جاءَ في كتابِ (عقائدِ الإماميةِ) للعلامّةِ الشيخ مُحمّد رضا المُظفَّر
رُوِيَ عَن صادقِ آلِ البيتِ ـ عليهِ السّلامُ ـ في الأَثرِ الصحيحِ:
«التَّقيّةُ ديني ودينُ آبائي» و «مَن لا تقيّةَ لَهُ لا دينَ لَهُ».
وكذلكَ هِيَ، لقد كانتْ شعاراً لآلِ البيتِ ـ عليهِمُ السَّلامُ ـ دفعاً للضَّررِ عنهُم وعَن أتباعِهِم، وحقناً لدمائهِم، واستصلاحاً لحالِ المسلمينَ، وجمعاً لكلمَتِهم ولمّاً لشَعَثِهِم.
وما زالتْ سِمَةً تُعرَفُ بها الإماميّةُ دونَ غَيرِها، مِنَ الطوائفِ والأُمَمِ، وكُلُّ إنسانٍ إذا أحسَّ بالخَطرِ على نفسهِ أو مالهِ بسببِ نشرِ مُعتَقَدِهِ أوِ التّظاهُرِ بهِ، لا بُدَّ أنْ يتكتَّمَ ويتَّقي في مواضعِ الخطرِ. وهذا أمرٌ تقتضيهِ فطرةُ العقولِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ الإماميّةَ وأئمتَهُم لاقَوا مِن ضروبِ المِحَنِ وصنوفِ الضِّيقِ على حُرِّياتِهِم في جميعِ العُهودِ، ما لم تُلاقِهِ أيَّةُ طائفةٍ أو أُمَّةٍ أُخرى، فاضطَرُّوا في أكثرِ عُهودِهِم إلى استعمالِ التّقيةِ، بمُكاتَمَةِ المخالفينَ لَهُم وتركِ مُظاهَرَتِهِم، وسَترِ اعتقاداتِهِم وأعمالِهِم المُختَصَّةِ بِهِم عَنهُم، لِما كانَ يعقُبُ ذلكَ مِنَ الضَّرَرِ في الدّينِ والدُّنيا، ولهذا السَّببِ امتازوا (بالتّقيةِ) وعُرِفُوا بها دونَ سِواهُم.
وللتَّقيّةِ أحكامٌ ـ مِن حيثُ وجوبِها وعدمِ وجوبِها بحَسَبِ اختلافِ مواقعِ خوفِ الضَّررِ ـ مذكورةٌ في أبوابِها في كُتُبِ العُلماءِ الفِقهيّةِ. وليستْ هيَ بواجِبةٍ على كُلِّ حالٍ، بَل قد يجوزُ أو يجِبُ خلافُها في بعضِ الأحوالِ، كما إذا كانَ في إظهارِ الحَقِّ والتظاهُرِ بهِ نُصرةً للدينِ، وخِدمةً للإسلامِ، وجهاداً في سبيلهِ، فإنَّهُ عندَ ذلكَ يُستهانُ بالأموالِ ولا تُعَزُّ النفوسُ. وقد تَحرُمُ التّقيةُ في الأعمالِ التي تستوجِبُ قتلَ النفوسِ المُحتَرَمَةِ، أو رواجاً للباطِلِ أو فساداً في الدينِ أو ضَرَراً بالغاً على المسلمينَ بإضلالهم أو إفشاءِ الظُّلمِ والجَّورِ فيهم. وعلى كُلِّ حالٍ ليسَ معنى التّقيةِ عندَ الإماميّةِ أنَّها تجعَلُ منهم جمعيّةً سرِّيةً لغايةِ الهَدمِ والتّخريبِ كما يريدُ أنْ يصورَّها بعضُ أعدائهِم غيرُ المتورّعينَ في إدراكِ الأمورِ على وَجهِها، ولا يُكَلِّفونَ أنفُسَهُم فَهمَ الرأيِ الصّحيحِ عِندنا. كما أنَّهُ ليسَ معناها أنَّها تجعَلُ الدينَ وأحكامَهُ سِرّاً مِنَ الأسرارِ، لا يجوزُ أنْ يُذاعَ لمـَن لا يَدينُ بهِ، كيفَ وكُتبُ الإماميّةِ ومؤلفاتُهُم فيما يخُصُّ الفِقهَ والأحكامَ ومباحِثَ الكلامِ والمعتقداتِ، قد ملأتِ الخافقينِ وتجاوزتِ الحَدَّ الذي يُنتَظَرُ مِن أيَّةِ أُمَّةٍ تَدينُ بدينِها.
بلى، إنَّ عقيدَتَنا في التقيّةِ قد استغَلَّها مَن أرادَ التشنيعَ على الإماميّةِ، فجعلوها مِن جُملَةِ المَطاعِنِ فيهِم، وكأنَّهم كانَ لا يشفَى غليلُهُم إلّا أنْ تُقَدَّمَ رقابُهُم إلى السُّيوفِ، لاستئصالِهم عَن آخِرِهِم في تلكَ العُصورِ التي يكفي فيها أنْ يُقالَ هذا رجُلٌ شيعيٌّ ليُلاقي حتفَهُ على يَدِ أعداءِ آلِ البيتِ، مِنَ الأمويّينَ، والعَباسيّينَ، والعُثمانيّينَ.
وإذا كانَ طَعنُ مَن أرادَ أنْ يطعَنَ يستَنِدُ إلى زَعمِ عَدَمِ مشروعِيَّتِها مِن ناحِيةٍ دينيّةٍ فإنَّا نقولُ لَهُ:
«أولاً»: إنَّا مُتَّبِعونَ لأئمَّتِنا ـ عليهِمُ السَّلامُ ـ ونحنُ نهتَدِي بِهُداهُم، وهُم أَمَرُونا بِها، وفرضوها عَلينا وقتَ الحاجَةِ، وهِيَ عندَهُم مِنَ الدِّينِ، وقَد سَمِعتُ قولَ الصَّادِقِ ـ عليهِ السَّلامُ ـ:
«مَن لا تَقِيّةَ لهُ لا دينَ لَهُ».
و«ثانيا»: قَد وَرَدَ تشريعُها في نفسِ القُرآنِ الكريمِ، ذلكَ قولُهُ تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ}، وقد نَزلَتْ هذهِ الآيةُ في عَمّارِ بنِ ياسِرٍ الذي التجَأَ إلى التّظاهُرِ بالكُفرِ خوفاً مِن أعداءِ الإسلامِ، وقولُهُ تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً}، وقولُهُ: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ}.