أم هذه المدارس كثير من الطلبة والطالبات من كل جنس حتى بلغ عددهم في عهد إسماعيل ما يربو على ثلاثة آلاف طالب وطالبة، على الرغم من أن الغرض الأساسي لهذه البعثات كان نشر الدين الكاثوليكي، وخدمة الاستعمار الفرنسي، والتمكين لنفوذ فرنسا الأدبي بمصر، وفي ذلك يقول اللورد كرومر: "إن الفرنسيين قد قضوا نصف قرن قبل الاحتلال البريطاني ينشرون لغتهم بكل ما لديهم من وسائل، في حين ظلت الحكومة البريطانية متعطلة لا تبذل أي جهد في تعليم المصريين"(7).
وعلى الرغم من أن فرنسا كانت تسودها روح الإلحاد فإنها شجعت رجال الدين الذين ينشرون الثقافة الفرنسية في الخارج، وأرسلت البعثات "العلمانية" إلى مصر، فأسست عددًا من المدارس، ونوه المسيو "هريو" رئيس مجلس النواب الفرنسي، ورئيس البعثات العلمانية في الشرق بمنهج هذه المدارس، وأنها تعمل على احترام جميع العقائد ونشر الثقافة الفرنسية، والاهتمام بالروح الوطنية في البلاد، وأظهر أن البعثات العلمانية لا تسير في هذا المنهج إلا على ضوء التقاليد التي اشتهرت بها فرنسا، وهي الدفاع عن حرية الشعوب وكرامتها الشخصية"(8).
(2/13)

وقد زاد عدد تلاميذ المدارس الفرنسية بمصر حتى صار في سنة 1926 أكثر من اثنين وأربعين ألف تلميذ وتلميذة، يربو هذا العدد على ضعف مجموع الطلاب الذين يتعلمون في المدارس الأجنبية الأخرى بمصر سواء كانت إيطالية أو أمريكية أو إنجليزية أو يونانية(9).
ولعلك تدرك الآن السر في انتشار اللغة الفرنسية بمصر، وتمسك الأجانب عامة بها، وجعلها لغتهم الأولى في معاملاتهم. لقد ساعد ذلك على انتشار الأدب الفرنسي، حتى برع فيه بعض المصريين وأخذوا ينمون الشعر ويؤلفون الكتب باللغة الفرنسية، بيد أننا لا ننسى أن هؤلاء الذين يتعلمون في مدارس أجنبية وبخاصة المدارس الفرنسية، لا يعرفون شيئًا من اللغة العربية، والحق أن فرنسا لو مكن لها أن تستعمر مصر كما استعمرت الجزائر وتونس وسوريا ولبنان. وقضت بها أمدًا طويلًا كما قضت بتلك البلاد لضعف شأن العربية، وانحط الأدب العربي أيما انحطاط، فقد عملت فرنسا في كل بلد احتلته على محو اللغة الأصلية محوًا تامًّا بمحاربتها، وعدم العناية بها، ونشر اللغة الفرنسية، وصبغ الأهالي بالصبغة الفرنسية في كل شيء. حتى يمسخوا ويشوهوا، وتفنى شخصيتهم ومقومات وطنيتهم في فرنسا كما حدث لأهل الجزائر وتونس، وكما أوشك أن يحدث لأهل لبنان لو لم يكن أمد الاحتلال الفرنسي بها قصيرًا.
ومع كل هذا فقد كان لنشر الثقافة الفرنسية بمصر أثر واضح في الأدب العربي الحديث أشرنا إلى بعضه في الجزء الأول(10)، وسنعود للحديث عنه فيما بعد.
(2/14)

هذا ما كان من سعي فرنسا في نشر لغتها، وتقوية نفوذها بمصر! أما إنجلترا فقد أدركت أهمية مصر منذ أن غزاها نابليون ووثقت من أن دولة قوية مثل فرنسا تستطيع أن تحول بينها وبين مستعمراتها في الشرق الأقصى إذا استقرت بوادي النيل: ولذلك عملت إنجلترا جهدها على إخراج نابليون وجنده من مصر، وكانت موقعة أبي قير المشهورة. وكم تمنت إنجلترا بعد ذلك أن تبسط سيادتها على هذه الديار الغنية. التي تتوسط العالم، وأرادت بادئ الأمر أن تكسب ثقة تركيا بها، وأن تعمل على أن يستقل المماليك بشئون البلاد، وتتولى هي حماية شواطئها الطويلة، بيد أن هذه المحاولة باءت بالإخفاق. ولما لم تجد بدأ من القوة لتحقيق بغيتها غزت مصر سنة 1807 بقيادة "الجنرال" "فريزر"، ولكن الشعب المصري وأهل رشيد تصدوا لهذا الغزو الذي لا مسوغ له إلا الجشع الاستعماري، وهزم الإنجليز هزيمة منكرة برشيد في تلك السنة، وبذلك استراحت مصر من الإنجليز وطمعهم خمسة وسبعين عامًا(11). حين دخلوها بعد الثورة العرابية متذرعين بأسباب سخيفة بادية الضعف والطمع.
وظنت إنجلترا حين منيت بهزيمة رشيد أنها تستطيع أن تنشر نفوذها عن طريق الإرساليات التبشيرية والتعليمية كما فعلت فرنسا، وأن تمهد لها الإرساليات سبيل التدخل السافر في شئون مصر، كما مكنت لها شركاتها التجارية غزو الهند واحتلالها، فأرسلت أول بعثة تبشيرية إلى مصر سنة 1840، وجاءت البعثة الإسكتلندية البروتستانتية وفتحت لها مدرسة بالإسكندرية، وتلتها بعثة أخرى سنة 1860 برئاسة "مس وتلي" كريمة رئيس أساقفة "دبلن"، ووهبت هذه الفتاة حياتها ونشاطها للمهمة التي اغتربت من أجلها وسعت جهدها للنجاح في تعليم الفتاة المصرية، وأسست مدرسة بالقاهرة لهذه الغاية ولاقت صعوبات جمة، وعناء شديدًا في حمل المصريات على الاستجابة لندائها، ولكنها صابرت وثابرت، من غير أن تعرف التبرم والسخط والملل عشر سنوات كاملة
(2/15)

بدت لها بعدها تباشير النجاح، فغص معهدها بالتلميذات، وشجعها الخديو إسماعيل بأن وهبها قطعة أرض رحبة بالفجالة وأمدها بالمال اللازم لتشيد هذه المدرسة فصارت من أرقى مدارس مصر وأقبل عليها الفتيات المصريات والأجنبيات، ولا سيما بعد أن فتح إسماعيل المدرسة السنية سنة 1873 تشجيعًا على تعليم البنت، ووضعها تحت رعاية إحدى زوجاته.
ولم تكن المدارس الإنجليزية وحدها مصدر الثقافة الإنجليزية بمصر، بل ساعدها في ذلك الميدان مجيء أول بعثة أمريكية في الشرق سنة 1855، في عهد سعيد، وكان ميالًا بطبعه للأجانب، يمنحهم تشجيعه ومساعدته. واتخذت البعثة الأمريكية مقرها بالقاهرة، ودأبت في جد وحرص على نشر رسالتها في جميع أرجاء مصر والشرق العربي، تؤيدها الأموال الأمريكية الطائلة، والأسباب التربوية الحديثة، ولم تدع عاصمة من عواصم القطر، بل ولا مركزًا مهمًا من مراكزه إلا أسست فيه فرعًا ومدرسة تنشر تعاليمها، حتى وصل عدد مدارسها في سنة 1932 إلى ما يزيد على اثنين وأربعين مدرسة، بها ما يربو على 6994 تلميذًا وتلميذة(12).
وعلى الرغم من كل ذلك فقد ظل نفوذ الإنجليز الأدبي والثقافي بمصر محدود الأثر، لا يستطيع مغالبة النفوذ الفرنسي، إلى أن جاء عهد الاحتلال على أثر الثورة العرابية في سنة 1882؛ وقد أفضنا في الحديث عن هذه الثورة وكيف دخل الإنجليز مصر وذكرنا الأسباب الواهية التي حاولوا أن يسوغوا بها هذا التدخل الذميم أمام مصر، وأمام دول الغرب التي كانت تقف لهم بالمرصاد(13).
وما أن استقر الإنجليز بمصر حتى نشطوا لتثبيت أقدامهم بها، فأرسلوا في سنة 1883 عددًا غير قليل من غلاة المستعمرين وذوي الخبرة في إذلال
(2/16)

الشعوب واستغلالها، وعلى رأسهم ذلك الداهية السير "إدفالين بارنج" الذي عرف فيما بعد باسم "اللورد كرومر"، والذي حكم مصر أربعة وعشرين عامًا إلى أن أخرج منها سنة 1907.
كانت مصر ترزح تحت وطأة الديون الثقيلة التي أرهقها بها إسماعيل، والتي اتخذها الغربيون ذريعة لبسط نفوذهم المالي عليها وقد جاء "كرومر"، ومصر في عجز عن تسديد ديونها، فأحكم تدبير المال، وأخذت مصر في سنة 1889 تسدد أقساط تلك الديون التي جعلت للأجانب امتيازات بهذه الديار صيرتهم السادة المترفين، وأصحاب الجاه والسلطان وجعلت أهلها أدنى من الإجراء والخدم، أذلاء مضطهدين. ولم تستطع مصر أن تتخلص من هذه الديون على الرغم من عبقرية "كرومر" المالية إلا في سنة 1942.
وكما كانت حال مصر المالية بالغة السوء، فإن أحوالها الاجتماعية كانت أشد سوءًا. وقد ذكر "كرومر" في كتابه مصر الحديثة "Modern Egypt" ما قدمه لمصر في هذا الميدان، وهاك طرفًا من قوله يمن به على مصر والمصريين:
"
لقد سرت بالتدريج روح جديدة إلى سكان مصر، وتعلم الفلاح كيف يمعن النظر في حقوقه، وتعلم الباشا أن لمن يجاوره من الفلاحين حقوقًا يجب احترامها، وعلى الرغم من أن السوط كان لا يزال معلقًا على جدار المديرية فإن المدير لم يجرؤ على رفعه واستعماله فوق ظهر الفلاح.
وقد اختفت السخرة البغيضة من مصر، وذهب الرق عمليًّا من الوجود، وانقضى أجل الأيام السعيدة التي كان يتمتع فيها المرابون باستنزاف دماء المصريين، وأصبح للقانون الكلمة العليا في كل مكان بعد أن كان القضاء يباع ويشترى، وابتدأ المصريون يحبون أرضهم ويعملون بها بعد أن كانوا يحتقرونها؛ لتمنحهم هباتها وخيراتها فاستجابت لدعوتهم كريمة معطاءة.
وقد أحكم توزيع مياه النيل بالعدل والقسطاس المستقيم بين أرض الأمير الكبير والفلاح الصغير، ونظمت وسائل النقل واتسع نطاقها وأصبح المرضى

(2/17)

يعالجون في مستشفيات جيدة الإدارة، ولم يعد المجرمون والمجانين يعاملون الآن معاملة الوحوش الضاربة، بل إن الحيوان الأعجم قد مسته يد الرفق فوجد من يعني به"(14).
وفي اعتقادي أن بعض ما ذكره "كرومر" صحيح، وبعضه قد بالغ فيه، فإن الإصلاح قد ابتدأ على يد محمد علي، وذهب عهد الأتراك والمماليك، المليء بالمآسى الدامية، والسخرة المقيتة، وشعرت مصر بشيء من العزة الاستقلال في عهد محمد علي وإسماعيل، ولولا ما أراده إسماعيل من الطفرة لمصر في نهضتها لسارت قدمًا في سبيل الرقى، غير متخلفة، أو محتاجة إلى أي مساعدة أجنبية، وقد ذكرنا في الجزء الأول ما قام به عرابي في هذا الشأن، وكان من الممكن أن يتم ما بدأه لو لم ينف عن مصر ويحتلها الإنجليز(15).
أجل؛ إن الإنجليز قد أحكموا توزيع المياه بالعدل، ورفعوا عن كاهل الفلاح كثيرًا من الضرائب المرهقة التي نفرته من الأرض، ودفعته إلى الهرب منها. ولم يكن غرض الإنجليز -فيما أعتقد- هو خدمة الفلاح محبة فيه، ورغبة في إسعاده لوجه الخير، ولكن كان غرضهم الأول هو خدمة بلادهم. فمصر الغنية الهادئة، الرخيصة الخصبة، تستطيع أن تعين إنجلترا المعوزة في المحصولات الزراعية بما تغله من خيرات، الفلاح الذي يمثل جمهرة الأمة وسواد الشعب، إذا شعر بشيء من الطمأنينة والراحة تغني بمأثر الإنجليز، وسخط على سادته وكبرائه، وفي هذا تمكين لقدم المستعمرين، وتكأة يعتمدون عليها في تسويغ مقامهم غير الحميد بمصر، واستعمار أهلها.
ولا أدل على أنهم لم يقصدوا بهذه الإصلاحات نهضة مصر، أو رقى أهلها، من سياساتهم التعليمية بهذه البلاد، فقد نهجوا فيها نهجًا استعماريًّا بغيضًا، ورجعوا بتقدمها العلمي الذي أحرزته على يد محمد على وخلفائه، ورجال البعثات
(2/18)

المصريين سنين طويلة إلى الخلف، ولقد شهد بذلك أكثر من مؤرخ إنجليزي منصف، أو ناقد متبرم من إخفاق الإنجليز في نشر نفوذهم الأدبي والثقافي بمصر(16).
رأى كرومر بعد أن خطا في إصلاحاته المالية والاجتماعية والداخلية خطوات واسعة، أن عليه واجبًا نحو نشر الثقافة الإنجليزية بمصر، وقد راعه ذلك البنيان الضخم من الثقافة الفرنسية، الذي شيدته همم الإرسالات، وعززته الحكومة الفرنسية, ورجال الاقتصاد والأعمال الفرنسيون، هالته كثرة المدارس الفرنسية في مصر، وحماسة هؤلاء الذين تعلموا بها -أو في فرنسا ذاتها- لنشر الثقافة الفرنسية، ورأى أن الفرنسيين قد بذلوا غاية جهدهم لمساعدة هؤلاء الذين يتخرجون في مدارسهم، فاشترطوا على الإنجليز أن يظل لهم النفوذ الأول ببعض المصالح الحكومية كما كان شأنهم قبل الاحتلال البريطاني، فاستأثروا بمصلحة الآثار المصرية -وظلت إلى أن جاءت الثورة في أيديهم- ونظارة مدرسة الحقوق، واستولوا بأموالهم وقروضهم وشركاتهم ومؤسساتهم التجارية على أكثر من نصف المصالح الاقتصادية والأموال المنقولة بمصر، ووجد الشبان المصريون والأجانب الذين يتخرجون في مدارسهم متسعًا للعمل بهذه الشركات والمؤسسات، وصارت اللغة الفرنسية لغة التعامل والتداول والتجارة بين الأجانب بمصر، وبينهم وبين المصريين. حتى اضطرت المحاكم المختلطة أن تصدر تسعة أعشار أحكامها باللغة الفرنسية، فضلًا عن الموظفين العديدين الذين وجب عليهم إتقان اللغة تلبية لجمهرة المتقاضين أمام المحاكم المختلطة.
وعلى الرغم من الاحتلال الإنجليزي وطول أمده فلا تزال اللغة الفرنسية هي اللغة الأولى في السوق المصرية حتى اليوم، وهي لغة التخاطب بين الأجانب
(2/19)

المختلفي الجنسية، لقد استجابت فرنسا والفرنسيون لنصيحة نابليون التي يقول فيها: "علموا اللغة الفرنسية ففي تعليمها خدمة الوطن الحقيقية".
رأى كرومر كل هذا، وأن الشعب المصري لا يمكن أن يقبل الاستعمار الإنجليزي إلا إذا أقبل على الثقافة الإنجليزية، وقدم له الإنجليز عملًا مجديًا في سبيل تعليمه، ولكن هل كان كرومر جادًّا في تعليم المصريين؟ أو أن غايته هي بسط نفوذ الاستعمار، ولو أدى ذلك إلى الرجوع بالتعليم إلى الوراء؟!
لقد وضع كرومر سياسة تعليمية سار عليها أمدًا طويلًا، وجاء "دانلوب" في سنة 1906 وورثها عنه ولقنها منه، وعمل على تنفيذها: وتتلخص هذه السياسة في الأمور التالية:
1-
نشر التعليم بين الفتيات المصريات، ولعله تأثر في ذلك بما قدمته "مس ونلي" من خدمات في هذا المضمار، وظن أن تعليم البنت وتلقينها الثقافة الإنجليزية يهيئ الفرصة لوجود جيل من الأبناء يحبهم ويعطف عليهم.
2-
العمل على محو الأمية بين الفلاحين والطبقات الفقيرة بمصر، وذلك بتعميم مدارس القرى في الريف، ومدارس المساجد في المدن.
3-
إعداد فريق من الشبان المصريين لتولي الأعمال الكتابية والإدارية، والفنية المتواضعة في الحكومة.
4-
مناهضة الثقافة الفرنسية، واللغة العربية في المدارس وإحلال اللغة الإنجليزية محلها.
وقد أخفق كرومر في هذه السياسة كل الإخفاق؛ لأنه لم يكن خبيرًا بشئون التعليم؛ ولأنه قاوم الحركة الوطنية التي بدأت سيرها منذ عهد محمد علي، والتي نهضت باللغة العربية، وساعدت على انتشار اللغة الفرنسية؛ ولأنه لم يفهم نفسية المصريين على حقيقتها، وظن أنه حين ينهض بتعليم الفتاة يجد إقبالًا على سياسته تلك، ونسي أن الحجاب كان ذا سيطرة قوية حينذاك، وأن المصريين

(2/20)

نظروا إلى اللغة الإنجليزية على أنها لغة المحتل الغاصب، فانصرفوا عن مدارسه، ومما عمل على شدة إخفاق سياسته في ميدان التعليم ذلك المستشار الإنجليزي الذي وضعه بوزارة المعارف يسير أمورها، وهو لا يعرف من شئون التربية قليلًا أو كثيرًا، ألا وهو المستر "دوجلاس دانلوب" الذي خدم وزارة المعارف من سنة 1906 إلى 1919.
اجتمعت في دوجلاس دانلوب سوأتان، فهو قسيس إسكتلندي، وقد اشتهر أهل إسكتلندا بغلوهم الاستعماري، ونظرتهم إلى الشعوب الملونة نظرة ازدراء، واعتقدوا أنهم لا يصلحون لإدارة أمورهم بأنفسهم، وأنه لا بد لهم من قيادة غربية حتى تستقيم أمورهم. وقد جاء دانلوب خير مثل يضرب لضيق الأفق، ونقص الثقافة، والتعصب الذميم لرأيه، وأصدق ما وصف به هذا الذي نكتب به مصر بعامة، ووزارة المعارف بخاصة ما قاله عنه وعن سياسته البغيضة في التعليم "السير فالنتين تشرول" في كتابه المسألة المصرية:
"
لقد كانت سياستنا التعليمية تفتقر إلى الروح المعنوية، والإلهام القوي؛ لأننا تركناها في يد مستشار وزارة المعارف مستر دانلوب. وكان دانلوب حسن النية، دءوبًا على الجد والعمل، غير أن أراءه في التربية لم تتعدَ ما كانت توحي به تلك الدروس التربوية التي تلقاها في حداثته".
"
ومهما امتاز دانلوب من صفات محمودة فإنه كان ضيق الفكر، قصير النظر يؤمن بالكمية لا بالنوع. أي كثرة المواد الدراسية لا نوعها، وكان وهو متربع في كرسي مكتبه بوزارة المعارف يصدر الأوامر والنظم والقوانين المتعددة كما تتصورها عقليته، وقلما كان يأبه لرأي سواه. أما نصح المصريين له فكان -بالطبع- لا يجد منه أذنًا مصغية ولا يتسع له صدره"(17).فلا بدع إذا أخفق كرومر في سياسته التعليمية بمصر وهذه عِدده
(2/21)

ووسائله، لقد أتى كرومر مصر ونسبة تعليم البنات بها ثلاثة في الألف(18) في سنة 1883 وخرج من مصر سنة 1907 ونسبة تعليم البنات ثلاثة في الألف(19) كذلك، وأي إخفاق أعظم من هذا في أول مشروع في منهجه التعليمي!!.
وإذا قيل: لقد امتحن كرومر بتعليم البنت، وأبت مصر المحافظة التي كان للدين بها أثر كبير أن تدفع فتياتها إلى ميدان التعليم ولا سيما وميدان العمل لم يكن قد فتح أمام الفتاة كما هو الشأن اليوم، ولعله كان أكثر نجاحًا في مشروعه الثاني وهو محو الأمية؛ لأنه تعليم للذكور وتعليمهم استمرار للنهضة التي وضع أسسها محمد علي ونماها إسماعيل.
لقد بذل كرومر في تعليم الذكور جهدًا كبيرًا، وأعان مكاتب القرى بالمال، وأنشأ مجالس المديريات، وأعطاها سلطة فرض ضرائب محدودة لتستعين بها على محو الأمية، ومع كل هذا جاءت النتيجة عكس ما قدر "كرومر". فقد ابتدأ عهده في سنة 1883 ونسبة المتعلمين(20) من الذكور 16% ورحل عن مصر سنة 1907 ونسبة المتعلمين(21) لا تزيد عن 8%، ومعنى ذلك أن عدد المتعلمين قد تضاءل إلى النصف، فهل يعد هذا نجاحًا، أم إخفاقًا ذريعًا؟ ولعل من أسباب هذا الإخفاق وإحجام كثير من المصريين عن التعليم ما نهجه كرومر من فرض اللغة الإنجليزية على المدارس الابتدائية والثانوية، وعدم تشجيع التعليم العالي كما سنذكر بعد قليل، فلم يجد المصريون أمامهم إلا طريقة معقدة تتنافى ودينهم ولغتهم كما وجدوا مستقبلهم معتمًا لا يشجعهم على دفع أبناءهم إلى المدارس المصرية التي صبغت بصبغة إنجليزية، ولقد كانت جمهرتهم متدنية، ونظرت إلى هذا النوع من التعليم على أنه شيء ليس فيه ما يرضى الله أو الدين أو الوطن، ولم يقبل على المدارس المصرية إلا القليل من أبناء المدن
(2/22)

والذي يعنينا هنا أثر هذه السياسة في الأدب: فقد نقص عدد القراء في عهد الاحتلال الإنجليزي نقصًا زريًّا، لمن ينتج الأدباء؛ وأي تشجيع يجدونه من أمتهم؟ أو من ولي الأمر فيهم، وهو إنجليزي اللسان والحكم.
وإذا كنا للآن وبعد أن مضى أكثر من نصف قرن، تغيرت فيه نظم التعليم ونالت مصر فيه حريتها، وكثر فيها المتعلمون كثرة نسبية، وعظم الاعتناء باللغة العربية -إذا كنا للآن نشكو من قلة عدد القراء، وعدم الاستجابة، أو الرغبة في قراءة الكتب الأدبية، فما بالك بما حدث في عهد كرومر من هذه النسكة المريعة من ثقافة الشعب، وتعليم جمهرة بنيه؟
لا يسعنا إلا أن نقول كما قال الأستاذ "جب"(22) في هذا: "من أن مصر التي بدأت فيها النهضة منذ قرن من الزمان على يد محمد علي، والتي كانت النموذج الذي احتذته تركيا، وهي الدولة صاحبة السيادة الاسمية على مصر، قد أصيبت في آدابها، وتأخرت عن تركيا، ولا سيما في فن القصة، وقد مضى القرن التاسع عشر -على الرغم من أن بعض القصص الأدبية قد نقلت إلى اللغة العربية، ولم يتقدم مؤلف واحد بقصة كاملة استوفت شروط القصة الحديثة، اللهم إلا شبه قصة هي: حديث عيسى بن هشام، للمويلحي الصغير".
ولولا أن الصحف والمجلات، قد أوت الأدباء وأفسحت لهم ميدان الكتابة، لما وجد هؤلاء سبيلًا للنتاج الأدبي أو شبه الأدبي ولقضي على أقلامهم، والا انصرفوا لاحتراف شيء آخر غير الأدب، يصيبون منه بعض ما يقوم برزقهم ورزق أولادهم وأسرهم.
ولقد كان لذلك تأثير آخر في الاتجاه الأدبي الحديث؛ لأن الكتاب جودوا المقالة، وراجت سوقها، بيد أن الصحف السيارة ليست ميدانًا للتجويد الأدبي؛ لأن جمهرة قرائها من غير الأدباء؛ ولأنها تعني بالأخبار والحوادث قبل أن تعني بالمقالة الإنشائية، أو يجب أن يكون كذلك على الأقل، فيجب على الكاتب أن يراعي
(2/23)

مستوى الجمهور الذي يكتب له، ورغباته اليومية؛ ولهذا نزل الكاتب من عليائه إلى المستوى الذي يتطلبه الجمهور، في أسلوبه وموضوعه، وطريقة عرضه.
وثمة شيء آخر هو أن الكاتب لم يكن حرًّا فيما يختار من موضوعات؛ لأن الصحف سياسية قبل كل شيء تهتم بالسياسة الخارجية والداخلية، وهي تمثل لونًا معينًا من هذه السياسة، وقد كان بمصر حينذاك أحزاب مختلفة، حزب الخديو، وحزب الإنجليز، وحزب الوطنيين، ولكن حزب ألسنة من الكتاب والصحف تدافع عن سياسته، وتحصي على الآخرين أخطاءهم، وتفند أقوالهم، ولذلك كله اضطر الكتاب إلى خوض غمار المعارك الحزبية والسياسية، ولم يعد للأدب الخالص، أو الموضوع الذي تشبعت به نفس الكاتب وامتلأت مشاعره مجال في الصحف إلا قليل. وقد عاد كل هذا على الأدب بالضرر، فكسدت سوقه، وخمدت قرائح الكتاب، وتعطلت أقلامهم الرفيعة، وسنعود إلى الحديث في توضيح هذا بعد قليل إن شاء الله.
أما ما قصده "كرومر" من إعداد طائفة من الشبان المصريين لشغل بعض وظائف الدولة غير ذات الخطر، فقد نجح فيه أيما نجاح واستطاع أن يخرج ألات صماء، ليس عندهم شيء من الجرأة وحرية الرأي، والقدرة على الابتكار، ثقفوا ثقافة محدودة، فبعضهم اكتفى بالتعليم الابتدائي وآخرون زادوا قليلًا فنالوا الشهادة الثانوية، وقد ملئت أدمغتهم بمعلومات كثيرة غير مفيدة في حياتهم الفعلية، وكان الغرض الأول أن يظلوا مرؤوسين للإنجليز الذين غصت بهم مصالح الدولة، لا يتطلع أحدهم إلى منصب كبير، وليس في مكنته أن يشغل هذا المنصب الكبير إذا تطلعت نفسه إلى ذلك؛ لأنه لم يعد الإعداد الواجب لشغل مثل هذا المنصب.
ومما يؤسف له أن سياسة "كرومر ودانلوب" في التعليم قد ظلت أمدًا طويلًا -بعد أن نالت مصر حريتها، وتخلصت من الإنجليز في التعليم- وهي السياسة المتبعة في مصر، وصار المنصب الحكومي هو غاية ما يتطلع إليه الشباب

(2/24)

في مصر، والأمل الذي يجمع له كل قواه. وفي ذلك يقول مستر: "مان" في تقريره لوزارة المعارف: "ليس في العالم على الأرجح قطر يتمتع فيه موظف الحكومة بمنزلة كبيرة بين الأهلين كالتي يتمتع بها الموظف بمصر؛ وقد لا يوجد في أي بلد آخر آباء يصحون بالشيء الكثير في سبيل جعل أبناءهم موظفي حكومة بأي شكل كان"(23).
ولم تكن هذه الغاية وحدها هي كل ما جناه الإنجليز على التعليم بمصر، بل إن مستر دانلوب، الذي أسلمه كرومر قيادة التعليم في مصر سنة 1906 قبل أن يغادرها، قيد التعليم بقيود شنيعة من القوانين الصارمة، لا يحيد عنها، ولا يعرف سواها، وأكثر من حشو أدمغة التلاميذ بشتى المعلومات المفيد منها، وغير المفيد وصار المعلم في المدارس آلة صماء أمام القانون، وصار التلميذ آلة في يد المعلم، وفقد كلاهما شخصيته وصارت المدارس أشبه بالسجون، والهم الأكبر الذي يشغل التلميذ، والمدرس، وناظر المدرسة، ووزارة المعارف وعلى رأسها "مستر دانلوب" هو نجاح التلميذ في الامتحان. أما أن تعني وزارة المعارف، وتعني المدرسة معها بشخصية التلميذ، ودراسة مواهبه واستعداده، وتحسس ميوله، وتصقل خلقه، وتنمي ملكاته العليا فذلك أمر لا يخطر لوزارة المعارف، ولا لمستر دانلوب ببال، ولو كان خطر له ما قدم عليه؛ لأنه كان يريد إخراج جيل مشوه التعليم، لا يصلح للحياة الحرة الكريمة.
لقد قيد مستر دانلوب المعلمين بقيود سخيفة وضعها في قانون نظام المدارس، وهذا دليل على أنه لم يكن يثق في هؤلاء المعلمين، وأول ما يجب على المهيمن على شئون التعليم أن يثق بالمربي والمعلم، فإن لم يفعل هذا، وأبى إلا أن يندس بين المعلن وتلميذه في كل لحظة، ويشعره بأنه من ورائه يقيد أنفاسه ويحصي أخطاءه منها ما صغر منها وما كبر، أفسد عليه أمره، وأفسد التعليم كله، وصار المعلم ينظر إلى هذا المهيمن على التعليم نظرته إلى الحاكم المستبد
(2/25)

الذي يدفع إليه أجرًا ويتقاضاه عملًا، فصانعه وخادعه، وقامت التهمة بينه وبين رئيسه مقام الثقة، وقام الخوف والشك بينهما مقام الأمن واليقين: ولم يعد ينظر إلى التلميذ على أنه أمانة قد أؤتمن عليها، ووديعة قد كلف حمايتها وحياطتها، وفرد من أفراد الشعب قد كلف تربيته وتنميته، وتعهده بالرعاية والعناية، حتى ينمو ويزكو ويصير رجلًا، وإنما ينظر إليه على أنه مادة للعمل الذي يعيش منه، وموضوع للنشاط الذي يكسب منه القوت، فيعامله معاملة المادة الجامدة الهامدة، لا معاملة الكائن الحي، ولا معاملة الإنسان الناطق"(24). ويصوغ هذه المادة كما يجب أن يكون هذا الرئيس لا كما يجب أن تكون. ويصبح هذا المعلم آلة من الآلات، وأداة من الأدوات في هذا المصنع العقيم السخيف الذي نسميه المدرسة.
وإليك ما يقوله مستر "بويد كاربنتر": "على المستر دانلوب" تقع تبعة فساد التعليم المصري، والرجوع به القهقرين وإخراج موظفين جل اعتمادهم في أثناء دراستهم على الاستظهار والحفظ، لا على القوى العقلية السامية الأخرى: من التعقل والموازنة، والابتكار، والاستنباط. وقال: إن الطالب المصري يعتمد في تحصيله على ذاكرته، وعلى التكرار الآلي للحقائق المحفوظة، لا على ذكائه وتفكيره، فينشأ عن ذلك ضيق أفقة، وجهله بالحوادث المعاصرة، وحاجته الشديدة للمعلومات العامة وللسرور والإقبال على ما يدرس(25).
لم يكن "دانلوب" مخلصًا لمصر، بل كان استعماريًّا من النوع الذي يسيئ لبلده وللبلد المحكومة على السواء، فسياسته التعليمية لم تكن هي التي تنتهجها إنجلترا في تعليم أبنائها، وتربية شبابها؛ لأن الإنجليز قد اشتهروا بنوع من التربية فيه كثير من المزايا، التي تبعث في الشباب الحرية في العمل والتفكير، والاعتماد على النفس، والمغامرة في الحياة وارتياد مجهولاتها؛ وبفضل هذه التربية الاستقلالية التي لا تجدها نظم مدرسية صارمة، ولا قوة قوانين ظالمة ولا مناهج غاصة بالتافه من المعلومات، وإنما عمادها الطبيعة، طبيعة الوجود، وطبيعة
(2/26)

الطفل، ودراسة ميوله وغرائزه، وتنمية ملكاته إلى أقصى حد تستطيع أن تصل إليه، استطاعوا بفضل ذلك كله أن يكونوا في طليعة الأمم، وأن تتسع إمبراطوريتهم وتجارتهم، ولم يرضوا بالحياة الضنكة في ديارهم إذا قتر عليهم في أرزاقهم، بل جابوا البحار، والصحاري، والغابات، واستوطنوها واستغلوها، ثم لما كثرت مصالحهم طالبوا دولتهم بحمايتهم، فبسطت سلطانهم على كثير من بقاع الأرض.
ولقد كانت التربية في إنجلترا موضع تقدير من مفكري أوربا، ولا سيما فرنسا التي يعامل فيها الطفل منذ حداثته معاملة الرجال، فيغشى مجالس الرجال، ويستمع إلى أحاديثهم التي يجدر به ألا يسمعها، والتي لا يصح أن يستمع إليها، ويقضي معهم سهرته في الوقت الذي يجب أن يأوي فيه إلى فراشه، ويلبسه أهله السراويل الطويلة تشبهًا بالرجال، وهو في أمس الحجاة إلى الهواء والشمس، وعلى العموم لا يعاملونه معاملة طفل ينمو، له رغباته التي يجب أن تحترم في حدود المعقول، ويجب أن توجه برفق إلى الخير، ولا يتركونه للطبيعة يتملى من محاسنها، ومفاتنها، ويتلقى عنها دروس الحرية والكرم والشجاعة(26)، وإنما يعاملونه معاملة رجل مثلهم. كانت التربية الاستقلالية هذه معمولًا بها في إنجلترا على الرغم من أن إنجلترا لم تشتهر بعلماء التربية والنظريات التربوية كما اشتهر سواهم من الأمم.
ومما يدل على تقدير المفكرين لتربية النشء في بلاد الإنجليز ما قاله العلامة: "جوستاف لوبون" من: "أن المبدأ الأساسي في التربية التي يسير عليها الإنجليز هو أن يقضي النشء زمن الدراسة في المعاهد والمدارس والكليات، لا ليؤديه سواه، ولكن ليتعلم إلى الحد الذي يمكنه من أن يستخدم استقلاله الذاتي استخدامًا نافعًا، فالنشء لديهم يؤدب نفسه بنفسه وبذلك يتصف بهذه الخلة الحميدة ألا وهي ضبط النفس، وهي مصدر الحكم الذاتي"(27)، وعلى العكس من ذلك كله كانت سياستهم التعليمية في مصر.
(2/27)

وظلت سوءات الإنجليز في تعليم الشعب المصري تؤتي ثمارها البغيضة، حتى بعد أن تولى المصريون شئون التعليم، إذ لم يكن من الميسور أن نتخلص من أوضار هذه العهد دفعة واحدة، وقد ظل أكثر من ثلاثين عامًا، وسادت نظمه وقوانينه جميع مراحل التعليم؛ لأن الجيل الذي تربى على أيديهم صار يملك قيادة المصريون في التعليم، ويوجههم تلك الوجهة التي تربى عليها في صغره؛ لأن الفساد كان أعظم من أن يزول في سنوات معدودات، ولذلك ظلت آثامه ردحًا غير قليل من الزمن تسيطر على المدرسة المصرية، وفي ذلك يقول الدكتور طه حسين: "وهناك التعليم الرسمي المدني تنشئه الدولة وتقوم عليه، وقد كان إلى الآن متواضعًا هين الأمر، يقصد به أغراض متواضعة هينة، وقد رسم له الإنجليز طريقة محدودة ضيقة، فأفسدوه وأفسدوا نتائجه وآثاره أشد الفساد ونحن نبذل منذ أعوام جهودًا مختلفة مضطربة لإصلاح ما أفسد الإنجليز، فلا نكاد نوفق في بعض الأمور، حتى تعدو العاديات فتردنا إلى الإخفاق والخذلان"(28).
وشكت الجامعة مر الشكوى من أن طلبتها ليسوا في مستوى ثقافي يمكنهم من الدراسة الجامعية الصحيحة؛ ولأنهم ليسوا في مستوى عقلي يخلق منهم علماء أجلاء لديهم قوة الابتكار، وحرية الفكرة، والاستقلال في الرأي، وإليك ما يقوله نجيب الهلالي "باشا" في تقريره عن التعليم الثانوي سنة 1935: "ذلك إلى أن جميع المعاهد تشكو من أن الطلبة لا تتحقق فيهم الصفات المطلوبة للدراسة العالية، من حيث روح التعقل، وقوة الملاحظة، والاعتماد على النفس، وحب البحث، حتى إنهم يضرون أساتذتهم إلى إملاء الدروس عليهم إملاء. مما يعوق الدراسة العالية في صورتها الكاملة"(29).
ويقول الدكتور طه حسين: "فما زال الشبان يأتون إلى الجماعة ضعافًا قاصرين، وما زال الشبان يستقبلون حياتهم جاهلين لها، عاجزين عن التصرف فيها، ضعافًا عن أن ينهضوا بأعبائهم: يذهبون إلى الدواوين موظفين فتشكو
(2/28)

الدواوين من سوء إعدادهم للعمل فيها، ويعرضون أنفسهم على أصحاب الأعمال الحرة، فلا يكادون يجربونهم حتى يزهدوا فيهم ويعرضوا أشد الإعراض عن استخدام زملائهم؛ لأنهم لم يعدوا للأعمال الحرة إعدادًا صالحًا(30).
لقد كان هَمُّ الإنجليز الأول من هذه السياسة التعليمية الفاسدة أن يخرجوا طبقة من الموظفين الحكوميين، لم يتعمقوا في الدراسة، ولا يصلحون للقيادة، بل يكونون آلات في أيدي رؤسائهم من الإنجليز وأتباعهم. كان لهذا ولا ريب تأثير كبير في الأدب؛ لأنه صبغ حياة الموظفين بصبغة مادية رخيصة، ألا وهي السعي وراء الوظيفة، لا يبغون بها بدلًا، ولا يستطيعون عنها حولًا، ولا يعرفون كيف يفكرون في سواها لاكتساب العيش إذا تطردوا منها، كأنهم السمكة جف من حولها الماء، أو الطيور حرمت الهواء.
وشعب هذه حال المثقفين فيه لا ينظر إلى الأدب إلا بمنظار المادة، ولا يرى فيه ما يراه الغربيون من أنه وسيلة للتعبير عن مشاعر الأديب أيًّا كانت هذه المشاعر والأحاسيس التي تفيض بها القلوب، ووجداناتهم. ولذلك انصرف الأدباء إلى تملق الرؤساء، وأصحاب الحول والطول، يمدحونهم أحياء ويرثونهم أمواتًا وقلما ركن أحدهم إلى نفسه يسمع هتافها الخالص، ونداءها الحر، فيسجله شعرًا صادرًا من أعماق فؤاده، وطيات نفسه، ويخرج به على الناس، براء من المديح والمداهنة، والمخادعة والملاينة، والنفاق الاجتماعي والغرض المادي، ويأتي به صورة صحيحة لما يجيش في نفسه من خواطر، ويعتلج في حناياها من مشاعر، ويعتمل فيها من فكر.
ومن العجيب أن الثورة الفكرية، التي أحدثها السيد جمال الدين الأفغاني بمصر، وحمل مشعلها تلاميذه من عبده، قد أطفأها الإنجليز بطريقتهم العقلية في الثقافة والتربية، ولم ينج من شرهم إلا نفر قليل شاهدوا هذه الثورة الفكرية في عنفوانها، ورضعوا أفاويقها فظلوا إلى أوائل هذا القرن يحملون المشعل، ويهدون الأمة سواء السبيل.
(2/29)

أما الشعراء فلم يتأثروا بهذه الثورة في قليل أو كثير، ولم يلتفتوا كما التفت الكتاب إلى الشعب يفصحون عن علله وأدوائه وآلامه وآماله، ويغذوا فيه تلك الروح الوثابة، بل انصرفوا إلى الأمراء والوزراء، وذوي الجاه والمال يتملقونهم ويستجدونهم، لقد صار النثر بفضل ثورة جمال الدين ومحمد عبده وعبد الله نديم والمويلحي وأضرابهم معبرًا عن حاجات الشعب، بينما ظل الشعر بمنأى عن رغباته ومطالبه، مكيلًا بقيود الماضي.
حتى هؤلاء الذين تتلمذوا على البارودي لم يحاكوه في نبل أغراضهن وصدق عاطفته، وجمال تصويره لبيئته، لقد كان البارودي صادقًا في شعره حين يصف الريف المصري وما فيه من مناظر وزرع نضير، وهدوء، وشمس ضاحية صافية، وظل وريف: وحين يرثي أحباءه وأقاربه وأصدقاءه، وحين يصف بطولته وشجاعته في ميادين القتال، ويصف بجانب هذا الميدان وطبيعته، والأعداء وأحوالهم: حين يعبر عن ميوله السياسية، وما قاساه على يد الخديو من اغتراب ومحنة، وحنين إلى الأهل والوطن، ولم يمدح البارودي إلا نادرًا، ولم يرث إلا صديقًا حبيبًا.
وعلى العكس منه نرى هؤلاء الذين انتهجوا نهجه في الأسلوب، واغترفوا من تلك الينابيع العربية التي وردها، نراهم مداحين، هجائين، ندابين لكل عظيم ويقول الدكتور طه حسين: "وأصبح الشعر بفضل الشعراء، وكسلهم العقلي فنًا عرضيًا لا يحفل به إلا للهو والزينة والزخرف، فإذا أراد بنك مصر أن يفتتح بناءه الجديد طلب إلى شوقي قصيدة، فنظم له شوقي هذه القصيدة. وإذا أرادت "دار العلوم" أن تحتفل بعيدها الخمسيني كما يقولون طلبت إلى شوقي والجارم وعبد المطلب أن ينظموا لها قصائد، فنظموا لها القصائد، وإذا مات عظيم وأريد الاحتفال بتأبينه، أو نبه نابه، وأريد الاحتفال بتكريمه طلب إلى الشعراء أن ينظموا الشعر في المدح والرثاء، فنظموا كما كان ينظمه القدماء، فانحط العشر حتى أصبح كهذه الكراسي الجميلة المزخرفة التي تتخذ في الحفلات والمأتم، وأصبحنا لا نتصور

(2/30)

حفلة بغير قصيدة لشوقي أو حافظ، كما أننا لا نتصور عيدًا أو مأتمًا بغير مغنٍ أو مرتل قرآن. فأما الشعر الذي يقال لنفسه، الذي يقال ليحلو مظهرًا من مظاهر الجمال الطبيعي. الذي يقال ليكون صلة بين نفس الشاعر ونفس القراء، الذي يقال لا يتملق عاطفة من العواطف، أو هوى من الأهواء، فلا تلتمسه عندنا، ولكن التمسه عند قوم آخرين عرف شعراؤهم لأنفسهم كرامتها فربئوا بها عن أن تكون أداة للهو والزينة"(31).
وكان جمهور المثقفين يطرب لهذا النوع من الأدب؛ لأنه لا يعر ف غيره، ولأنه يحاكي تلك الألوان التي عرفها في المدرسة من الأدب العربي القديم، ووعتها حافظته. وفضلًا عن هذا كله فإن هذا النوع من الأدب كان نتيجة لازمة للتربية الإنجليزية في مصر، التي اهتمت بتنمية الذاكرة، وقدرتها على الاستيعاب، وأهملت المواهب الإنسانية الأخرى كالتفكير والتأمل، ودقة الملاحظة، والابتكار العقلي، والحرية في الرأي.
ويقول مستر "مان" في تقريره عن التعليم في مصر زمن الإنجليز: "يشهد الإنسان التلاميذ بالمدارس المصرية مشتغلين في الغالب. إما بالإصغاء إلى المعلم، وإما بتدوين مذكرات، أو تذكر ما استظهروا، وإما بعمل تمرينات متماثلة، وبسرعة واحدة، وتحت رقابة صارمة، ويندر أن يقع النظر على التلاميذ يعملون عملًا مستقلًا، أو يطالعون مطالعة خاصة".
ويقول في موضع آخر من تقريره: "إن من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى التدليل أن طريقة الاستظهار ليست بالطريقة الصالحة لتحصيل العلم، إذ إن كل محاولة لاستعمال قوة الحفظ، وهي من المدارك الدنيا -بدلًا من قوة الفهم- وهي من المدارك العليا، لا بد من أن تؤدي إلى إضعاف قوى التصور، والتعقل والاستنباط؛ لأن الملكات التي لا تستخدم يصيبها الوهن(32).
(2/31)

ويقول الدكتور هيكل؛ ويجب أن نعترف، ونفوسنا يملؤها الحزن والأسى، أن تربيتنا وتهذيبنا، لم يعد أكثريتنا للتأثر الفردي، والإحساس الذاتي، فهما يرسمان أمامنا مختلف صور الحياة. ويتركان لحسنا ولفكرنا أن يميز من هذه الصور ما يأخذه بهما ويلفتهما لفتات خاصة. بل هما يجيئان بصور الحياة مصبوبة في قوالب قررتها الجماعة في عصور سالفة فيطبعانها في حسنا وفكرنا طبعًا يقيدهما بهذه القوالب، ويكرههما على الخضوع لها والإيمان بها(33).
ويقول في موضع آخر: "وإنما رجاؤنا أن تصدر الثورة المجددة التي ينبعث أصحابها في طلب الكمال الشعري لذاته عن الجيل الجديد، الذي يتلقى العلم اليوم، والذي نجاهد كلنا في سبيل تلقينه إياه، على غير تلك القواعد القديمة، التي كانت تبعث الجمود في الأذهان والقلوب والعواطف. وعلينا إذا أردنا معاونته على القيام بهذا الواجب أن نهاونه على تقرير حرية العاطفة بمقدار ما أعناه على تقرير حرية الفكر، وأن نوسع أمامه من أفاق الفن بمقدار ما نوسع من أفاق العلم، وأن نعرض عليه من صور الحياة الماضية والحاضرة ما يسمح له بحرية الاختيار، فإذا نحن قمنا بهذا الواجب كان لنا أن نؤمل من بين هذا الجديد، في أولئك الأفذاذ الذين يقيمون صرح الشعر على أسس صالحة، والذين يجعلوننا نحس إذ تنشد شعرهم بائتلاف جواب نغمته مع سائر أنغام الحياة الحضارة وصورها، بدل أن نرى أنفسنا كمن يشدو بقيثاؤته وسط الأطلاق، ويريد أن يبعث أمام خياله حياة ليس لها بشيء مما في حياته اتصال(34).
عمد الشعراء إلى استظهار كثير من الأدب العربي القديم، حتى يستقيم لهم الأسلوب ويتملكوا ناصية القافية، ويكثر محصولهم من الكلمات والتعبيرات. بيد أن هذا الاستظهار أورثهم الجمود، والتقليد للأدب العربي القديم: في أساليبه،
(2/32)

وصور بيانه من كناية واستعارة وتشبيه ومجاز، وفي موضوعاته. ولم يستخدموا اللغة التي أحاطوا بمفرداتها في أغراض عصرهم، وتصوير بيئتهم، والتعبير عن خلجات نفوسهم، وهزات مشاعرهم، في صور من البيان جديدة مستمدة من بيئتهم الحضرية. وهزات مشاعرهم، في صور من البيان جديدة مستمدة من بيئتهم الحضرية. ومدنيتهم الحديثة، وإنما احتذوا حذو الشعراء الأقدمين في كل شيء وعارضوهم في مشهورات قصائدهم(35).
وإذا كان المديح، والتهاني، والرثاء، من خير ما ورثناه عن الشعر العربي القديم، وإذا كان الشعراء الذين سلكوا هذا الطريق خلدوا في الأدب العربي؛ فما ذلك إلا لأن عصرهم كان يمجد هذا النوع من الأدب، ولأن الحياة الاجتماعية كلها تدور حول الأمير، بيده السلطات: الدينية والدنيوية، وهو ووزراؤه. وأهل بيته أصحاب الجاه والمال، وهو المتصرف المطلق في حياة الشعبِ، إن كان صالحًا سار فيهم بكتاب الله وسنة رسوله، وحكم بالعدل. إن كان فاسدًا ذاقوا على يديه، وعلى أيدي ولاته ضروب الذلة والمهانة، فلا بدع إذا أغدق الشعراء على هذا الأمير الثناء؛ ليحرضوه على فعل الخير، وليرسموا له الطريق الصالحة التي تسعد الشعب وتسعدهم(36).
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناة العلاء من أين تؤتي المكارم
وبذلك كان الأدب في العصور الإسلامية السابقة أدبًا أرستقراطيًا. أما نحن فقد تغيرت بنا صروف الزمن، ولم يعد الأمير هو كل شيء في حياتنا، وصارت للشعب حقوق يجب أن تحترم، وآمال لا بد أن تتحقق، وصارت الأمة تنادي بأنها مصدر السلطان، ولم يعد الأمير وحاشيته ووزراؤه هم مصدر المال دون سواهم، بل تعددت سبل الكسب أمام الشعراء فلا معذرة لهم.
لم يفطن أدباؤنا إلى كل ذلك، بل نقلوا إلينا الأدب القديم في كل صوره، وعارضوا كبار الشعراء في العصر العباسي، أمثال أبي تمام، والبحتري، والمتنبي، فجاءت قصائدهم في كثير من معانيها وألفاظها بياتها وصور بيانها متأثرة بقصائد الأولين.
(2/33)

إن اللغة توفيقية ما في ذلك ريب. ولا بد للأديب الذي يبغي التفوق والخلود من أن يلم بها إلمامًا تامًا، ويعرف أسرارها ودقائقها وشتى أساليبها، ولمن يتأتى له ذلك بإدمان القراءة في كتب الأدب قديمها وحديثها، وحفظ الجيد من روائع الشعر والنثر، ولكن الذي نلوم عليه الشعراء في ذلك الوقت هو جمودهم، وتقليدهم لهذا الأدب موضوعًا وأسلوبًا وبيانًا، مع أن صور البيان القديمة لا يناسب كثير منها العصر الذي نعيش فيه. إن ألفاظ اللغة مثل اللبنات التي يشيد بها البيت، وهندسة البيوت تتغير من عصر إلى عصر تبعًا لحالة الناس من البداوة والحضارة، والغنى والفقر. والتعليم والجهل، فإذا كنا في عصرنا الحاضر نشيد بيوتًا كما كان يشيدها العرب في العصر العباسي، ولا نلتفت إلى ما يتطلبه عصرنا، وما عرفناه عند غيرنا من فن حديث في البناء، كان ذلك ولا شك سوء استعمال. وإذا وصف "شوقي" مركب أم المحسنين بالهودج، مع أنها كانت تركب سيارة فخمة تطوي الأرض طيًّا، وحفلت بشتى ألوان الراحة، كان ذلك أيضًا سوء استعمال، وسوء اختيار. والله در حافظ إبراهيم حين وصف الشعر في ذلك الوقت، وصرخ صرخة مدوية يطلب فيها التجديد بقوله:
ملأنا طباق الأرض وجدًا ولوعة ... بهند ودعد والرباب وبوزع
وملت بنات الشعر منا مواقفًا ... بسقط اللوى الرقمتين ولعلع
وأقوامنا في الشرق قد طال نومهم ... وما كان نوم الشعر بالمتوقع
تغيرت الدنيا وقد كان أهلها ... يرون متون العيش ألين مضجع
فأصبح لا يرضى البحار مطية ... ولا السلك في تياره المتدفع
وقد كان كل الأمر تصويب نبلة ... فأصبح بعض الأمر تصويب مدفع
ونحن كما غنى الأوائل لم نزل ... نغني بأرماح بيض وأدرع
عرفنا مدى الشيء القديم، فهل مدى ... لشيء جديد حاضر النفع ممتع

(2/34)

وحين قال مخاطبًا الشعر:
ضعت بين النهى وبين الخيال ... يا حكيم النفوس يابن المعالي
ضعت في الشرق بين قوم هجود ... لم يفيقوا وأمة مكسال
قد أذالوك بين أنس وكاس ... وغرام بظبية أو غزال(37)
ونسيب ومدحة وهجاء ... ورثاء وفتنة وصلال
حملوك العناء من حب ليلى ... وسليمى ووقفة الأطلال
وبكاء على عزيز تولى ... ورسوم راحت بهن الليالي
وإذا ما سمعوا بقدرك يومًا ... أسكنوك الرجال فوق الجمال
فارفعوا هذه الكمائم عنا ... ودعونا نشم ريح الشمال(38)
نعم إن حافظًا قد رغب في التجديد، ولكنه لم يستطع التجديد إلا في حدود ضيقة؛ إذ جدد في أغراضه، وإن لم يجدد في صوره. وسنخصه ببحث طويل إن شاء الله. ولكن صيحته هذه تدل على ما كان عليه الشعر في أول عهده، وعلى الرغبة الملحة في مسايرة العصر ومقتضياته: لقد جنى الإنجليز بسياستهم التعليمية على الأدب بعامة، وعلى الشعر بخاصة، وإذا كانت هناك نهضة في الأدب بعد ذلك فهي ليست ثمرة تعليمهم، وإنما هي نتيجة بواعث أخرى سنذكرها فيها بعد إن شاء الله.
رأى "كرومر"بعد أن فرغ من الإصلاحات المالية والداخلية التي منَّ بها علينا في كتابه "مصر الحديثة" وفي خطبة الوداع التي ألقاها حين غادر مصر، وعدد فيها ما ظنه خيرًا قدمه لمصر، رأى بعد هذا أن يلتفت إلى نشر الثقافة الإنجليزية بالبلاد. ونسى أن إصلاحاته المالية والداخلية كلها قد أحبطتها سياسته التعليمية حتى دعت شاعرًا مثل حافظ أن يقول مخاطبًا "اللورد كرومر":
(2/35)

تمن علينا اليوم أن أخصب الثرى ... وأن أصبح المصري حرًّا منعمًا
أعد عهد إسماعيل جلدًا وسخرة ... فإني رأيت لمن أنكى وآلمًا
عملتم على عز الجماد وذلنا ... فأعليتم طينًا وأرخصتم دمًا
إذا أخضبت أرض وأجدب أهلها ... فلا أطلعت نبتًا ولا جادها السما
وإلى أن يقول مودعًا ومشيرًا إلى مأساة التعليم على عهده:
يناديك قد أزريت بالعلم والحجا ... ولم تبق للتعليم يا لرْد معهدًا
وأنك أحصبت البلاد تعمدا ... وأجديت في مصر العقول تعمدا
وأودعت تقرير الوداع مغامرًا ... رأينا جفاء الطبع فيها مجسدًا
يناديك: أين النابغون بعهدكم ... وأي بناء شامخ قد تحددًا
فما عهد إسماعيل والعيش ضيق ... بأجدب من عهد لكم سال عسجدًا
وليس هذا كل ما جناه كرومر على عقول المصريين، فمساعيه في نشر الثقافة الإنجليزية في البلاد عنوة وفرض اللغة الإنجليزية على البلاد قسرًا قد جعلت عهده من أسوأ العهود التي مرت على مصر العربية الإسلامية.
راع كرومر حينما فكر في نشر الثقافة الإنجليزية ذلك البناء الضخم من الثقافة الفرنسية الذي شيدته همم الإرساليات التبشيرية، البعثات العلمانية، وتشجيع الحكومة الفرنسية وأموال رجال الاقتصاد والأعمال من أهل فرنسا، وهالته كثرة المدارس الفرنسية بمصر، وحماس هؤلاء الذين تعلموا بها، أو في فرنسا ذاتها لنشر اللغة الفرنسية بمصر، وحماس هؤلاء الذين تعلموا بها، أو في فرنسا ذاتها لنشر اللغة الفرنسية، وآدابها، ورأى أن الفرنسيين قد بذلوا غاية جهدهم لمساعدة هؤلاء الذين يتخرجون في مدارسهم فاشترطوا على الإنجليز -أول سني الاحتلال- أن يظل لهم النفوذ الأول ببعض المصالح الحكومية، كما كان قبل الاحتلال، فخلصت لهم إدارة مصلحة الآثار المصرية، التي أشرفوا عليها منذ أن اكتشف "حجر رشيد". وخلصت لهم كذلك إدارة مدرسة الحقوق، واستولوا بأموالهم وقروضهم وشركاتهم، ومؤسساتهم التجارية على أكثر من نصف المصالح الاقتصادية والأموال المنقولة بمصر(39) ووجد الشبان المصريون
(2/36)

والأجانب الذين يتخرجون في مدارسهم مجال العمل فسيحًا في شركاتهم ومؤسساتهم الاقتصادية والمالية كما ذكرنا آنفًا.
ولانتشار نفوذهم بين الأجانب وإقبالهم على مدارسهم صارت اللغة الفرنسية هي لغة المعاملات التجارية سواء بين الأجانب بعضهم وبعض أو بينهم وبين المصريين، واضطرت المحاكم المختلطة أن تصدر تسعة أعشار أحكامها باللغة الفرنسية، فضلًا عن المواطنين الذين يجب عليهم أن يحسنوا هذه اللغة ليتعاملوا مع جمهور المتقاضين.
وعلى الرغم من الاحتلال الإنجليزي، وطول أمده. والمحاولات التي بذلها كرومر، وبذلها "دانلوب" من بعده فقد ظلت اللغة الفرنسية هي اللغة الأولى في السوق المصرية ردحًا طويلًا وظلت كذلك لغة التخاطب بين الأجانب المختلفي الجنسية المقيمين بمصر. لقد استجابت فرنسا والفرنسيون لنصيحة نابليون التي يقول فيها: "علموا اللغة الفرنسية ففي تعليمها خدمة الوطن الحقيقية".
رأى كرومر المستعمر الإنجليزي الأول كل هذا النفوذ للثقافة الفرنسية، ورأى أن قدم الاحتلال لن تطمئن بهذه الديار إلا إذا عمل على إضعاف هذا النفوذ الفرنسي المكين ومكن للغة الإنجليزية، وأجبر المصريين على قبولها لغة أجنبية لها المكانة الأولى في البلاد وقد سلك في تحقيق هذه الغاية عدة طرق منها:
الكف عن إرسال البعثات إلى أوربا بعامة، وفرنسا بخاصة؛ لأنه رأى رأى العين ما قدمه رجال البعثات لوطنهم من أياد بيضاء في كل سبيل من سبل النهضة، وكل باب من أبواب القوة، منذ عصر محمد علي حتى زمن الاحتلال المشئوم، وأن هؤلاء الرجال الذين اختيروا من صميم الريف صاروا فيما بعد القادة المفكرين، والعلماء الناصحين، والساسة القادرين، وأنهم نهضوا باللغة العربية نهضة عظيمة فدبت فيها روح الحياة، وأخذت تستعيد سابق قوتها بترجمة كثير من الكتب العلمية في الطب والهندسة، والحيل "الميكانيكا"؛ والرياضة والقانون والجغرافيا والتاريخ، والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك على النحو الذي فصلناه في الجزء الأول من هذا الكتاب.

(2/37)

أجل! بدأت اللغة العربية تساير ركب الحياة وتعني بالمصطلحات العلمية التي زودها بها هؤلاء العلماء الأجلاء الذين عكفوا على الكتب العربية القديمة ينقبون فيها عما عساه يصلح للحضارة الحديثة؛ فإن استعصى عليهم شيء عربوه، أو وضعوا له كلمات.
رأى كرومر هذا الأثر الجليل الذي يتركه رجال البعثات في مصر، فعز عليه أن تظل هذه النافذة التي ينسكب منها نور العلم على ربوع وادي النيل مفتوحة، وهو الذي يريد أن يمكن للاستعمار في هذه الديار، ولن يتأتى له ما يريد إلا إذا ظلت مصر في ظلام دامس، تتخبط في طريق مضلة، متخلفة عن ركب المدينة، لا تجد لها قائدًا رشيدًا ولا تسمع رأيًّا سديدًا فيوجهها الغاصبون كما يشاءون: ولهذا أرغم الحكومة المصرية على إلغاء البعثات إلى فرنسا؛ فصدر بذلك قرارها في أواخر أغسطس سنة 1895، وكان لهذا القرار ضجة صاخبة في الجرائد المصرية والفرنسية على السواء(40).
ولقد نجم عن هذه السياسة الاستعمارية البغيضة أن ضعف نفوذ اللغة العربية على مر الأيام حتى تجني عليها بعض ساستهم، ورماها بالفقر والعقم، وفي ذلك يقول "اللورد جراي" حين سئل في مجلس العموم البريطاني عن تعليم اللغة العربية بمصر: "لا تصلح اللغة العربية اليوم لتعليم العلوم إذ تفتقر إلى الاصطلاحات العلمية والفنية"(41). ولست أدري كيف ينتظر الإنجليز من اللغة العربية أن ترقى، وتعني بالمصطلحات العلمية والفنية، وقد أوقفوا تيارها المتدفق وحالوا بينها وبين العلوم الحديثة في بلاد الغرب؟؟.
وكان من الطبيعي كذلك أن يتناقص عدد المثقفين الذين يستطيعون التدريس بالمعاهد المصرية العالية، فحل محلهم إنجليز يلقون دروسهم بلغتهم، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الترجمة، أو أن تكون ثمة واسطة بينهم وبين الطلبة كما كان الشأن في عهد محمد علي. ولم يكن الطلبة المصريون قد حذقوا اللغة الإنجليزية إلى الدرجة التي تمكنهم من فهم ما يلقى عليهم لأول وهلة، ولذلك
(2/38)

لجئوا إلى الحفظ والاستظهار، كي ينجحوا في الامتحان وصاروا آلات صماء لا تفكر ولا تعي، ولا تقدر على الابتكار أو التجديد، وبعد كل هذا نسمع من أحد علمائهم وهو السير "وليام ولكوكس" المهندس المشهور يقول في طلبة مدرسة الهندسة: "لقد كنا نؤمل خيرًا كثيرًا في طلبة مدرسة الهندسة في الأيام الأخيرة، بيد أنهم لم يبتدعوا شيئًا ذا بال، وكل ما عملوه أنهم نقلوا أفكار من كانوا أسعد منهم جدًّا، وتعلموا دروسهم. وقرءوها في كتبهم"(42).
وطالما ألح المصريون على الإنجليز في أن تستأنف البعثات العلمية طريقها إلى أوربا، ولكنهم كانوا يجيبون في غطرسة بالغة: بأن المصريين ليسوا أهلًا للتدريس بالمعاهد العالية، ولو تلقوا علومهم في معاهد الغرب، ولم يكتفوا بهذا بل عبثوا بمدرسة المعلمين "الخوجات" التي كانت تعد المصريين لتدريس اللغات الأجنبية، والرياضة والعلوم "النورمال فيما بعد"، وصاروا يفتحونها عامًا، ويلغونها عامًا، فأصبح لا يقصدها إلا كل مرتاب في مستقبله، عالم أن منتهى أمره أن سيكون معلمًا صغيرًا في مدرسة ابتدائية بمرتب يتناول مثله كاتب بسيط في أحد الدواوين(43). ولما لم يجد الإنجليز من المصريين من يصلح للتدريس في المدارس الثانوية -بعد أن حالوا بينهم وبين الاستعداد لتلك المهمة- تذرعوا بذلك، وملئوا المدارس الثانوية بالإنجليز، وكان من الطبيعي أن تحول الكتب من العربية إلى الإنجليزية. بل إنهم فرضوا على تلامذة المدارس الابتدائية أن يتعلموا اللغة الإنجليزية، وجعلوا إتقان هذه اللغة شرطًا للتوظف في الحكومة، وأرغموا المرحوم على باشا مبارك على أن يصدر قرارًا في سنة 1889 ينص فيه على أن تكون لغة التعليم في المدارس المصرية هي اللغة الإنجليزية.
وظل على هذا المنوال ردحًا غير قصير من الزمن، والمصريون يلحون في عودة اللغة العربية إلى المدارس المصرية، والإنجليز يصمون آذانهم، ويسيرون لطيتهم حتى بلغ التذمر غايته في سنة 1908، وندد عقلاء المصريين بهذه السياسة المعوجة التي تهدف إلى القضاء على اللغة العربية، وحرمان مصر أقوى دعائم شخصيتها المتميزة بها عن سواها، وفي ذلك يقول عثمان "باشا" غالب:
(2/39)

"عرف الإنجليز أن أحسن واسطة لمحو وجود الشعب، واستقلاله، أي لقتله أدبيًّا، هو محو لغته الوطنية أو إضعافها، ألم يعرف ذلك الإنجليز المحبون للتوسع في الملك من التواريخ القديمة؟ إنهم عرفوه، ولكن يبلغوا إلى هذا الغرض ساروا تحت رداء الشروع في الإصلاحات. فألفوا الجمعيات، واللجان عقب اللجان، بمهارة وفكر، وكانت نتيجة مناقشتهم أن قرروا أمورًا كانت مكتوبة ومسجلة من قبل، ويكفيني لإثبات هذا الأمر للناس أن أحول أنظارهم إلى تلك الطرق التي اتبعوها لمحو اللغة الفرنسية من مدارسنا(44).
ولا جدال في أن وقف البعثات إلى فرنسا قد أضعف نشر الثقافة الفرنسية في البلاد، وبخاصة على أيدي هؤلاء الذين كانوا يغشون معاهد فرنسا ويعودون حاملين لواء الثقافة الفرنسية، ولما أبرمت معاهدة سنة 1904 بين إنجلترا وفرنسا، تلك المعاهدة التي أطلقت يد إنجلترا في مصر، على أن تخلص مراكش لفرنسا، هدأ بال الإنجليز نوعًا ما؛ لأن فرنسا كانت متزعمة مناهضتهم بمصر؛ وطالما رأى فيها طلاب الحرية من المصريين نصيرًا قويًّا يفسح لهم صدره، ويشجعهم في صحفه وأنديته(45). وقد شجع ذلك مستر "دانلوب" بعد أن عين مستشارًا للمعارف على أن يقوض آخر المعاقل الفرنسية في المدارس المصرية، فأخذ في مضايقة "مسيو لامبير" ناظر الحقوق، حتى اضطره إلى التخلي عن وظيفته وعين بدلًا منه مستر "هيل" الإنجليزي، وفي ذلك يقول "ميسو لامبير" منددًا بسياسة دانلوب ومظهرًا عوار طريقته في التعليم:
"
وقد حارب المستر دانلوب تقدم التعليم الفرنسي في مدرسة الحقوق بلا تبصر، على حين أن تعليم الحقوق في هذه المدرسة لا يزال تعليمًا فرنسيًّا، ما دامت قوانين البلاد لم تغير تغيرا كليًّا. وقد مثل رواية مضحكة للتعليم العالي في مدرسة الحقوق فوقف تعيين ما يحتاج إليه القسم الفرنسي من الموظفين، وحجته في ذلك أن مصير هذا القسم إلى الزوال في القريب العاجل، وطرد من القسم الأكبر وهو الذي تدرس فيه الحقوق الفرنسية باللغة الإنجليزية الأساتذة الأكفاء الذين قاموا بأمره في مبدأ تأسيسه، وهم من القضاة الذين
(2/40)

أفادتهم إقامتهم الطويلة في الديار المصرية خبرة بأسرار قوانينا، واستبدل بهم شبانًا من الإنجليز يعينون بمجرد تخرجهم في الكلية الإنجليزية فيقدمون إلى مصر وهم والطلبة المكلفون بتعليمهم سواء في الجهل بالقوانين المصرية(46).
ثم التفت الإنجليز بعد ذلك إلى المدارس الفرنسية بمصر، ورأوا أن خير وسيلة لإضعاف نفوذها، والتقليل من الإقبال عليها أن يظهر عميدهم بمظهر الغيور على مصلحة المصريين، الذي يخشى من طغيان الثقافة الأجنبية على من يغشي المدارس الفرنسية منهم، ولذلك أوجب تعلم كل العلوم باللغة الإنجليزية في المدارس المصرية، ليجد المصريون فيها غناء عن المدارس الأجنبية، ويحذقون في الوقت ذاته لغة حية راقية من اللغات الأجنبية وهي الإنجليزية، وشجع كرومر الإنجليز على العمل بالمدارس المصرية معلمين ونظارًا، وعمل هؤلاء من جانبهم على الدعاية للغة الإنجليزية، وصبغت المدارس العالية كالطب، والزراعة، والهندسة، والمعلمين، بصبغة إنجليزية خالصة، فلم يجد الطالب مندوحة إذا أراد أن يتم تعليمه العالي إلا أن يجيد اللغة الإنجليزية حتى يستطيع متابعة الدراسة في المدارس العالية؛ بل اشترط كرومر على كل موظف بالدولة أن يجيد هذه اللغة، ليتمكن من التفاهم مع رؤسائه الإنجليز الذين استولوا على كل المصالح والدواوين.
وبهذا قل نوعًا ما نفوذ الثقافة الفرنسية في كثير من مصالح الدولة ومعاهدها. بيد أن هذا لم يذهب كل ما لها من قوة، بل أتى اضطهاد كرومر لها بنتيجة لم يكن ينتظرها، وذلك لأنه أخطأ السبب الحقيقي الذي دفع بالمصريين والأجانب للتعليم في المدارس الفرنسية، وذلك السبب هو أن التعليم بالمدارس الفرنسية، كان أرقى نوعًا وأتم نظامًا منه في المدارس الأخرى، ولم يكن وراءه غاية استعمارية ظاهرة، ولو كان السبب هو مجرد رغبة المصريين في تعلم لغة أجنبية لقل الإقبال على المدارس الفرنسية منذ أن فرضت اللغة الإنجليزية على المدارس
(2/41)

المصرية في سنة 1889، ولكننا رأينا العكس، إذا اشتد الإقبال على هذه المدارس(47) حتى صار عددها مائة وعشرين مدرسة بها ما يزيد عن اثنين وأربعين ألف تلميذ وتلميذة، ولم تفلح كل الوسائل التي قدمها الإنجليز لجذب الأجانب المقيمين بمصر للإقبال على مدارسهم؛ وذلك لأن معظم اقتصاديات مصر كانت في أيدٍ فرنسية، وكانت لا تزال هي اللغة السائدة في السوق المصرية، ولذلك قال أحد علمائهم داحضًا مزاعم هؤلاء الذين تنبئوا بتقلص ظل الثقافة الفرنسية من مصر: "لا حجة لما يقول به المتشائمون من أن نجم فرنسا في مصر قد أفل، وأن لغة أخرى حلت محل الفرنسية في عاصمتي تلك الديار -القاهرة والإسكندرية- وما عليك إلا أن تسير بالشوارع الكبرى، حتى تتحقق من ذلك وتسمع بأذنيك باعة الصحف ينادون بأسماء أكثر الجرائد اليومية انتشارًا مثل: "لا بورص إجبشيان، والجورنال دي جيبت، والجورنال دي كير". وإذا شاهدنا عن بعد شخصين مختلفي الجنسية يتحدثان، فتأكد أن الحديث بينهما يدور باللغة الفرنسية فهي اللغة الغالبة، كما أنها لغة السياسة ولغة القضاء؛ لأن تسعة أعشار القضايا التي تعرض أمام المحاكم المختلطة تستعمل فيها اللغة الفرنسية(48).
لقد كان هذا الصراع بين الفرنسية والإنجليزية على حساب اللغة العربية، فأضعف شأنها، وكاد يؤدي بها لأن الطبقة المثقفة من أبناء الأمة الذين كان يرجى منهم العمل على إحياء اللغة العربية والنهوض بها، صاروا لا يرونها في المدارس إلا لمامًا وأصبحت لغة التعليم لديهم هي اللغة الإنجليزية، وبذلك أحجم كثير من العلماء عن التأليف باللغة العربية كما أن الطلبة عمدوا إلى الحفظ والتقليد في المدارس، وكانوا أبعد الناس عن الابتكار والاستقلال في الرأي؛ لأن هذه اللغة التي فرضت عليهم كانت أجنبية عنهم ولم يجدوا حيلة للنجاح في الامتحان، إلا أن يحفظوا دروسهم بالإنجليزية حفظًا، ولم يفهموا. أضف إلى كل هذا حرمان مصر من البعثات والتعليم العالي الصحيح؛ لأن التعليم العالي الذي كان موجودًا حينذاك
(2/42)

فرض على الطلبة أن يستقوا العلم من منيع واحد لا يحيدون عنه ولا يعرفون سواء ويتقيدون بوجهة نظر واحدة، ولا يسمعون لها مناقشة أو نقضًا. وهيهات أن يجدي مثل هذا التعليم في تكوين ملكة البحث أو الابتكار، أو التعمق في المادة أو الوقوف على أسرارها.
ولقد كان لكل هذا أثر في الأدب الحديث ونهضته: إذ أوقفت اطراد نموه، واكتمال قوته، وجعلته لا يجد سبيلًا للتقدم إلا بتقليد الأدب العربي القديم وحده، لولا بعض أمثلة قليلة ترجمت في تلك الحقبة من الآداب الغربية، لذلك يقول هيوار: ما فتئت اللغة العربية غارقة في الاستعمارات القديمة، وهي لا تستعمل إلا مجموعة من التعبيرات التي لا يتأتى فهمها إلا لأهل الثقافة، مما يحول دون اتصالها بجمهرة الشعب لتحدثهم بما يفهمون فالمقالة السياسية. ومرادفاتها الرامية إلى محاكاة مقامات الحريري إلا فكاهة للقارئ المثقف يتسلى بها. نود أن تأخذ اللغة العربية في المستقبل بجلاء التعبير، وببساطة الأسلوب، فإذا جاء يوم تتحقق فيه هذه الأمنية كان ذلك بداية عهد جديد للآداب العربية"(49).
وقد كان المقدر للأدب العربي بعد أن نهض في أواخر عهد إسماعيل، وأخذ يتجه صوب الأدب الغربي ليفيد فكرة، ومنهجًا، ويجمع بين ما ورثه عن العرب، وما تقدمه له أوربا، وبعد أن ظهر أمثال محمد عثمان جلال وأديب إسحق ومن شاكلتهما، وبعد أن عرفت مصر في تلك الحقبة ألوانًا مختلفة من الآداب الأوربية، أن تزداد صلة الأدب الغربي، ويأخذ عنه بعض أساليبه، ولكننا نلاحظ كما لاحظ الأستاذ "جب" ضعف المصريين في الأدب إبان هذه السنوات العجاف(50)، حتى لقد مضى القرن التاسع عشر ولم يظهر فيه إلا شبه قصة مصرية هي ما كتبه محمد المويلحي في "حديث عيسى بن هشام".
لقد امتدت يد الإنجليز للغة العربية في كل مكان، ولم يبقَ إلا مدرسة واحدة ظلت اللغة العربية فيها تتمتع بشيء من القوة النسبية، تلك هي "دار العلوم"، ولقد حاولوا مرات أن يصبغوها صبغة إنجليزية لولا تدخل الشبح محمد عبده صديق كرومر، فكفوا أيديهم عنها، وقد رأس الشيخ محمد عبده سنة 1904 الامتحان
(2/43)

النهائي لدار العلوم، وقدم تقريرًا لناظر المعارف عن حال المدرسة جاء فيه: "وإني أنتهز الفرصة للتصريح بمكانة هذه المدرسة في نفسي، وما أعتقد من منزلتها في البلاد المصرية، ومن اللغة العربية، وإن الناس لا يزالون يذكرون اللغة العربية، وإهمال أهلها في تقويمها، يوجهون اللوم للحكومة لعدم عنايتها بأمرها، ولم أسمعهم قط ينصفون هذه المدرسة ولا يذكرونها من حسنات الحكومة فإن باحثًا مدققًا إذا أراد أن يعرف أين تموت اللغة العربية وأين تحيا، وجدها تموت في كل مكان، ووجدها تحيا في هذا المكان".
حقًّا إن اللغة العربية في هذه الحقبة كانت تموت في كل مكان، وتحيا في دار العلوم، ولكن ماذا عساه تقدمه دار العلوم وحدها للغة العربية، والمدارس مصبوغة صبغة أجنبية، وإنجلترا تحاول أن تبدل لسان المصريين العربي إلى لسان إنجليزي، وبيدها السلطان، ووظائف الدولة، وأبناؤها هم رؤساء المصالح وذوو النفوذ فيها؟ إذ كان ثمة خير قدمته دار العلوم في هذه الحقبة للغة العربية فهو حفظها اللغة العربية من الضياع، حتى أتيح لها أن تنهض فيما بعد نهضته قوية فارعة بعد أن تخلصنا من تلك السياسة الاستعمارية المشئومة.
ولكن هل نجح الإنجليز حقًّا في إماتة اللغة العربية في كل مكان؟ إذا كانوا قد حاولوا أن يخرجوا جيلًا من المصريين يحذق لغتهم أكثر مما يجيد لغته في المدارس المصرية، فإن الجيل الماضي كان قوي التأثير في الجمهور، وهو المسيطر على الصحافة، والصحافة مدرسة عامة، ولذلك شن الإنجليز حملة شعواء على اللغة العربية الفصحى، وحاولوا أن يقنعوا المصريين بأن سبب تأخرهم في ميدان الحياة. وتخلفهم عن الأوربيين في الابتكار الأدبي والعلمي يرجع إلى تمسكهم بلغة القرآن، والأساليب العربية القديمة. وأن الأولى لهم أن ينهضوا باللغة العامية حتى يسايروا ركب الحضارةِ، فهي لغة حية، دائمة التجديد، ويفهمها جمهور الشعب، ولا نهضة لأمة إلا إذا نهض سواد الشعب فيها، وفهم ما يكتبه العلماء والأدباء، ولن يفهم هذا إلا إذا كانت الكتابة باللغة العامية.
استمع لأحد دعاتهم وهو السير "ويليام ولكوكس" في خطبته التي ألقاها في نادي الأزبكية سنة 1893، والتي جعل عنوانها، لِم لم توجد قوة الاختراع

(2/44)

لدى المصريين؟ " وذكر أن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لديهم هو استخدام اللغة العربية الفصحى في القراءة والكتابة، ونصحهم باتخاذ اللغة العامية أداة للتعبير الأدبي، اقتداء بالأمم الأخرى واستشهد بالأمة الإنجليزية. وقال: إنها أفادت فائدة كبيرة منذ هجرت اللاتينية التي كانت لغة الكتابة والعلم يومًا ما.
وكان هذا الرجل من أشد أعداء اللغة الفصحى، وقد بذل غاية جهده لمحاربتها والقضاء عليها، وقد مكنته الظروف من أن تثول إليه مجلة الأزهر التي كان يحررها إبراهيم "بك" مصطفى والد الدكتور حسن "بك" رفقي، في أواخر سنة 1892. واتخذها منبرًا يتهجم فيه على لغة القرآن.
وقد ألقى خطبته السابقة في نادي الأزبكية بالإنجليزية، وقد نشرها مترجمة إلى العربية في مجلته، ولكنها عربية ركيكة سخيفة(51).
وقد ظل منذ ذلك الحين يكيد للعربية، ويوحي إلى أهلها بأنهم ليسوا عربًا وأن لا صلة لهم ولا للغتهم بالعرب؛ بل ادعى ما هو أدهى؛ إذ زعم أن اللهجة التي يتكلمها المصريون تمت إلى اللغة الفينيقية أو "البونية" كما سماها، انحدرت إليهم منذ أن كان الهكسوس بمصر، وأنه لا صلة لها بالعربية، وأخذ يتلمس لذلك براهين مضحكة في كتابه الذي أشرنا إليه آنفًا: "سوريا ومصر وشمال أفريقية ومالطة تتكلم البونية لا العربية(52)" وقد نشره في سنة 1926.
وفيه عدد الصعوبات التي يجدها المصريون في تعلمهم اللغة العربية، ورأى أن تحل محلها اللغة العامية، وأن يعم التعليم بها، وجعل مدة هذا التعليم عشر سنوات رأى أنها كفيلة بأن تمحو الأمية من مصر، وعلى حد تعبيره "كفيلة بأن تخلص المصريين من السخرة الثقيلة التي يعانونها من جراء الكتابة بالعربية الفصحى".
ولم يكتف بهذا، لأنه رأى الأمة معرضة عن دعوته الاستعمارية الهدامة، التي تنطوي على تعصب ديني بغيض، وعلى نية استعمارية خبيثة، لأنه وغيره
(2/45)

من غلاة الاستعمار الإنجليزي يعلمون أن العربية لغة القرآن، ولغة الشعوب العربية الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، وأنها تربط بينهم برباط وثيق يحمل أمجادهم وتاريخهم وأدبهم، وتراث أسلافهم الفكري الذي به يعتزون, والذي يذكرهم بمجد تليد عليهم أن يعلموا على إحيائه وهم في فجر نهضته عقلية، علم هذا، من ثم أخذ يكيد للعربية، ويحاول تمزيق هذه الوشائح المتينة بين العرب، وبينهم وبين دينهم الذي يدعوهم للعزة والإباء والثورة للحرية، وقد فطن قادة الفكر في مصر إلى هذه الدعوة المسمومة التي روج لها باسم الشعب، وباسم فقدان قوة الاختراع والابتكار، فقاوموها مقاومة عنيفة.
ولم يكتف ويلككس بهذا التهجم على العربية، وكان يعتقد كما كان غيره من الأجانب يعتقدون. أن السبب الذي يجعل العامية في مرتبة منحطة، وأن الناس لا يقبلون على تعلمها والاحتفاء بها عدم وجود الكتب الأدبية المؤلفة بالعامية؛ ومن ثم نشط، ونشط غيره ممن يضمر مثل نيته من الأجانب إلى التأليف باللغة العامية، فترجم قطعًا من بعض روايات شكسبير إلى العامية المصرية، قطعة من هاملت، وأخرى من هندي الرابع.
فجاءت ترجمة سخيفة، وفقدت هذه الآثار الأدبية قيمتها وجمالها؛ لأن العامية لم تسعفه بالتعبير الصحيح، ولم تستطع أن تنهض بتلك المواقف الخالدة العنيفة(53) بل جاءت عبارتها سوقية مبتذلة.
وترجم كذلك بعض فصول من الإنجيل إلى اللغة العامية فأساء إساءة كبرى إلى الإنجيل؛ لأن عبارته فيه كانت تتهالك ركاكة وغثاثة وسوقية(54).
ثم ألف كتابًا علميًّا باللغة العامية هو كتاب "الأكل والإيمان"(55) ليبرهن على أن اللغة العامية صالحة؛ لأن تكون لغة العلم: فخالته العامية، ولجأ في كثير من تعابيره إلى الفصحى لتمده بالكلمة الصحيحة، وقد ساقه في صيغة حوار بين تلميذ يسأل وأستاذ يجيب.
(2/46)

ولكن كتبه هذه لم تأته بالثمرة الموجودة، ولم يستجب المصريون لدعوته ودعوة غيره من المستعمرين كي يتخذوا العامية أداة للتعبير الأدبي ويهجروا الفصحى لغة القرآن، وذات المجد العريق.
وفي سنة 1901، أصدر "مستر ويلمور" أحد قضاة مصر كتابًا(56) تناول فيه هذه المسألة ونصح المصريون بهجر اللغة الفصحى، واتخاذ اللغة العامية أداة للتعبير والكتابة، وقد أثار هذا الكتاب ضجة في الصحف المصرية. وتصدى أكثر من كاتب للرد عليه. وكانت مجلة الهلال ميدان هذه الردود وقد أيدت اللغة العربية ودافعت عنها(57) ثم جاء إسكندر معلوف من سوريا، وحاول أن يوهم الجمهور المصري بأن أهم أسباب تأخره في الحقيقة هو تمسكه باللغة العربية الفصحى وعجب من تمسك المصريين بها مع أن الفرس والهنود والأتراك مسلمون، وهم لا يستخدمون العربية، واحتج بأن الحكومة المصرية قد تركتها في مدارسها، وأحلت محلها اللغة الإنجليزية، وقد أثنى عليها ثناء مستطابًا لإقدامها على هذه الخطوة، ورأى أن الخطوة الثانية التي يجب أن يخطوها المصريون هي أن تدع الصحف والمجلات هذه اللغة وتكتب باللغة العامية، حتى يفيد العامة وجمهرة الشعب بما تكتب، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة ثالثة وهي تدوين العلوم والآداب باللغة العامية وبذلك يستطيع الشعب كله أن يحصل العلم بسهولة ويسر، وأهاب بالكتاب المصريين والعلماء أن يخطوا هذه الخطوات في سبيل رقى بلادهم(58).
ومن المصريين الذين أيدوا ويلككس في دعوته إلى العامية حين نشر رسالته التي يزعم فيها أننا نتحدث بالبونية لا بالعربية "سلامة موسى" فقد أثنى على ولككس ثناء مستطابًا وزعم أنه شغلته هموم مصر كثيرًا ومن أكبر همومه التي أقضت مضجعه هذه اللغة التي نكتبها ولا نتكلمها.
(2/47)

وأخذ سلامة موسى يدعو كما دعا ولككس إلى اتخاذ العامية لغة للكتابة بدعوى أن الفصحى فيها صعوبة. يعانيها الخاصة أكثر مما يعانيها العامة، وأنها عاجزة عن تأدية الرسالة الأدبية والعلمية ويقول: "ولكن نكبتنا الحقيقية هي أن اللغة العربية لا تخدم الأدب المصري ولا تنهض به؛ لأن الأدب هو مجهود الأمة وثمرة ذكائها وابن تربتها ووليد بيئتها، فهو لا يزكو إلا إذا كانت أدائه لغة هذه البيئة التي نبت فيها".
ويزعم كذلك أن الفصحى: "تبعثر وطنيتنا المصرية وتجعلها شائعة في القومية العربية فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب ويعجب بأبطال بغداد بدلًا من أن يشرب الروح المصرية ويدرس تاريخ مصر، فنظره متجه أبدًا نحو الشرق، وثقافته كلها عربية شرقية -وليس من مصلحة الأمة المصرية أن ينزع شبابها نحو الشرق".
ثم راح يثني على ولككس، ولكنه رأى أن الانتقال إلى العامية فيه طفرة ولم يحن الوقت بعد لأن نخطو هذه الخطوة الواجبة، ولا بد من "تسوية" بين العامية والفصحى، فاقترح عدة اقتراحات عجيبة تفضي في مجموعها إلى تشويه الفصحى وإفسادها كاقتراحه إلغاء الألف والنون من المثنى والواو والنون من جمع المذكر السالم، وإلغاء التصغير وجمع التكسير، وإلغاء الإعراب والإكتفاء بتسكين أواخر الكلمات، وإدخال الكلمات الأعجمية "الأوربية كما هي"(59). وهذه اقتراحات تدل على كراهية مقيتة للغة العربية وكل ما تحمله من تاريخ وأدب ودين وقومية، وهذا ما كان يريده المستعمرون حتى يتقطع ما بيننا وبين تراثنا الفكري الخالد وبيننا وبين ديننا، ومن ثم نمسخ مسخًا ونقبل على الثقافة الإنجليزية ونتشرب روحها وروح الإنجليز معها، فلنرضى بالاستعمار والمذلة والعار في فرح ومسرة واطمئنان.
ولقد لفتت هذه المشكلة كذلك نظر مستر "مان"(60) حين بحث أمور التعليم في مصر، فجاء في تقريره: إن الطفل المصري عندما يبدأ دراسته بالمدرسة
(2/48)

لا يتعلم كما يتعلم الطفل الأوربي طرق كلامه المألوف وقراءته فحسب، وإنما يتعلم لغة أخرى شديدة الصعوبة، تختلف عن لغته المعتادة اختلافًا بينًا: ويتعلم في ذات الوقت كتابتها وقراءتها، فحالته هذه تشبه حال طفل إنجليزي يتكلم ويسمع اللغة الإنجليزية العادية في المنزل والشارع والمدرسة على السواء ولكنه مضطر ألا يستعمل في القراءة والكتابة إلا اللغة الإنجليزية التي كانت شائعة في عصر ألفريد الأكبر".
ويقول بعد ذلك: "إن هذه الطريقة من شأنها أن توقف نمو التفكير عند الطفل"، ولكن هل تعلم الطفل المصري في المدرسة اللغة الإنجليزية في جميع مواد الدراسة، وهو يتكلم ويسمع اللغة المصرية الدارجة، ولا يوجد بين اللغة الإنجليزية والمصرية الدارجة أي صلة؛ ثم تعلم قراءتها وكتابتها أيسر عليه من تعلم اللغة الفصحى؟ لا يرى أن هذه الطريقة التي أرغم عليها أطفال المصريين لا توقف نمو تفكيرهم فحسب، ولكنها تقتل كل الملكات العقلية من تصور وإدراك واستنباط وتفكير؟ أنسي مسترمان، ومن دعا هذه الدعوة أن أطفال الأوربيين أنفسهم يتعلمون في المدرسة لغة تختلف عن لغة البيت والشارع في الغالب، وأن لكل أمة لهجة دارجة، وأخرى فصيحة؟ ووجود اللهجات الدارجة أمر طبيعي، فلو اتخذت أمة لغتها العامية الحالية أداة للتعبير والكتابة، ووضعت لها القواعد، وصنفت فيها الكتب لتحلل الناس بعد أمد يسير من هذه القواعد في النطق والتركيب، وأوجدوا لهم لغة دارجة لا تتقيد بقوانين، تخفيفًا عن أنفسهم، وجريًا على عادة التساهيل والإهمال والنسيان!!
ثم إن ثمة اعتبارات كثيرة خاصة باللغة العربية الفصحى تتعلق بالدين، والقرآن الكريم وتتعلق بوشائج القربى بيننا وبين الناطقين بها، فلو عمد كل شعب عربي إلى اتخاذ لغته الدارجة وسيلة للكتابة والتعبير لتقطعت بيننا هذه الوشائج. وتبددت قوانا المادية والمعنوية على مر الأيام. ويظهر أن مستر "مان" فطن إلى هذه الاعتبارات، وأدرك جم الصعوبات التي تقف في سبيل اللغة العامية، وأن اللغة الفصحى لا بد منتصرة في النهاية على الرغم من تلك الدعاية القوية التي أثيرت ضدها من الإنجليز وأشياعهم. فقال: "على أني أعترف في الوقت أن مسألة اللغة هذه مشبكة بجميع أنواع التقاليد الدينية والقومية والاجتماعية اشتباكًا لا فكاك منه، وأنها لهذا السبب أعسر من أن تحل استنادًا إلى الاعتبارات التربوية وحدها(61)".
(2/49)

وقد أثارت هذه الحملة الجائرة ضد اللغة الفصحى سخط الأدباء والكتاب، ورجال الوطنية المصرية، فقابلوها بحملة أشد منها، واشتهر من هؤلاء محمد المويلحي صاحب حديث عيسى بن هشام، وألفت جمعيات من أدباء مصر لنشر الفصحى والذود عنها، ومقاومة اللغة العامية وطغيانها، ولقد أسهم الشعراء في هذه المعركة، فقال حافظ إبراهيم قصيدته المشهورة عن اللغة العربية سنة 1903، مرددًا فيها شتى الحجج التي يدافع بها أنصار الفصحى، ومشيرًا إلى حملات الإنجليز عليها، وهذه هي القصيدة التي لا تتضح مراميها التاريخية إلا بعد معرفة المعركة على حقيقتها، وقد قالها على لسان اللغة الفصحى:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب، وليتني ... عقمت، فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي ... رجالًا، وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظًا وغاية ... وما ضقت عن أي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني ... ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فقلا تكلوني للزمان فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ... ينادي بوأدي في ربيع حياتي
ولو تزجرون يومًا علمتم ... بما تحته من عثرة وشتات
أرى كل يوم بالجرائد مزلقًا ... من القبر يدنيني بغير أناة
وأسمع للكتاب في مصر ضجة ... فأعلم إن الصائحين نعاتي
أيهجرني قومي عفا الله عنهم ... إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى ... لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات
إلى معشر الكتاب والجمع حافل ... بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى ... وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لا قيامة بعده ... ممات لعمري لم يقس بممات

(2/50)

فأنت ترى كيف بسط حافظ في قصيدته هذه المشكلة، وبين مساوئ العامية، ومزايا الفصحى وصور شعور المصريين إزاء هذه القصة. ولقد كانت هذه الحملات المتتابعة على اللغة الفصحى، سواء باضطهادها في مدارس الدولة وإحلال الإنجليزية محلها، أو بالدعوى إلى هجرها، واتخاذ اللغة العامية بديلا عنها سببًا في يقظة مفكري الأمة وانتباههم إلى تلك المؤامرات الإنجليزية على قومية المصريين، ولذلك ترقبوا الفرص السانحة لإحباط هذه المؤامرة فما أن تولى سعد زغلول نظارة المعارف في سنة 1907 حتى تقدم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ومحمود باشا سليمان، وأمين باشا الشمسي باقتراح في الجمعية التشريعية يطلبون فيه إرجاع اللغة العربية في المدارس. وإبطال التعليم باللغة الإنجليزية، وأن يكون الشروع في ذلك من السنة التالية أي سنة 1907. فرد عليهم سعد زغلول، وهو في رده يبين ما وصلت إليه الحال في مصر من تغلغل النفوذ الأجنبي، وسيطرتهم على كل شيء. حتى أصبح متعذرًا على المصري أن يجد سبيلًا إلى الرزق في بلاده إلا إذا تعلم لغة أجنبية، وأصبح من العسير الحصول على معلم كفء يستطيع تدريس المواد المختلفة باللغة العربية، وهذا لعمري منتهى الانحطاط السياسي والاجتماعي، قال سعد زغلول: "الحكومة لم تقرر التعليم باللغة الإنجليزية إلا ليتقوى التلاميذ فيها، ويمكنهم الاستفادة من المدنية الأوربية، ويفيدوا بلادهم، ويقدروا على الدخول في معترك الحياة، حياة العلم والعلم والعمل.
"
وإذا فرضنا أنه يمكننا أن نجعل التعليم من الآن باللغة العربية، وشرعنا فيه فعلًا، فإننا نكون قد أسأنا إلى بلادنا، وإلى أنفسنا إساءة كبرى؛ لأنه لا يمكن للذين يتعلمون على هذا النحو أن يتوظفوا في الجمارك، و "البوسطة"، والمحاكم المختلطة، والمصالح العديدة المختلفة التابعة للحكومة، والتي يقتضي نظامها وجود كثيرين من الموظفين العارفين بإحدى اللغات الأجنبية حق المعرفة، ولا أن يستخدموا في "بنك" أو مصرف، ولا أن يشتركوا في شركة من الشركات الأجنبية التي كثر تأسيسها الآن في بلادنا، ولا أن يكونوا محامين أمام المحاكم المختلفة، ولا مترجمين ولا غير ذلك من كل ما يحتاج إلى البراعة في لغة أجنبية وهو كثير جدًّا في بلادنا.

(2/51)

إذا قطعنا النظر عن ذلك كله، وأردنا أن نشرع من فورنا في التعليم باللغة العربية صادفنا صعوبات مادية، وهي قلة المعلمين الأكفاء الذين يمكنهم تعليم الفنون المختلفة باللغة العربية، فإذا كنتم توافقون على الاقتراح المقدم إليكم كنتم كمن يحاول الصعود إلى السماء بلا سلم.
لذلك كله أرجو ألا تندفعوا في هذه المسألة وراء إحساسكم، وأن تستشيروا قبل البيت فيها العقل والحكمة إذ لا فائدة لكم أن تطلبوا طلبًا تعلمون من الآن أنه لا يقابل بغير الرفض لاستحالة تنفيذه، كل ما يمكنكم أن ترغبوه مني، وما يمكنني أن أشتغل به، وأقدمه خدمة لوطني هو السعي في تذليل تلك الصعوبة المادية وهو ما عقدت النية عليه من توسيع نطاق مدارس المعلمين، والإرساليات إلى أوربا، وتحسين حال موظفي المدارس، حتى يمكن وجود عدد كافٍ يتولى التعليم باللغة العربية كما أرغب وترغبون، وإني إذا وفقت لتحقيق هذه الأمور الثلاثة خدمت بلادي خدمة جليلة"(62).
وهذه وثيقة تاريخية غنية عن التعليق، ولم يقل ما قاله إلا تحت ضغط الظروف الواقعية، وهي فقر الأمة في رجالها ولا سيما المعلمين الأكفاء وفقر اللغة العربية بسبب الاضطهاد الإنجليزي لها، وسيطرة الأجانب على شئون مصر الاقتصادية والحكومية، وجعل اللغة الأجنبية صاحبة المقام الأول عمليًّا ورسميًّا في البلاد ثم كراهية الإنجليز لعودة العربية إلى الحياة والقوة، ولذلك عرض سعد وهو وزير ما عساه يصادف الاقتراح من صعوبات، حتى عد تنفيذه مستحيلًا.
وقد وضع محمود "باشا" سليمان تعديلًا للاقتراح، بعد سماع هذه الخطبة، بأن الجمعية العمومية تعتمد على وعد ناظر المعارف بتنفيذ المشروع بحسب الإمكان، وأخذت الآراء على الاقتراح بعد تعديله فتقرر قبوله، بيد أن ناظر
(2/52)

المعارف صرح بعد ذلك بأنه لا يمكن تنفيذ المشروع في ذلك الوقت للصعوبات الموجودة، ومتى زالت هذه الصعوبات أمكن تنفيذه. فأعيد الاقتراع على الاقتراح الأول في مقابل تصريح ناظر المعارف، فقررت الجمعية بأغلبية ستين صوتًا وجوب تنفيذ المشروع كما عرض بادئ الأمر وصوت خمسة مع ناظر المعارف عدا الوزراء، وكأن الجمعية خشيت ألا يستطيع سعد التنفيذ، كما لم يستطع رياض "باشا" ذلك من قبل حيث حاول هذه المحاولة في سنة 1893، فوضعت الحكومة أمام الأمر الواقع.
وابتدئ في تحويل التعليم باللغة العربية في المدارس الابتدائية من سنة 1908، ولم يأتِ عام 1912 حتى صار التدريس في جميع المدارس الابتدائية باللغة العربية، واستأنفت القافلة سيرها إلى اليوم بعد هذه المحنة التي دامت قرابة عشرين عامًا.
ومع هذا ظل دعاة العامية لا يهدءون ولا يفترون، ومنهم محمد تيمور الذي جد في الدعوة سنة 1921 وألف بها قصصًا ومسرحيات(63)، ومع ذلك كله ظلت اللغة العربية قوية شامخة، وتزداد كل يوم قوة وقد زادتها فكرة القومية العربية ازدهارًا، بل كانت الفصحى من أهم عناصر القومية العربية.
وعلى الرغم مما بذلته إنجلترا من جهد في نشر اللغة الإنجليزية، ومحاربة الثقافة الفرنسية واضطهاد اللغة العربية الفصحى، فإنها لم تفلح في أن توجد طائفة من المصريين يعشقون اللغة الإنجليزية، ويجيدونها إجادة تمكنهم من التأليف فيها، كما مهر بعض المصريين في التأليف باللغة الفرنسية من أمثال واصف غالي، وأحمد راسم، والأمير حيدر فاضل، ومحمد ذو الفقار وغيرهم، ولعل السر في ذلكم هو شعور المصريين بأن هذه اللغة هي لغة الغاصب المحتل، وأنه يفرضها عليهم فرضًا، وكل شيء يجبر عليه المرء مبغوض لديه ولو كان
(2/53)

حسنًا، ثم إن إنجلترا لم تشجع المصريين على الإفادة من دراستهم اللغة الإنجليزية، فلم تعترف بشهادتهم في بلادها، وحالت بينهم وبين البعثات العلمية ولم تعن العناية الواجبة بمؤسساتها العلمية بمصر في تلك الحقبة بينما سارت فرنسا على النقيض من ذلك، فأسست مدرسة الحقوق الفرنسية، والمعهد العلمي الفرنسي، ولقد أدركت إنجلترا أنها أخطأت في حق لغتها وفي حق المصريين على السواء، وأخذت تعمل على تدارك ما فاتها، فأنشأت بعض المعاهد العلمية مثل المدرسة الإنجليزية بمصر الجديدة، وكلية فيكتوريا، والمعهد العلمي البريطاني، وأخذت تشجع المصريين على السفر لإنجلترا، واعترفت بشهادات الكليات الجامعية، ومكنتهم من الدراسات العالية، بيد أن كل هذا حدث بعد أن غلت يدها من شئون التعليم وخروج دانلوب في سنة 1919، وفطنتها إلى أنها أخطأت في الماضي خطأ جسيمًا، وأن فرنسا قد سبقتها في هذا الميدان، وقد فسر أحد الأدباء الإنجليز تغلب فرنسا على إنجلترا في نشر الثقافة بمصر بقوله: "تملك إنجلترا بمصر جيشًان وتملك فرنسا فكرة، وتدبر إنجلترا شئون التعليم، وتغذيه فرنسا بفلسفتها، ولما كانت فرنسا تملك هذه الفلسفة ولا تملك إنجلترا منها شيئًا، فقد برهن القلم الفرنسي على أنه أقوى من السيف الإنجليزي"(64).
وقد قوى نفوذ الثقافة الإنجليزية على مر الأيام في مصر بخاصة، وفي الشرق العربي بعامة بفضل المؤسسات الثقافية العديدة، من إنجليزية وأمريكية، فقد نمت المؤسسات الأمريكية نموًّا زائدًا حتى صار لأمريكا جامعة بمصر، وأخرى ببيروت تعد من أكبر جامعات الشرق، ويؤمها طلاب من كل البلاد العربية، وينفق عليها مال وفير.
(2/54)

أدى إنشاء الجامعية المصرية الحديثة إلى تخصص بعض الطلاب في اللغة الإنجليزية، ليكونوا مدرسين متمكنين فيها وحلوا محل خريجي المعلمين العليا(65). الذين كانوا يؤدون هذه المهمة في عهديها الإنجليزي والمصري. وقد درجت مصر قبل الحرب العالمية الأخيرة على إرسال فريق من نوابغ المدرسين للتخصص في اللغة الإنجليزية بإنجلترا، وقد أفادوا في نقل بعض عيون الأدب الإنجليزي إلى اللغة العربية بأقلام قوية، وأسلوب طيب.
وتوسعت مصر في إرسال البعثات في عهد الاستقلال، وكانت أكثرية البعثات الحكومية إلى إنجلترا لدراسة العلوم. والطب والهندسة، واللغات، والفلسفة، والفنون الحربية والاقتصاد، واللغات الشرقية، والتربية، والزراعة وغيرها، بيد أن وزارة المعارف رسمت لأعضاء البعثات الحكومية في أول الأمر - وذلك قبل أن ترسل الجامعة بعثاتها- طريقًا عقيمة، وقيدتهم في الدراسة تقييدًا أضر بهم وبمصر، "وحسبك بوزارة المعارف حين ترسل المناهج، والبرامج، وتختار الجامعات والمدارس، وتعين الدرجات والإجازات، وهي إلى الآن لا تزال تجهل من أمور التعليم العالي في أوربا أكثر جدًّا مما تعلم، وقد كانت قبل الاستقلال خاضعة لسلطان الإنجليز، وكان أبغض شيء إلى الإنجليز أن يتصل المصريون بالتعليم الأوربي العالي، فلما أكرهوا على أن يخلوا بين المصريين وبين ذلك رسموا لهم المناهج والبرامج، مضيقين لا موسعين، ومخادعين لا ناصحين، وما زلنا نذكر العهد الذي كان المصريون يبتهجون فيه أشد الابتهاج حين يظفر أحدهم بأيسر الدرجات الجامعية في أوربا، والذي كانت تسخط فيه المعارف أشد السخط وأقساه على الذين يعجبهم العلم وتخلبهم الدرجات الجامعية، فيتجاوزون، أو يحاولون أن يتجاوزوا ما رسم لهم من خطة، وما توضع لهم من منهاج(66)، ثم توالت بعثات الجامعات المصرية، بجانب بعثات وزارة المعارف.
(2/55)

واشترطت الجامعة على الطلاب أن يحصلوا على أرقى الدرجات الجامعية؛ ولم تقصر بعثاتها، على إنجلترا؛ بل تعددت جهات الدراسة. قد كان عدد أعضاء البعثات الجامعية في سنة 1925 لا يزيد عن عشرين طالبًا من جميع كليات الجامعة، ثم بلغ الخمسين في سنة 1938 ولما نشبت الحرب العالمية الأخيرة في سنة 1939 توقفت بعثات الجامعة، ثم استأنفت سيرها بعد أن وضعت الحرب أوزارها في سنة 1945 وصار لجامعة "فؤاد الأول" في سنة 1950 مائة واثنان وتسعون عضوًا في بعثات علمية للخارج جلهم في أوربا. وبعضهم في أمريكا(67). هذا عدا بعثات جامعة الإسكندرية؛ وما أرسلته جامعة أسيوط "محمد علي سابقًا" من بعثات استعدادًا لتكوين هيئة تدريس قوية بها.
هذا وقد نص في قانون جامعة "القاهرة" على أن اللغة العربية هي لغة التدريس بالجامعات، وإن ظلت بعض الكليات حتى اليوم تتخذ الإنجليزية لغة التدريس في جميع المواد مثل الطب البشري، والطب البيطري، وبعضها يستخدمها في أكثر المواد مثل كلية العلوم والهندسة، بعضها يستخدم اللغتين الفرنسية والإنجليزية بجانب اللغة العربية مثل كلية التجارة، والحقوق(68).
ومهما يكن من أمر فقد ازددنا صلة باللغة الإنجليزية على مر الأيام، واستطاع بعض أدبائنا الذين درسوا على النظام الإنجليزي بالرغم من عقمه وفساده أن يجيدوا اللغة الإنجليزية فهمًا وقراءة وهم الذين أسسوا المدرسة المصرية الحديثة في الشعر من أمثال عبد الرحمن شكري، والمازني، والعقاد.
ويقول الدكتور طه حسين: "وآية ذلك أننا حتى في أشد أوقات السيطرة الإنجليزية وضغطها على التعليم وتضييقها لحدوده، قد انتفعنا من هذا التعليم الضيق المحدود أكثر مما أراد الإنجليز، وأي دليل على ذلك أقوى من الذين أخرجتهم مدارس الاحتلال هم الذين اتسعت عقولهم لفهم الحرية والوطنية،
(2/56)

واستقرت عزائمهم لمناهضة الاحتلال نفسه، وهم الذين أثاروا مصر وقادوها في الجهاد، وكسبوا لها النظام: الديمقراطي، والحياة المستقلة"(69) وهم الذين قادوا حرية الفكر بمصر، ووجهوا الأدب والدراسات الأدبية وجهة حديثة.
ويقول العقاد في هذه المدرسة الحديثة التي تأثرت بالأدب الإنجليزي: "فالجيل الناشئ بعد شوقي كان وليد مدرسة لا شبه بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية، ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي، كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر، وهي على اتصالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليزية لم تنس الألمان والطليان والروس والأسبان، واليونان، واللاتين الأقدمين "عن الإنجليزية طبعًا" ولعلها استفادت من النقد الإنجليزي فوق فائدتها من الشعر وفنون الكتابة الأخرى، ولا أخطئ إذا قلت: إن "هازلت" هو إمام هذه المدرسة في النقد؛ لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة ومواضع المقارنة والاستشهاد(70)، وسنعود إن شاء الله إلى هذه المدرسة، وتبيان خصائصها وإلى أي حد جدت في شعرنا الحديث.
وليس معنى هذا أن نفوذ الثقافة الفرنسية بمصر قد زال أمام قوة الثقافة الإنجليزية، فإن كثيرًا من المعاهد المصرية لا تزل تعني باللغة الفرنسية عناية زائدة، وتدرس بها كثيرًا من المواد كالحقوق والتجارة، وبكلية الأدب قسم خاص للغة الفرنسية، ولا يزال الإقبال على الدراسة بفرنسا قويًّا، يقصدها كثير من الطلبة الحكوميين لدراسة الطب والحقوق والفلسفة والآداب، وترسل الحكومة بعض بعثاتها، لدراسة القانون والفلسفة، واللغة الفرنسية(71).
ولعلك رأيت أن الحال في مصر منذ الاحتلال الإنجليزي حتى اليوم قد تغير
(2/57)

تغيرًا شديدًا. وأننا ازددنا ارتباطًا بأوربا وثقافاتها المختلفة، ولقد كان لكل هذا أثر في الأدب العربي بعاة وفي الشعر بخاصة.
1-
لقد تأثرنا في حياتنا الخاصة، وطرق معيشتنا، ونظرتنا إلى الحياة، وما الأدب إلا انعكاس لما يشعر به الأديب في حياته، وتغيرت قيم الأشياء أمام أعيننا، وعكفنا على تقليد أوربا في كل شيء وجعلناها مثلًا أعلى في كل ما يتعلق بحياتنا المادية والمعنوية، وفي ذلك يقول الدكتور طه حسين: "حياتنا المادية أوربية خالصة في الطبقات الراقية، وهي في الطبقات الأخرى تختلف قربًا وبعدًا عن الحياة الأوربية باختلاف قدرة الأفراد والجامعات، وحظوظهم من الثروة وسعة اليد، ومعنى هذا أن المثل الأعلى للمصري في حياته المادية إنما هو المثل الأعلى للأوربي في حياته المادية، تتخذ من مرافق الحياة وأدواتها ما يتخذون، ونتخذ من زينة الحياة ومظاهرها ما يتخذون، نفعل ذلك عن علم به وتعمد له أو نفعل ذلك من غير علم، وعلى غير عمد، ولكننا ماضون فيه على كل حال، وليس في الأرض قوة تستطيع أن تردنا عن أن نستمتع بالحياة على النحو الذي يستمتع بها الأوربيون.
مدت أوربا الطرق الحديدية، وأسلاك "التلغراف والتليفون" فمددناها، وجلست أوربا إلى الموائد، واتخذت من آنية الطعام، أدواته وألوانه، فصنعنا صنيعها ثم تجاوزنا ذلك إلى ما اصطنع الأوربيون لأنفسهم من لباس، ثم تجاوزنا ذلك إلى جميع الأنحاء التي يحيا عليهم الأوربيون فاصطنعناها لأنفسنا غير متخيرين ولا مختاطين ولا مميزين بين ما يحسن منها وما لا يحسن، وما يلائم منها وما لا يلائم. ونستطيع أن نقول: إن مقياس رقي الأفراد والجامعات في الحياة المادية مهما تختلف الطبقات عندنا إنما هو حظنا من الأخذ بأساليب الحياة المادية الأوربية.
وحياتنا المعنوية على اختلاف مظاهرها وألوانها أوربية خالصة: نظام الحكم عندنا أوربي خالص، نقلناه عن أوربا نقلًا في غير تحرج ولا تردد، وإذا عبنا أنفسنا بشيء من هذه الناحية فإنما نعيبها بالإبطاء في نقل ما عند الأوربيين من نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية"(72).
(2/58)

والحق أن مصر منذ حملة نابليون حتى اليوم، وهي تسعى سيعًا حثيثًا في أن تحاكي أوربا في كل شيء، وقد بهرتها تلك القوة المادية الضخمة التي جعلت أوربا تتحكم في العالم، وجد محمد علي وإسماعيل في تزويد مصر بكل ما يكفل لها تلك القوة، من مصانع، وجيوش، وأساطيل، وعلماء في كل فن، ولكن تيار النهضة قد وقف منذ الاحتلال الأجنبي، ولقد ازداد حب المصريين لمحاكاة الأجانب وتقليدهم في كل ما يزاولون من شئون الحياة، عملًا بالقاعدة المعروفة: "المغلوب مولع بتقليد الغالب"، ولقد نظروا إليهم نظرة إكبار وتقدير، وفقدوا الثقة في أنفسهم، وأوهمهم هؤلاء أنهم لا يصلحون إلا أن يكونوا مرؤوسين، منقادين، مع أنهم كانوا إلى عهد قريب سادة مكرمين يخشى بأسهم أهل أوربا أنفسهم.
ورأى المصريون منذ أخفقت الثورة العرابية ألا سبيل إلى النهضة الحقيقية، والاستقلال الكامل إلا بتهيئة الشعب لتحمل أعباء هذا الاستقلال. وقديمًا نادى محمد عبده بإنشاء مدرسة للقادة والزعماء، واختلف هو وأستاذه جمال الدين في هذا وتبنى محمد عبده هذه الفكرة بعد أن عاد من منفاه ورأى أن يسير في النهضة ببطء، وثقة وتأكد، وأن الطفرة التي أرادها إسماعيل، ودعا إليها جمال الدين لا تجدي شيئًا، بل ربما أعقبت خسرانًا وندمًا وأنه خير لهذه الأمة -إن أرادت القوة والعافية- أن تستكمل تعليم أبنائها، وتنزه الدين وتطهره وتعد نفسها لكي تتبوأ مكانها بين أمم العالم وتشاطرها(73).ولقد هادن محمد عبده الإنجليز، حتى يتمكن من الإصلاح المنشود، ويقول: "أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني عرفت أنها ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي يجب أن نعنى به الآن"(74)، وقال عنه كرومر: "إنه كان رجلًا مستنيرًا بعيد النظر، اعترف بما لحكومة الشرق من سيئات، وسلم بضرورة المعاونة الأوربية في الإصلاح"(75).
(2/59)

ولقد اعتنق تلاميذ محمد عبده هذه الفكرة وعلى رأسهم سعد زغلول، ولطفي السيد وحافظ إبراهيم(76). ثم جاءت النهضة القومية على يد مصطفى كامل(77) ودعا إلى الأخذ بأساليب الرقي والنهوض مع وجوب التخلص من الأجنبي وشرور الاحتلال، ولكنه اتفق مع تلامذة محمد عبده على وجوب العناية بكل ما يرقى بهذه الأمة صناعيًّا وعلميًّا، وتجاريًّا، وحربيًّا حتى تكون في درجة تمكنها من المحافظة على استقلالها، إن نالته أو المطالبة به عن جدارة إن لم تكن قد أخذته.
أنتج كل هذا رغبة شديدة في تقليد الحياة الأوربية مادية ومعنوية، وتطرف بعض الدعاة إلى هذا التقليد ونادوا بنفض أيدينا من الماضي جميعه وأخذنا عن أوربا كل شيء حسنًا أو قبيحًا، ماديًّا ومعنويًّا، واعتدل بعضهم، ونادى بأن نجح بين محاسن تقاليدنا، ومحاسن المدينة الأوربية(78). ومهما يكن من أمر فمن أبرز الظواهر في أخريات عهد الاحتلال وعهد الاستقلال الاهتمام الزائد بالإصلاح الاجتماعي في كل مرافق الحياة، والحياة في الغالب تهدف إلى أن تكون على نمط أوربا لكثرة إعجابنا بها؛ ولأنها صاحبة السيطرة العلمية والمادية اليوم، وتجد لهذه النغمة صدى في أقوال الشعراء فهم لا يملكون إلا الإعجاب بحاضرة الغرب، ويحثون قومهم على السعي في اللحاق به، فهذا حافظ إبراهيم يقول:
أي رجال الدنيا الجديدة مُدُّوا ... لرجال الدنيا القديمة باعًا
وأفيضوا عليهم من أياديـ ... كم علومًا وحكمة واختراعًا
كل يوم لكم روائع آثا ... ر توالون بينهن تباعًا
كم خبلتم عقولنا بعجيب ... وأمرتم زمانكم فأطاعا(79)
(2/60)

ويبدي ولي الدين يكن إعجابه بالحضارة والعصر الجديد حين يركب الطيارة فيقول:
الناس ملوا من المطايا ... فجاء من بعدها البخار
وملة أكثر البرايا ... ثم اعتلوا في السما فطاروا
يا حبذا عصرنا الجديد
السحب نابت عن الأرائك ... لمعشر قد رقوا إليها
وضجت الطير والملائك ... في إثرهم حسرة عليها
وهذه حسرة تزيد(80)
ويشير حافظ إبراهيم كذلك إلى علم الغرب ومدنيته؛ وتذليله لقوى الطبيعة، وتسخيرها لخدمة الإنسان:
وطويتم فراسخ الأرض طيًّا ... ومشيتم على الهواء اختيالًا
ثم سخرتم الرباح فسستم ... حيث شئتم جنوبها والشمالا
تسرجون الهواء إن رمتم السيـ ... ـر وفي الأرض من يشد الرحالا
واتخذتم موج الأثير بريدًا ... حين خلتم البروق كسالى
ثم حاولتم الكلام مع النجـ ... ـم فحملتم الشعاع مقالا
إلى أن يقول حاثًّا بني وطنه على مباراة هؤلاء الغربيين في حضارتهم، وأخذهم بأسباب الوصول إلى هذه الغاية.
ليت شعري متى أرى أرض مصر ... في حمى الله تنبت الأبطالا
وأرى أهلها يبارونكم علمًا ... ووثبًا إلى العلا ونضالًا
قد نفضنا عنّا الكرى وابتدرنا ... فرص العيش وانتقلنا انتقالا
وعلمنا بأن غفلة يوم ... تحرم المرء سعيه أحوالًا(81)
(2/61)

ويزداد الشعور بأن الشعب المصري لا يرجى منه خير إلا إذا أزيح عنه كابوس الجهالة وتعلم بنوه تعليمًا كاملًا صحيحًا، حتى يكشف التعليم عن تلك الثورة المعنوية الكامنة، في هذه العقول الغفل، فيدعو الوطنيون إلى التعليم القومي والإكثار من إنشاء المدارس(82)، وينادي مصطفى كامل في سنة 1904 و 1905 بإنشاء جامعة مصرية(83)، يقوم على هذا المشروع جماعة من المصلحين الذين تشربوا مبادئ محمد عبده(84)، ويقول مصطفى كامل في هذا: "مما لا يرتاب فيه إنسان أن الأمة المصرية أدركت في هذا الزمان حقيقة المراكز الذي يجب أن يكون لها بين الأمم، وأبلغ الأدلة على ذلك نهضتها في مسألة التعليم، وقيام عظمائها وكبرائها وأغنيائها بفتح المدارس، وتأسيس دور العلم بأموالهم ومجهوداتهم، ولكن قد آن لهم أن يفكروا في الوقت الحاضر في عمل جديد، الأمة في أشد الحاجة إليه، ألا وهو إنشاء جامعة للأمة بأموالها"(85). وفرح الشعراء بإنشائها أيما فرح، وهذا شوقي يقول:
ألق في أرض منف أس جامعة ... من نورها تهتدي الدنيا بنبراس
أو نفض عن الشرق يأسًا كاد يقتله ... فلا حياة لأقوام مع اليأس
ترك النفوس بلا علم ولا أدح ... ترك المريض بلا طب ولا آس(86)
ودعا الشعراء دعوة حارة إلى المبادرة بتأسيس المدارس وتعليم الشعب، وأثنوا ثناء مستطابًا على كل من هزته الأريحية فجاد بالمال في هذا السبيل، فهذا محمد عبد المطلب يمدح ثلاثة من الأعيان تبرعوا بمقدار من الأفدنة لمدارس المنوفية فيقول:
ثلاثة أمجاد إذا عدة سادة ... من الناس بَذَّوا بالندى سَرَواتها
سراة قالوا العم من عثراته ... ندى فأقول مصر من عَثَراتها(87)
(2/62)

وهذا مطران يصور حالنا من الجهل، وكيف نهضت أوربا، ويبحث على تشييد المدارس:
هم فتحون السماء ... ويملكون الهواء
ويقطعون الصحاري ... ويعبرون الماء
ونحن نمكث في عقـ ... ـر دار غرباء
كأننا قد خلقنا ... نلابس الغبراء
نرنو ونأسى ونفنى ... مع العيون بكاء
ولا نرى غير ذكرى ... أجدادنا تأساء
نال التوكل منا ... والضعف ما الجهل شاء
إلى أن يقول:
بالعلم تدارك مصر الـ ... ـحرية العصماء
وتستعيد الفخار الـ ... ـقديم والعلياء
وتسترد من الدهـ ... ـر عزها والرخاء(88)
ويقول من قصيدة أخرى:
يا آخذين بتعليم الصغار لقد ... صنتم مرابعكم من أكبر المحن
مساوئ الجهل في الأطفال شاملة ... لقومهم كلهم في مقبل الزمن
كم عز من ضعة شعب بفتيته ... وكان آباؤهم في أوضع المهن
هو ابتناء لما ترجون من عظم ... وهو اتقالا لما تخشون من فتن(89)
ويقول شوقي في التعليم والعلم:
كانت لنا قدم إليه خفيفة ... ورمت بـ "دنلوب" فكان الفيلا
حتى رأينا مصر نخطو إصبعًا ... في العلم إن مشت الممالك ميلا
(2/63)

تلك الكفور وحشوها أمية ... من عهد خوفو لم تر القنديلا
ويرى قاسم أمين أن المرأة المخدرة لا تنفع الأمة، ويدعو دعوته المشهورة إلى السفور ومشاركة المرأة الرجل في الحياة تقليدًا لأوربا، ويدعو إلى الحد من تعدد الزوجات، وإلى تشريع خاص بالطلاق(90)، وجاءت بعده ملك حفني ناصف التي اشتهرت بلقب "باحثة البادية" وعززت دعوته مع شيء من التحفظ، فلم تذهب إلى كل ما ذهب إليه، وإن دعت إلى السفور المحتشم، واستنكرت اختلاط الجنسين(91).
وقد قامت ضجة عظيمة حول دعوة قاسم أمين هذه، واختلف الناس فيها اختلافًا بينًّا(92) حتى ألف في الرد عليه أكثر من ثلاثين كتابًا(93). وسجل الشعر الحديث هذه الدعوة، وانقسم الشعراء بين مشجع لها، ومندد بها، فهذا شوقي لا يرى في أول الأمر التشجيع على السفور ويقول قصيدته المشهورة التي أهداها لملك حفني ناصف "باحثة البادية".
صداح يا ملك الكنا ... رويا أمير البلبل
ويزين الحجاب للمرأة ويحذرها من السفور فيقول:
أنت ابن رأي للطبيـ ... ـعة فيك غير مبدل
أبدًا مروع بالإسا ... ر مهدد بالمقتل
إن طرت عن كنفي وقعـ ... ـت على النسور الجهل(94)
حرصي عليك هوى ومن ... يحرز ثمينًا يبخل
وقد(95) ردت عليه بقصيدة طويلة بينت فيها رأيها في هذه القصيدة وسلكت -كما ذكرنا- مسلكًا وسطًا.
(2/64)

ومطلع قصيدتها:
يا هذه لا تعذلي ... وإذا أبيت فقللي
وفيها تقول:
مجد الفتاة مقامها ... في البيت لا في المعمل
والمرء يعمل في الحقو ... ل وعرسه في المنزل
من الوليد يعنيه ... في لبسة والمأكل
ويميط عنه أذى الهوى ... يتلطف وتحيل
وأخذت تعدد ما يجب على المرأة أن تقوم به في منزلها، وليس معنى هذا أن تظل حبيسة المنزل:
لكن إذا دعت الضرورة للخروج فحيهل
سيرى كسير السحب لا تأتي ولا تتعجل
وتنكبي نهج الزحام وفضلي النهج الخلي
لا تخضعي بالقول أو تتبرجي أو ترفلي
لا تكنسي أرض الشوارع بالإزار المسبل
أما السفور فحكمه في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيه بين محرم ومحلل
ليس النقاب هو الحجاب فقصري أو طولي
فإذا جهلت الفرق بينهما فدونك فاسألي
ونرى حافظًا يحاول أن يقف موقفًا وسطًا في القضية فيقول:
أنا لا أقول دعوا النساء سوافرًا ... بين الرجال يَجُلْن في الأسواق
يدرجن حيث أردن من وازع ... يحذرن رقبته ولا من واق

(2/65)

يفعلن أفعال الرجال لواهيا ... عن واجبات نواعس الأحداق
كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا ... في الحجب والتضييق والإرهاق
ليست نساءكم حلي وجواهرًا ... خوف الضياع تصان في الأحقاق
فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا ... الشر في التقييد والإطلاق(96)
ومهما يكن من أمر فقد أجمع الشعراء والأدباء والمصلحون على وجوب النهوض بالمرأة وتعليمها(97). ودعوا إلى رعاية الطفل حرصًا على مستقبل الأمة، فيقول حافظ في قصيدته التي مطلعها:
شبحًا أرى ذاك طيف خيال ... لا بل فتاة بالعراء حيالي(98)
ويقول في قصيدة أخرى مطلعها:
صفحة البرق أومضت في الغمام ... أم شهاب يشق جوف الظلام(99)
ويقول محمد عبد المطلب في قصيدته التي مطلعها:
مصر أمي، فداء أمي حياتي ... سلمت أمنا من العاديات(100)
وينشد الشعراء أشعارهم حين يرون بادرة إصلاح تشجيعًا للقائمين بها: عند افتتاح مستشفى أو ملجأ، أو مصنع، أو مصرف وما شاكل ذلك، وعند كل ما من شأنه الرقي بمصر حتى تصير في حياتها المادية والعلمية والصحية مساوية لأوربا.
وقد وصف الشعراء بعض العادات التي سرت لبيئتنا من أوربا، فهذا شوقي يصف حفلة راقصة في قصر عابدين بقصيدته التي مطلعها:
(2/66)

مال واحتجب ... وادعى الغضب(101)
وبقصيدته التي مطلعها:
طال عليها القدم ... فهي وجود عدم(102)
ويتكلمون عن الموسيقى(103)، والفنون الجميلة(104)، ويصفون مختلف المخترعات كالغواصة(105) والطيارة والسيارة والمذياع، والحفلات المختلفة ذات الطابع الغربي ... إلى غير ذلك مما يمثل عصرهم أتم تمثيل، ويظهره في ثوب المدينة الحديثة ويعالجون مشكلات المجتمع المصري، والسوءات التي نقلناها عن أوربا من انتحار الطلبة(106). وطريق الغواية وإفساد الفتيات(107) وما شاكل هذا، وسنعود إلى أغراض الشعر الحديث بعد البارودي بشيء من التفصيل فيما بعد، وإنما سقنا هذه الأمثلة لندلل على أننا حقًّا نسير وراء المدنية الغربية في حياتنا المادية والمعنوية، وأن أدبنا قد تأثر إلى حد كبير بهذه المظاهر شعرًا ونثرًا، وأن أثر الأجانب كان فينا قويًّا، وقد ازداد تعلقنا بهذا اللون من الحياة بعد الحرب العالمية الأولى ونلنا قسطًا وفيرًا من الحرية والاستقلال. وظهور عهد الاستقرار والسلام والرخاء في البلاد، فزاد العبث واللهو، والافتتان بكل ما تجلبه أوربا، وكان لهذه الحياة أثر كبير في الأدب، فنحا الشعراء الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الكبرى نحو المجون والغزل الفاحش، والخروج على كل التقاليد العربية والإسلامية، وليس من همي الآن، وفي هذا الفصل أن أسهب في الكلام على هذا اللون من الشعر، وإن قلمي ليعف عن أن يسجل بعض الغزل الرذيل الذي يعبر عن عاطفة منحرفة، ونفس مريضة.
على أن هذا النوع من الغزل الذي ظهر كأثر من آثار انغماسنا في الحضارة المادية، ونسياننا المثل العليا، وكل ما يغذي النفوس ويسمو بها؛ يدعونا إلى الكلام عن أثر آخر للثقافة الأجنبية، وذلك هو:
(2/67)

2- تقليدنا لمذاهب الأدب الأوربي، وصرنا نسمع، ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى بما يسمى المدرسة الرمزية والمدرسة الواقعية، و"السريالية"، والمدرسة الإبداعية "الرومانتيكية"(108)، ومعظم الشعراء الذين فتنوا بهذه المدارس، قلدوها تقليدًا، من غير أن يكون ثمة داعٍ لهذا التقليد؛ إذ لم تظهر هذه المذاهب الأدبية في أوربا إلا نتيجة لعوامل اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية شجعت على ظهورها. وسنعود إلى بعض هذه المدارس بشيء من التفصيل عند الكلام على المدرسة المجددة في الشعر الحديث إن شاء الله.
3-
التجديد في القوالب الأدبية، فلم تعد القصيدة وحدها في الشعر -كما كانت في القديم- هي القالب الوحيد الذي يفصح فيه الشاعر عن خلجات قلبه، ويحمله خياله ومعانيه، بل عمد الشاعر إلى المسرحية الشعرية، واختلفت مسرحياتهم طولًا وقصرًا. وأكثروا من الرباعيات، والتواشيح. بل إن بعضهم قد أسرف فنظم ما يسمى بالشعر المرسل، ولم يكن حظ النثر دون الشعر في هذا المضمار، بل بذّه، وسار في التجديد شوطًا أوسع، ولم تعد المقالة وحدها صاحبة السيطرة في النثر، بل اهتم الأدباء بالأقصوصة ثم بالقصة الطويلة، وإن كان حظ الأدب العربي من القصص الطويلة الجيدة حتى اليوم ضئيلًا، وأكثر من كتابة المسرحيات الاجتماعية، واشتهر كتاب خطوا في المسرحية خطوات موفقة. ولتفصيل هذا الموضوع مكان آخر إن شاء الله.
4-
الاقتباس من معاني الأدب الأوربي وأغراضه، وذلك لكثرة الترجمة في هذا العصر كثرة عجيبة، سواء من الشعر أو النثر، فتجد كبار الكتاب أو الأدباء يسهمون في المجلات الأدبية بمقالات من إنشائهم أحيانًا، وينقلونها عن الآداب الأوربية أحيانًا، واشتهر من بين الأدباء الذين زودوا الأدب العربي بكثير من آراء المفكرين الغربيين والأدباء ولا سيما الإنجليز: الأستاذ العقاد فيترجم لتوماس
(2/68)

هاردي أكثر من قطعة(109)، ويدافع عن مذهبه في الشعر وتشاؤمه، ويترجم لأناتول فرانس "باقة من حديقة أبيقور"(110)، ويترجم الدكتور طه حسين لبودلير(111) وغيره، وينشر هذه التراجم في كتابه "من حيث الشعر والنثر" ويترجم بعض الأدباء "سادهانا" و"هدية العشاق" لطاغور، وتعني مجلة السياسة الأسبوعية بالأدب الفرنسي عناية فائقة، وكانت تسير نحو التجديد بخطى وثابة.
وقد ظهرت كتب مترجمة في الأدب مثل: "أناتول فرانس في مباذله" للأمير شكيب أرسلان، و"الزنبقة الحمراء" و"تأيبس"، لأناتول فرانس، إلى غير ذلك من الكتب الأدبية، التي ذكرت بعضًا منها على سبيل المثال. على أن أهم ظاهرة في العصر الحديث هي كثيرة القصص المترجمة، قصيرة أو طويلة، جيدة أو رديئة، وقد ساعد على هذا وجود المجلات الأدبية، تنافسها على أن يكون بكل عدد قصة مترجمة، وأحيانًا قصة موضوعة؛ واشتهر من المترجمين عن القصص الإنجليزي بعد الحرب العالمية الأولى محمد السباعي، وقد نشر كثيرًا من قصصه المترجمة في البلاغ الأسبوعي، وهو ينقل عن الإنجليزية قصصًا لأدباء أوربا بعامة سواء كانوا من الإنجليز أو الألمان مثل: "لوريلا" لبولي هايتس، أو من الروس مثل: "الشيطان وصانع الأحذية، ومهزلة غرامية، وليلة هائلة" للقصصي الروسي تشيكوف، أو الفرنسية مثل: "قصة العقد، والحب الضائع، والزجاجة ورزا، والشعر"، وغيرها للقصصي الفرنسي الواقعي: جي دي موبسان، ويترجم السباعي كذلك رباعيات الخيام عن الإنجليزية بأسلوب ممتاز، ولكنه كان يجنح في ترجمته إلى عدم التقييد بالأصل.
ونرى قصصًا طويلة تترجم عن الأدب الأوربي بأسلوب أدبي ممتاز فيترجم الدكتور طه حسين "زاديج" لفولتير، ويترجم الدكتور محمد عوض "فاوست" للشاعر الألماني جيته ويترجم الأستاذ أحمد حسن الزيات "ألام فرتر" لجيته،
(2/69)

ويترجم "رفائيل" للامرتين، ويظهر قبل ذلك المنفلوطي في رواياته ماجدولين، والشاعر والفضيلة مترجمة عن الأدب الفرنسي(112) ويترجم السباعي رواية المدينتين لتشارلز دكنز، ويترجم الدكتور طه حسين عددًا من المسرحيات الفرنسية.
ونرى خليل مطران يترجم لنا بعض روايات شكسبير، وأسس الدكتور أحمد زكي أبو شادي مدرسة شعرية هي مدرسة "أبولو" عام 1933، وأصدر مجلة بهذا الاسم غصت صفحاتها بالمترجم من الشعر العربي، والمنظوم على نمطه(113).
ولقد كانت المجلات الأدبية كما ذكرنا حاملة الترجمة في كل الفنون، فالسياسة الأسبوعية، والبلاغ الأسبوعي، الجديد للمرصفي، والمجلة الجديدة لسلامة موسى، ثم الرسالة لأحمد حسن الزيات، وأختها الرواية، ثم مجلة الثقافة غصت بالموضوعات والقصص المترجمة، وقد كان لكل هذا أثر في اقتباس الأدباء والشعراء من معاني الأدب الأوربي، قصدوا ذلك الاقتباس أو لم يقصدوه، كما أنهم تأثروا في موضوعاته وطريقته، وسنرى هذا الأثر عند الكلام عن المدارس الشعرية في العصر الحديث إن شاء الله.
5-
ونتج عن تأثرنا بالثقافة الأجنبية كثرة تعريب الكلمات ودخول عدد وفير من أساليب التعبير الغربية التي تلمسها لدى الكتاب غير المتمكنين من الأدب العربي القديم، والذين لا يستطيعون أن يصوغوا العبارات المترجمة صياغة عربية أصيلة، وقد انقسم المترجمون حيال اللغة العربية إلى أنواع ثلاثة فبعضهم يتجرم "ولا سيما المسرحيات" بلغة عامية أو عربية قريبة من العامية ولا يتحرجون في استعمال الكلمات الأجنبية، وأسلوبهم فيه كثير من الأسلوب الغربي، وقد راعى هؤلاء حال الجمهور المصري الذي سيشهد هذه المسرحيات، فلم يعنوا بالصياغة العربية والترجمة القوية من أمثال محمد تيمور، ومحمود
(2/70)

تيمور، والدكتور هيكل، ونوع ثانٍ ينقل باللغة العربية السهلة التي يتكلمها الناس، ولا ترقى إلى اللغة الأدبية أو تدانيها، بل هي أشبه بلغة الصحف، ومن هؤلاء: المازني ومحمد عوض، ومع هذه البساطة في التعبير والدقة في الترجمة قل أن نجد ليدهما أساليب تنكرها العربية، وإن كان المازني قد جنح في أخريات حياته إلى التساهل في استخدام الكلمات العامية في مقالاته الصحفية وفي بعض قصصه مع أنه في مستهل حياته الأدبية كان من أكبر المحافظين على الفصحى وعلى تجويد الأسلوب، وقد برع المازني في أخريات حياته في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية براعة جعلته في الصف الأول في هذا المضمار، ونوع ثالث كان يتحرج من الإسفاف في التعبير أو الحيدة عن صحيح اللغة أو الكتابة بأساليب مرقعة، ولا هي بالعربية الأصيلة أو الغربية الخالصة، وإنما كان يترجم ترجمة أدبية قوية ممتازة الأسلوب مثل مطران في ترجماته لروايات شكسبير، ومثل طه حسين في ترجماته، ومثل الزيات في آلام فرتر ورفائيل. ومثل السباعي(114) في قصصه المترجمة، وإن كان لا يتقيد بالأصل، ومثل عباس حافظ في قطعه الأدبية المترجمة(115).
وقد كان ثمة صراع بين الذين يؤثرون السهولة والراحة، ولا يكلفون أنفسهم عناء البحث وراء الكلمة الفصيحة حين الترجمة أو التأليف, وينقلون الآثار الأدبية الرائعة في لغاتها إلى اللغة العامية المصرية فيسيئون إلى هذا الأدب الجميل، ويسيئون إلى لغتهم إساءة بالغة، فالأثر الذي تتركه مثل هذه القطع المترجمة أثر وقتي يزول بخروج المتفرج من المسرح أو أثر خلقي إن كانت الرواية خلقية أو اجتماعية، أما الأثر الأدبي فلا وجود له البتة؛ لأن العامية لا تستطيع النهوض والوقوف للغة العربية كما ذكرنا في غير هذا الموضع(116). وبين هؤلاء الذين تمكنوا في اللغة العربية تمكنًا عظيمًا، فهم يبغون في ترجماتهم تزويد هذه اللغة بألوان من المعاني، والأفكار، والموضوعات تجعلها من اللغات العالمية الغنية.
(2/71)

وللأستاذ العقاد في الدفاع عن الفصحى مقال قيم(117)، وللرافعي. رد مفحم مدعوم بالأدلة الباهرة على هؤلاء الذين حاولوا تمصير اللغة أو الجنوح إلى العامية نشره تحت عنوان: "تمصير اللغة"(118) وقد قال شوقي مُثْنِيًا على الفصحى وقدرتها على التعبير في كل زمان:
لغة الكامل في استرساله ... وابن خلدون إذا صح وصابا
إن للفصحى زمامًا وبيدًا ... وتجلب السهل وتقتاد الصعابا
لغة الذكر لسان المجتبى ... كيف تعبا بالمنادين جوابًا
كل عصر دارها إن صادفت ... منزلًا رحبًا وأهلًا وجنابا
إيت بالعمران روضًا يانعًا ... وادعها تجر ينابيع عذابًا
ويقول الدكتور طه حسين في مقدمة "قصص تمثيلية" موضحًا وجهة نظره في هذا الموضوع:
"
هذه فصول في النقد والتحليل تناولت بها طائفة من آيات التمثيل الحديث، ونشرتها "السياسة"، متفرقة، ثم طلب إلى بعض القراء أن أجمعها في أسفار فأجبتهم إلى ذلك دون أن أغير فيما نشرته -السياسة- قليلًا أو كثيرًا. ولقد كتبتها وجمعتها، ولا أريد من ذلك إلا أمرين اثنين: الأول أن أظهر قراء العربية على نحو من الأدب الغربي، والثاني أن يكون لهذه القصص، وما فيها من الآراء الفلسفية، والمذاهب الفنية المختلفة أثر في نفوس الأدباء الذين يعنون منهم بالتمثيل العربي خاصة، يحملهم على أن يعنوا بهذا الفن الناشئ في أدبنا عناية ترفع من شأنه، وتجعله خصبًا مفيدًا، فإن أوفق إلى ما أريد بعضه أو كله فأنا سعيد".
هذا بعض ما كان للثقافة الأجنبية، وشدة اختلاطنا بالأدب الغربي نتيجة تلك العوامل التي أتينا عليها آنفًا من آثار في أدبنا شعرًا ونثرًا، ألمت بها إلمامًا سريعًا، كم كان بودي أن أقف على كل أثر من هذه الآثار، وأوفيه حقه من البحث
(2/72)

في هذا المقام، ولكن المقام أضيق من أن يتسع لكل هذا.
والآن وقبل أن أترك هذا الموضوع أرى لزامًا على وأنا أؤرخ لهذه الحقبة من الأدب الحديث وقد ذكرت فيما سبق سيئات "كرومر" في التعليم، أن أقول كلمة إنصاف، وأسجل هنا أثرًا حميدًا من آثاره، ألا وهو حرية الصحافة في عهد الاحتلال، أو بعبارة أدق في عهد كرومر خاصة.
وإذا كان للورد كرومر من حسنات تذكر من هذا السبيل فأول هذه الحسنات وأقواها أثرًا في الأدب هي إطلاقه الحرية التامة للمطبوعات، وعلى الأخص الصحافة المصرية، فلم يكمم أفواه الصحافة، أو يقيدها بقانون خاص، وتركها للقانون العام. وصل كرومر مصر سنة 1883 والصحافة مقيدة بتلك القوانين الصارمة التي سنها إسماعيل، التي كان يسلطها سيفًا بتارًا على رءوس الصحفيين الذين ينتقدونه، ولا ننسى أنه أغلق جريدة التجارة التي أنشأها أديب إسحق، وأغلق أبا نضارة التي أنشأها يعقوب صنوع، وكاد يبطش بالأهرام لولا توسط الفرنسيين، ثم جاءت الثورة العرابية فشدت الرقابة على الأفكار وعلى تداولها ولا ننسى أن عبد الله نديم ظل مختفيًا ردحًا طويلًا من الزمن وأنه كان يخشى الظهور لما اشتهر به من مناوأته للخديو توفيق، وقد أغلق توفيق الأهرام سنة 1884 لأنها كتبت مقالًا تقرر فيه أن الحكومة لا تخدم مصر وإنما تخدم إنجلترا، ولكن الضباط المكلفين بإغلاقها سرعان ما فتحوها بأمر اللورد كرومر واعتذروا لصاحبها رسميًّا.
كانت هذه القوانين تحتم على صاحب المطبعة دفع تأمين لا يقل عن مائة جنيه عند فتحها، ومن ينشئ مطبعة بدون ترخيص من الحكومة يغرم غرامة قد تصل إلى مائة وخمسين جنيهًا، ومن أراد أن يصدر كتابًا أو صحيفة لا بد له من عرضهما على قلم المطبوعات قبل أن يسمح له بإصدارها، وربما وجد من المضايقات وإحالة الأمر إلى وزير الداخلية، وتعويق إصدار الرخصة للصحيفة ما يجعله يعدل عن إصدارها(119).
جاء كرومر وهذه القوانين قائمة ومعمول بها فعلًا، فلم يلعنها؛ ولكنه أهملها، وترك الحرية للمطابع ولصحافة. فانتشرت المطابع انتشارًا عظيمًا حتى بلغ عددها في أواخر عهد الاحتلال ما يربو على 217 مطبعة في القاهرة
(2/73)

وحدها(120). وأبيح للكتاب ورؤساء الأحزاب وغيرها إنشاء الصحف والمجلات من غير حاجة إلى استصدار رخص خاصة من قلم المطبوعات(121).
ولا شك أن إطلاق الحرية للصحافة وللكتب، قد حررها من ربقة الحكومة وسيطرتها، فلم تعد ميدانًا للملق والنفاق. والكذب، والدفاع بالباطل، عن تصرفاتها الخاطئة وتكبير حسناتها التافهة، بل صارت رقيبًا قويًّا، ولسان صدق الأمة ومطالبها القومية، وحربًا مريرة قاسية على الإنجليز وفظائعهم بمصر، والتشهير بهم في العالمين، ولا شك أن هذه كانت شجاعة فائقة من اللورد كرومر والتشهير بهم في العالمين، ولا شك أن هذه كانت شجاعة فائقة من اللورد كرومر الذي كان الحاكم المطلق لمصر في ذاك الوقت أقوى من الجالس على العرش، بل أقوى سلطة في البلاد، يزور قراها ويستقبل استقبال الملوك، ولا يستطيع إنسان أن يبت في صغيرة أو كبيرة من شئون الدولة إلا بأمره وبعد أخذ رأيه.
أتى كرومر وعدد الصحف لا تزيد على بضع وعشرين صحيفة، ولكن لم يأت عام 1903 حتى كان بالقطر 176 صحيفة خص القاهرة منها 133 ما بين جريدة ومجلة(122).
ولقد أدى ازدياد الصحف إلى التنافس بينها، وأدى التنافس إلى تجويد المقال، واختيار الكتاب الأكفاء ذوي الأفكار الحية الجديدة، وإشباع نهم الجمهور للطريق الجديد من المقالات والأخبار، والتحدث بإسهاب عن مآسيه وأرزائه، وأمانيه وأدوائه، وكيف ننسى أنه في هذه الحقبة ظهر مصطفى كامل، وأشعلها حربًا مرة قاسية في الشرق والغرب على المحتل الغاصب، وكانت جريدة المؤيد في أول الأمر ميدانًا لمكافحته، ثم أنشأ جريدة اللواء(123)، بل أصدر جريدتين إحداهما بالفرنسية l etendar egyptien والثانية وبالإنجليزية(124) The egytion stna dard؛ حتى يكون التشهير بفظائع الإنجليز أهم أقوى، ولم يصادر له اجتماع عقده، وقد كان عدد الحاضرين يبلغ أحيانًا سبعة آلاف، ولم تغلق له جريدة مرة
(2/74)

وكان يكتب فيها جماعة من ذوي الأقلام الملتهبة القوية مثل عبد العزيز جاويش، ومحمد فريد.
وكان إنشاء الأحزاب مباحًا كذلك، وقد أنشئ حزب الإصلاح برئاسة الشيخ على يوسف مناوئًا للحزب الوطني، بعد أن فسدت العلاقة بين الخديو عباس والزعيم مصطفى كامل في سنة "1904"(125)، ثم أنشئ حزب الأمة في سنة 1907، وهي السنة التي رحل فيها "كرومر"، ولكنه شهد مولد هذا الحزب قبل أن يغادر مصر وكان عنه راضيًا.
كان حزب الأمة أول الأمر متأثرًا بأفكار الشيخ محمد عبده ونظرته في السياسة والإصلاح، وكان الشيخ محمد عبده على صلة طيبة بالإنجليز كما عرفنا في الجزء الأول، وقال كرومر في شأن رجال حزب الأمة في تقريره السنوي سنة 1906: "إنهم فئة قليلة من المصريين، ولكن عددها أخذ في الازدياد، ولا يسمع عنهم إلا الشيء القليل، بيد أنهم ليسوا أقل استحقاقًا لوصف الوطنية من الحزب الوطني الذي اختص نفسه بهذا الوصف؛ وهم ينشدون رقي بلادهم، ويعملون على تقدم إخوانهم في الدين من غير أن يصطبغوا بفكر الجامعة الإسلامية، وهم يرغبون في التعاون مع الأوربيين على إدخال المدينة الأوربية في مصر، وإنني أرى أن الأمل الوحيد للوطنية المصرية في معناها العملي الصحيح معقود بأعضاء حزب الأمة(126).
وقد أنشأ هذا الحزب "الجريدة" وكان يرأسه وقت تأسيسه حسن باشا عبد الرزاق وكان من أخلص الناس للشيخ محمد عبده، وبعد وفاته في سنة 1907 تولى الرئاسة محمود باشا سليمان، ثم أحمد لطفي السيد الذي يرأس تحرير الجريدة، ويقول الدكتور هيكل في أغراض الجريدة وحزب الأمة: "على أن المصريين قد رأوا فشل السياسة الأولى التي جروا عليها، وهي سياسة الاعتماد
(2/75)

على فرنسا، ثم على أوربا، ثم على الباب العالي، وقدر جماعة منهم أن لا بد من الأخذ بسياسة أخرى هي إعداد الأمة بأدوات الاستقلال من علم وأخلاق، وغرس الإيمان بنفسها لا لمجرد كراهية الإنجليز، ولا حبًّا في الباب العالي ومقام الخلافة، ولكن حبًّا في الاستقلال والحرية لذاتهما، وكان لطفي السيد لسان الذين فكروا هذا التفكير(127).
ولقد أفضت قليلًا في الكلام عن حزب الأمة وجريدته؛ لأنه كان حزبًا يدعو إلى التجديد مع الاعتدال، والتوفيق بين المدينة الحديثة، والحضارة الإسلامية وتعاليم الشرع، أو كانوا كذلك في أول الأمر؛ لقرب تأثرهم بآراء الشيخ محمد عبده؛ ولأن البيئة المصرية حينذاك لم تكن تتحمل التطرف الشديد في التجديد، ولكنهم فيما بعد، حين تمتعت مصر بشيء من الاستقلال والحرية دعوا إلى التجديد السافر في غير تحفظ، وإلى حرية الرأي ولو كان فيه شطط وخروج عن الدين والتقاليد. ويعتبر رجال هذا الحرب أنفسهم سواء -في السياسة أو العلم- من القادة الذين يجب أن يستمع الشعب لآرائهم، ويسير وراءهم، ولهم في السياسة منحى معروف ينم على أنهم أخلصوا للإمام محمد عبده ونظرته السياسية بعد وفاته، وتمسكوا بتعاليمه، فمنهم صار الأحرار الدستوريون فيما بعد، وهم الذين دعوا إلى إنشاء الجامعة المصرية، وقاموا بإنشائها فعلًا في سنة 1908، وإن كان مصطفى كامل قد سبقهم في الدعوة إلى تأسيسها على نحو ما ذكرناه آنفًا، وهم الذين تولوا إدارتها فترة طويلة من الزمن في عهدها الحكومي، وقادوا الحركة الفكرية والتجديد في مصر في الآداب والفلسفة والاجتماع بقوة وجرأة، وربما كانت لنا عودة إليهم فيما بعد إن شاء الله.
على أن إنشاء الجريدة كذلك كان فتحًا جديدًا في عالم الصحافة من جهتين: إذ ضاعفت الأجور للكتاب، فارتفع مستواهم الأدبي، وجارهم في ذلك أصحاب الصحف الأخرى، وجودت المقالة تجويدًا عظيمًا، بيد أن الجريدة لم تستمر بعد
(2/76)

قيام الحرب العالمية الأولى، وقد خلقتها في عهد الاستقلال جريدة السياسة اليومية وأختها السياسية الأسبوعية.
كانت الصحافة من قبل تطرح على المشتركين، الذين يعدون الاشتراك فيها كرمًا وأريحية يحبون بها صاحب الجريدة، ولكنها بفضل المنافسة، والحرية، والاهتمام بالشعب وآماله والمزايدة في الوطنية، وتنبه شعور الجمهور للإصلاح والتخلص من الإحتلال من التصريح بأن صحافة وادي النيل بلغت، أو كادت تبلغ شأو الجرائد الأوربية من حيث الحجم، ووفرة الأخبار، وغير ذلك من المحاسن: والفضل في ذلك عائد إلى الحكومية المصرية، التي تحدت الحكومات الأوربية ما أمكن -بتأثير الاحتلال الإنجليزي- وعلى الجملة فالصحافة العربية في تاريخ حقبتها الثانية لا تستحق أن تعد بين الصحف الراقية إلا في مصر، ولا يمكن أن ترتقي في سائر الأفكار إلا بقدر ارتقاء المحيط الذي تصور فيه، كما نشاهد الآن ذلك بالفعل في أمريكا الشمالية، والجنوبية"(128).
ومما يدل على أن كرومر كان له الفضل في حرية الصحافة المصرية، أنه بعد رحيله لم تقوَ الحكومة، ولا رجال الاحتلال على مواجهة الحرية الصحفية، والقوة التي كانت تهجم بها على الفساد الحكومي، وتنغص على المحتل إقامته، وتبين مساوئ حكمه، وفساد إدارته، وتعسفه فأعادوا في 25 من مارس 1909 قانون المطبوعات القديم الذي كان قد صدر في أخريات الثورة العرابية، أي قبل الاحتلال في 26 نوفمبر 1881، وكان هذا القانون يخول وزير الداخلية الحق في إنذار الصحف، وتعطيلها مؤقتًا، أو نهائيًا من غير محاكمة أو دفاع، وكان بعثه وإعادة العمل به نكسة للحرية الصحفية، وقضاء على ما بقي للشعب المصري من متنفس، وكان صدوره أول مظهر للتحالف بين الخديو عباس والاحتلال ضد الحركة الوطنية(129).
(2/77)

وقد أثار هذا القرار حنق الشعب كله ضد بطرس غالي رئيس الوزراء حينذاك، وقامت المظاهرات العديدة في كل مكان بمصر تنادي بإلغائه، وتظهر سخطها على الوزارة التي سمحت برجوع هذا القانون، الذي صار سيفًا مسلطًا على الأفكار الحرة، وعلى رجال الوطنية الذين برموا بتلكؤ الإنجليز، ووعودهم الكاذبة. وقد حوكم المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش بمقتضى هذا القانون لأنه كتب مقالًا في ذكرى دنشواي، وحبس ثلاثة أشهر في أغسطس سنة 1909، ومع أن ما قام به الوطنيون في سنة 1906 حين وقع حادثه دنشواي، وما شنوه من حرب شعواء ضد الاحتلال في الداخل والخارج، وضد كرومر بصفة خاصة كان أعنف وأقوى ما رآه الإنجليز حتى ذلك الوقت، وكان السبب في أن ضحت إنجلترا بكرومر إرضاء للمصريين أولًا، ولتهدئة السخط الذي أظهره الرأي العام الأوربي حين سمع بهذه الفظائع الوحشية ثانيًا. ولم يفكر كرومر وكان بيده كل سلطان- أن يكمم أقفواه الجرائد أو يصارد الاجتماعات التي كانت تندد بسوءات حكمه.
وبمقتضى هذا القانون أنذرت جريدة اللواء الإنذار الأول في سنة 1909، ثم عطلت نهائيًّا في أغسطس سنة 1912، وأوقفت جريدة "العلم" شهرين، وكانت قد ظهرت بجانب اللواء في 7 من مارس.1910، وصدر الأمر بإيقافها في 20 مارس، ثم نهائيًّا في 7 من نوفمبر سنة 1913 وبمقتضى هذا القانون كذلك حبس محمد فريد ستة أشهر؛ لأنه كتب مقدمة لديوان "وطنيتي" الذي نظمه الشيخ على الغاياتي، وصودر الديوان، وحبس الشيخ جاويش ثلاثة أشهر مع الشغل؛ لأنه كتب مقدمة أخرى لهذا الديوان كذلك(130).
وظل هذا القانون الصارم سيفًا بطاشًا، ويفتك بالصحافة الحرة، ويطيح بالآراء الجريئة بل يئدها قبل أن ترى الحياة، إلى أن شبت الحرب العالمية الأولى في أغسطس سنة 1914، وأعلنت الحماية على مصر، وجاءت معها الأحكام العرفية، فقضت على البقية الباقية من الحرية الصحفية، وكانت المؤيد قد توقفت عن
(2/78)

الصدور قبل ذلك بعد أن عين الشيخ على يوسف شيخًا للسادة الوفائية في سنة 1912، وودع المؤيد ورئاسة تحريره في سنة 1913، وأسندت رئاسة تحريره لمحمد بك أبو شادي، ولكن الديون كانت قد أثقلت المؤيد، فأصر الدائنون على بيع داره وأثاث بيت صاحبه لاستيفاء الدين، فبيعت في مارس 1913 وفي 25 من أكتوبر سنة 1913 توفي الشيخ علي يوسف وهو في الخمسين من عمره، ذهب ذلك الصوت المصري الجريء مع من ذهب من أعلام النهضة(131).
أما "الجريدة" لسان حزب الأمة، والصوت الجديد في الصحافة فقد توقفت كذلك في سنة 1914، وجنت عليها الحرب فيما جنت(132).
كانت الحرب العالمية الأولى نكبة على الناس، وقد حاول الإنجليز أن يتخذوا منها ذريعة للقضاء على ما بقي للمصريين من حرية واستقلال وشعور بالكرامة والوطنية، فمهدوا الطريق لإعلان الحماية على مصر ليقطعوا بذلك آخر صلة لها بتركيا، وليحكموها بيد من حديد بحجة الدفاع عن أنفسهم، وتأمين خطوط مواصلاتهم، فأعلنوا قانون التجمهر في 18 أكتوبر سنة 1914، الذي يقضي بألا يجتمع أكثر من خمسة أشخاص في مكان ما(133)، وغلوا البلاد بالأحكام العرفية في 2 من نوفمبر "1914"(134). ثم أعلنوا الحماية في يوم 189 من ديسمبر "1914"(135) وقد احتجت جريدة "الشعب" التي كان يصدرها أمين الرافعي احتجاجًا على إعلان الحماية(136)، وعطلت الجمعية التشريعية في 27 من أكتوبر 1915، فلم يبق في مصر أي صوت ينطق بلسان الشعب، أو يستطيع أن يتفوه بكلمة حق.
وهكذا صمت المصريون أمام هذا الإرهاب الشنيع طوال أربع سنوات، تضيق صدورهم بما ترتكبه "السلطة" من آثام، ولا تنطلق ألسنتهم بما يعتلج في
(2/79)

حنايا هذه الصدور من آلام، وقد أشار سعد زغلول إلى ما عاناه المصريون في خلال هذه المدة من عنت وإرهاق في حديثه مع المعتمد البريطاني في سنة 1919 بعد أن أعلنت الهدنة بقوله: "وإن الناس ينتظرون بفروغ صبر زوال هذه المراقبة كي ينفسوا عن أنفسهم، ويخففوا عن صدورهم الضيق الذي تولاهم أكثر من أربع سنين"(137).
ثم اضطرمت الثورة في مصر سنة 1919، وكان من أهم أسبابها على ما أعتقده كبت الحريات، والتضييق الشديد على الآراء والأفكار طول عشرة سنوات كاملة، بل منذ خرج كرومر من مصر سنة 1906، ولقد كان كرومر استعماريًّا محنكًا، فسمح للمصريين بأن ينفسوا عن أنفسهم بالكتاب اوالخطابة فنأوا عن الثورة، وإن أطاحت به هذه الحرية التي منحها لهم وأبعدته عن مصر على أثر تلك الغارة الشعواء التي شنوها عليه بعد حادثة دنشواي الدامية، أما خلفاؤه فلم ينهجوا نهجه، ولم يتمرسوا بحكم الشعوب، ويدرسوا نفسياتها ويعالجوها بما يناسبها، فكانت ثورة 1919، وكانت خيرًا وبركة على وادي النيل.
ولما شبت الثورة ازدادت رقابتهم على الصحف شدة وعنفًا حتى أن الصحف المصرية لم تستطع أن تشير إلى أول اجتماع عقده الوفد المصري برياسة سعد زغلول في دار حمد الباسل إلا بأنه اجتماع ضم كثيرًا من أعيان العاصمة والأقاليم ودعوا لتناول "الشاي" والحلوى ثم انصرفوا رويدًا رويدًا وجماعات، وهم يتحدثون بفخامة هذا الاجتماع وبفضل الداعي وكرمه(138) ومن يقرأ هذا الكلام لا يفهم منه شيئًا يمت إلى السياسة بصلة، مع أن هذا الاجتماع كان إيذانًا بالثورة، وقد وضعت فيه مبادئ الجهاد، والوقوف في وجه المحتل الغاصب، وقد طبع الوفد ما اتخذه من قرارات، ووزعها على الناس حين عجزت الصحف عن نشره.
ولما طارت أول شرارة من نار الثورة في مارس سنة 1919، واستشهد كثير من الشباب في ميدان التضحية، وكثرت الاعتقالات واستبدت السلطة الغاشمة،
(2/80)

وأمعنت في طغيانها، ولم يجد الناس في الصحف غناء لمعرفة أخبار الثورة والجهاد، وانتشرت المطبوعات والصحافة السرية التي كانت تحمل الحملات الشديدة على الإنجليز، وعلى الوزارة، وعلى القصر، وكان للطلبة جريدة سرية باسم "المصري الحر" ولها مطبعة سرية خاصة، وكان الناس يتلقفون هذه النشرات بلهف بالغ، ويتبادون الاطلاع عليها، فساء ذلك المحتل الغشوم، وأمعن في إرهابه وعنته، وأصدر الجنرال "بلفن" أمرًا شديدًا بمعاقبة كل من يلجأ إلى طبع أو إذاعة أو توزيع أي نشرة أو صورة عقابًا صارمًا، وذلك في يونية سنة "1919"(139).
ولما عقدت معاهدة الصلح في قصر "فرساي" في 28 من يونية 1919، وتقرر فيها الاعتراف بشريعة الحماية على مصر، وتساهلت السلطة العسكرية البريطانية بعض الشيء مع المصريين، ألغيت الرقابة على الصحف ابتداء من أول يولية سنة 1919، ونشرت رئاسة مجلس الوزراء بيانًا في 26 يونية نصحت فيه أصحاب الصحف أن يلزموا الاعتدال حتى لا يلجئوا الحكومة إلى العودة لوضع القيود والروابط، ولكن الإلغاء كان صوريًّا؛ لأن إدارة الرقابة أرسلت إلى الصحف مذكرة سرية تفرض فيها الرقابة أشد وأنكى مما كان(140).
ثم مضت الثورة في طريقها لا تلوي على شيء، واشترك فيها الأمراء والفقراء، وأهل المدن، وأهل القرى، وعمت البلاد من شاطئ البحر المتوسط إلى حدود السودان، وكثر عدد القتلى والشهداء، وتأليف وزارات لم تستطع حكم البلاد، وظلت من غير حكومة فترات طويلة، وهنا اضطرت السلطة البريطانية إلى إعادة الرقابة على الصحف مرة أخرى في مارس "1920"(141).
ولما دعا عدلي يكن لمفاوضة الإنجليز رسميًّا، وكان سعد زغلول بباريس حينذاك، وطلب منه عدلي أن يشترك في المفاوضة أرسل إليه في 19 من مارس 1920 بأنه عائد إلى مصر، وقد اشترط للاشتراك في هذه المفاوضة شروطًا كان منها إلغاء الأحكام العرفية، والرقابة على الصحف قبل الدخول في المفاوضات(142).
(2/81)

وقد حقق عدلي يكن بعض هذه الشروط في مايو سنة 1921، فرفعت الرقابة عن الصحف(143).
وانقسم الوفد المصري على نفسه، واختلف سعد وعدلي على رئاسة الوفد، ثم نفى سعد وصحبه إلى جزيرة سيشل في 15 من ديسمبر سنة 1921، وأعادت السلطة العسكرية الرقابة على الصحف مرة أخرى، وبطشت بكل صحيفة كانت تناوئها. ولما أعلن تصريح28 من فبراير 1922، وقاومته أغلبية الأمة، وكثرت الاغتيالات السياسية أساء ثروت "باشا" معاملة الصحف التي كانت تندد بالتصريح، وتعارض سياسته، فعطل جريدة "الأهالي" تعطيلًا نهائيًّا في سنة 1922، وعطل جريدة الأمة لمدة ثلاثة أشهر، وعطل الأهرام وأصدر أوامر مشددة إلى الصحف بتجنب ذكر اسم سعد وزملائه المنفيين(144).
وأخيرًا وضع الدستور المصري، وأعلن في 19 من إبريل سنة 1923، وقد كفلت المواد 4 و5 و13 و14 و21 منه الحرية الشخصية، وحرية الاعتقاد، وحرية الرأي بحيث لا يجوز القبض على أي إنسان ولا حبسه إلا وفق أحكام القانون، وكفلت المادة 15 منه حرية الصحافة، وحظرت الرقابة على الصحف، ومنع إنذارها وتعطيلها أو إلغائها إداريًّا، وانتهت الأحكام العرفية في 5 من يولية سنة 1923. وتمتعت مصر بفترة من الحرية النسبية حرمتها أمدًا طويلًا.
بيد أننا نقول والأسف يملأ قلوبنا إن الإنجليز قد تركوا لهم أذنابًا وصنائع في مصر، عبثوا بها وبحريتها، وكانوا يعبدونها من دون الله، ومن دون الوطن، ونراهم تضيق صدورهم حين يشاهدون الأمة جادة في نيل استقلالها كاملًا غير منقوص، وكأني بهم ينظرون نظرة الذئب إلى فريسته أو الوصي إلى اليتيم الصغير، ويدعون أن الأمة لم تزل في حاجة إلى الهداية والرشد، وأنهم هم القادة الأكفاء الذين أرسلتهم العناية الإلهية للأخذ بيدها، ولكن هل في تعطيل الدستور والعبث به، ووضع دساتير فجة، وفي كبت الحريات والحد من الأفلام الجريئة هداية أو رشاد؟!
(2/82)

لقد انفصل عن الوفد جماعة نفسوا على سعد رئاسته، وأسس حزب الأحرار الدستوريين في أكتوبر سنة 1922، وتصدعت وحدة الأمة، واجتهد القصر في أن يحتفظ لنفسه ببعض مزايا الحكم، وألف حزب الاتحاد، ثم حزب الشعب، ثم اندمج كلاهما في حزب الاتحاد الشعبي، وكانا يشايعان القصر، وقد أدت هذه الفرقة إلى تناحر الأحزاب فيما بينها، وشدد رجال الأحزاب النكير على الحريات، والصحف المعارضة كلما تولوا الحكم. وعمدت الصحف إلى المهاترات الحزبية، وانصرفت جهود الأمة إلى دعم الحزبية، لا إلى المطالبة بالاستقلال؛ وقد ظل الأمر كذلك بعد الحرب العالمية الثانية، فرأينا نيابة الصحافة تجد في تعقب الصحف ومؤاخذتها، وفرض الغرامات على أربابها.
ولكن على الرغم من كل هذا فقد خطت الصحف في عهد الدستور خطوات واسعة جدًّا في سبيل الرقي من حيث المادة، والحجم، والفن الصحفي، وظهر إلى جانب الصحف اليومية مجلات أسبوعية وشهرية عنيت بالآداب والعلوم والفنون، وتفرغ لتحريرها صفوة الكتاب والأدباء، وعملت على تحبيب الأدب للجمهور وكانت أداة فعالة في التقريب بين الشرق والثقافة الغربية. وقد بلغت هذه الصحافة الأدبية الذروة بعد إعلان الدستور فترى السياسة الأسبوعية تحمل مشعل التجديد، وتحث الناس على الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية دون مراجعة أو تردد، وتستمر حقبة من الزمن وهي في عنفوانها، ثم تضمحل بضعف الأحرار الدستوريين سياسيًّا، ويظهر بجانبها البلاغ الأسبوعي ينافسها في ميدان الأدب، ويظل حقبة يغذي الأدب العربي بأفاويق الأدب الغربي، وبعرض أراء جمهرة من الكتاب والشعراء عرضًا جذابًا وتظهر مجلة الجديد في سنة 1928 لنائل المرصفي، ولكنها لا تبقى أكثر من سنتين، ومن ثم تظهر في الأفق مجلة قوية بأقلامها والمحررين فيها، وكانت ثمرة ناضجة لهذه الجهود الطويلة الذي بذلها محمد عبده وأتباعه ألا وهي مجلة الرسالة للأستاذ أحمد حسن الزيات، وتظل سنوات في مقدمة المجلات الأدبية في الشرق، إلى أن تظهر مجلة الثقافة للأستاذ أحمد أمين ولجنة التأليف والترجمة وتبقى قوية بضع سنوات ثم تضعف هذا عدا الهلال والمقتطف والزهراء لمحب الدين الخطيب وغيرها.

(2/83)

ثم تعلن الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939، وتعلن معها الأحكام العرفية، ويشح الورق، وتفرض الرقابة على المطبوعات، وينقص حجم الصحف، وتضعف الصحافة الأدبية تدريجيًّا، ويظهر في أعقاب الحرب نجم جديد في عالم الصحافة الأدبية وهي مجلة الكتاب التي تصدرها دار المعارف(145). ويهتم الغربيون ببث دعاياتهم وثقافاتهم بين شعوب الشرق، فتصدر مجلة "المختار" الأمريكية في خلال الحرب، وكلها ترجمة عن المجلات الأمريكية، وفيها رأي العرب لونًا جديدًا حقًّا من الثقافة والتحرير ثم عجزت عن الاستمرار بعد سنوات وظهرت الهلال في ثوب جديد محتذية حذوها، متقربة نوعًا ما من ثقافة الشعب ومستواه دون أن تسف.
ولعلك رأيت بعد هذا العرض السريع للصحافة في عهد الاحتلال والاستقلال مبلغ ما عانيناه من عنت، ومبلغ ما وصلنا إليه من حرية، سنعود مرة أخرى إلى الصحافة عند التحدث عن أثر النهضة القومية في الأدب إن شاء الله.

(2/84)


 

__________
(1) راجع الفصل السادس من كتاب الأدب الحديث ج1.
(2) البعثات العلمية في عهد محمد علي، ثم في عهد عباس الأول وسعيد للأمير عمر طوسون ص 418.

(3) راجع الفصل السادس من كتاب الأدب الحديث ج1.
(4) ديليسبس هو المهندس الفرنسي الذي صمم مشروع قناة السويس ونفذه، وفرير أدريان من كبار المبشرين الفرنسيين، وماريت وماسبيرو من علماء الآثار الذين احتلوا مكانة كبيرة في مصر.
(5) iulien leopold "semailles francias" le magazine egyption cairo. may 1926.
وراجع رسالة الأستاذ الطيب حسن عن أثر الثقافة الغربية في الأدب المصري الحديث ص 45- مخطوط.

(6) تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل -ج1 ص 218.
)
7) earl comers mod4ern egyt. p. 236.
(8) خطبة مسيو هربو في افتتاح مدرسة الليسيه بمصر الجديدة، الأهرام 4 سنة 1938.

(9) تقرير وزارة المعارف سنة 1931- 1932.
(10) الفصل السادس.

)11) تاريخ مصر السياسي لمحمد رفعت "باشا" جـ 1 ص 92- 93.

(12) إحصاء قسم التسجيل والامتحانات بوزارة المعارف العمومية سنة 1931- 1932.
(13) راجع الفصل الخامس من كتاب الأدب الحديث ج1.

(14) EARL CROMERS MODERN EGYPT. VOL II.P 55- 7
(15) راجع الجزء الأول من الأدب الحديث طـ السابعة ص 349.

(16) See: Goerge Young: Egypt. and Sir Valentine Chirol: The Egyptian Problem.
See also Lord. Lioyd: Egypt Since Cromer.

(17) sir valentine chirol. the egyptian problem, pp. 231- 232

(18) Yacoub Artin Pasha. L'Instruction Publique on Egypte Appendex A. P. 151.
(19) الإحصاء الحكومي العام سنة 1907.
(20) Yacoub Artin Pasha; L'Instruetion Publique on Egypt. Appendex A. P. 152.
(21) الإحصاء الحكومي العام سنة 1907.

(22)  H.R. gibb. B.S o.s vol 5 pps 314

(23) مستر "مان" خبير إنجليزي في التعليم استقدمه الأستاذ على الشمسي وزير

المعارف كما استقدم مستر "كلاباريد" السويسري الخبير بشئون التعليم، وقدم كل منهما تقريرًا لوزارة المعارف سنة 1928.

(24) مستقبل الثقافة في مصر للدكتور طه حسين ص 170- 171.
(25) تقرير م مستر بويد كاربنتر BOYED CARPENTER رئيس التفتيش بوزارة المعارف سنة 1918.

(26) انظر كتاب "التربية الاستقلالية" أو إميل القرن التاسع عشر، ترجمة عبد العزيز محمد وراجع سر تقدم الإنجليز السكسون ترجمة فتحي زغلول.
(27) GUSTAVE LE BON, PSYCHOLOGIE DU SOCALISME P. 197

(28) الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر ص 72 سنة 1938.
(29) تقرير الهلالي "باشا" ص 1- 2.

(30) الدكتور طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر ص 223.

(31) الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي ص 149- 150.
)
32) تقرير مستر "مان" ص 42.

(33) ثورة الأدب ص 65.
(34) نفس المصدر ص 74.

(35) الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر ص 72 سنة 1938.
(36) تقرير الهلالي "باشا" ص 1- 2.

(37) أذالوك. أهانوك ولم يحسنوا القيام عليك.
(38) ريح الشمال؛ كناية عن أوربا والأدب الغربي.

(39) جاء في تقرير لجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الفرنسي حين عرضت عليه معاهدة "منترو" لإلغاء الامتيازات الأجنبية بمصر. أن رءوس الأموال الأجنبية بها تبلغ 50 مليارًا من الفرنكات من مجموع ما فيها من رءوس الأموال المنقولة وقدره 55 مليارًا وأن للفرنسيين وحدهم من الأموال التي يملكها الأجانب 30 مليارًا من الفرنكات "الأهرام 10 يونيو 1938".

(40) راجع المؤيد عدد سبتمبر 1895، ومصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي طـ ثانية ص 60.
(41) جريدة اللواء 3 مارس 1907.

(42) sir william willcocks: syria. egypt, north africa and multa speak punie, not arabic. 13 london 1926.
(43) الشيخ على يوسف: المؤيد 2 مارس 1907.

(44) مقالة النهضة المصرية ومسألة التعليم -عثمان باشا غالب- اللواء 6 مارس 1907.
(45) راجع تاريخ مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 169 ط ثانية.

(46) نشر مسيو لامبير مقالة طويلة عقب إقالته من منصبه في جريدة "الطان" الفرنسية، وهي وثيقة مهمة تبين مبادئ دانلوب في التعليم، وقد ترجمها اللواء، راجع مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 345- 349.

(47) راجع المؤيد في 6 مارس 1907. ومناقشة مجلس النواب الفرنسي للتصديق على معاهدة "منترو" في الأهرام 10 يونية 1937.
(48) lecarpeniter: l egypt modeern: p. 195- 166.

(49)HUART LITTERATUR ARABE. PARIS, 166 1.
(50) GIBB: B.S VOL VII. PART. I. P. 2.19.

(51) يوجد نص هذه الخطبة في مجلة الأزهر العدد الأول من السنة السادسة سنة 1893.
(52) syria, egypt, north aficia , and malta speak punic not arabie

(53) راجع مجلة الأزهر العدد الخامس -السنة السادسة 1893.
(54) طبعت هذه الترجمة على نفقة "الجمعية البريطانية لنشر الكتب المقدسة".
(55) نشر هذا الكتاب سنة 1929.

(56) لندن. the spoken arabic of egypt, j. soldea willmote. 1901
(57) انظر الهلال السنة العاشرة وعلى الأخص عدد فبراير 1903.
(58) مجلة الهلال 15 من مارس 1902.

(59) راجع نص المقال في مجلة الهلال أول يوليو 1926 تحت عنوان "اللغة الفصحى واللغة العامية ورأي السير ولككس".
(60) تقرير مستر "مان" ص 59.

(61) تقرير مستر مان.

(62) كانت في 3 مارس سنة 1907. ونشرت بالمؤيد في 5 مارس 1907.

(63) انظر كتاب "وميض الروح" تأليف محمد تيمور 1922.

(64) Dr. Russell Gat: The Conflect of French and English phiosophy in Egypt, p. 16, London 1930.

(65) أنشئت مدرسة المعلمين سنة 1880 وكانت تسمى مدرسة الخوجات ثم سميت مدرسة النورمال سنة 1882 والمعلمين التوفيقية سنة 1888 وأنشئت بعدها مدرسة للمعلمين الخديوية سنة 1889 ثم ضمت المعلمين التوفيقية والخديوية في مدرسة واحدة سنة 1899، وفي سنة 1910 سميت مدرسة للمعلمين الخديوية بالمعلمين السلطاية. وفي سنة 1902 سميت المعلمين العليا -راجع تاريخ التعليم بمصر الدكتور أحمد عزت عبد الكريم ص 610- 615.
(66) الدكتور طه حسين في مستقبل الثقافة في مصر ص 282.

(68) المرجع السابق ص 75. وقد تقرر ابتداء من العام الجامعي 1959 العمل

(67) تقويم جامعة "فؤاد الأول" سنة 1950 ص 92- 96

على التدريس باللغة العربية في الكليات التي ذكرناها آنفًا، وأن يؤلف في الطب والهندسة والعلوم بالعربية لطلاب الجامعات وهنا عمل حميد يعيد لنهضة اللغة سيرتها الأولى التي ابتدأتها منذ أكثر من قرن ونصف أيام محمد علي.

(69)مستقبل الثقافة في مصر ص 130.
(70) شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ص 192.
(71) لقد تغير الوضع بالنسبة لفرنسا منذ العدوان الثلاثي سنة 1956 وألغيت اللغة الفرنسية من المدارس الثانوية ابتداء من العام 1961- 1962. ثم تقرر إعادتها ابتداء من العام الدراسي 1964- 1965.

(72) مستقبل الثقافة في مصر ص 30- 32.

(73) المنار ج8 ص 457، مشاهير الشرق ج1 ص 285
 

(74) المنار ج 8 ص 893.
(75).Modern egypt v.2, pp. 179- 181

(76) راجع تراجم شرقية وغربية لهيكل 201، وراجع كذلك الإسلام والتجديد في مصر للدكتور تشارلس آدمز ترجمة عباس محمود ص 214.
(77) راجع مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ط. ثانية ص 307.
(78) تراجم شرقية وغربية لهيكل ص 150، والإسلام والتجديد لآدمز ص 216.
(79) ديوان حافظ إبراهيم ج 1 ص 260.

(80) ديوان ولي الدين يكن ص 119.
(81) ديوا حافظ إبراهيم جـ 1 ص 312.

فريد لعبد الرحمن الرافعي ص 39، 90، 292  (82)  مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 92، 129، 139- 142

(83)اللواء 26 أكتوبر 1904، 8 يناير 1905 وتراجم شرقية وغربية ص 160، مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص 324- 335.

 (84) الإسلام والتجديد ص 215، وتراجم ص 259- 260.
)
85) اللواء 26 أكتوبر.
(86) شوقيات ج 1 ص 158.
(87) ديوان عبد المطلب ص 34.

(88) ديوان مطران جـ3 ص 358.
(89) ديوان مطران جـ 3 ص 300.

)90) تحرير المرأة لقاسم أمين.
(91) راجع باحثة البادية للآنسة مي: مطبعة المقتطف. مصر 1925 وراجع كتابنا "دراسات أدبية ج1".
(92) المنار ج 4 "1901" س 106.
(93) تحرير المرأة الطبعة الثالثة ص 194 وما بعدها.
(94)شوقيات ج 1 ص 186.
(95) راجع كتابنا دراسات أدبية بحث عن ملك حفني ناصف.

(96)ديوان حافظ إبراهيم ج1 ص  279

(97) راجع ديوان مطران ج2، ص1، وحافظ إبراهيم ج1 ص 279.
(98) ديوان حافظ إبراهيم.
(99) نفس المرجع ص 383.
)
100) ديوان عبد المطلب ص 33.

(101) الشوقيات ج2 ص13.
(102) الشوقيات ج1 ص11.
(103) مطران ج3 ص64.
(104) مطران ج4 ص56.
(105) الشوقيات ج3 ص133.
(106) مطران ج2 ص57، و الشوقيات ج1 ص131.
(107) مطران ج1 ص222.

(108) راجع تفصيل الكلام عن هذه المذاهب في كتابنا "المسرحية".

(109) البلاغ الأسبوعي 2 يونيه 1927، كذلك 17 يونية 1927، و27 من يناير 1928 و3 فبراير سنة 1928 وقد نشرت هذه المقالات فيما بعد في كتاب تحت عنوان "ساعات بين الكتب".
(110) مجلة الجديد 22 فبراير 1928.
(111) راجع البلاغ الأسبوعي في السنوات 1926، 1927، 1928.

(112) راجع H.R. GIBB. B.S.S.S وانظر ترجمتها العربية في المجلة الجديدة السنة الثانية عند نوفمبر 1930 ص 17- 24، وعدد ديسمبر 1930 ص 149- 155.
(113) راجع LENARS S. HARKER في كتابه BLAZING THE TRAIL 1938 ص 129، والدكتور إسماعيل أدهم عن مطران ص 34.

راجع LENARD S. HARKER في كتابه BLAZING THE (114)

TRAIL 1938 ص 129، والدكتور إسماعيل أدهم عن مطران ص 34.
(115).taher kahamiti and kamipfmeyer: leadera in contemporary ababic literaturc
(116) البلاغ الأسبوعي 1929.

(117) راجع ص 40- 42 من هذا الكتاب.
(118) راجع البلاغ الأسبوعي -العامية والفصحى، 22 إبرايل 1927، وساعدت بين المكتب للعقاد.

(119) قانون المطبوعات سنة 1881- الهلال أول مارس 1901 ص 1321 - 3.

(120) goerge yong egypt: p.x. london 1927
(121)الهلال أول مايو سنة 1907 ص 1461.
)
122) محاضرة يعقوب أرتين باشا في المجمع العلمي المصري سنة 1905.
(123) صدر العدد الأول من جريدة اللواء في يوم 2 من يناير سنة 1900.
(124) صدرت الجريدة الفرنسية في مساء يوم 20 مارس سنة 1907، والجريدة الإنجليزية في صبيحة 3 مارس 1907 راجع مصطفى كامل للرافعي ط ثانية ص 240.

(125) راجع مصطفى كامل للرافعي ص 339 وما بعدها.
(126) تشارلز آدمز "الإسلام والتجديد" ص 214 نقلًا من كتاب الحقيقة عن مصر ص 81.

(127) تراجم شرقية وغربية ص 159- 160.

(128) تاريخ الصحافة العربية ج3 ص8.
(129) راجع محمد فريد لعبد الرحمن الرافعي ص100، ط ثانية.

(130) محمد فريد لعبد الرحمن الرافعي ص 188.

الحديث" ج1 ص415 وما بعدها ط سابعة. وكذلك في مقال للمؤلف عن الشيخ علي يوسف في مجلة الكتاب عدد يولية سنة 1948، وفي دراسات أدبية للمؤلف ج1.
 

(131) راجع ترجمة الشيخ علي يوسف وتاريخ المؤيد في كتابنا "في الأدب

(132) راجع تراجم شرقية وغربية لهيكل، وراجع الإسلام والتجديد ص215.
(133) راجع ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي ج1 ص11.
(134)الوقائع المصرية 2 من نوفمبر 1914.
(135) الوقائع المصرية 18 من ديسمبر سنة 1914.
(136) ثورة 1919 ص27 ج1.

(137) ثورة 1919 ص 70.
(138) الأهرام 14 من يناير سنة 1919.

(139) راجع ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي ج2 ص36.
(140) المراجع السابق ص29.
(141) الوقائع المصرية في 58 من مارس 1920.
(142) خطب سعد زغلول في حفل تكريمه بحي السيدة زينب يوم 22 من إبريل سنة 1921.

(143)في أعقاب الثورة لعبد الرحمن الرافعي ج1 ص8.
)
144) المصدر السابق ص67.
(145) من المؤلم أن المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة والكتاب قد اضطرت للاحتجاب وأعلن الأستاذ الزيات توقف الرسالة في الأهرام 31/ 2/ 1953 ثم تلتها مجلة الثقافة وتوقفت مجلة الكتاب في أغسطس 1953 وهذه لعمري نكسة أدبية مريعة.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.


بالصور: عند زيارته لمعهد نور الإمام الحسين (عليه السلام) للمكفوفين وضعاف البصر في كربلاء.. ممثل المرجعية العليا يقف على الخدمات المقدمة للطلبة والطالبات
ممثل المرجعية العليا يؤكد استعداد العتبة الحسينية لتبني إكمال الدراسة الجامعية لشريحة المكفوفين في العراق
ممثل المرجعية العليا يؤكد على ضرورة مواكبة التطورات العالمية واستقطاب الكفاءات العراقية لتقديم أفضل الخدمات للمواطنين
العتبة الحسينية تستملك قطعة أرض في العاصمة بغداد لإنشاء مستشفى لعلاج الأورام السرطانية ومركز تخصصي للتوحد