جاء في كتابِ (أخلاقِ الإمامِ عليٍّ عليهِ السلام)
للسيد مُحمد صادق مُحمد رضا الخِرسان
قالَ أميرُ المؤمنينَ -عليهِ السَّلام-:
(الكلامُ في وَثاقِكَ ما لمْ تتكلَّمْ بهِ فإذا تكلَّمْتَ بهِ صِرْتَ في وَثاقِهِ، فاخزُنْ لِسانَكَ كما تخزنُ ذهبَكَ وورقِكَ، فَرُبَّ كلمةٍ سلبَتْ نعمةً وجَلبَتْ نِقمةً)
الدعوةُ إلى أمرينِ:
الأولُ: التحفُّظُ الشديدُ، والتحرُّزُ، والتدقيقُ فيما يجرُّهُ الكلامُ مِن عواقبٍ، وحسابُ الاحتمالاتِ في ذلكَ لِيتعرَّفَ الإنسانُ على مواردِ النفعِ أو الضَّررِ في كلامِهِ، فإنَّهُ قبلَ أنْ يتكلَّمَ هُوَ مالكٌ لَهُ، ولا يعرفُ أحدٌ ما يريدُ التّكلُّمَ بهِ كما يعرفُ هُوَ فهو مُسيطرٌ ومتوازنٌ ، وأما بعدَ الكلامِ فيصيرُ مملوكاً للكلامِ إنْ خيراً فمصيرٌ محمودٌ يحمِدُ اللهَ تعالى عليهِ، وإنْ شَرّاً فمصيرٌ مذمومٌ ومَوقِفٌ لا يُحسَدُ عليهِ وهُو يستعيذُ باللهِ مِن شرِّ ذلكَ الكلامِ الذي كانَ هُوَ مصدرَ بثّهِ، ولولاهُ لمَا أدانَهُ أحدٌ، ولذا جاءَ التشبيهُ بما يكونُ مشدوداً ومأمونَ الجانبِ لإحكامِ القبضةِ عليهِ مِن خلالِ المِشَدِّ، فلا يخافُ مِن إفلاتِهِ، بينَما إذا أفلَتَ صارَ مصدرَ إزعاجٍ وتَعَبٍ حتى تُعادُ السيطرةُ عليه ثانياً، وهذا إنْ أمكنَ في بعضِ الحالاتِ فلا يُمكنُ في حالةِ عدمِ ضبطِ اللسانِ؛ لأنَّ آلاتِ التسجيلِ الطبيعيةَ أو المُصنَّعَةَ قدْ حَفِظَتْهُ ومِنَ العسيرِ محوُهُ، وعندَها تكونُ المشكلةُ.
الثاني: معرفةُ الإنسانِ أنَّ اللسانَ يُحفَظُ مِنَ الغيرِ كما تُحفَظُ الأموالُ عنِ الغيرِ، بَلْ أحياناً يكونُ حِفظُ اللسانِ أشدَّ أهميّةً وألزمَ مِن حِفظِ الأموالِ، لأنَّ الأموالَ عُرضَةٌ للزوالِ والتّجدُّدِ، وأمّا اللسانُ فلو كانَ الكلامُ لغيرِ صالحِ المتكلمِ فإنَّ ذلكَ يَعني الزوالَ إلى الأبدِ مِن دونِ ما عودَةٍ وفي ذلكَ مَتاعبٌ شخصيةٌ، أُسريّةٌ، اجتماعيّةٌ لمِا يتركُهُ الإنسانُ مِن فَراغٍ بحسبِ وضعِهِ الخاصِّ.
مُضافاً إلى أنَّ الذي لا يُسيطرُ على لسانِهِ يكونُ قدْ أعانَ على نفسِهِ فيأثَمُ بذلكَ، والمقصودُ مِنَ الإعانَةِ عليها أنْ سَهَّلَ الطريقَ وأعطى مُستمسكاً لأجلِ إدانتِهِ وتعريضِهِ للأذى.
وإنّما جاءَ هذا الحَثُّ على حِفظِ اللسانِ – معَ أنّهُ باللسانِ يتوصَّلُ الإنسانُ إلى غاياتِهِ ويُبيّنُ مقاصِدَهُ ويُظهِرُ مُستوى تفكيرِهِ، فقدْ يكونُ اللسانُ سُلّماً لِرُقيِّهِ وعُلوِّ شأنِهِ – لأنَّ الإنسانَ في حالاتِ الانفعالِ النّفسيِّ أوِ الإثارةِ أوِ التأزُّمِ أوِ الغَضَبِ أوِ التّفاعُلِ معَ قضيّةٍ مُعيّنَةٍ قدْ يَفقِدُ السيطرةَ –وهُوَ كذلكَ غالِباً– فلا يلتفِتُ إلى لوازمِ كلامِهِ كما هُوَ حالُهُ في حالاتِ الاستقرارِ النّفسيِّ والسيطرةِ على اللسانِ لعدمِ الغضبِ أوِ التأزُّمِ، فكانَ هذا الحدَثُ في مَحلِّهِ جِداً لأنّهُ كـ (جَرَسِ) تنبيهٍ وجهازِ إنذارٍ في حالاتِ دُنوِّ الخطرِ وقُربِهِ ولعلَّها آخرُ فُرصَةٍ للإنقاذِ.
وقدْ عقَّبَ -عليهِ السّلامُ- ببيانِ حالتينِ تَحْدُثانِ جرّاءَ عدمِ حفظِ اللسانِ وهُما:
إمّا زوالُ حالةِ رخاءٍ وتَنَعُّمٍ بأيِّ مُستوىً كانَ وأياً كانَ مَظهَرُهُ، وإمّا حدوثُ أزمَةٍ وضِيقٍ ومتاعبَ ومِن بَعدِها المصاعبَ، بما يجعَلُ الإنسانَ مُقتَنِعاً تماماً بضرورةِ ضبطِ اللسانِ وعدمِ إعطائِهِ الضوءَ الأخضرَ دائماً، بلْ لابُدَّ مِن برمجتِهِ وِفقَ القواعدِ الصحيحَةِ.