المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16333 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الإمام عليٌ (عليه السلام) حجّة الله يوم القيامة
2024-04-26
امساك الاوز
2024-04-26
محتويات المعبد المجازي.
2024-04-26
سني مس مربي الأمير وزمس.
2024-04-26
الموظف نفرحبو طحان آمون.
2024-04-26
الموظف نب وعي مدير بيت الإله أوزير
2024-04-26

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير آية (4-10) من سورة الأعراف  
  
2755   09:23 صباحاً   التاريخ: 30-4-2019
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأعراف /

قال تعالى : {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف : 4 - 10] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

قال تعالى : {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف : 4 - 5] .

لما تقدم الأمر منه سبحانه للمكلفين ، باتباع القرآن ، والتحذير من مخالفته ، والتذكير ، عقب ذلك تذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب ، وتحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك ، فقال : (وكم من قرية) أي : من أهل قرية ، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه . (أهلكناها) بعذاب الاستئصال (فجاءها بأسنا) أي :

عذابنا (بياتا) بالليل (أو هم قائلون) أي : في وقت القيلولة ، وهي نصف النهار ، وأصله الراحة ، ومنه الإقالة في البيع ، لأنه الإراحة منه بالإعفاء من عقده ، والأخذ بالشدة في وقت الراحة أعظم في العقوبة ، فلذلك خص الوقتين بالذكر .

(فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا) أي : لم يكن دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم عقوبة لهم على معاصيهم وكفرهم في الوقت الذي جاءهم شدة عذابنا (إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) يعني اعترافهم بذلك على نفوسهم ، وإقرارهم به ، وهذا القول كان منهم عند معاينة البأس والتيقن بأنه ينزل بهم ، ويجوز أن يكونوا قالوه حين لابسهم طرف منه ، ولم يهلكوا بعد وفي هذا دلالة على أن الاعتراف والتوبة عند معاينة البأس ، لا ينفع .

 

- {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف : 6 - 9] .

ولما أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا ، عقبه بالإنذار بعذاب الآخرة ، فقال : (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين) أقسم الله سبحانه أنه يسأل المكلفين الذين أرسل إليهم رسله ، وأقسم أنه يسأل المرسلين الذين بعثهم ، فيسأل هؤلاء عن الإبلاغ ، ويسأل أولئك عن الامتثال ، وهو تعالى ، وإن كان عالما بما كان منهم ، فإنما أخرج الكلام مخرج التهديد والزجر ، ليتأهب العباد بحسن الاستعداد لذلك السؤال .

وقيل : إنه يسأل الأمم عن الإجابة ، ويسأل الرسل ماذا عملت أممهم فيما جاؤوا به ، وقيل : إن الأمم يسألون سؤال توبيخ ، والأنبياء يسألون سؤال شهادة على الحق ، عن الحسن .

وأما فائدة السؤال فأشياء ، منها : أن يعلم الخلائق أنه سبحانه أرسل الرسل ، وأزاح العلة ، وأنه لا يظلم أحدا . ومنها : أن يعلموا أن الكفار استحقوا العذاب بأفعالهم . ومنها : أن يزداد سرور أهل الإيمان بالثناء الجميل عليهم ، ويزداد غم الكفار ، بما يظهر من أفعالهم القبيحة . ومنها : أن ذلك لطف للمكلفين إذا أخبروا به .

ومما يسأل على هذا ، أن يقال : كيف يجمع بين قوله تعالى (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) ، (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) وقوله : (فلنسألن الذين أرسل إليهم) (فوربك لنسألنهم أجمعين) ؟ والجواب عنه في وجوه أحدها :

إنه سبحانه نفى أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام ، وإنما يسألهم سؤال تبكيت وتقريع ، ولذلك قال عقيبه : (يعرف المجرمون بسيماهم) وسؤال الاستعلام مثل قولك : أين زيد؟ ومن عندك؟ وهذا لا يجوز على الله سبحانه . وسؤال التوبيخ والتقريع كمن يقول : ألم أحسن إليك فكفرت نعمتي ؟ ومنه قوله : (ألم أعهد إليكم يا بني آدم) (ألم تكن آياتي تتلى عليكم) وكقول الشاعر : (أطربا وأنت قنسري) أي كبير السن . وهذا توبيخ منه لنفسه ، أي : كيف أطرب مع الكبر والشيب . وقد يكون السؤال للتقرير ، كقول الشاعر :

ألستم خير من ركب المطايا   وأندى العالمين بطون راح (2)

أي : أنتم كذلك ، وفي ضده قوله (وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر) (3)

أي : لا يصلح وأما سؤال المرسلين ، فليس بتقريع ولا توبيخ لهم ، ولكنه توبيخ للكفار ، وتقريع لهم وثانيها : إنهم إنما يسألون يوم القيامة ، كما قال : (وقفوهم إنهم مسؤولون) ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة ، وعند دخولهم النار ، فلا تنافي بين الخبرين ، بل هو إثبات للسؤال في وقت ، ونفي له في وقت آخر .

وثالثها : إن في القيامة مواقف ، ففي بعضها يسأل ، وفي بعضها لا يسأل ، فلا تضاد بين الآيات . وأما الجمع بين قوله (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) وقوله (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) فهو : إن الأول معناه لا يسأل بعضهم بعضا سؤال استخبار عن الحال التي جهلها بعضهم ، لتشاغلهم عن ذلك ، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . والثاني معناه يسأل بعضهم بعضا سؤال تلاوم وتوبيخ كما قال في موضع آخر : (يتلاومون) وكقوله (أنحن صددناكم عن الهدى) الآية . ومثل ذلك كثير في القرآن .

ثم بين سبحانه ما ذكرناه ، ومن أنه لا يسألهم سؤال استعلام بقوله (فلنقصن عليهم) أي : لنخبرنهم بجميع أفعالهم ليعلموا أن أعمالهم كانت محفوظة ، وليعلم كل منهم جزاء عمله ، وأنه لا ظلم عليه ، وليظهر لأهل الموقف أحوالهم (بعلم) قيل : معناه نقص عليهم أعمالهم بأنا عالمون بها . وقيل : معناه بمعلوم كما قال :

(ولا يحيطون بشيء من علمه) أي : من معلومه .

وقال ابن عباس : معنى قوله : (فلنقصن عليهم بعلم) ينطق عليهم كتاب أعمالهم كقوله تعالى (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) (وما كنا غائبين عن علم ذلك . وقيل : عن الرسل فيما بلغوا ، وعن الأمم فيما أجابوا ، وذكر ذلك مؤكدا لعلمه بأحوالهم والمعنى : إنه لا يخفى عليه شيء .

(والوزن يومئذ الحق) ذكر فيه أقوال أحدها : إن الوزن عبارة عن العدل في الآخرة ، وإنه لا ظلم فيها على أحد ، عن مجاهد ، والضحاك ، وهو قول البلخي .

وثانيها : إن الله ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة ، فتوزن به أعمال العباد ، الحسنات ، والسيئات ، عن ابن عباس ، والحسن ، وبه قال الجبائي .

ثم اختلفوا في كيفية الوزن ، لأن الأعمال أعراض لا يجوز عليها الإعادة ، ولا يكون لها وزن ، ولا تقوم بأنفسها . فقيل : توزن صحائف الأعمال ، عن عبد الله بن عمر ، وجماعة . وقيل : يظهر علامات للحسنات وعلامات للسيئات في الكفتين ، فيراها الناس ، عن الجبائي . وقيل : يظهر للحسنات صورة حسنة وللسيئات صورة سيئة ، عن ابن عباس ، وقيل : توزن نفس المؤمن والكافر ، عن عبيد بن عمير ، قال : يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة وثالثها : إن المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم ، ومقدار الكافر في الذلة ، كما قال سبحانه : (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) فمن أتى بالعمل الصالح الذي يثقل وزنه أي : يعظم قدره ، فقد أفلح ومن أتى بالعمل السيء الذي لا وزن له ، ولا قيمة ، فقد خسر ، عن أبي مسلم . وأحسن الأقوال القول الأول ، وبعده الثاني ، وإنما قلنا ذلك ، لأنه اشتهر من العرب قولهم : كلام فلان موزون وأفعاله موزونة : يريدون بذلك أنها واقعة بحسب الحاجة ، لا تكون ناقصة عنها ، ولا زائدة عليها زيادة مضرة ، أو داخلة في باب العبث . قال مالك بن أسماء الفزاري :

وحديث ألذه هو مما ينعت الناعتون : يوزن وزنا منطق صائب ، ويلحن أحيانا ، وخير الحديث ما كان لحنا أي : يعرض في الكلام ، ولا يصرح به ، وقيل : إنه من اللحن الذي هو سرعة الفهم والفطنة . وعلى هذا فيكون معنى الوزن أنه قام في النفس مساويا لغيره ، كما يقوم الوزن في مرآة العين كذلك ، وأما حسن القول الثاني : فلمراعاة الخبر الوارد فيه ، والجري على ظاهره .

(فمن ثقلت موازينه) إنما جمع الموازين لأنه يجوز أن يكون لكل نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان ، ويجوز أن يكون كل ميزان صنفا من أصناف أعماله ، ويؤيد هذا ما جاء في الخبر : (إن الصلاة ميزان ، فمن وفى استوفى) .

(فأولئك هم المفلحون) أي : الفائزون بثواب الله (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) بأن استحقوا عذاب الأبد (بما كانوا بآياتنا يظلمون) أي : بجحودهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من آياتنا وحججنا . والخسران : ذهاب رأس المال ، ومن أعظم رأس المال النفس ، فإذا أهلك نفسه بسوء عمله ، فقد خسر نفسه .

- {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف : 9] .

ثم ذكر سبحانه نعمه على البشر بالتمكين في الأرض ، وما خلق فيها من الأرزاق ، مضافة إلى نعمه السابغة عليهم ، بإنزال الكتب وإرسال الرسل ، فقال : (ولقد مكناكم في الأرض) أي : مكناكم من التصرف فيها ، وملكناكموها ، وجعلناها لكم قرارا (وجعلنا لكم فيها معايش) أي : ما تعيشون به من أنواع الرزق ، ووجوه النعم ، والمنافع . وقيل : يريد المكاسب ، والإقدار عليها بالعلم ، والقدرة ، والآلات .

(قليلا ما تشكرون) : أي : ثم أنتم مع هذه النعم التي أنعمناها عليكم لتشكروا ، وقد قل شكركم .

_____________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 216-223 .

2 . المطايا جمع المطية : الدابة . الأندى أفعل التفضيل من الندى وهو الجود . الراح جمع الراحة : الكف . والبيت لجرير .

3 . أوله (تروح إلى العطار تبغي شبابها) . وقيل : (تصلح شأنها) .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

{وكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} . بعد أن أمر جل ذكره النبي الأكرم أن ينذر بالقرآن ، وأمر الناس أن يتبعوه - ذكّرهم في هذه الآية بمصارع الغابرين الذين أهلكهم اللَّه بسبب اعراضهم عن ذكره وتكذيبهم لأنبيائه ، وانه تعالى أنزل العذاب بهم في الليل أو وقت القيلولة في النهار ، حيث الراحة والأمان ، ليكون العذاب أعظم وقعا عليهم ، وأشد تنكيلا بهم ، وقال كثير من المفسرين : ان قوم لوط جاءهم العذاب ليلا . . ولا أدري من أين جاءهم هذا العلم ، واللَّه سبحانه يقول : {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود : 81] .

وقال فريق من المفسرين : ان في الآية قلبا ، لأن الإهلاك يأتي بعد مجيء البأس ، ومن حق التعبير أن يكون هكذا : وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها . .

وذكر الرازي لتأويل الآية ثلاثة أوجه ، وزاد الطبرسي رابعا . والصحيح انه لا يحب ترتيب الكلام حسب ترتيب المعنى في الواقع إذا كان الترتيب الواقعي واضحا ، ومعروفا للجميع ، كما هو في الآية ، والفاء كما تأني للتعقيب فإنها تأتي أيضا زائدة وفي صدر الكلام ومفسرة ، والبأس الذي دخلت الفاء على مجيئه مفسرة لنوع الإهلاك الذي حل بالمشركين .

{فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} . كان المشركون يهتفون باسم الأصنام ، وهم آمنون مطمئنون ، ولما رأوا العذاب تبرأوا من آلهتهم ، واتجهوا للَّه مقرين على أنفسهم بالكفر والشرك ، ولكن بعد أن انقطع التكليف ، وانسد باب التوبة .

{فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ولَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} . بعد أن أشار إلى إهلاكهم في الدنيا أشار إلى أنهم يسألون في الآخرة ، ويسأل المرسلون إليهم ، ويشهدون عليهم {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وما كُنَّا غائِبِينَ} ولا يكتفي جل شأنه بسؤالهم وسؤال المرسلين إليهم ، بل هو أيضا يتلو عليهم كل شيء قالوه وفعلوه :

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة : 6] . والقصد من ذلك ان تشتد بهم المحنة ، ويشعروا بنقمة اللَّه وغضبه عليهم جزاء على عصيانهم وتمردهم .

ميزان الأعمال :

{والْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} . كثر الكلام حول حقيقة الميزان الذي يزن اللَّه فيه أعمال الناس ، حتى ان بعضهم قال : ان لهذا الميزان لسانا وكفتين . . والذي نفهمه من هذا الميزان - واللَّه أعلم بمراده - انه المقياس الذي يميز الطائع من العاصي ، والخبيث من الطيب ، وهذا المقياس هو أمر اللَّه ونهيه ، فإذا جاء أوان الحساب ينظر إلى ما فعل الإنسان وما ترك ، ويقارن بينهما وبين أمره ونهيه تعالى ، فإذا انطبق فعله وتركه على أمر اللَّه ونهيه فهو من الذين ثقلت موازينهم ، وكان عند اللَّه من المفلحين والراجحين ، وإلا فهو من الذين ثقلت موازينهم ، وكان من الظالمين الخاسرين أنفسهم بعذاب الحريق .

وبتعبير ثان : ان لكل شيء في هذه الحياة أصولا ، وضوابط علما كان أو أدبا أو فنا أو غير ذلك ، وبها يتميز الشيء عن غيره ، بل ويعرف جيده من رديئه ، وتسمى تلك الأصول والضوابط ميزانا ومقياسا ومنهاجا وحكما ، وكذلك الحساب في الآخرة له أصول وضوابط ، أو أطلق القرآن عليها كلمة الميزان ، وكلمة الصراط ، وهذه الأصول والضوابط ، أو الميزان لأعمال الناس وأهدافهم هو أمر اللَّه ونهيه ، فشأنهما في محاكمة الإنسان غدا كشأن الفقه والقانون في محاكمة المدعى عليه في هذه الحياة .

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ} وهم الذين محصت أعمالهم على أساس أوامر القرآن ونواهيه فجاءت كاملة وافية {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} لأنهم لم يعثروا في الامتحان {ومَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ} وهم الذين ظهر البعد والتباين بين أعمالهم ، وبين أحكام اللَّه وتعاليمه {فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ} . قال كثير من المفسرين : ان المراد بالظلم هنا الكفر ، والصحيح انه التكذيب بآيات اللَّه مطلقا ، كما هو ظاهر الآية ، سواء أدلت تلك الآيات على وحدانية اللَّه ، أم على رسالة رسله ، أم البعث ، أم على حلاله وحرامه .

{ولَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} . بعد أن أمر سبحانه المشركين بقوله : اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وخوفهم من عذاب الدنيا بقوله : {وكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} ومن عذاب الآخرة بقوله : {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} بعد هذا كله ذكرهم سبحانه بنعمه عليهم ، وانه هو الذي مكنهم في هذه الأرض ، وأعطاهم القدرة على تطويعها واستخدامها في مصالحهم ، قال أحد المفسرين الجدد :

لو لا تمكين اللَّه للإنسان في هذه الأرض ما استطاع هذا المخلوق الضعيف أن يقهر الطبيعة . . وإلا كيف يمضي ، والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه ، وهي بزعم الملحدين والماديين التي تصرف نفسها بنفسها ، ولا سلطان وراء سلطانها .

___________________________

1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 302-304 .

 

تفسير الميزان

 

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى : {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} تذكير لهم بسنة الله الجارية في المشركين من الأمم الماضية إذ اتخذوا من دون الله أولياء فأهلكهم الله بعذاب أنزله إليهم ليلا أو نهارا فاعترفوا بظلمهم .

والبيات التبييت وهو قصد العدو ليلا ، والقائلون من القيلولة وهو النوم نصف النهار ، وقوله : {بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} ولم يقل ليلا أو نهارا كأنه للإشارة إلى أخذ العذاب إياهم وهم آخذون في النوم آمنون مما كمن لهم من البأس الإلهي الشديد غافلون مغفلون .

قوله تعالى : «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} تتميم للتذكير يبين أن الإنسان بوجدانه وسره يشاهد الظلم من نفسه إن اتخذ من دون الله أولياء بالشرك ، وأن السنة الإلهية أن يأخذ منه الاعتراف بذلك ببأس العذاب إن لم يعترف به طوعا ولم يخضع لمقام الربوبية فليعترف اختيارا وإلا فسيعترف اضطرارا .

قوله تعالى : {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} دل البيان السابق على أنهم مكلفون بتوحيد الله سبحانه موظفون برفض الأولياء من دونه غير مخلين وما فعلوا ، ولا متروكون وما شاءوا ، فإذا كان كذلك فهم مسئولون عما أمروا به من الإيمان والعمل الصالح ، وما كلفوا به من القول الحق ، والفعل الحق وهذا الأمر والتكليف قائم بطرفين : الرسول الذي جاءهم به والقوم الذين جاءهم ، ولهذا فرع على ما تقدم من حديث إهلاك القرى وأخذ الاعتراف منهم بالظلم قوله : {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} .

وقد ظهر بذلك أن المراد بالذين أرسل إليهم الناس وبالمرسلين الأنبياء والرسل عليه‌ السلام ، وما قيل : إن المراد بالذين أرسل إليهم الأنبياء ، وبالمرسلين الملائكة لا يلائم السياق إذ لا وجه لإخراج المشركين عن شمول السؤال والكلام فيهم على أن الآية التالية لا تلائم ذلك أيضا على أن الملائكة لم يدخلوا في البيان السابق بوجه لا بالذات ولا بالتبع .

قوله تعالى : {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ} دل البيان السابق على أنهم مربوبون مدبرون فسيسألون عن أعمالهم ليجزوا بما عملوا ، وهذا إنما يتم فيما إذا كان السائل على علم من أمر أعمالهم فإن المسئول لا يؤمن أن يكذب لجلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر عن نفسه في مثل هذا الموقف الصعب الهائل الذي يهدده بالهلاك الخالد والخسران المؤبد .

ولذلك فرع عليه قوله : {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} إلخ ، وقد نكر العلماء للاعتناء بشأنه وأنه علم لا يخطئ ولا يغلط ، ولذلك أكده بعطف قوله : {وَما كُنَّا غائِبِينَ} عليه للدلالة على أنه كان شاهدا غير غائب ، وإن وكل عليهم من الملائكة من يحفظ عليهم أعمالهم بالكتابة فإنه بكل شيء محيط .

قوله تعالى : {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إلى آخر الآيتين} الآيتان تخبران عن الوزن وهو توزين الأعمال أو الناس العاملين من حيث عملهم ، والدليل عليه قوله تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ} ـ إلى أن قال ـ {وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} [الأنبياء : 47] ، حيث دل على أن هذا الوزن من شعب حساب الأعمال ، وأوضح منه قوله : {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزال : 8] ، حيث ذكر العمل وأضاف الثقل إليه خيرا وشرا .

وبالجملة الوزن إنما هو للعمل دون عامله فالآية تثبت للعمل وزنا سواء كان خيرا أو شرا غير أن قوله تعالى : {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً} : [الكهف : 105] ، يدل على أن الأعمال في صور الحبط ـ وقد تقدم الكلام فيه في الجزء الثاني من هذا الكتاب ـ لا وزن لها أصلا ، ويبقى للوزن أعمال من لم تحبط أعماله .

فما لم يحبط من الأعمال الحسنة والسيئة ، له وزن يوزن به لكن الآيات في عين أنها تعتبر للحسنات والسيئات ثقلا إنما تعتبر فيها الثقل الإضافي وترتب القضاء الفصل عليه بمعنى أن ظاهرها أن الحسنات توجب ثقل الميزان والسيئات خفة الميزان لا أن توزن الحسنات فيؤخذ ما لها من الثقل ثم السيئات ويؤخذ ما لها من الثقل ثم يقايس الثقلان فأيهما كان أكثر كان القضاء له فإن كان الثقل للحسنة كان القضاء بالجنة وإن كان للسيئة كان القضاء بالنار ، ولازم ذلك صحة فرض أن يتعادل الثقلان كما في الموازين الدائرة بيننا من ذي الكفتين والقبان وغيرهما .

لا بل ظاهر الآيات أن الحسنة تظهر ثقلا في الميزان والسيئة خفة فيه كما هو ظاهر قوله : {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ} ونظيره قوله تعالى : {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ} [المؤمنون : 103] ، وقوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ} : [القارعة : 11] ، فالآيات ـ كما ترى ـ تثبت الثقل في جانب الحسنات دائما والخفة في جانب السيئات دائما .

ومن هناك يتأيد في النظر أن هناك أمرا آخر تقايس به الأعمال والثقل له فما كان منها حسنة انطبق عليه ووزن به وهو ثقل الميزان ، وما كان منها سيئة لم ينطبق عليه ولم يوزن به وهو خفة الميزان كما نشاهده فيما عندنا من الموازين فإن فيها مقياسا وهو الواحد من الثقل كالمثقال يوضع في إحدى الكفتين ثم يوضع المتاع في الكفة الأخرى فإن عادل المثقال وزنا بوجه على ما يدل عليه الميزان أخذ به وإلا فهو الترك لا محالة ، والمثقال في الحقيقة هو الميزان الذي يوزن به ، وأما القبان وذو الكفتين ونظائرهما فهي مقدمة لما يبينه المثقال من حال المتاع الموزون به ثقلا وخفة كما أن واحد الطول وهو الذراع أو المتر مثلا ميزان يوزن به الأطوال فإن انطبق الطول على الواحد المقياس فهو وإلا ترك .

ففي الأعمال واحد مقياس توزن به فللصلاة مثلا ميزان توزن به وهي الصلاة التامة التي هي حق الصلاة ، وللزكاة والإنفاق نظير ذلك ، وللكلام والقول حق القول الذي لا يشتمل على باطل ، وهكذا كما يشير إليه قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ} [ آل عمران : 102 ] .

فالأقرب إلى هذا البيان أن يكون المراد بقوله : {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ} أن الوزن الذي يوزن به الأعمال يومئذ إنما هو الحق فبقدر اشتمال العمل على الحق يكون اعتباره وقيمته والحسنات مشتملة على الحق فلها ثقل كما أن السيئات ليست إلا باطلة فلا ثقل لها ، فالله سبحانه يزن الأعمال يومئذ بالحق فما اشتمل عليه العمل من الحق فهو وزنه وثقله .

ولعله إليه الإشارة بالقضاء بالحق في قوله : {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر : 69] والكتاب الذي ذكر الله أنه يوضع يومئذ ـ وإنما يوضع للحكم به ـ هو الذي أشار إليه بقوله : {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية : 29] ، فالكتاب يعين الحق وما اشتمل عليه العمل منه ، والوزن يشخص مقدار الثقل .

وعلى هذا فالوزن في الآية بمعنى الثقل دون المعنى المصدري ، وإنما عبر بالموازين ـ بصيغة الجمع ـ في قوله : ، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ} {وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ} الدال على أن لكل أحد موازين كثيرة من جهة اختلاف الحق الذي يوزن به باختلاف الأعمال فالحق في الصلاة وهو حق الصلاة غير الحق في الزكاة والصيام والحج وغيرها ، وهو ظاهر ، فهذا ما ينتجه البيان السابق .

والذي ذكره جمهور المفسرين في معنى قوله : {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ} أن الوزن مرفوع على الابتداء ويومئذ ظرف والحق صفة الوزن وهو خبره والتقدير : والوزن يومئذ الوزن الحق وهو العدل ، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر : {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ} [الأنبياء : 47] .

وربما قيل : إن الوزن مبتدأ وخبره يومئذ والحق صفة الوزن ، والتقدير : والوزن الحق إنما هو في يوم القيامة ، وقال في الكشاف : ورفعه يعني الوزن على الابتداء وخبره يومئذ ، والحق صفته أي والوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحق أي العدل ( انتهى ) وهو غريب إلا أن يوجه بحمل قوله : الوزن الحق (إلخ) على الاستئناف .

وقوله تعالى : {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ} الموازين جمع ميزان على ما تقدم من البيان ويؤيده الآية المذكورة آنفا : {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ} والأنسب بما ذكره القوم في معنى قوله : {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ} أن يكون جمع موزون وهو العمل وإن أمكن أن يجعل جمع ميزان ويوجه تعدد الموازين بتعدد الأعمال الموزونة بها .

لكن يبقى الكلام على قول المفسرين : إن الوزن الحق هو العدل في تصوير معنى ثقل الموازين بالحسنات وخفتها بالسيئات فإن فيما يوزن به الأعمال حسناتها وسيئاتها خفاء ، والقسط وهو العدل صفة للتوزين وهو نعت لله سبحانه على ما يظهر من قوله .

{وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} [الأنبياء : 47] ، فإن ظاهر قوله : {فَلا تُظْلَمُ} ، إلخ إن الله لا يظلمهم فالقسط قسطه وعدله فليس القسط هو الميزان يومئذ بل وضع الموازين هو وضع العدل يومئذ ، فافهم ذلك .

وهذا هو الذي بعثهم على أن فسروا ثقل الموازين برجحانها بنوع من التجوز فالمراد بثقل الموازين رجحان الأعمال بكونها حسنات وخفتها مرجوحيتها بكونها سيئات ومعنى الآية : والوزن يومئذ العدل أي الترجيح بالعدل فمن رجحت أعماله لغلبة الحسنات فأولئك هم المفلحون ، ومن لم يترجح أعماله لغلبة سيئاته فأولئك الذين خسروا أنفسهم أي ذهبت رأس مالهم الذي هو أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون لتكذيبهم بها .

ويعود الكلام حينئذ إلى الملاك الذي به تترجح الحسنة على السيئة وسيما إذا اختلطت الأعمال واجتمعت حسنات وسيئات ، والحسنات والسيئات مختلفة كبرا وصغرا فيما هو الملاك الذي يعلم به غلبة أحد القبيلين على الآخر؟ فإخباره تعالى بأن أمر الوزن جار على العدل يدل على جريانه بحيث تتم به الحجة يومئذ على العباد فلا محالة هناك أمر تشتمل عليه الحسنة دون السيئة ، وبه الترجيح ، وبه يعلم غلبة الثقيل على الخفيف والحسنة على السيئة إذا اجتمعت من كل منهما عدد مع الأخرى وإلا لزم القول بالجزاف البتة .

وهذا كله مما يؤيد ما قدمناه من الاحتمال ، وهو أن يكون توزين الأعمال بالحق ، وهو التوزين العادل فمن ثقلت موازينه باشتمال أعماله على الحق فأولئك هم المفلحون ، ومن خفت موازينه لعدم اشتمال أعماله على الحق الواجب في العبودية فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون بتكذيبهم بها وعدم تزودهم بما يعيشون به هذا اليوم فقد أهلكوا أنفسهم بما أحلوها دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار .

فقد تبين بما قدمناه أولا : أن الوزن يوم القيامة هو تطبيق الأعمال على ما هو الحق فيها ، وبقدر اشتمالها عليه تستعقب الثواب وإن لم تشتمل فهو الهلاك ، وهذا التوزين هو العدل ، والكلام في الآيات جار على ظاهره من غير تأويل .

وقيل : إن المراد بالوزن هو العدل ، وثقل الميزان هو رجحان العمل فالكلام موضوع على نحو من الاستعارة ، وقد تقدم وقيل : إن الله ينصب يوم القيامة ميزانا له لسان وكفتان فتوزن به أعمال العباد من الحسنات والسيئات ، وقد اختلف هؤلاء في كيفية توزين الأعمال ، وهي أعمال انعدمت بصدورها ، ولا يجوز إعادة المعدوم من الأعراض عندهم ، على أنها لا وزن لها ، فقيل : إنما توزن صحائف الأعمال لا أنفسها ، وقيل : تظهر للأعمال من حسناتها وسيئاتها آثار وعلائم خاصة بها فتوزن العلامات بمشهد من الناس ، وقيل : تظهر الحسنات في صور حسنة والسيئات في صور قبيحة منكرة فتوزن الصور ، وقيل توزن نفس المؤمن والكافر دون أعمالهما من حسنة أو سيئة ، وقيل : الوزن ظهور قدر الإنسان ، وثقل الميزان كرامته وعظم قدره ، وخفة الميزان هوانه وذلته .

وهذه الأقوال على تشتتها لا تعتمد على حجة من ألفاظ الآيات ، وهي جميعا لا تخلو عن بناء الوزن الموصوف على الجزاف لأن الحجة لا تتم بذلك على العبد ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .

وثانيا : أن هناك بالنسبة إلى كل إنسان موازين توزن بها أعماله والميزان في كل باب من العمل هو الحق الذي يشتمل عليه ذلك العمل ـ كما تقدم ـ فإن يوم القيامة هو اليوم الذي لا سلطان فيه إلا للحق ولا ولاية فيه إلا لله الحق ، قال تعالى : {ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ : 39] ، وقال تعالى : {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف : 44] ، وقال : {هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس : 30 ] .

قوله تعالى : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} التمكين في الأرض هو الإسكان والإيطان فيها أي جعلنا مكانكم الأرض ، ويمكن أن يكون من التمكين بمعنى الإقدار والتسليط ، ويؤيد المعنى الثاني أن هذه الآيات تحاذي بنحو ما في سورة البقرة من قصة آدم وإبليس وقد بدئت الآيات فيها بقوله : {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة : 29] ، وهو التسليط والتسخير .

غير أن هذه الآيات التي نحن فيها لما كانت تنتهي إلى قوله : {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} كان المعنى الأول هو الأنسب وقوله : {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ} ( إلخ ) كالإجمال لما تفصله الآيات التالية إلى آخر قصة الجنة .

والمعايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من مطعم أو مشرب أو نحوها ، والآية في مقام الامتنان عليهم بما أنعم الله عليهم من نعمة سكنى الأرض أو التسلط والاستيلاء عليها ، وجعل لهم فيها من أنواع ما يعيشون به ، ولذلك ختم الكلام بقوله : {قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} .

________________________

1. تفسير الميزان ، ج8 ، ص 8-17 .

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

قال تعالى : {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ * فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} [الاعراف : 4-5] .

الأقوام التي هلكت وبادت :

هاتان الآيتان تشيران إلى العواقب المؤلمة التي تترتب على مخالفة الأوامر التي تمّ بيانها في الآيات السابقة ، كما أنّهما تعدّان ـ في الواقع ـ فهرستا إجماليا عن قصص الأقوام المتعددة أمثال نوح ، وقوم فرعون ، وقوم عاد وثمود ، وقوم لوط التي ستأتي فيما بعد .

إنّ القرآن الكريم يحذر وينذر بشدّة في هذه الآية كل أولئك الذين يتمردون على تعاليم الأنبياء ويقومون بزرع الفجور والفساد بدل إصلاح أنفسهم وإصلاح الآخرين ، بأن يتدبروا قليلا في حياة الأقوام السالفة وينظروا كم من قرية عامرة أبادها الله ، وأهلك سكانها الفاسقين : {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها} .

ثمّ يبيّن كيفية هلاكهم بأنّ العذاب الأليم جاءهم في منتصف الليل وهم يقضون ساعات الراحة والسكون ، أو في وسط النهار وهم يمضون لحظات الاستراحة والاسترخاء بعد رحلة من العمل والنشاط اليومي الدّائب : {فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} .

ثمّ يواصل الحديث في الآية اللاحقة هكذا : {فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} فعند ما يتورّطون في البلاء ، وتتحطم حياتهم بعواصف الجزاء يتركون كبرياءهم ونخوتهم وينادون معترفين بظلمهم : إنّا كنّا ظالمين .

{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ * وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف : 4 - 10] .

التّحقيق الشّامل :

لقد تضمنت الآيات السابقة إشارة إلى معرفة الله ونزول القرآن الكريم ، وأمّا الآيات أعلاه فإنها تتحدث عن المعاد فهي مكملة للآيات السالفة ، مضافا إلى أنّ الآية المتقدمة تحدثت عن الجزاء الدنيوي للظالمين ، وهذا الآيات تبحث في الجزاء والعقاب الأخروي لهم ، وبهذا يتضح الارتباط بينها.

يقول تعالى أوّلا وهو يقرر سنّة عامّة : { فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } أي أنّنا سنسأل في يوم القيامة كل من أرسلنا لهدايته رسولا ، حتما ودون ريب .

بل ونسأل كذلك الأنبياء أيضا : ماذا فعلوا في مجال تبليغ رسالتهم : { وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } .

وعلى هذا الأساس فالجميع مسئولون ، قادة وأتباعا ، رسلا ومرسلا إليهم ، غاية ما في الأمر أنّه يختلف السؤال والمسؤوليات من طائفة إلى أخرى.

وثمّة حديث مروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه ‌السلام في هذا الصعيد يؤيد هذا المعنى أيضا ، إذا يقول : «فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أممهم ، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى أممهم» (2) .

هذا وقد صرّح في حديث آخر في تفسير علي بن إبراهيم بهذا المعنى أيضا (3) .

في الآية اللاحقة ـ ولكي لا يتصور أحد بأنّ سؤال الله للأنبياء يعني أن الأمر قد خفي على الله وغاب عن علمه قال تعالى بصراحة مزيجة بالقسم ، بأننا سوف نشرح لهم كل أعمالهم بعلمنا ، لأنّه ما غاب عنّا شيء من أفعالهم ، وما غابوا هم عنّا ، فقد كنا معهم في كل حين ومكان :( فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ ) .

«لنقصنّ» مأخوذة من «القصة» وهي في الأصل تعني ما يتلو بعضه بعضا ، وحيث أن القضايا عند شرحها يتلو بعضها بعضا أطلق عليها لفظ القصة ، وهكذا أطلق على العقوبة التي تتلو الجناية لفظ «القصاص» ، ومنه «المقصّ» لأنّه يقطع الشعر بالتوالي ، ويقال عمن يبحث عن شيء أنّه «قصّ» لأنّه يبحث الحوادث واحدا بعد واحد.

وحيث إنّ في هذه الجملة أربعة أنواع من التأكيد (لام القسم ، ونون التأكيد ، وكلمة علم ، التي جاءت بصورة النكرة ، والمراد من ذلك بيان عظمته ، وجملة ما كان غائبين)لذلك يستفاد منها أنّ المقصود هو : إنّنا نشرح لهم تفاصيل أعمالهم جميعها القذة بالقذة وتباعا ، ليعلموا أنّه لا يخفى عنّا شيء من نيّة أو عمل قط (4) .

المساءلة لماذا ؟

إنّ أوّل ما يطرح نفسه هنا هو : نحن نعلم أنّ الله سبحانه يعلم بكل شيء ، فهو الحاضر في كل زمان ومكان ، الناظر لكل شيء من نيّة أو عمل ، فما الحاجة إلى مساءلة الرسل والأمم عامّة وبدون استثناء ؟!

الجواب على هذا السؤال واضح ، لأنّ السؤال لو كان للاستعلام والاستفهام ، وبهدف الوقوف على الحقيقة لم يصح أن يقع من العالم العارف .

وأمّا إذا كان المقصود منه هو إلفات الشخص إلى ما عمله ، أو إتمام الحجّة عليه ، أو ما أشبه ذلك ، لم يكن في ذلك بأس ولا ضير ، إذ يشبه ذلك تماما ما لو أسدينا إلى أحد خدمات كثيرة وقابلنا بالإساءة والخيانة ، وكان كل ذلك معلوما معروفا عندنا ، ومع ذلك فإننا نسائله ونقول : ألسنا قد أسدينا إليك كذا وكذا من الخدمة ؟ فهل كان هذا جزاء الإحسان إليك ؟؟

إنّ مثل هذه المساءلة ليست لاكتساب العلم ، واكتشاف الحقيقة المجهولة ، بل هي لتفهيم الطرف الآخر وإيقافه على الحقيقة ، أو أنّه لتثمين خدمة قام بها أحد المسؤولين وتشجيعه ، فنسأله : ماذا فعلت في هذه السفرة التي كلّفت فيها بمهمّة ؟ مع أنّنا نعرف من قبل بتفاصيل عمله .

التّوفيق بين آيات المساءلة في القرآن :

قد يظنّ أن الآيات المطروحة هنا على بساط البحث ، والتي تصرح بكل تأكيد بأن الله يسأل الجميع عمّا فعلوه وارتكبوه ، تنافي بعض الآيات القرآنية الأخرى في هذا الصعيد مثلما ما جاء في سورة الرحمان : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ } (5) .

وكذا الآيات الأخرى التي تنفي السؤال ؟

فكيف يمكن التوفيق والجمع بين تلك الآيات والآيات الحاضرة التي تثبت قضية المساءلة يوم القيامة ؟!

إن الإمعان في هذه الآيات كفيل بأن يكشف كل إبهام عنها ، فإنه يستفاد من مجموع الآيات الواردة في مجال المساءلة في يوم القيامة أن الناس يمرون في ذلك اليوم بمراحل مختلفة متنوعة ، ففي بعض المراحل لا يسألون عن أي شيء مطلقا ، بل يختم على أفواههم ، وتتكلم أعضاؤهم وجوارحهم التي تحتفظ بآثار أعمالهم في نفسها ، كشاهد حيّ لا يردّ يروي أعمالهم بدقة متناهية .

وفي المرحلة الأخرى يرفع الختم عن أفواههم فيتحدثون ويسألون فيعترفون عند ذلك ـ بعد مشاهدة الحقائق التي انكشفت في ضوء شهادة الجوارح ـ بأعمالهم ، تماما كالمجرم الذي لا يرى بدّا من الاعتراف بجرمه عند مشاهدة الأدلة العينية.

وقد احتمل بعض المفسّرين أيضا في تفسير هذه الآيات ، أنّ الآيات النافية للسؤال إشارة إلى نفي المساءلة الشفاهية ، والآيات المثبتة إشارة إلى السؤال من الجوارح وهي تجيب بلسان الحال ـ مثل حمرة وجه الإنسان خجلا من انكشاف جرمه ـ بالحقائق .

وفي هذه الصورة يرتفع التنافي بين هاتين الطائفتين من الآيات .

في الآية اللاحقة ـ تكميلا لمبحث المعاد ـ يشير تعالى إلى قضية «وزن الأعمال» الذي جاء ذكره في السور القرآنية الأخرى مثل ما جاء في سورة «المؤمنون» في الآية (١٠٢ و ١٠٣) وسورة القارعة الآية (٦ و ٨) .

فيقول أوّلا : إنّ وزن الأعمال يوم القيامة أمر واقع لا ريب فيه : { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ } (6) .

ما هو ميزان الأعمال يوم القيامة ؟

لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين والمتكلمين حول كيفية وزن الأعمال يوم القيامة ، وحيث أنّ البعض تصور أنّ وزن الأعمال وميزانها في يوم القيامة يشبه الوزن والميزان المتعارف في هذه الحياة ، ومن جانب آخر لم يكن للأعمال البشرية وزن ، وخفة وثقل يمكن أن يعرف بالميزان ، لهذا لا بدّ من حلّ هذه المشكلة عن طريق فكرة تجسم الأعمال ، أو عن طريق أن الأشخاص أنفسهم يوزنون بدل أعمالهم في ذلك اليوم .

حتى أنّه روي عن «عبيد بن عمير» أنه قال : «يؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يزن جناح بعوضة» إشارة إلى أن أولئك الأشخاص كانوا في الظاهر أصحاب شخصيات كبيرة ، وأمّا في الباطن فلم يكونوا بشيء (7) .

ولكن لو تركنا مسألة المقارنة والمقايسة بين الحياة في ذلك العالم والحياة في هذا العالم ، وعلمنا بأن كل شيء في تلك الحياة يختلف عمّا عليه في حياتنا هذه ، تماما مثلما تختلف أوضاع الفترة الجنينية عن أوضاع الحياة الدنيا ، وعلمنا ـ أيضا ـ أنّه ليس من الصحيح أن نبحث ـ في فهم معاني الألفاظ ـ عن المصاديق الحاضرة والمعينة دائما ، بل لا بدّ أن ندرس المفاهيم من حيث النتائج ، اتضحت وانحلت مشكلة «وزن الأعمال في يوم القيامة».

وتوضيح الأمر هو : أننا لو كنا نتلفظ فيما مضى من الزمن بلفظ المصباح كان يتبادر إلى ذهننا صورة ووعاء خاص فيه شيء من الزيت ، ونصب فيه فتيل من القطن. وربّما أيضا تصوّرنا زجاجة وضعت على النّار لتحفظها من الانطفاء بسبب الرياح ، على حين يتبادر من لفظ المصباح إلى ذهننا اليوم جهاز خاص لا مكان فيه للزيت ، ولا للفتيل أمّا ما يجمع بين مصباح الأمس ومصباح اليوم ، هو الهدف من المصباح والنتيجة المتوخاة أو المتحصلة منه ، يعني الأداة التي نزيل الظلمة.

والأمر في قضيّة «الميزان» على هذا الغرار ، بل وفي هذه الحياة ذاتها نرى كيف أن الموازين تطوّرت مع مرور الزمن تطورا كبيرا ، حتى أنه بات يطلق لفظ الميزان على وسائل التوزين الأخرى ، مثل مقياس الحرارة ، ومقياس سرعة الهواء وأمثال ذلك.

اذن ، فالمسلّم هو أن أعمال الإنسان توزن في يوم القيامة بأداة خاصّة لا بواسطة موازين مثل موازين الدنيا ، ويمكن أن تكون تلك الأداة نفس وجود الأنبياء والأئمّة والصالحين ، وهذا ما يستفاد ـ أيضا ـ من الأحاديث المروية عن أهل البيت عليهم‌ السلام .

ففي بحار الأنوار ورد عن الإمام الصادق عليه‌ السلام في تفسير قوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ } أنه قال : «والموازين الأنبياء ، والأوصياء ، ومن الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب» (8) .

وجاء في رواية أخرى : إنّ أمير المؤمنين والأئمّة من ذريته عليهم‌ السلام هم الموازين (9) .

ونقرأ في إحدى زيارات الإمام أمير المؤمنين المطلقة : السلام على ميزان الأعمال .

وفي الحقيقة أن الرجال والنساء النموذجيين في العالم هم مقاييس لتقييم أعمال العباد ، فكل من شابههم كان له وزن بمقدار مشابهته لهم ، ومن بعد عنهم كان خفيف الوزن ، أو فاقد الوزن من الأساس .

بل إنّ أولياء الله في هذا العالم هم أيضا مقاييس للوزن والتقييم ، ولكن حيث أنّ أكثر الحقائق في هذا العالم تبقى خلف حجب الإبهام والغموض. تبرز في يوم القيامة بمقتضى قوله تعالى : {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم ، ٤٨] وتنكشف هذه الحقائق وتنجلي للعيان.

ومن هنا يتّضح لماذا جاء لفظ الميزان في الآية بصيغة الجمع : «الموازين» لأنّ أولياء الله الذين يوزن بهم الأعمال متعددون.

ثمّ إن هناك احتمالا آخر أيضا ، وهو أن كل واحد منهم كان متميزا في صفة معينة ، وعلى هذا يكون كل واحد منهم ميزانا للتقييم في إحدى الصفات والأعمال البشرية ، وحيث أن أعمال البشر وصفاتهم مختلفة ، لهذا يجب أن تكون المعايير والمقاييس متعددة.

ومن هنا أيضا يتّضح أنّ ما جاء في بعض الرّوايات والأخبار ، مثل ما ورد عن الإمام الصادق عليه ‌السلام حيث سألوه : ما معنى الميزان؟ قال : «العدل» لا ينافي ما ذكرناه ، لأنّ أولياء الله ، والرجال والنساء النموذجيين في هذا العالم هم مظاهر للعدل من حيث الفكر ، والعدل من حيث العقيدة ، والعدل من حيث الصفات والأعمال (تأملوا) (10) .

ثمّ إنه تعالى يقول في المقطع الآخر من الآية : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ } .

إنّ من البديهي أنّ المراد من الخفّة والثقل في الموازين ليس هو خفة وثقل نفس الميزان ، بل قيمة ووزن الأشياء التي توزن بواسطة تلك الموازين ، وتقاس بتلك المقاييس .

ثمّ إنّ في التعبير بجملة «خسروا أنفسهم» إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة .

وهي أن هؤلاء قد أصيبوا بأكبر الخسارات ، لأنّ الإنسان قد يخسر ماله ، أو منصبه ، ولكنّه قد يخسر أصل وجوده من دون أن يحصل على شيء في مقابل ذلك ، وتلك هي الخسارة الكبرى ، والضرر الأعظم .

إنّ في التعبير بـ «كانوا بآياتنا يظلمون» في آخر الآية إشارة إلى أن مثل هؤلاء لم يظلموا أنفسهم فحسب ، بل ظلموا ـ كذا ـ البرامج الإلهية الهادية ، لأنّ هذه البرامج كان ينبغي أن تكون سبلا للهداية ووسائل للنجاة ، ولو أنّ أحدا تجاهلها ، ولم يكترث بها ، فلم يحصل منها هذا الأثر ، كان ظالما لها.

وقد جاء في بعض الرّوايات والأخبار أنّ المراد من الآيات هنا هم أئمّة الهدى عليهم‌ السلام ، على أن هذا النمط من التّفسير ـ كما أسلفنا مرارا ـ لا يعني حصر مفهوم الآية فيهم ، بل هم المصاديق الأتمّ والأظهر للآيات الالهية .

هذا ، وفسّر بعض المفسّرين الظلم في الآية بالكفر والإنكار ، وهذا المعنى ليس بعيدا عن مفهوم الظلم ، إذ قد ورد الظلم في بعض الآيات القرآنية الأخرى بهذا المعنى .

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} [الاعراف : 10]

مكانة الإنسان وعظمته في عالم الوجود :

عقيب الآيات التي أشارت إلى المبدأ والمعاد ، يدور البحث في هذه الآية والآيات اللاحقة حول عظمة الإنسان وأهمية مقامه ، وكيفية خلق هذا الكائن والمفاخر التي وهبها الله له ، والمواثيق التي أخذها الله منه لقاء هذه المواهب والنعم ، كل ذلك لتقوية قواعد وأسس تربيته وتكامله.

وفي البداية اختصر جميع هذه الأمور في هذه الآية ، ثمّ شرحها وفصّلها في الآيات اللاحقة.

فهو يقول البداية : نحن الذين منحناكم الملكية والحاكمية وسلطناكم على الأرض : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ} .

وأعطيناكم وسائل العيش بجميع أنواعها : { وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ } .

ولكن مع ذلك لم تشكروا هذه النعم إلّا قليلا { قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ } .

و «التمكين» هنا ليس بمعنى أن يوضع شخص في مكان مّا ، بل معناه أن يعطى ويوفّر له كل ما يستطيع بواسطته على تنفيذ مآربه ، وتهيئة أدوات العمل له ، ورفع الموانع وإزالتها عن طريقه ، ويطلق على مجموع هذا لفظ «التمكين» ، فإننا نقرأ في القرآن الكريم حول يوسف : { وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ } [يوسف : 56] أي أننا جعلنا جميع الإمكانيات تحت تصرّفه .

إنّ هذه الآية ـ مثل بعض الآيات القرآنية الأخرى ـ تدعو الناس ـ بعد ذكر وتعداد النعم الإلهية والمواهب الربانيّة ـ إلى شكرها ، وتذم كفران النعم.

إن من البديهي أن بعث روح الشكر والتقدير لدى الناس في مقابل النعم الإلهية ، إنّما هو لأجل أن يخضعوا لواهب النعم تمشيا واستجابة لنداء الفطرة ، ولكي يعرفوه ويطيعوه عن قناعة فيهتدوا ويتكاملوا بهذه الطريقة ، لا أن الشاكر يؤثر بشكره في مقام الرّبوبية العظيم ، بل الأثر الحاصل من الشكر ـ مثل سائر آثار العبادات والأوامر الإلهية ـ جميعا ـ يعود إلى الإنسان لا غير .

 

__________________________

1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 301-311 .

2. تفسير نور الثقلين ج1 ، ص 428 ؛ وبحار الأنوار  ، ج90 ، ص 101 .

3. تفسير نور الثقلين ج2 ، ص4 .

4. تفسير «مجمع البيان» ، وتفسير «التبيان» عن معنى القصة في ذيل الآية الحاضرة ورد البحث أعلاه .

5. الرحمان ، ٣٩ و ٤١.

6. بناء على هذا يكون الوزن هنا بمعناه المصدري وهو مبتدأ و «الحق» خبره ، وإن أعطيت احتمالات في تركيب الجملة الحاضرة ولكن ما قلناه أقرب من الجميع .

7. رويت هذه الرواية من عبيد بن عمير في تفسير «مجمع البيان» وتفسير «الطبري» وظاهر العبارة يوحي بأن الكلام هو لعبيد وليس لرسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم .

8. بحار الأنوار ،  ج ٧ ، ص ٢٥٢ و ٢٥١ .

9. المصدر السابق .

10. تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥ ؛ وتفسير الميزان ، ج8 ، ص 16 .

 

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



اللجنة التحضيرية للمؤتمر الحسيني الثاني عشر في جامعة بغداد تعلن مجموعة من التوصيات
السيد الصافي يزور قسم التربية والتعليم ويؤكد على دعم العملية التربوية للارتقاء بها
لمنتسبي العتبة العباسية قسم التطوير ينظم ورشة عن مهارات الاتصال والتواصل الفعال
في جامعة بغداد.. المؤتمر الحسيني الثاني عشر يشهد جلسات بحثية وحوارية