التكامُلُ قرينُ المعرِفَةِ، فكُلَّما كانتْ معرِفَةُ الإنسانِ تفصيليّةً تستَنِدُ الى العُمقِ والصَّوابِ كانَ اتِّجاهُهُ للكمالاتِ الإنسانيّةِ والروحيّةِ أشَدَّ وأقوى، ويجتَهِدُ ليرتَدي حُلَلَ الفضائلِ والجمالِ اللائقِ بهِ والمناسِبِ لاستعدادِهِ ممّا يُصيِّرُهُ، في مَصافِّ العُبَّادِ الذينَ هُم مِنَ الطِرازِ الأوّلِ ...
وسيدةٌ عظيمةٌ مثلُ (فاطمةَ بنتِ نبيِّنا مُحمّد) –صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم-هيَ مِنَ السّابقينَ الى الخيراتِ والكَمالاتِ، تتلو شخصَ أبيها المُصطفى –صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ-في كُلِّ جَمالٍ وكمالٍ، فإذا أردنا أنْ نقرأَها على أنَّها فاطمةُ بنتُ مُحمّدٍ فهيَ (ابنَةُ القُرآنِ العَظيم ِ) والصدّيقَةُ الشهيدَةُ الزَّهراءُ التي تُشرِقُ بهجةً وجمالاً وصبراً ورِفعَةً لأهلِ الأرضِ، وإذا أردنا أنْ نقرأها امرأةً ضَعيفةً مُنكَسِرَةً ومُكَدَّرَةَ الخاطِرِ ومُعكَّرَةَ المِزاجِ تَبكي وتَنوحُ فهيَ ليستِ الزَّهراءُ ابنةُ القُرآنِ !
النصوصُ التأريخيّةُ التي نقلَتْ لنا ما جرى بعدَ النَّبيِّ الأكرَمِ قد وقَعَ بعضُ رواتِها بيَن إفراطٍ وتفريطٍ في رَسمِ الصُّورَةِ الحقيقيةِ، فكانتْ بعضُها وقائعَ حدَثتْ فِعلاً وبعضُها كانتْ تعبيراً إمّا مُبالَغاً فيهِ أو تهويلاً لا يستَنِدُ إلى الواقِعِ!
إذ أنَّ بعضَ المؤرخينَ وكُتّابَ السِّيرِ وقَعُوا في الغُلُوِّ والتَضخيمِ في تصويرِ المَنْقُولِ، ممّا أخرجَ صورةَ الحوادِثِ عن عَقلانيَّتِها، و أخذَ بعضُ الخُطباءِ يُروِّجُ لتلكَ الأخبارِ دونَما تَثَبُّتٍ ومُراجَعَةِ أهلِ الاختصاصِ في دِرايَةِ الأخبارِ والحديثِ فتغيَّرَتِ الصُّورَةُ الحقيقيةُ والمُشرِقَةُ عَنِ الشّخصياتِ النموذجيّةِ والقُدواتِ الإلهيّةِ كفاطمةَ الزَّهراءِ سيدَةِ نساءِ العالمينَ، ومَهما كانتْ مُبرّراتُ أولئكَ ودوافِعُهُم لبيانِ وإظهارِ مَظلوميّةِ أهلِ البيتِ-عليهُمُ السَّلام- فإنَّهُ ينبغي أنْ لا يكونَ على حسابِ صورَتِهِم العَقلانيّةِ والمُشرِقَةِ ودونَ خَدشٍ لِمقاماتِهِمُ الرَّفيعَةِ.
المظلوميّةُ التي وَقَعتْ على أهلِ بيتِ النُّبوَةِ بعدَ رَحيل ِخاتِمِ الأنبياءِ، وما تعرَّضُوا لهُ مِن إقصاءٍ وحَيفٍ وغَصبِ الحُقوقِ والقَتلِ أمرٌ لا يُنكِرُهُ إلّا مُكابِرٌ وجاحِدٌ!
إنَّ سيدَتَنا فاطِمةَ الزَّهراءَ –عَليها السّلام-غادَرَتِ الحَياةَ مَظلومَةً وشَهيدةً بعدَ أنْ واجَهَتِ الظُّلمَ بصمودٍ ومُقاوَمَةٍ، وعاشتِ المِحنَةَ بصبرٍ جميلٍ وإيمانٍ واحتسابٍ؛ لا؛ إنَّها – كما يصوِّرُها البعضُ بتفكيرِهِ البسيطِ-كانتْ دائماً حزينةً ومُوَلوِلَةً ونادِبَةً ومُنكَسِرَةً نفسيّاً وتَقضي وَقتَها بالبُكاءِ فَقَط ...إنَّ هكذا صورةً لا تُناسِبُ صورةَ الزَّهراءِ بنتِ السَّماءِ! بنتِ إبراهيمَ الخليلِ، بنتِ مُحمَّدٍ النَّبيِّ الكريمِ، ابنَةِ القُرآنِ العَظيمِ الذي تَغَذَّتْ منهُ وتَشَرَّبَتْ روحُها الطاهِرَةُ مِن رحيقِ الوَحيِّ، واشتَدَّ عودُها وهيَ تَدرُجُ على مَسالِكِ النُّبوَّةِ ومدارجَ العارِفينَ حيثُ تجذِبُها داراتُ النّورِ القُرآنيّةِ في قولِهِ تَعالى:
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}
{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (*) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}
فكيفَ يواجِهُ المؤمِنُ المُتعَلِّقُ قلبُهُ باللهِ تعالى نوازِلَ البَلاءِ والشدائدِ بنَفسٍ مُنهَزِمَةٍ ومِزاجٍ كَدِرٍ وهوَ يَعلَمُ أنَّهُ مُمتَحَنٌ في هذهِ الدُّنيا وعليهِ أنْ يَخرُجَ مِن هذهِ الاختباراتِ والامتحاناتِ بنجاحٍ وفَلاحٍ؟؟!! لذا قالَ اللُه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}
إنَّ تلكَ المرأةَ المُنكَسِرَةَ المُنهَزِمَةَ نفسيّاً لا يُمكِنُنا أنْ نَتَصَوَرَها على أنَّها سيدةُ النّساءِ التي يقولُ عَنها رسولُ اللِه: (إنَّ ابنَتي لَفِي الخَيلِ السَّوابِق) !!
وهذهِ الصُّورَةُ عَنِ المرأةِ الضَّعيفَةِ المَحزونَةِ والتي نُحاوِلُ أنْ نتعاطَفَ معَها إنَّما تَشَكَّلَتْ عَن تصوُّراتِنا التي ألِفنَاها عَن طبيعَةِ المرأةِ عُموماً، وما اعتادَتْ عليهِ أغلَبُ نسائنا حِينَما يُواجِهْنَ المشاكِلَ بخِواءٍ وضَعفٍ ودموعٍ ونَحيبٍ ... وهذا الإسقاطُ النَمَطِيُّ غير مُنسَجِمٍ معَ ما وَرَدَ في حَقِّ أُمِّ أبيها التي يَصِفُها الإمامُ مُحمّدُ الجَواد-عليهِ السّلامُ-في زِيارَتِها:
" اَلسَّلامُ عَلَيْكِ يا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَكِ الَّذي خَلَقَكِ فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صابِرَةً "
فسيِّدَتُنا فاطمةُ ابنةُ القُرآنِ هيَ التي لا تَنالُ مِنها عواصِفُ المِحَنِ، ولا تُثنِي جَلَدَها وصَبرَها هَزاهِزُ البَلاءِ؛ فالكآبَةُ والحُزنُ والتَّذَمُّرُ صِفاتُ النُّفوسِ الناقِصَةِ، والإحباطُ والتَّراجُعُ طِباعٌ للذَّواتِ المُظلِمَةِ التي لم تستَنِرْ بنورِ الإيمانِ وحُسنِ الظَّنِّ باللهِ تعالى والتَّوَكُّلِ عليهِ ، وهذا لا يَمنَعُ أنْ يذرِفَ صاحِبُ الأحاسيسِ المُرهَفَةِ الدَّمَعَ على الأحبابِ حينَما يختَطِفُهُ خاطِرُ الذِّكرياتِ ويُثيُر في باطِنِهِ لواعجَ الحَنينِ لتلكَ الأيامِ الطيِّبَةِ معَ إنسانٍ عزيزٍ فكيفَ لو كانَ ذلكَ مُحمّداً حبيبَ القلوبِ وريحانةَ الأرواحِ - صلواتُ اللهِ عليهِ وآلهِ- دونَما أنْ يكونَ ذلكَ دأباً مُستَمِرّاً وحالاً دائماً؛ فهذا يستهجِنُهُ أهلُ الطِّباعِ القَويمَةِ فكيفَ بِمَن هُم عِدلُ القُرآنِ وتُرجُمانِهِ ؟!
لنقرأَ فاطمةَ بنتَ مُحمَّدٍ على أنَّها "فاطمةُ ابنةُ القُرآنِ" لا أنَّها إنسانٌة تَغلِبُها العواطِفُ وتستولي عَليها الأشجانُ.